[align=center][glow=000000]اغنية " الاماكن" بوابة الظنون و غواية الحنين
في زمن غاب فيه الشجن عن سماء الاغنية المحلية تبدو اغنية الاماكن اغنية مأهولة بالحنين.وبالمسرات الموسيقية .وبالعذوبة الطاغية. انها الاغنية الجديرة بذاكرة المتلقي.هي من الاغاني التي يتم تدوالها على مستوى العشاق. فهي تكتنز الشفافية .بصياغتها المهذبة.وبالبراعة التي توزعت في اضلاعها الثلاثة.. سواء على مستوى النص او اللحن او الغناء. الاغنية صاغ كلماتها منصور الشادي.وصمم اللحن ببراعة ناصر الصالح وتناولت هذه الجودة الفنية حنجرة محمد عبده. ليصدح بها كعادته بتألق في سماء جدة.. تذكروا جيدا ان اغنية " الاماكن" هي الاغنية الاكثر صفوا وهي الخيار المناسب لمن استولى عليه الحنين وراح يفتش عن مسرات الشجن في ذاكرة الاماكن.[/glow][/align]
[poem=font="Simplified Arabic,6,white,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/21.gif" border="none,4,gray" type=3 line=1 align=center use=ex num="0,black"]
الاماكن كلها مشتاقة لك
والعيون اللي انرسم فيها خيالك
والحنين سرى بروحي وجالك
ماهو بس انا حبيبي
الاماكن كلها مشتاقة لك
كل شي حولي يذكرني بشي
حتى صوتي وضحكتي
لك فيها شي
لو تغيب الدنيا عمرك ما تغيب
شوف حالي من تطري علي
المشاعر في غيابك
ذاب فيها الف صوت
والليالي من عذابك
عذبت فيني السكوت
وصرت خايف لا تجيني
لحظة يذبل فيها قلبي
وكل اوراقي تموت
اه لو تدري حبيبي
كيف ايامي بدونك
تسرق العمر وتفوت
الامان وين الامان
وانا قلبي من رحلت
ماعرف طعم الامان
وليه كل ماجيت اسال
هالمكان
اسمع الماضي يقول
ماهو بس انا حبيبي
الاماكن كلها مشتاقة لك
الاماكن اللي مريت انت فيها
عايشة بروحي وابيها
بس لكن ما لقيتك
جيت قبل العطر يبرد
قبل حتى يذوب في صمتي الكلام
واحتريتك
كنت اظن الريح جابت عطرك
يسلم علي
كنت اظن الشوق جابك
تجلس بجنبي شوي
كنت وكنت اظن وخاب ظني
مابقى بالعمر شي واحتريتك
الاماكن كلها مشتاقة لك [/poem]
[align=center][glow=000000]الاماكن كلها مشتاقة لك
والعيون اللي انرسم فيها خيالك
والحنين سرى بروحي وجالك
ماهو بس انا حبيبي
اي حيلة ابتدعها الشاعر ليدفع بالاماكن الى الامام .ليجعلها هي ثيمة النص التي يتكئ عليها في التعبير عن مكنونات العاطفة.ليتوراى الشاعر خلف هذه المفردة التي ضخ فيها كل مواجع الفقد.فالمشهد العاطفي في النص يبتدئ من مبادرة حنونة تختزل عاطفة الشاعر "الاماكن كلها مشتاقة لك" والحديث بصيغة الجمع عن الاماكن ليس عفويا .فالشاعر يريد ان ينال اكبر قدر من التعاطف عندما يتكىء على ذاكرة المكان.وهو عندما يدفع بالاماكن في المواجهة فهو يعرف ان الحبيب سوف يستطيع تأويل هذا الاشتياق. يدري بأن هناك بصمات خالدة لسيرة عشق توجعت. هذا التوسل الراقي بالاماكن يكشف ان الشاعر يعرف كم هي ثمينة تلك الذكريات التي التصقت بالاماكن .التي احتوت وهج المشاعر في لحظات الصفو. وعندما غنى محمد عبده هذا المقطع غناه بمن كأنه يمنح الاخر تقرير عن حالة محددة.ولا تخلو نبرة الصوت من العتاب الخفي.ويلبس ذلك العتاب شيء من التوجع الذي يمنح النص مهابة الفقد. وينتقل الشاعر مباشرة لتكريس حالة الحنين في مباغتة رهيفة فيقول" والعيون اللي انرسم فيها خيالك" والاطياف دوما هي كحل الحنين.انها مكاشفة البدايات فالشاعر يعرف يدير نصه ويعرف من اين تؤتى ابواب الوصال فيسلك اكثر الدروب وضوحا وتحنانا ليزيد فيقول: "والحنين سرى بروحي وجالك" وما ارق هذه المبادرة فهي تضاهي الحالة الاستثنائية التي يعيشها الشاعر حتى وان كانت هي حالة فقد.ولكنه الخطاب الارستقراطي لأنثى تُكافئ بهذه اللغة الراقية. ثم يكثف دلال العتاب ليقول" ماهو بس انا حبيبي" وعندما حضرت مفردة " حبيبي" فهي حضرت في اللحظة المناسبة تماما. فالشاعر يتقصد حضورها وهي تجئ بعد حين من العتاب. فكان حضورها على حين غرة لكي ينهض الحبيب من غفوته ويتجمر شوقا عندما تطرقه مفردة" حبيبي".
كل شي حولي يذكرني بشي
حتى صوتي وضحكتي
لك فيها شي
لو تغيب الدنيا عمرك ما تغيب
شوف حالي من تطري علي
من هنا يدخل الشاعر في مرحلة التوجد الشفيف.انها جناية التذكر.انها يقظة الحنين عندما ينرزع في اللحظة.فكل الاشياء تستحيل الى مشاهد سينمائية تعيد صياغة الاحتمالات.ويظل هو مؤتمن على ما تداعت به اللحظة من مهالك التذكر.
وحتى يزيد الشاعر من سطوة خطاب الحنين فهو يقول: "حتى صوتي ..وضحكتي لك فيها شي" فهو يستعيد التفاصيل الكامنة في الصوت والضحك.وهو اختار بعناية تلك المفردتين.ليكشف لنا ان العلاقة كانت مزينة بالابتهاج. انها من علاقات الحب الناضجة.ليس فيها بؤس او شقاء انما نعيم يتضح ملامحه من صياغة الشاعر لمفردات النص.
لو تغيب الدنيا عمرك ما تغيب
شوف حالي من تطري علي
وهنا الشاعر يصيغ كدمات الغياب المؤجلة.انها اللوعة المرتقبة لو حدثت فاجعة الغياب.فهو يؤكد ان الحبيب راسخ في الذاكرة .يجزم بهذا القول. ويستدل بهذا الضعف عندما تجود الذكراة باطيافه" شوف حالي من تطري علي" ومفردة شوف يريد بها استثارة المحبوب.وجعله يتواطأ مع هذا التوجع الذي يناله حين يتذكر.وهذا الضعف النبيل هو حشمة التذكر.
المشاعر في غيابك
ذاب فيها الف صوت
هذا الغياب القاسي لا بد ان يثمر بهذا التقرير العاطفي : المشاعر التي تستحوذ على كل الاصوات المغايرة. اصبحت لها القدرة على صهر كل الاصوات .لكي تتشكل في صوت الحبيب. انه مأزق الاعتياد الذي يكمن للذاكرة فلا تبتهج الا بعودة الغائب .
والليالي من عذابك
عذبت فيني السكوت
وصرت خايف لا تجيني
لحظة يذبل فيها قلبي
وكل اوراقي تموت
في هذا المقطع نجد براعة اخرى للشاعر فهو ان ذكر الصوت في المقطع السابق دلالة ضجيج الحياة وهي ترتبط بحضور الاخرين . نجده هنا يختار مفردة السكوت ويربطها بالليل. دلالة الوحدة .. الصمت .السكون. وهذه الحالة الملطخة بالهواجس لا بد ان يتمخض عنها المقطع التالي
اه لو تدري حبيبي
كيف ايامي بدونك
تسرق العمر وتفوت
الامان وين الامان
وانا قلبي من رحلت
ماعرف طعم الامان
اه لو تدري حبيبي .. وهنا الشاعر يتدرج في استعراض المواجع فهو البداية يعرض حالة المشاعر ثم بعد ذلك يأتي على ذكر " الليالي".. ثم يعبر بمفردة ايامي .وهو تدرج عفوي وآسر . وعندما يذكر الايام فأنه يربطها بالعمر. وهنا يخرج الشاعر من دائرة الاوجاع العاطفية الضيقة الى وجع اكبر واعمق. وهو وجع الفقد في الحياة بكل صخبها وضجيجها. ويعلن بكل تجرد عن افتقاد الامان. وهذه المفردة غير مطروقة تماما في الشعر الغنائي ولكنها هنا حضرت لتسند الحالة الشعورية التي تتلبس الشاعر. هي تتعاضد مع ثيمة النص "الاماكن" وكأن الاماكن بجدرانها واسوارها لا تصنع الحماية للقلب الشاعر. فحضوره يمثل الامان فهو المتكئ وهو السور الذي له ظلال يصبغ على القلب حالة الطمأنينة.
وليه كل ماجيت اسال
هالمكان
اسمع الماضي يقول
ماهو بس انا حبيبي
في منعطف الحنين والاشتياق يبدو هذا التساؤل مبرر.والشاعر يذهب الى استنطاق الاماكن وكأنها الشاهد الذي لا يزور شهادته.وفي هذا المقطع ترد مفردة الماضي.وهي ان جاءت بهذا التصريح الواضح .فهي لا تعني الماضي البعيد.بل هو الماضي الذي تطل رائحته عبر المكان .و الماضي هو ايضا يتضامن مع الاماكن لتبدو الادانة الرقيقة لمن تجافى وتولاه الغياب.
الاماكن اللي مريت انت فيها
عايشة بروحي وابيها
بس لكن ما لقيتك
وفي هذا المقطع يدخل الشاعر في نوبة شجن عميقة.يتدافع اشتياقه الى اقاصي الحنين. يتكئ على التذكر الشجي المعتق بالاطياف.يتدفق ..ولعاً ويكرس اللوعة بشفافية في اعماق النص. فهو يتوسل بالاماكن التوسل الاخير.ليذهب الخطاب بعناية شديدة الى المحبوب. "الاماكن اللي أنت مريت فيها" والمرور هنا لا يعني فقط ان خطوات سارت في تلك الاماكن بل هي اعمق من ذلك. فالسطوة باهرة وهي تضع للمحبوب كل هذه المزايا. وهذه الاماكن وهي تكتنز خضرة الشوق تكتسي ملامح الحياة. فيقول" عايشة بروحي" ولا يكتفي الشاعر بأنه يمنحهاصفة الحياة بل ايضا اختار لها المكان الارحب " الروح" والروح بها من التحنان ما يفوق مفردة القلب.ثم يضيف برقة واحتياج العاشق" وابيها" وهذه الرغبة مصاغة باللهفة المتأججة.وفي ذورة هذا الاحتياج يعود الوجع من جديد عندما يقول " بس ما لقيتك" فاجعة الغياب ادركها الشاعر بوعي ..وسجلها برقة العاشق الذي يعرف كيف يجمل العتاب .وكأنه يبرر للمحبوب الغياب.او انه يختار الطف المفردات لكي يخاطبه بهذا الوجل" بس ما لقيتك" وهذا الوجل والتهيب من ايلام المحبوب . تكشف مدى مهابة التي يتمثل بها طيف المحبوب لدى الشاعر فيظل لطفياً حتى في اقسى لحظات احتياجه.
وفنية اخرى يبرع فيها الشاعر في صياغة المشاهد والاحاسيس العاطفية في النص. فهو في المقطع السابق يعلن عدم حضور المحبوب. ونظن ان الحكاية انتهت بهذا الغياب.ولكن وعلى طريقة " الفلاش باك" يعيد لنا تصوير المشاهد في المقاطع القادمة
جيت قبل العطر يبرد
قبل حتى يذوب في صمتي الكلام
واحتريتك
العطر هو عنوان لرقة الانثى.والعطر ايضا من ابجديات اللقاءات العاطفية.وعندما يستدل الشاعر على محبوبته بمزايا عطرها.فهو يدلل على تفوقه في حفظ تفاصليها.واختار العطر وهو من المفردات الانثوية التي تختص بها كل انثى.وتشعر بتميزها ان هي جعلت عطرها بهذا التفرد لكي يكون الرائحة الاكثر وشاية باطايفها.وهي الرائحة التي تعبق بالمكان فتجعل جمرة الاماني متوهجة بحضورها.ولأن ذاكرة الشاعرة ثملة بالعطر فهو يشعر بأن رائحة العطر حاضرة في المكان.وللدقة اختار مفردة"جيت قبل العطر يبرد" اي ان لحظة الحضور كانت متلازمة مع حضوره.وفي البدايات دوما يتالق العطر كرائحة تصنع ملامح الحضور الانثوي الطاغي. وكما ان ذاكرته ثملة بالعطر هي ايضا ممتلئة بالحكايات.فالمحب يتسلح بالحكايات قبل اللقاء لكي يترنم بها في حضرة المحبوب.ولكن الصمت يتبلع الكلام.والشاعر لا يكف عن لطافته حتى الرمق الاخير مع المحبوب.ليعبر بعد كل هذه الخيبة بقوله" واحتريتك" انه الانتظار الطويل.فهو معبأ بالامل.وعندما يقول " احتريتك" فهي صياغة شفافة للعتاب المكرر بلطف. وكم هي آسرة تلك المفردة عندما تأتي في ختام هذا الوجع.
كنت اظن الريح جابت عطرك
يسلم علي
ولأن النوبة عميقة.. وهي تتداخل مع ما يتمنى وما يحلم به الشاعر. فيرتد الى الظنون.ويخلق معها هذه الحوارية الجميلة. فهو يظن الريح توأطات معه لتجلب له رائحة المحبوب.وادرك الشاعر جفوة العلاقة فقال: " يسلم علي" كم هي مصافحة باذخة ان هي جاءت بهذا التحنان. والشاعر حتى في ظنونه يعرف كيف يستدرج الامنيات فبدأها بالسلام.انه قدرة فائقة على ضبط الامنيات.وهي ايضا حيلة الامنيات فمن يحضر عطره لا بد ان تحضر ذاته.
كنت اظن الشوق جابك
تجلس بجنبي شوي
وحتى يكتمل مشهد الامنيات يستعين الشاعر بالشوق لأحضار المحبوب.يظن ان الشوق يحمل ثنائية يقتسمها الطرفين. ولا يغالي مع كل هذه الظنون.فهو يقتصد في امنياته. فيقول " تجلس بجنبي شوي" وشوي لا تأتي عن قناعة ولكن سياق الظنون جعلته يتعفف من طلب المزيد. والمبتغى من هذه اللحظات القليلة تكفي لأن تروي عطش التذكروالحنين.
كنت اظن وكنت اظن وخاب ظني
مابقى بالعمر شي واحتريتك
الاماكن كلها مشتاقة لك
حتمية الظنون تنهي المشهد بهذه اللوعة اللي يتلبسها الخيبة. فالشاعر يكرر مفردة " كنت اظن وكنت اظن" وهو هنا لا يعلن ظنونه. بل يجعلها مفتوحة لكل احتمالات الظنون.والظنون فضائها شاسع. لكنه ينهي المشهد سريعا بقوله"وخاب ظني" وهنا نشعر بالايثار لدى الشاعر فهو يحيل الخيبة الى ظنونه ويعفي المحبوب من مشقة اللوم.ثم يتكئ الشاعر على التلويح بالزمن وان العمر لم يعد يحتمل كل هذا البعد.لكنه لا يكف عن امانيه فيهجس بالانتظار مرة اخرى"واحتريتك" يكررها مرة اخرى.وكأنه يحقن اللحظة بالمواجد والتعاطي مع الانتظار والحنين بمشاعر وعاطفة ترضى بهذه اللوعة المستديمة..او ان " احتريتك " تأتي كتحايل من الشاعر على المحبوب بأن وجع الانتظار سوف يظل مهابا حتى يعود.انها الورقة الاخيرة التي ربما اعادت ميزان الحنين الى حاله المتوزانة .وكما اتكئ على الاماكن في مقدمة النص هاهو ايضا يجعلها ختام لهذه اللوعة التي لا تنتهي.[/glow][/align]
المفضلات