تحتوي هذه القصيدةعلى نبرة توديع ولكنني لم أعرف أي نوع من الوداع
أهو توديع المنصب
أم توديع الحياة العامة
أم شيء آخر ؟!!
.غازي يصارع غازي في معزوفة على ناي الروح
كتب خالد السهيل*
غازي القصيبي، الرجل المملوء بالحياة وبالتطلع للأجمل، الشاعر الذي أجزل العطاء، فاختارته الكلمة الشاعرة سفيرا من سفرائها. واللغة أنثى، تجيد التمنع على من لا يعرف قدرها.
وتأتي بغنج لمن يملك ناصيتها ويطمح إلى ترويضها.
لكن غازي، المثقل بعبء السنوات، وهموم الواجبات، بدا حزينا في نصه الشعري الأخير الذي نشرته جريدة الجزيرة الأحد 22/5/2005. بل إن البعض اقتنص في ثنايا الكلمات، رؤية شاعر يريد أن يحشد خلاصة تجربته في ومضة شعرية عابرة.
حتى العنوان الذي انتقاه القصيبي لقصيدته، جاء مسكونا بهذا الحزن الشفاف، المغرق بالألم.
حديقة الغروب. هكذا أراد القصيبي أن يكون عنوان قصيدته.
غازي المسكون بهاجس ''السنين والحساب'' في أكثر من نص شعري، إذ كتب عن الأربعين، وعن الشعرات البيضاء...وعن العمر المسكوب من ثنايا كوب الأيام !
وهاهو في قصيدته الأخيرة يكتب عن الخامسة والستين من العمر.
وهي مرحلة تتميز عن سواها بذاكرة ثرة، وتجارب متباينة، وشجن يتوارى خلفه وميض الأمس:
خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصارِ
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟
ولأن الساري هنا، هو حالة اسمها غازي القصيبي،
فإنه لا يكتفي هنا بمجرد سؤال، بل يمضي في سرد سلسلة تساؤلات، تكتنفها المرارة.
وهنا يأتي سؤال اللحظات الهادئة:
أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟
ترى أي سأم هذا الذي يتأود في ثنايا الأسئلة المتوالية،
وأي قدر ذاك الذي تخطه أصابع الشاعر الذي يقتنص لحظة هدوء تنتزعه من المشاغل اليومية
ومن متواليات الأحداث، ليتحسس ذاته، ويرمم في ثناياها هذا جوانب أثخنها الركض المتواصل:
أما تَعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا
يحاورونكَ بالكبريتِ والنارِ
هذه هي الضريبة التي على المرء أن يدفعها، إن أراد أن يرتقي درجات السلم.
كان الأمر لذيذا، ومشوبا بالكثير من الإثارة أيام القوة والشباب.
ولكن تأتي لحظات جردة حساب مختلفة، ليبدو السؤال: ثم ماذا؟
وتتلاحق الأسئلة:
والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بَقِيَتْ
سوى ثُمالةِ أيامٍ.. وتذكارِ
والأصدقاء كالشموع، تذوب أحيانا دون أن نلحظها، فتتوارى،
ولا يبقى سوى بقايا ضوئهم في العيون.
وهنا يأتي الاعتراف الأبيض:
بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا
قلبي العناءَ!... ولكن تلك أقداري
هو فصل من حكاية، أو ربما مسيرة لإنسان، أي إنسان، يتنكب الطريق
وهو يهتبل الفرص، بطموح فارس وأخلاق نبيل.
يمضي الشاعر في قصيدته، ليفتح صفحة جميلة، تجعل ما فات يخفت وقعه قليلا.
إنه يتلفت، بعد ذبول الشموع/ الأصحاب، فلا يرى سوى رفيقة الدرب. تتقاطر كالندى:
أيا رفيقةَ دربي!.. لو لديّ سوى
عمري.. لقلتُ: فدى عينيكِ أعماري
هنا نحن أمام صورة أصبحت نادرة في زمننا.
رجل يتغزل في زوجته، في وقت ترى فيه أناس يمشون إلى جوار زوجاتهم متجهمين كي لا يعتقد البعض أنهم يكنون لهن الحب.
وكأن المحبة لا تليق بالمحترمين من الأزواج والزوجات!...
لكن غازي يتقن الوفاء للتفاصيل، كلها دون استثناء, خاصة تلك التي يتخللها الوفاء:
أحببتني.. وشبابي في فتوّتهِ
وما تغيّرتِ.. والأوجاعُ سُمّاري
تلك مزية تجيدها الزوجة المحبة، ويقابلها الزوج المحب بوفاء آخر، وهي تستحق.
إنه هنا يضيف بوحا جديدا يشاطر فيه من خلال لغة الشعر أصحاب الأرواح العذبة:
منحتني من كنوز الحُبّ.. أَنفَسها
وكنتُ لولا نداكِ الجائعَ العاري
ويمضي غازي، الذي يرى أن رصيده تلك اللغة، وهذه القافية،
ومع ذلك يجدها عصية عن الوفاء بشعوره الحقيقي.
ماذا أقولُ؟ وددتُ البحرَ قافيتي
والغيم محبرتي.. والأفقَ أشعاري
لكنه يعود من جديد، ليهمس بحب:
إنْ ساءلوكِ فقولي: كان يعشقني
بكلِّ ما فيهِ من عُنفٍ.. وإصرار
وكان يؤوي إلى قلبي.. ويسكنه
وكان يحمل في أضلاعهِ داري
هنا، نلمس شغف غازي وولهه الأجمل برفيقة دربه، ...
ورغبته في أن تدرك هي أيضا ويدرك من يقرأه هذا الشغف،
وأن يقدم أسبابه أيضا.
وهو يختم هذه المكاشفة مع رفيقة الدرب بذات الهاجس الذي يتغلغل مع إيقاع السنين:
وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكنْ بَطَلاً
لكنه لم يقبّل جبهةَ العارِ
ولربما يسأل سائل، عن ما هية البطولة؟
وعن الكيفية التي يمكن أن يكون عليها الإنسان.
وعن الطريق الذي يقرر أن يسلكه.
إنها مسارات تتشكل لتعطي تلك ''الكاريزما'' التي تميز إنسان عن آخر. هو فعل يتجاوز حدود المرئي والملموس.
ومرة أخرى، تقترن القصيدة بصورة أخرى، ربما هي الحياة بكل ما فيها من إغراء،
وربما هي الأنثى. والأنثى حياة أيضا.
وربما هي القوة والطاقة التي تمليها المسؤولية الإدارية. تأمل:
وأنتِ!.. يا بنت فجرٍ في تنفّسه
ما في الأنوثة.. من سحرٍ وأسرارِ
ولسنا هنا معنيين كثيرا بترصد هذه الأنثى، فهي مجرد جسر يكمل من خلاله شاعر جردة حسابه.
فندلف معه إلى الحديقة، التي يكتنفها هدوء غامض في لحظة المغيب:
هذي حديقة عمري في الغروب.. كما
رأيتِ... مرعى خريفٍ جائعٍ ضارِ
هنا نلمس النص من جديد، لم تضق العبارة،
ولم تخن الشاعر الكلمات، لكن الوقع جاء حاملا نفحة حزن. إنها الحقيقة:
الطيرُ هَاجَرَ.. والأغصانُ شاحبةٌ
والوردُ أطرقَ يبكي عهد آذارِ
وتلك الحقيقة لها استحقاقاتها التي تفرض أن يكون الشاعر واضحا:
لا تتبعيني! دعيني!.. واقرئي كتبي
فبين أوراقِها تلقاكِ أخباري
وهو يعود، مرة أخرى ليستشرف أفقا لن يراه،
فيهتف، كما هتف من قبل لزوجته، بكلمات تشبه الكلمات في إيقاعها، وفي عفويتها، وفي اعتزازها بذاتها:
وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكن بطلاً
وكان يمزجُ أطواراً بأطوارِ
ثم يقف الشاعر على تخوم الوطن وحدوده.
هذه المرة، يكاد القصيبي يحضن هذا الحبيب بين ذراعيه،
وكأنه يهمس لصديق، يبوح له بأجمل تذكاراته، ليضحكا معا:
ويا بلاداً نذرت العمر.. زَهرتَه
لعزّها!... دُمتِ!... إني حان إبحاري
والأوطان تزهو بكل ما فيها ومن فيها، ...
ولكن شاعرنا هنا يعيد صوغ أغنيته للبلاد التي أحبها:
تركتُ بين رمال البيد أغنيتي
وعند شاطئكِ المسحورِ.. أسماري
هنا نلمس رؤية لمفهوم المواطنة، من خلال شاعر خبر الكثير من خلال تجربته الثرية:
إن ساءلوكِ فقولي: لم أبعْ قلمي
ولم أدنّس بسوق الزيف أفكاري
ويضيف:
وإن مضيتُ.. فقولي: لم يكن بَطَلاً
وكان طفلي.. ومحبوبي.. وقيثاري
هكذا هو في عين وطنه، أو هكذا ما يريد أن يكون. ''طفلي، ومحبوبي، وقيثاري''.
بياض وعاطفة وصوت يملؤه الحب، فتتحول كلماته إلى قيثارة من القصائد المغناة في الذود عن الوطن.
وأخيرا، يمعن الشاعر في التسامي، إذ ما أن ينتهي من سمو الوطن، حتى يرفع عينيه إلى السماء:
يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه
وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري
وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به
علي.. ما خدشته كل أوزاري
أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي
أيرتُجَى العفو إلاّ عند غفَّارِ؟
لحظات من الإشراق، ... ولكن يبقى إيقاع القصيدة،
يعج بكثير من الصور والتفاصيل التي تشعرك أن الشاعر كان يغمس ريشته في حنايا الروح،
ربما ليعيد إلى نفوسنا الثقة بأن الشعر المقفى الذي كاد يتوارى إيقاعه الجميل،
يمكن أن يكون له مكان، خاصة مع تسيد الرواية على أنماط الكتابة المختلفة أخيرا.
إنما يبقى السؤال الأهم:
. لماذا يشعر غازي القصيبي بالحزن؟
وهل ثمة صراع بين غازي الشاعر بكل أحساسيسه الجياشة،
وغازي المسؤول المطلوب منه قدر غير قليل من الصرامة؟!!
السؤال مفتوح، مثل نص غازي الذي تتوهم للوهلة الأولى أنه واضح،
لكنك لا تكاد تدلف لتتعرف على ما في نواصيه حتى تمتلئ بالمزيد من الحيرة والأسئلة الصعبة.
القصيبي يواجه
هوامير العمل
وهوامير الفيز
وطوابير العاطلين
وأطماع التجار
وحسد الحاسدين
كم انت رائع ايها الدكتور الشاعر الوزير .
قصيدة رائعة مبكية حزينة قوية .
المفضلات