اعتبر المؤرخون و دارسوا تأريخ الآداب العالمية كتابَ( الأغاني ) موسوعةَ الشعر ِ الكبرى ، فلقد حشدَ فيه كل وقعَ تحت يديهِ من أدبٍ ، بغض النظر عن كون هذا الأدب مما يتفق المجتمع على مضامينه و قيمهِ أو كونه يمثل تجانساً مع نوعية الثقافة القائمة و الوعي المجتمعي السائد . و إننا إذ نقرأ فيه عن الأدب و الأدباء نجدُ أشعارَ ( النابغة الجعدي ) و ( امرئ القيس )جنباً إلى جنب بجوار أشعار ( ابن رواحة ) و ( حسان بن ثابت ) ، ثم لا يكون منّا أن نتحيّز إلى ابن رواحة حين :
يا نفسُ إلا تقـــــــتلي تموتي ... هذا حمامُ الموتِ قد صليــــــــتِ !
على حساب قول حبيب بن أوسِ :
من لم يمت بالسيف مات بغيرِه ... تعددت الأسبابُ و الموتُ واحد ُ ! مع الاختلاف البيّن بين الخلفية الحدثية للشاعرين ، و ما يمكن أن تبعثُه المعرفةُ بموطن القول في الحالتين من شعورٍ يتمايزُ و لا يتقاطعُ ... لأن الشحنةَ المثاليةَ لمضامين النص و السموّ الذي يكتنفُه قد تسطّحُ المدخل و تحيلهُ إلى التجريد المخلّ في العمل الفني ، في حين تستقيمُ بنيةُ النص الأدبي على ما كان خيالاً أو تهويماً ساحراً ... و ما انضوى تحت القاعدة العامة للشعر : ( في كل وادٍ يهيمون ) !
الحديثُ عن مثالية الفن ، و توظيفيته لخدمة المسار النهائي أو المعاييري لوجدان و فكر الأمة هو حديثٌ آحادٌ ولا ينبعُ إلا عن من لا يعرفُ عن الأدبِ الكثير ، فتحويل الأدباء و الشعراء و الفنانين إلى قطيع ممرضات أو مضيفات طيران ... أو تدثيرهم بلباسٍ نمطي واحد بما يجعل منهم أشبه بقريق ( كرة قدمٍ ) يختزل العالم الجمالي الثري بآفاقه و أبعاده إلى فعلٍ سلوكي واقعي - مع احترامي لكون الواقعيةِ مطلوبةً في بعض التوجهات الشعرية أو هي توجهٌ مستقلٌّ بذاته - كما أنه لا يوجد في الأدب ما يمكن أن يسمى منظومة قيميّة ، فلقد سقط ثالوث الحق و الخير و الجمال ، الذي يفترضُ وجودَ تلازماً حدّيّــاً بين هذه الأقانيم الثلاثةِ منذ خمسمائة عامٍ و تجاوز النص الأدبي هذه المحاذير الأخلاقية َ و أصبحنا الآن نتحدث عن ( جمال القبيح ) و ( جمال الجمال ) لأن الأصل في الأدب توليد انفعالات و مشاهدات مستوقفة و تحقيق هزات وجدانية من أي نوعٍ سواءً أكانت سالبةً أو موجبة ، و إخراج الرائعةِ في أسلوبٍ فنّيٍ آسر وفق مهمةِ الأدب الأولــى ، و هي توليدُ الجمــال ... و لا يمكن أن توضع المعايير لتقييم الصدق الفني و الجمالي للنصوص بناءً على القضايا التي تزخر بها مثل هذه النصوص .... و لا فرق لديّ بين شاعرٍ يناغي وردةً ، و بين كاتبٍ بالرصاص إلا من ناحية التمكن من الأدوات الفنية عند كليهما و العمق النفسي الروحاني في النص ..
حين قال أبو نواس :
مـا زلتُ استلُّ روحَ الدنّ في لًُطُفٍ ... و استقي دمهُ.. من فمِّ مجــروحِ
ثم ارتميتُ و لي روحانِ في جسدي .... و الدنّ منطرحاً ...جسمٌ بلا روحِ
تغنّت الأجيال بمثل هذا الجمال الطافر الأخّاذ بعيداً عن مخالفته لمنظومة القيم المجتمعيةِ ، و خروجه عن التوجه العام لثقافةِ عصره الذي ينبذُ السكارى ، بل ويقيمُ عليهم الحد ... بينما راح أبو العتاهيةِ في آخر عمرِه يكتبُ في الزهدِ فجاءت أعمالهُ مهلهلةً ساذجةً مثل قوله :
ألا يا ربّةَ الساعه ... أموتُ الساعةَ الساعة |
فلم يلتفت إليه أحد ، ولعلّ قول أحدهم حين قال : لو أردتُ أن أكتب مثل أبي العتاهيةِ لقلتُ كلَّ يومٍ ألف بيتٍِ ــ غير أني أقولُ :
ابن عبد الحميدِ يوم توفّـى ... هدّ ركناً ما كان بالمــــهدودِ
ما درى نعشهُ و لا حاملوه ... ما على النعشِ من عفافٍ و جودِ .
كان إيذاناً منه بأن نقرأ النصوص الأدبية بأعينٍ أخرى ... غير تلك التي تقيمُ العزاء في كل صقع !
من هنا ينبع حبّنا و استشعارنا لجمال العمل الفني من حيثُ تلمّسه لأحزاننا و أفراحنا ، و من حيثُ يخلق فينا ذلك الشعور الدافئ بلمساته الموغلة في التجسيديةِ ، بعيداً عن تجريديةِ النُثّار ، و يكون انتماؤنا للأدب وفق متتالياتٍ نفسيةٍ تلخصها حقيقةٌ قيلت من قبل و من بعد : دعوا عقولكم جانباً و اقرؤا الشعر بقلوبكم . فنحنُ لا نبحثُ في الشعرِعمّن يقيمُ دعائم التشريع و لا من يعيدُ أمجاد الأمم - مع أهمية أن يتناول الأدب مثل هذه القضايا - بقدر بحثنا فيه عن ما يوقظ فينا بسمة الطفل الجذلة . و لك أن تعرف أن سيمفونية الرعوية( السادسة ) لبيتهوفن من أخلد الأعمال الفنية على الاطلاق رغم بساطة مادتها الذهنية و هي عودةُ فنانٍ إلى قريةٍ ثم احتفاله بأعراس هذه القرية و ما كان من نشوء عاصفةٍ استعرت قليلاً ثم همدت . بينما كانت السيمفونية الخامسة ( البطولة) مزعجةً ، لأنها وضِعت بالأساس من أجل الاحتفاء ببطولة و فروسية ( نابليون ) - قيمية حسب المفهوم التقليدي للشعر العربي - لولا أن الفنان ( بيتهوفن) أدرك الأمر فحوّل مقاطعها الأخيرةَ إلى احتفاليةٍ فذّةٍ بالبطولة و الانسانية بشكل عام فيما يشبهُ الرجوع عن الأمر .
كذلك .. يعترف كل العالم بـ( إزرا باوند) كواحدٍ من أقطاب الشعر العالمي ، و كمنافسٍ جديرٍ بالوقوف أمام صديقه الجميل ( تي إس إليوت )رغم تبني الأول للنظرية الفاشية و عشقه اللامحدود ل( موسوليني ) . و بالرغم من أن العالم وقف في لحظةِ الثورة و الغضبةِ ضد ( باوند ـ توفي سنة 72 م ) إلا أنه أعاد قراءة فنّ هذا العملاق في ظل محددات فنية ٍ و أدبيةٍ عاليةٍ لا تعترف بالبعد القيمي في التقييم ، ولا تحاكم النصوص إلى مسلمات إيمانية أو عقدية ـ فوجدوه كأنضر ما يمكن أن يكون عليه أديب عالمي في سلسلتهِ الطويلة ( كانتوس) التي بدأ كتابتها منذ كان في الثالثة و العشرين من عمره ( في عمري الحين يعني ) .
إذاً ، فليس من المنطق أن نحشر القيم و الثوابت و التعاليم و الكتب المقدسة في الأدب فنجعلَ منه سرادق للوعظ و الارشاد على غرار أشعار ابن المبارك ، محمد بن إدريس ، و موالات الصوفية.
و بناءً عليه ... فلقد كان حسان بن ثابت رضي اللهُ عنه شاعراً فاشلاً بعد إسلامه ، لأنه أدخل نوعية المضمون في عمله الفني فأخرجه جلُّ النقاد ِ من دائرة الشعراء .
.
هي دُعوةٌ مفتوحةٌ للنقاش ، كتبتها على عجل ٍ ... أتمنى أن تأخذ نصيبها من التداول !
المفضلات