محمدالمهوس
09-10-2024, 05:45
« بر الوالدين " تعميم الوزارة " »
محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام
8 / 4 / 1446هـ
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْنَا: نِعْمَةُ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ؛ الَّذِي أَكْمَلَهُ رَبُّنَا وَأَتَمَّهُ وَرَضِيَهُ لَنَا دِينًا؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
وَمِنْ فَضَائِلِ الدِّينِ وَرَوَائِعِهِ: تَمْجِيدُهُ لِلْبِرِّ حَتَّى صَارَ يُعْرَفُ بِهِ؛ فَالإِسْلاَمُ دِينُ الْبِرِّ، وَدِينُ الرَّحْمَةِ وَالإِحْسَانِ؛ وَأَعْظَمُ الْبِرِّ الَّذِي هُوَ مِنْ فَضَائِلِ هَذَا الدِّينِ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، الَّذِي هُوَ -بَعْدَ تَوْفِيقِ اللهِ- سِرُّ الْفَلاَحِ وَالنَّجَاةِ؛ بِهِ تَسْعَدُ النُّفُوسُ، وَتَنْشَرِحُ الصُّدُورُ، وَيَرَى الْبَارُّ بِوَالِدَيْهِ السَّعَادَةَ بِأُمِّ عَيْنَيْهِ، بَرَكَةً فِي صِحَّتِهِ وَمَالِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ.
وَقَدْ قَضَى رَبُّنَا بِالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ، وَثَنَّى بِهِ، وَعَطَفَهُ عَلَى عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَقَالَ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء : 23].
وَوَصَّى اللهُ بِهِ الإِنْسَانَ فَقَالَ: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: 8]، كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُ بِشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ؛ فَقَالَ: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [سورة لقمان: 14]، وَجَعَلَ أَحَبَّ الأَعْمَالِ لَهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ الصَّلاَةِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ؛ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ» قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» [متفق عليه].
وَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ» وَالْوَالِدُ يَشْمَلُ الأُمَّ وَالأَبَ.
[رواه الترمذي، وحسنه الألباني].
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ، قَالَ: «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاَهُمَا، قَالَ: «فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ؟» قَالَ: نَعَمْ ، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ، فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» [متفق عليه].
وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ يَتَأَكَّدُ عِنْدَ بُلُوغِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا سِنَّ الْكِبَرِ، فَمَعَ تَقَدُّمِ الْعُمْرِ، قَدْ يُصْبِحُ الْوَالِدَانِ أَكْثَرَ عُرْضَةً للأَمْرَاضِ وَالضَّعْفِ الْجَسَدِيِّ وَالنَّفْسِيِّ، مِمَّا يَتَطَلَّبُ رِعَايَةً خَاصَّةً وَاهْتِمَامًا كَبِيرًا؛ فَيَكُونُ الْبِرُّ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ: مِنَ الإِحْسَانِ لَهُمَا، وَالصِّلَةِ بِهِمَا، وَالشَّفَقِة عَلَيْهِمَا، وَطِيبِ الْكَلاَمِ مَعَهُمَا، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، وَتَجَنُّبِ كُلِّ مَا يُغْضِبُهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾
[الإسراء: 24].
فَالْبِرُّ شَأْنُهُ عَظِيمٌ إِذَا أَخْلَصَ فِيهِ الْعَبْدُ للهِ تَعَالَى، وَقَامَ بِهِ خَيْرَ قِيَامٍ لِيَنَالَ مِنْ رَبِّهِ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ وَهُوَ مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ؛ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ -: «رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ. قيلَ: مَنْ يا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَنْ أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا، أَوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ» [رواه مسلم].
جَعَلَكُمُ اللهُ وَإِيَّانَا مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ، وَأَطَالَ اللهُ فِي عُمْرِ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَرَحِمَ اللهُ مَنْ غَادَرَنَا، وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ الْجِنَانِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَهَمِّ الْقِيَمِ الَّتِي يَنْبَغِي غَرْسُهَا فِي نُفُوسِ الأَبْنَاءِ مُنْذُ الصِّغَرِ:
هِيَ تَرْبِيَتُهُمْ عَلَى الْبِرِّ بِأَنْوَاعِهِ؛ مِنِ احْتِرَامِ الْكَبِيرِ وَالتَّوَاضُعِ لِلصَّغِيرِ، وَالرَّحْمَةِ بِالْعَاجِزِ، وَصِلَةِ الْقَرِيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ خِلاَلِ الْوَسَائِلِ التَّالِيَةِ وَالَّتِي مِنْ أَهَمِّهَا:
الْقُدْوَةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَبْرَزِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تُسَاعِدُ عَلَى غَرْسِ قِيَمِ الْبِرِّ فِي نُفُوسِ الأَبْنَاءِ.
فَالطِّفْلُ يَتَعَلَّمُ مِنْ خِلاَلِ مُلاَحَظَةِ سُلُوكِيَّاتِ وَالِدَيْهِ، لِذَا فَإِنَّ الأَفْعَالَ تُؤَثِّرُ بِشَكْلٍ أَقْوَى مِنَ الْكَلِمَاتِ ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ .
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ويُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» [صححه الألباني].
وَمِنَ الْوَسَائِلِ فِيِ غَرْسِ قِيِمَةِ الْبِرِّ فِيِ نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ :
تَعْلِيمُ وَتَرْبِيَةُ الأَبْنَاءِ عَلَى فَضَائِلِ الْبِرِّ مِنْ خِلاَلِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ السُّنَّةِ، وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ، وَإِشْرَاكُهُمْ فِي الْعِنَايَةِ بِالْوَالِدَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ؛ مِثْلُ مُسَاعَدَتِهِمْ فِي الأُمُورِ الْيَوْمِيَّةِ، وَاحْتِرَامِهِمْ وَالْجُلُوسِ مَعَهُمْ مِمَّا يُشْعِرُهُمْ بِأَهَمِّيَّةِ هَذِهِ الْقِيمَةِ.
وَمِنَ الْوَسَائِلِ فِيِ غَرْسِ قِيِمَةِ الْبِرِّ فِيِ نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ :
الدُّعَاءُ بِصَلاَحِ الأَبْنَاءِ لِيَكُونُوا بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].
محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام
8 / 4 / 1446هـ
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْنَا: نِعْمَةُ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ؛ الَّذِي أَكْمَلَهُ رَبُّنَا وَأَتَمَّهُ وَرَضِيَهُ لَنَا دِينًا؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
وَمِنْ فَضَائِلِ الدِّينِ وَرَوَائِعِهِ: تَمْجِيدُهُ لِلْبِرِّ حَتَّى صَارَ يُعْرَفُ بِهِ؛ فَالإِسْلاَمُ دِينُ الْبِرِّ، وَدِينُ الرَّحْمَةِ وَالإِحْسَانِ؛ وَأَعْظَمُ الْبِرِّ الَّذِي هُوَ مِنْ فَضَائِلِ هَذَا الدِّينِ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، الَّذِي هُوَ -بَعْدَ تَوْفِيقِ اللهِ- سِرُّ الْفَلاَحِ وَالنَّجَاةِ؛ بِهِ تَسْعَدُ النُّفُوسُ، وَتَنْشَرِحُ الصُّدُورُ، وَيَرَى الْبَارُّ بِوَالِدَيْهِ السَّعَادَةَ بِأُمِّ عَيْنَيْهِ، بَرَكَةً فِي صِحَّتِهِ وَمَالِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ.
وَقَدْ قَضَى رَبُّنَا بِالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ، وَثَنَّى بِهِ، وَعَطَفَهُ عَلَى عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَقَالَ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء : 23].
وَوَصَّى اللهُ بِهِ الإِنْسَانَ فَقَالَ: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: 8]، كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُ بِشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ؛ فَقَالَ: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [سورة لقمان: 14]، وَجَعَلَ أَحَبَّ الأَعْمَالِ لَهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ الصَّلاَةِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ؛ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ» قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» [متفق عليه].
وَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ» وَالْوَالِدُ يَشْمَلُ الأُمَّ وَالأَبَ.
[رواه الترمذي، وحسنه الألباني].
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ، قَالَ: «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاَهُمَا، قَالَ: «فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ؟» قَالَ: نَعَمْ ، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ، فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» [متفق عليه].
وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ يَتَأَكَّدُ عِنْدَ بُلُوغِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا سِنَّ الْكِبَرِ، فَمَعَ تَقَدُّمِ الْعُمْرِ، قَدْ يُصْبِحُ الْوَالِدَانِ أَكْثَرَ عُرْضَةً للأَمْرَاضِ وَالضَّعْفِ الْجَسَدِيِّ وَالنَّفْسِيِّ، مِمَّا يَتَطَلَّبُ رِعَايَةً خَاصَّةً وَاهْتِمَامًا كَبِيرًا؛ فَيَكُونُ الْبِرُّ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ: مِنَ الإِحْسَانِ لَهُمَا، وَالصِّلَةِ بِهِمَا، وَالشَّفَقِة عَلَيْهِمَا، وَطِيبِ الْكَلاَمِ مَعَهُمَا، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، وَتَجَنُّبِ كُلِّ مَا يُغْضِبُهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾
[الإسراء: 24].
فَالْبِرُّ شَأْنُهُ عَظِيمٌ إِذَا أَخْلَصَ فِيهِ الْعَبْدُ للهِ تَعَالَى، وَقَامَ بِهِ خَيْرَ قِيَامٍ لِيَنَالَ مِنْ رَبِّهِ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ وَهُوَ مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ؛ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ -: «رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ. قيلَ: مَنْ يا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَنْ أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا، أَوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ» [رواه مسلم].
جَعَلَكُمُ اللهُ وَإِيَّانَا مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ، وَأَطَالَ اللهُ فِي عُمْرِ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَرَحِمَ اللهُ مَنْ غَادَرَنَا، وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ الْجِنَانِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَهَمِّ الْقِيَمِ الَّتِي يَنْبَغِي غَرْسُهَا فِي نُفُوسِ الأَبْنَاءِ مُنْذُ الصِّغَرِ:
هِيَ تَرْبِيَتُهُمْ عَلَى الْبِرِّ بِأَنْوَاعِهِ؛ مِنِ احْتِرَامِ الْكَبِيرِ وَالتَّوَاضُعِ لِلصَّغِيرِ، وَالرَّحْمَةِ بِالْعَاجِزِ، وَصِلَةِ الْقَرِيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ خِلاَلِ الْوَسَائِلِ التَّالِيَةِ وَالَّتِي مِنْ أَهَمِّهَا:
الْقُدْوَةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَبْرَزِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تُسَاعِدُ عَلَى غَرْسِ قِيَمِ الْبِرِّ فِي نُفُوسِ الأَبْنَاءِ.
فَالطِّفْلُ يَتَعَلَّمُ مِنْ خِلاَلِ مُلاَحَظَةِ سُلُوكِيَّاتِ وَالِدَيْهِ، لِذَا فَإِنَّ الأَفْعَالَ تُؤَثِّرُ بِشَكْلٍ أَقْوَى مِنَ الْكَلِمَاتِ ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ .
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ويُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» [صححه الألباني].
وَمِنَ الْوَسَائِلِ فِيِ غَرْسِ قِيِمَةِ الْبِرِّ فِيِ نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ :
تَعْلِيمُ وَتَرْبِيَةُ الأَبْنَاءِ عَلَى فَضَائِلِ الْبِرِّ مِنْ خِلاَلِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ السُّنَّةِ، وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ، وَإِشْرَاكُهُمْ فِي الْعِنَايَةِ بِالْوَالِدَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ؛ مِثْلُ مُسَاعَدَتِهِمْ فِي الأُمُورِ الْيَوْمِيَّةِ، وَاحْتِرَامِهِمْ وَالْجُلُوسِ مَعَهُمْ مِمَّا يُشْعِرُهُمْ بِأَهَمِّيَّةِ هَذِهِ الْقِيمَةِ.
وَمِنَ الْوَسَائِلِ فِيِ غَرْسِ قِيِمَةِ الْبِرِّ فِيِ نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ :
الدُّعَاءُ بِصَلاَحِ الأَبْنَاءِ لِيَكُونُوا بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].