محمدالمهوس
17-09-2024, 18:51
« الحياة الآمنة »
محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام
17 / 3 / 1446هـ
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾
[آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾
[النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام آية:٨٢].
وَرَوَى الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: 82 ]، شَقَّ ذلكَ عَلَى أصْحَابِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالُوا: أيُّنا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ؛ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
فَفِي هَذِهِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَيَانٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِأَنَّ الْحَيَاةَ الآمِنَةَ لَا تُوجَدُ إِلاَّ عِنْد الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا؛ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لِرَبِّهِمْ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
وَهَذِهِ الْحَيَاةُ الآمِنَةُ تَكُونُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ؛ تَكُونُ فِي دِينِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ بِمَا يُفِيضُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ الرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَالثَّبَاتِ فِي الْفِتَنِ وَاخْتِلافِ الأُمُورِ وَاضْطِرَابِهَا؛ فَلاَ تُزَلْزِلُهُمْ زَلاَزِلُ الْمُرْجِفِينَ، وَلاَ شُبَهُ الْمُبْطِلِينَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي وَصْفِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 173-175].
فَالإِيمَانُ بِاللَّهِ الْمَقْرُونُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ سَبِيلُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ الآمِنَةِ، وَوَسِيلَةُ الاِسْتِقْرَارِ وَالْهُدُوءِ، وَأَسَاسُ الاِطْمِئْنَانِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [ سورة النحل الآية 97].
فَأَهْلُ الإِيمَانِ تَبْقَى نُفُوسُهُمْ رَاضِيَةً مُطْمَئِنَّةً، وَقُلُوبُهُمْ بِالإِيمَانِ وَالْيَقِينِ عَامِرَةً، وَصُدُورُهُمْ مِنَ الْغِشِّ وَالْحِقْدِ خَالِيَةً، وَأُمُورُهُمْ مُجْتَمِعَةً غَيْرَ مُشَتَّتَةٍ، تَرَاهُمْ رَاضِينَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، مُسْتَسْلِمِينَ لأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ، عَاكِفِينَ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ؛ يُفِيضُ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالشُّكْرِ فِي سَرَّائِهِمْ، وَالصَّبْرِ فِي ضَرَّائِهِمْ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ» [رواه مسلم].
وَمِنْ أَنْوَاع الأَمْنِ الَّتِي يُنْعِمُ بِهَا اللَّهُ لِأَهْلَ التَّوْحِيدِ:
أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ عَلَى أَوْلاَدِهِمْ وَأَحْبَابِهِمْ؛ فَلاَ يُجْزِعُهُمْ فِرَاقُ الأَحِبَّةِ، بَلْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمَعَهَا الْبَشَائرُ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَنَعِيمِ الْجِنَانِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت:30-32].
وَمِنْ أَنْوَاعِ الأَمْنِ الَّتِي يُنْعِمُ بِهَا اللَّهُ لِأَهْلَ التَّوْحِيدِ:
أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا – أَيْ عَنِ النَّارِ - مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: [101-103]
إِذَا اجتَمَعَ الإِسْلامُ وَالقُوتُ لِلفَتَى
وَكَانَ صَحِيحًا جِسمُهُ وَهْوَ فِي أَمْنِ
فَقَدْ مَلَكَ الدُّنيَــــــا جَمِيعًا وَحَازَهَا
وَحُقَّ عَلَيهِ الشُّكْــــــرُ للهِ ذِي المَنِّ
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُمَتِّعَنَا جَمِيعًا بِالأَمْنِ وَالأَمَانِ وَالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ نِعْمَةَ التَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَحْقِيقِ الْأَمْنِ، وَهَذا مَا نَعِيشُهُ وَاقِعًا فِي بِلادِنَا؛ حَيْثُ تَوَحَّدَتْ صُفُوفُنَا، وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُنَا عَلَى إِمَامِنَا، وَعَمَّ أَمْنُنَا، وَزَادَ رَخَاؤُنَا، وَازْدَهَرَتْ بِلَادُنَا، بَعْدَ مَا عَانَتْ أَحْقَابًا وَدُهُورًا مِنَ الْفُرْقَةِ وَالْفَوْضَى، وَالْخَوْفِ وَالْفِتَنِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْجُوعِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ. وَالْمَسْؤُولِيَّةُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى نِعْمَةِ الأَمْنِ، بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ خُضُوعًا وَاسْتِكَانَةً، وَثَنَاءً وَاعْتِرَافًا، وَطَاعَةً وَانْقِيَادًا ، وَكَذَلِكَ الاِنْتِمَاءُ الْمُخْلِصُ لِهَذَا الْوَطَنِ، وَالشُّعُورُ الْجَمَاعِيُّ بِمَسْؤُولِيَّةِ الْحِفَاظِ عَلَى الْوَطَنِ، وَالْمُمْتَلَكَاتِ، وَالْمُكْتَسَبَاتِ، وَالاِلْتِفَافُ حَوْلَ الْقِيَادَةِ الْحَكِيِمَةِ ، وَصَدُّ كُلِّ فِتْنَةٍ، أَوْ مَسْلَكٍ، أَوْ دَعْوَةٍ تُهَدِّدُ أَمْنَ هَذَا الْوَطَنِ، وَرَغَدَ عَيْشِهِ، وَالْعَمَلُ عَلَى تَحْقِيقِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا..﴾[آل عمران: 103]. وَقَوْلِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَتَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا لِمَنْ وَلاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ. وَيَسْخَطُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» [ رواه مسلم ]
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].
محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام
17 / 3 / 1446هـ
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾
[آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾
[النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام آية:٨٢].
وَرَوَى الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: 82 ]، شَقَّ ذلكَ عَلَى أصْحَابِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالُوا: أيُّنا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ؛ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
فَفِي هَذِهِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَيَانٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِأَنَّ الْحَيَاةَ الآمِنَةَ لَا تُوجَدُ إِلاَّ عِنْد الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا؛ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لِرَبِّهِمْ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
وَهَذِهِ الْحَيَاةُ الآمِنَةُ تَكُونُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ؛ تَكُونُ فِي دِينِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ بِمَا يُفِيضُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ الرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَالثَّبَاتِ فِي الْفِتَنِ وَاخْتِلافِ الأُمُورِ وَاضْطِرَابِهَا؛ فَلاَ تُزَلْزِلُهُمْ زَلاَزِلُ الْمُرْجِفِينَ، وَلاَ شُبَهُ الْمُبْطِلِينَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي وَصْفِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 173-175].
فَالإِيمَانُ بِاللَّهِ الْمَقْرُونُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ سَبِيلُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ الآمِنَةِ، وَوَسِيلَةُ الاِسْتِقْرَارِ وَالْهُدُوءِ، وَأَسَاسُ الاِطْمِئْنَانِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [ سورة النحل الآية 97].
فَأَهْلُ الإِيمَانِ تَبْقَى نُفُوسُهُمْ رَاضِيَةً مُطْمَئِنَّةً، وَقُلُوبُهُمْ بِالإِيمَانِ وَالْيَقِينِ عَامِرَةً، وَصُدُورُهُمْ مِنَ الْغِشِّ وَالْحِقْدِ خَالِيَةً، وَأُمُورُهُمْ مُجْتَمِعَةً غَيْرَ مُشَتَّتَةٍ، تَرَاهُمْ رَاضِينَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، مُسْتَسْلِمِينَ لأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ، عَاكِفِينَ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ؛ يُفِيضُ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالشُّكْرِ فِي سَرَّائِهِمْ، وَالصَّبْرِ فِي ضَرَّائِهِمْ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ» [رواه مسلم].
وَمِنْ أَنْوَاع الأَمْنِ الَّتِي يُنْعِمُ بِهَا اللَّهُ لِأَهْلَ التَّوْحِيدِ:
أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ عَلَى أَوْلاَدِهِمْ وَأَحْبَابِهِمْ؛ فَلاَ يُجْزِعُهُمْ فِرَاقُ الأَحِبَّةِ، بَلْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمَعَهَا الْبَشَائرُ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَنَعِيمِ الْجِنَانِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت:30-32].
وَمِنْ أَنْوَاعِ الأَمْنِ الَّتِي يُنْعِمُ بِهَا اللَّهُ لِأَهْلَ التَّوْحِيدِ:
أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا – أَيْ عَنِ النَّارِ - مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: [101-103]
إِذَا اجتَمَعَ الإِسْلامُ وَالقُوتُ لِلفَتَى
وَكَانَ صَحِيحًا جِسمُهُ وَهْوَ فِي أَمْنِ
فَقَدْ مَلَكَ الدُّنيَــــــا جَمِيعًا وَحَازَهَا
وَحُقَّ عَلَيهِ الشُّكْــــــرُ للهِ ذِي المَنِّ
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُمَتِّعَنَا جَمِيعًا بِالأَمْنِ وَالأَمَانِ وَالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ نِعْمَةَ التَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَحْقِيقِ الْأَمْنِ، وَهَذا مَا نَعِيشُهُ وَاقِعًا فِي بِلادِنَا؛ حَيْثُ تَوَحَّدَتْ صُفُوفُنَا، وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُنَا عَلَى إِمَامِنَا، وَعَمَّ أَمْنُنَا، وَزَادَ رَخَاؤُنَا، وَازْدَهَرَتْ بِلَادُنَا، بَعْدَ مَا عَانَتْ أَحْقَابًا وَدُهُورًا مِنَ الْفُرْقَةِ وَالْفَوْضَى، وَالْخَوْفِ وَالْفِتَنِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْجُوعِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ. وَالْمَسْؤُولِيَّةُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى نِعْمَةِ الأَمْنِ، بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ خُضُوعًا وَاسْتِكَانَةً، وَثَنَاءً وَاعْتِرَافًا، وَطَاعَةً وَانْقِيَادًا ، وَكَذَلِكَ الاِنْتِمَاءُ الْمُخْلِصُ لِهَذَا الْوَطَنِ، وَالشُّعُورُ الْجَمَاعِيُّ بِمَسْؤُولِيَّةِ الْحِفَاظِ عَلَى الْوَطَنِ، وَالْمُمْتَلَكَاتِ، وَالْمُكْتَسَبَاتِ، وَالاِلْتِفَافُ حَوْلَ الْقِيَادَةِ الْحَكِيِمَةِ ، وَصَدُّ كُلِّ فِتْنَةٍ، أَوْ مَسْلَكٍ، أَوْ دَعْوَةٍ تُهَدِّدُ أَمْنَ هَذَا الْوَطَنِ، وَرَغَدَ عَيْشِهِ، وَالْعَمَلُ عَلَى تَحْقِيقِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا..﴾[آل عمران: 103]. وَقَوْلِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَتَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا لِمَنْ وَلاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ. وَيَسْخَطُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» [ رواه مسلم ]
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].