الشيخ/عبدالله الواكد
06-04-2023, 01:55
خطبة جمعة
بعنوان
( زبدة رمضان 44 )
16/9/1444
كتبها
عبدالله فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ مَا انْتَظَمَتْ بِتَدْبِيرِهِ الأُمُوُرُ ، وَتَوَالَتْ بِحِكْمَتِهِ السِّنِينُ وَالشُّهُورُ ، وَسَبَحَتْ بِفَنَاءِ صَنْعَتِهِ أَسْرَابُ الطُيُورِ، وَسِعَ المُقْتَرِفِينَ بِعَفْوِهِ وَغُفْرَانِهْ ، وَعَمَّ المُفْتَقِرِينَ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهْ ،خَرَّتْ لِعَظَمَتِهِ جِبَاهُ العَابِدِينَ ، فَطُوبَى لِمَنْ عَبَدَ ، وَاعْتَرَفَتْ بِوِحْدَانِيَّتِهِ قُلُوبُ العَارِفِينَ ، فَوَيْلٌ لِمَنْ جَحَدَ ، كَمْ سُئِلَ فَأَجْزَلَ ، وَكَمْ عُصِيَ فَأَمْهَلَ ، لاَ رَاتِقَ لِمَا فَتَقَ ، وَلاَ فَاتِقَ لِمَا رَتَقَ ، وَلاَ رَازِقَ لِمَنْ حَرَمَ ، وَلاَ حَارِمَ لِمَنْ رَزَقَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً ،
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله ، قال سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
أَيُّهَا النَّاسُ : بِالأَمْسِ القَرِيبِ ، كُنَّا نَسْتَقْبِلُ هَذَا الشَّهْرَ المُبَارَكَ ، وَيُبَشِّرُ بَعْضُنَا بَعْضاً بِقُدُومِهِ ، وَاليَوْمَ ، نُوشِكُ أَنْ نُوَدِّعَ هَذَا الشَّهْرَ الكَرِيمَ ، وَلَقَدْ ذَخَرَ اللهُ لَكُمْ أَفْضَلَهُ ، وَبَقِيَ مِنْهُ أَجْزَلَهُ ، بَقِيَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ ، وَالغُرُّ الزَّوَاخِرُ ، هُنَّ أَفْضَلُ لَيَالِيهِ ، إِحْدَاهُنَّ لَيْلَةُ القَدْرِ ، قَالَ تَعَالَى ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ) القدر
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَلاَ تَكِلُّوا عَنْ بُلُوغِ غَايَتِهِ ، وَلَا تَرْكِسُوا قَبْلَ نِهَايَتِهِ ، وَلاَ يَصْرِفَنَّكمُ عَنْ طَلَبِهَا حِسَابُ الحَاسِبِينَ ، وَإِيهَامُ الوَاهِمِينَ ، فَلَوْ كَانَتْ لَيْلَةُ القَدْرِ مَعْلُومَةٌ بِالحِسَابِ ، لَأَرْشَدَنَا لَهَا مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الكِتَابُ ، رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَّ ، وَلحَسَبَهاَ حَبْرُ الأُمَّةِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، وَكُلُّ مَاوَرَدَ فِي شَأْنِهاَ رُؤَىً فِي المَنَامِ أُرِيهاَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أُنْسِيهَا ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي البُخَارِيِّ ، وَأُرُوهاَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ كَمَا فِي البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ بْنِ عُمَرَ وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهاَ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ وَوَرَدَ عَنْهَا أَنَّهَا فِي أَوْتَارِ العَشْرِ الأَوَاخِرِ ، وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ، وَوَرَدَ عَنْهُ أَنَّهَا لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى لِسَابِعَةٍ تَبْقَى لخِاَمِسَةٍ تَبْقَى لِثَالِثَةٍ تَبِقَى وَالأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي البُخَارِيِّ ، وَقَدْ ذَكَرَ الحَافِظُ بْنُ حَجَرَ رَحِمَهُ اللهُ فِي فَتْحِ البَارِي سِتاًّ وَأَرْبَعِينَ قَوْلاً فِي تَعْيِينِ لَيْلَةِ القَدْرِ ، وَرَدَّ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى مَنْ جَعَلَهاَ دَائِماً لَيْلَةَ الأَحَدِ ، أَوْ دَائِماً لَيْلَةَ الجُمَعَةِ فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ ، وَكِلاَهُماَ لاَ أَصْلَ لَهُ ، بَلْ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ عُمَرَ ، وَمَا أَوْسَعَ الخِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ ، كَماَ فِي فَتْحَ البَارِي ، وَلَمْ يَتَطَرَّقُوا لِلْحِسَابِ ، إِنَّماَ لِلنُّصُوصِ ، وَهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَحْرَصُ مِنَّا عَلَيْهَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّنَا لاَنَعْلَمُ مَتَى هِيَ ، وَطَالَماَ أَنَّ الأَمْرَ كَذَلِكَ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّحَرِّي وَالإِجْتِهَادِ فِي لَيَالِي العَشْرِ كُلِّهَا ، فَمَنْ قَامَ لَيَالِي العَشْرِ كُلَّهاَ فَقَدْ وُفِّقَ بِإِذْنِ اللهِ لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ العَظِيمَةِ لَيْلَةِ القَدْرِ .
وَاعْلَمُوا أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : أَنَّ زُبْدَةَ عَامِكُمْ فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، وَزُبْدَةَ شَهْرِكُمْ فِي عَشْرِكُمْ هَذِهِ ، وَزُبْدَةَ عَشْرِكُمْ لَيْلَةُ القَدْرِ ، فَمَنْ فَازَ فِيهَا ، وَوُفِّقَ لِقِيَامِهَا ، فَهُوَ لَعَمْرُو اللهِ مِنَ الفَائِزِينَ ، وَمِمَّنْ بَاعَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، َورَغِبَ فِي جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ، وَمَنْ فَرَّطَ فِي نَيْلِهاَ ، وَقَصَّرَ فِي طَلَبِهَا ، فَقَدْ فَرَّطَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ ، فَرَّطَ فِي لَيْلَةٍ خَيْرٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً .
فَياَ عِبَادَ اللهِ : إِشْحَذُوا الِهمَمَ ، وَأَفِيقُوا المَرَاقِدَ ، وَأَسْرِجُوا خُيُولَ عَزَائِمِكُمْ ، وَاطْلُبُوا الأَجْرَ فِي مُعْتَرَكَاتِهِ ، وَعَالِجُوا الخَيْرَ فِي عُرُصَاتِهِ ، فَإِنَّ اللَّحَاقَ بِالفَضَائِلِ إِذَا وَلَّتْ ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ، طَلَبٌ لِلْمُسْتَحِيلِ ، وَمُسَابَقَةٌ لِلْمَاضِي ، وَمُحَاوَلَةٌ لِجَمْعِ الضِّدَّيْنِ ، وَضَمِّ المُسْتَحِيلَيْنِ ، فَلاَ يَزَالُ الخَيْرُ لَكُمْ وَاجِماً ، وَالغَيْثُ عَلَيْكُمْ سَاجِماً ، فَاسْتَغِيثُوا الرَّحَمَاتِ ، وَاسْتَجْلِبُوا الخَيْرَاتِ ، وَاسْتَزِيدُوا مِنَ الحَسَنَاتِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني اللهُ وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكيمِ، أقولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا محُمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا ،
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : سُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابًا، وَلِكُلِّ عَمَلٍ حِسَابًا، وَجَعَلَ الدُّنْيَا سُوقًا يَغْدُو إِلَيْهاَ النَّاسُ وَيَرُوحُونَ، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهاَ أَوْ مُوبِقُهاَ ، مَضَتْ لَيَالٍ غُرٍّ بِفَضَائِلِهاَ وَنَفَحَاتِ رَبِّهاَ ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمْ صَالِحَ الأَعْمَالِ ، كَأَنَّ رَمَضَانَ ضَرْبُ خَيَالٍ ، هَذَا هُوَ شَهْرُكُمْ، وَهَذِهِ ثَالِثُ مَرَاحِلِهِ قَدْ أَقْبَلَتْ، كَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ بِهِ لَمْ يَسْتَقْبِلْهُ ، وَكَمْ مِنْ مُسْتَقْبِلٍ لَهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُ ، فَاغْتَنِمُوا مَا بَقِيَ مِنْهُ بِمُضَاعَفَةِ الطَّاعَاتِ ، فَأَيَّامُ رَمَضَانَ تُسَارِعُ مُؤْذِنَةً بِالإِنْصِرَافِ وَالرَّحِيلِ ، وَحَيَاتُكَ أَيُّهَا المَغْرُورُ ، أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ ، وَآجَالٌ مَحْدُودَةٌ ، وَإِنَّ عُمُراً يُقَاسُ بِالأَنْفَاسِ لَسَرِيعُ الإِنْصِرَامِ ، وَشَدِيدُ الإِنْهِزَامِ ، فَاحْذَرْ الإِغْتِرَارَ بِالسَّلاَمَةِ وَالإِمْهَالِ ، وَمُتَابَعَةَ سَوَابِغِ المُنَى وَالآمَالِ ، فَالأَيَّامُ تُطْوَى وَالأَعْمَارُ تَفْنَى ، فَاسْتَلِفِ الزَّمَانَ ، وَغَالِبِ الأَرْكَانَ ، وَاجْعَلْ لَكَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ اللَّيَالِي مُدَّخَراً ، فَإِنَّكَ لاَ تَزَالُ عَلَى نَفْسِكَ مُقْتَدِراً ، وَاغْتَنِمْ آخِرَ الشَّهْرِ بِالدُّعَاءِ ، وَأَسْبِغْ عَلَى نَفْسِكَ شَآبِيبَ الرَّجَاءِ ، فَفِي رَمَضَانَ كُنُوزٌ غَالِيَةٌ ، وَقُطُوفٌ دَانِيَةٌ ، فَأَيْنَ القَاطِفِينَ ، سَلْ الكَرَيمَ ، وَاسْتَغْفِرْ العَظِيمَ ، وَلُذْ بِالرَّحِيمِ ، فَيَدَاهُ سَحَّاءَ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ ، تَعَرَّضْ لِرَحْمَتِهِ فِي هَزِيعِ الأَسْحَارِ، لَحَظَاتُ رَمَضَانَ الأَخِيرَةُ نَفِيسَةٌ، وَلَعَلَّكَ لَا تُدْرِكَ غَيْرَهُ ، إِفْتَحْ صَفْحَةً مُشْرِقَةً مَعَ مَوْلاَكَ ، وَاسْتَدْرِكْ هَفَواتِ الفَوَاتِ ، فَالتَّحَوُّلُ مِنَ الدُّنْيَا قَدْ دَنَا ، وَأَمَلُ الخُلُودِ عَلَيْهَا قَدْ فَنَى ، وَالرَّشِيدُ مَنْ وَقَفَ مَعَ نَفْسِهِ وَقْفَةَ حِسَابٍ وَعِتَابٍ ، يُصَحِّحُ مَسِيرَتَهاَ وَيَتَدَارَكُ زَلَّتَهاَ ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، قَالَ جَلَّ وَعَلاَ: ( إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ) ، وَيَقُولُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اتّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهاَ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ } رَوَاهُ التِّرْمِذِي .
فَمَدَارُ السَّعَادَةِ فِي طُولِ العُمُرِ وَحُسْنِ العَمَلِ ، يَقُولُ : المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَصَلُحَ عَمَلُهُ}.
أَلَا وَصَلُّوا َوَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ
بعنوان
( زبدة رمضان 44 )
16/9/1444
كتبها
عبدالله فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ مَا انْتَظَمَتْ بِتَدْبِيرِهِ الأُمُوُرُ ، وَتَوَالَتْ بِحِكْمَتِهِ السِّنِينُ وَالشُّهُورُ ، وَسَبَحَتْ بِفَنَاءِ صَنْعَتِهِ أَسْرَابُ الطُيُورِ، وَسِعَ المُقْتَرِفِينَ بِعَفْوِهِ وَغُفْرَانِهْ ، وَعَمَّ المُفْتَقِرِينَ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهْ ،خَرَّتْ لِعَظَمَتِهِ جِبَاهُ العَابِدِينَ ، فَطُوبَى لِمَنْ عَبَدَ ، وَاعْتَرَفَتْ بِوِحْدَانِيَّتِهِ قُلُوبُ العَارِفِينَ ، فَوَيْلٌ لِمَنْ جَحَدَ ، كَمْ سُئِلَ فَأَجْزَلَ ، وَكَمْ عُصِيَ فَأَمْهَلَ ، لاَ رَاتِقَ لِمَا فَتَقَ ، وَلاَ فَاتِقَ لِمَا رَتَقَ ، وَلاَ رَازِقَ لِمَنْ حَرَمَ ، وَلاَ حَارِمَ لِمَنْ رَزَقَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً ،
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله ، قال سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
أَيُّهَا النَّاسُ : بِالأَمْسِ القَرِيبِ ، كُنَّا نَسْتَقْبِلُ هَذَا الشَّهْرَ المُبَارَكَ ، وَيُبَشِّرُ بَعْضُنَا بَعْضاً بِقُدُومِهِ ، وَاليَوْمَ ، نُوشِكُ أَنْ نُوَدِّعَ هَذَا الشَّهْرَ الكَرِيمَ ، وَلَقَدْ ذَخَرَ اللهُ لَكُمْ أَفْضَلَهُ ، وَبَقِيَ مِنْهُ أَجْزَلَهُ ، بَقِيَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ ، وَالغُرُّ الزَّوَاخِرُ ، هُنَّ أَفْضَلُ لَيَالِيهِ ، إِحْدَاهُنَّ لَيْلَةُ القَدْرِ ، قَالَ تَعَالَى ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ) القدر
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَلاَ تَكِلُّوا عَنْ بُلُوغِ غَايَتِهِ ، وَلَا تَرْكِسُوا قَبْلَ نِهَايَتِهِ ، وَلاَ يَصْرِفَنَّكمُ عَنْ طَلَبِهَا حِسَابُ الحَاسِبِينَ ، وَإِيهَامُ الوَاهِمِينَ ، فَلَوْ كَانَتْ لَيْلَةُ القَدْرِ مَعْلُومَةٌ بِالحِسَابِ ، لَأَرْشَدَنَا لَهَا مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الكِتَابُ ، رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَّ ، وَلحَسَبَهاَ حَبْرُ الأُمَّةِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، وَكُلُّ مَاوَرَدَ فِي شَأْنِهاَ رُؤَىً فِي المَنَامِ أُرِيهاَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أُنْسِيهَا ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي البُخَارِيِّ ، وَأُرُوهاَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ كَمَا فِي البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ بْنِ عُمَرَ وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهاَ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ وَوَرَدَ عَنْهَا أَنَّهَا فِي أَوْتَارِ العَشْرِ الأَوَاخِرِ ، وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ، وَوَرَدَ عَنْهُ أَنَّهَا لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى لِسَابِعَةٍ تَبْقَى لخِاَمِسَةٍ تَبْقَى لِثَالِثَةٍ تَبِقَى وَالأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي البُخَارِيِّ ، وَقَدْ ذَكَرَ الحَافِظُ بْنُ حَجَرَ رَحِمَهُ اللهُ فِي فَتْحِ البَارِي سِتاًّ وَأَرْبَعِينَ قَوْلاً فِي تَعْيِينِ لَيْلَةِ القَدْرِ ، وَرَدَّ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى مَنْ جَعَلَهاَ دَائِماً لَيْلَةَ الأَحَدِ ، أَوْ دَائِماً لَيْلَةَ الجُمَعَةِ فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ ، وَكِلاَهُماَ لاَ أَصْلَ لَهُ ، بَلْ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ عُمَرَ ، وَمَا أَوْسَعَ الخِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ ، كَماَ فِي فَتْحَ البَارِي ، وَلَمْ يَتَطَرَّقُوا لِلْحِسَابِ ، إِنَّماَ لِلنُّصُوصِ ، وَهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَحْرَصُ مِنَّا عَلَيْهَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّنَا لاَنَعْلَمُ مَتَى هِيَ ، وَطَالَماَ أَنَّ الأَمْرَ كَذَلِكَ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّحَرِّي وَالإِجْتِهَادِ فِي لَيَالِي العَشْرِ كُلِّهَا ، فَمَنْ قَامَ لَيَالِي العَشْرِ كُلَّهاَ فَقَدْ وُفِّقَ بِإِذْنِ اللهِ لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ العَظِيمَةِ لَيْلَةِ القَدْرِ .
وَاعْلَمُوا أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : أَنَّ زُبْدَةَ عَامِكُمْ فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، وَزُبْدَةَ شَهْرِكُمْ فِي عَشْرِكُمْ هَذِهِ ، وَزُبْدَةَ عَشْرِكُمْ لَيْلَةُ القَدْرِ ، فَمَنْ فَازَ فِيهَا ، وَوُفِّقَ لِقِيَامِهَا ، فَهُوَ لَعَمْرُو اللهِ مِنَ الفَائِزِينَ ، وَمِمَّنْ بَاعَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، َورَغِبَ فِي جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ، وَمَنْ فَرَّطَ فِي نَيْلِهاَ ، وَقَصَّرَ فِي طَلَبِهَا ، فَقَدْ فَرَّطَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ ، فَرَّطَ فِي لَيْلَةٍ خَيْرٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً .
فَياَ عِبَادَ اللهِ : إِشْحَذُوا الِهمَمَ ، وَأَفِيقُوا المَرَاقِدَ ، وَأَسْرِجُوا خُيُولَ عَزَائِمِكُمْ ، وَاطْلُبُوا الأَجْرَ فِي مُعْتَرَكَاتِهِ ، وَعَالِجُوا الخَيْرَ فِي عُرُصَاتِهِ ، فَإِنَّ اللَّحَاقَ بِالفَضَائِلِ إِذَا وَلَّتْ ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ، طَلَبٌ لِلْمُسْتَحِيلِ ، وَمُسَابَقَةٌ لِلْمَاضِي ، وَمُحَاوَلَةٌ لِجَمْعِ الضِّدَّيْنِ ، وَضَمِّ المُسْتَحِيلَيْنِ ، فَلاَ يَزَالُ الخَيْرُ لَكُمْ وَاجِماً ، وَالغَيْثُ عَلَيْكُمْ سَاجِماً ، فَاسْتَغِيثُوا الرَّحَمَاتِ ، وَاسْتَجْلِبُوا الخَيْرَاتِ ، وَاسْتَزِيدُوا مِنَ الحَسَنَاتِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني اللهُ وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكيمِ، أقولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا محُمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا ،
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : سُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابًا، وَلِكُلِّ عَمَلٍ حِسَابًا، وَجَعَلَ الدُّنْيَا سُوقًا يَغْدُو إِلَيْهاَ النَّاسُ وَيَرُوحُونَ، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهاَ أَوْ مُوبِقُهاَ ، مَضَتْ لَيَالٍ غُرٍّ بِفَضَائِلِهاَ وَنَفَحَاتِ رَبِّهاَ ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمْ صَالِحَ الأَعْمَالِ ، كَأَنَّ رَمَضَانَ ضَرْبُ خَيَالٍ ، هَذَا هُوَ شَهْرُكُمْ، وَهَذِهِ ثَالِثُ مَرَاحِلِهِ قَدْ أَقْبَلَتْ، كَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ بِهِ لَمْ يَسْتَقْبِلْهُ ، وَكَمْ مِنْ مُسْتَقْبِلٍ لَهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُ ، فَاغْتَنِمُوا مَا بَقِيَ مِنْهُ بِمُضَاعَفَةِ الطَّاعَاتِ ، فَأَيَّامُ رَمَضَانَ تُسَارِعُ مُؤْذِنَةً بِالإِنْصِرَافِ وَالرَّحِيلِ ، وَحَيَاتُكَ أَيُّهَا المَغْرُورُ ، أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ ، وَآجَالٌ مَحْدُودَةٌ ، وَإِنَّ عُمُراً يُقَاسُ بِالأَنْفَاسِ لَسَرِيعُ الإِنْصِرَامِ ، وَشَدِيدُ الإِنْهِزَامِ ، فَاحْذَرْ الإِغْتِرَارَ بِالسَّلاَمَةِ وَالإِمْهَالِ ، وَمُتَابَعَةَ سَوَابِغِ المُنَى وَالآمَالِ ، فَالأَيَّامُ تُطْوَى وَالأَعْمَارُ تَفْنَى ، فَاسْتَلِفِ الزَّمَانَ ، وَغَالِبِ الأَرْكَانَ ، وَاجْعَلْ لَكَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ اللَّيَالِي مُدَّخَراً ، فَإِنَّكَ لاَ تَزَالُ عَلَى نَفْسِكَ مُقْتَدِراً ، وَاغْتَنِمْ آخِرَ الشَّهْرِ بِالدُّعَاءِ ، وَأَسْبِغْ عَلَى نَفْسِكَ شَآبِيبَ الرَّجَاءِ ، فَفِي رَمَضَانَ كُنُوزٌ غَالِيَةٌ ، وَقُطُوفٌ دَانِيَةٌ ، فَأَيْنَ القَاطِفِينَ ، سَلْ الكَرَيمَ ، وَاسْتَغْفِرْ العَظِيمَ ، وَلُذْ بِالرَّحِيمِ ، فَيَدَاهُ سَحَّاءَ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ ، تَعَرَّضْ لِرَحْمَتِهِ فِي هَزِيعِ الأَسْحَارِ، لَحَظَاتُ رَمَضَانَ الأَخِيرَةُ نَفِيسَةٌ، وَلَعَلَّكَ لَا تُدْرِكَ غَيْرَهُ ، إِفْتَحْ صَفْحَةً مُشْرِقَةً مَعَ مَوْلاَكَ ، وَاسْتَدْرِكْ هَفَواتِ الفَوَاتِ ، فَالتَّحَوُّلُ مِنَ الدُّنْيَا قَدْ دَنَا ، وَأَمَلُ الخُلُودِ عَلَيْهَا قَدْ فَنَى ، وَالرَّشِيدُ مَنْ وَقَفَ مَعَ نَفْسِهِ وَقْفَةَ حِسَابٍ وَعِتَابٍ ، يُصَحِّحُ مَسِيرَتَهاَ وَيَتَدَارَكُ زَلَّتَهاَ ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، قَالَ جَلَّ وَعَلاَ: ( إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ) ، وَيَقُولُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اتّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهاَ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ } رَوَاهُ التِّرْمِذِي .
فَمَدَارُ السَّعَادَةِ فِي طُولِ العُمُرِ وَحُسْنِ العَمَلِ ، يَقُولُ : المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَصَلُحَ عَمَلُهُ}.
أَلَا وَصَلُّوا َوَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ