محمدالمهوس
24-08-2022, 23:02
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنَ الْمَعَانِي الْجَمِيلَةِ وَالْقِيَمِ النَّبِيلَةِ وَالأَخْلاَقِ الرَّفِيعَةِ السَّامِيَةِ الَّتِي اهْتَمَّ بِهَا دِينُنَا الإِسْلاَمِيُّ: النَّظَافَةُ الْعَامَّةُ، وَالَّتِي تَشْمَلُ نَظَافَةَ الإِنْسَانِ الْخَاصَّةَ، وَنَظَافَةَ الْبِيئَةِ وَالْمُجْتَمَعِ الْعَامَّةَ؛ بَلْ يُعَدُّ الإِسْلاَمُ دِينَ الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ بِأَشْمَلِ مَعَانِيهَا، حَيْثُ حَرَصَ عَلَى نَظَافَةِ الْعَقِيدَةِ مِنَ الشِّرْكِيَّاتِ بِأَنْوَاعِهَا، وَنَظَافَةِ الأَخْلاَقِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالرَّذَائِلِ بِأَشْكَالِهَا، وَنَظَافَةِ اللِّسَانِ مِنَ الْفُحْشِ وَالشَّتْمِ مِنَ الْكَلاَمِ، وَنَظَافَةِ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ مِنَ الأَوْسَاخِ وَالأَقْذَارِ، إِضَافَةً إِلَى الْحِرْصِ عَلَى نَظَافَةِ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ وَالطَّرِيقِ.
فَجَعَلَ فِي الشِّرْكِ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ الَّذِي لاَ يُغْفَرُ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48] وَجَعَلَ مِنَ سِمَاتِ الْمُسْلِمِ السَّلاَمَةَ مِنْ سَيِّئ الأَخْلاَقِ فِي الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ- «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ»
[ رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني ]
وَجَعَلَ مِنْ نَظَافَةِ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ مِنَ الأَوْسَاخِ وَالأَقْذَارِ سَبَبًا لِمَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة:22]، وَأَثْنَى جَلَّ وَعَلاَ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدِ قُبَاءَ فَقَالَ: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة:108]. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» [رواه مسلم من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه - ].
وَحَرَصَ الإِسْلاَمُ عَلَى نَظَافَةِ الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ وَالطَّرِيقِ، فَنَدَبَ الْمُسْلِمَ إِلَى لُبْسِ أَفْضَل الثِّيَابِ عِنْدَ الذَّهَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ، حَيْثُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا بَني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ﴾ [ الأعراف : 31 ] وَحَذَّرَ مِنْ أَذِيَّةِ الْمُصَلِّينَ فِي مَسَاجِدِهِمْ بِثُومٍ أَوْ بَصَلٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» [متفق عليه]، بَلْ وَأَمَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِنَظَافَةِ الْمَسَاجِدِ؛ تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَمَرَ أَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ»
[ رواه أبو داود، وأحمد، وصححه الألباني في المشكاة ].
وَمِمَّا اعْتَنَى الإِسْلاَمُ بِهِ، وَجَعَلَهَا جُزْءًا لاَ يَتَجَزَّأُ مِنَ الإِيمَانِ: نَظَافَةُ الطَّرِيقِ، وَالأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ فَلَمْ يَعُدْ يُنْظَرُ إِلَيْهَا عَلَى أَنَّهَا مُجَرَّدُ سُلُوكٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ ، أَوْ مُتَعَارَفٍ عَلَيْهِ اجْتِمَاعِيًّا يَحْظَى صَاحِبُهُ بِالْقَبُولِ الاِجْتِمَاعِيِّ فَقَطْ؛ بَلْ جَعَلَهَا الإِسْلاَمُ قَضِيَّةً إِيمَانِيَّةَ تَتَّصِلُ بِالْعَقِيدَةِ، يُثَابُ فَاعِلُهَا وَيَأْثَمُ تَارِكُهَا فِي بَعْضِ مَظَاهِرِهَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ-شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» [رواه البخاري ومسلم].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:«عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ..»
الحديث [رواه مسلم].
وَتَأَمَّلُوا أَثَرَ مَنْ أَزَالَ شَيْئًا مِمَّا يُؤْذِي النَّاسَ فِي طُرُقَاتِهِمْ، وَأَخْلَصَ فِي ذَلِكَ للهِ مَاذَا كَانَ أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ؟! قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ» [مُتَّفق عليه] فَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ فَوَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ يُؤْذِي النَّاسَ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْغُصْنُ فِي الشَّجَرَةِ مِنْ فَوْقُ يُؤْذِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رُؤوسِهِمْ، أَوْ مِنْ أَسْفَلُ يُؤْذِيهِمْ مِنْ جِهَةِ أَرْجُلِهِمْ، فَأَزَالَهُ لِيَكُفَّ أَذَاهُ عَنْهُمْ، فَتَقبَّلُ اللهُ مِنْهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَكَانَ جَزَاؤُهُ أَنْ غَفَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ عَلَى إِزَالَتِهِ الشَّوْكَ مِنَ الطَّرِيقِ.
وَمَعَ أَنَّ إِمَاطَةَ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ ،كَذَلِكَ أَذَى النَّاسِ أَمَامَ بُيُوتِهِمْ أَوْ فِي طُرُقَاتِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمُ الْعَامَّةِ وِزْرٌ وَعِقَابٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ --صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ».
فَالتَّخَلِّي فِيمَا يَسْتَظِلُّ بِهِ النَّاسُ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ، سَوَاءً كَانَ شَجَرَةً أَوْ جِدَارًا أَوْ مَظَلَّةً مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ وَنَحْوِهِ أَوْ غَيْرَهَا مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ الأَمَاكِنُ الَّتِي يَتَرَدَّدُ إِلَيْهَا النَّاسُ كَالْمُنْتَزَهَاتِ وَالْحَدَائِقِ، وَأَمَاكِنِ الاِسْتِرَاحَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي بَعْضِ طُرُقِ النَّاسِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ النَّظَافَةَ فِي الإِسْلاَمِ مَطْلَبٌ ضَرُورِيٌّ، وَسُلُوكٌ إِنْسَانِيٌّ وَحَضَارِيٌّ، وَهِيَ أَوَّلُ الاِنْطِبَاعَاتِ الَّتِي تَتَشَكَّلُ عَنِ الْفَرْدِ وَشَخْصِيَّتِه، كَمَا أَنَّهَا مُقَوَّمٌ أَسَاسِيٌّ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ دَعْوَةَ الإِسْلاَمِ إِلَى نَظَافَةِ الْبِيئَةِ كَانَ هَدَفُهَا التَّعَاوُنَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَكَذَلِكَ حِمَايةُ الْمُجْتَمَعِ مِنَ الأَمْرَاضِ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَضْرَارَ التَّلَوُّثِ لَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى الْفَرْدِ وَحْدَهُ بَلْ تَتَعَدَّاهُ إِلَى الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرِ، وَمِنْ ثَمَّ عُنِيَ الإِسْلاَمُ عِنَايَةً خَاصَّةً بِالنَّظَافَةِ، فَهِيَ مِنْ مَظَاهِرِ الإِيمَانِ، وَهِيَ سُلُوكٌ إِنْسَانِيٌّ وَحَضَارِيٌّ، وَفِيهَا إِرْضَاءٌ لِلرَّحْمَنِ، وَعَافِيَةٌ لِلأَبْدَانِ، وَسَلاَمَةٌ مِنَ الأَسْقَامِ.
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ – ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِم
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنَ الْمَعَانِي الْجَمِيلَةِ وَالْقِيَمِ النَّبِيلَةِ وَالأَخْلاَقِ الرَّفِيعَةِ السَّامِيَةِ الَّتِي اهْتَمَّ بِهَا دِينُنَا الإِسْلاَمِيُّ: النَّظَافَةُ الْعَامَّةُ، وَالَّتِي تَشْمَلُ نَظَافَةَ الإِنْسَانِ الْخَاصَّةَ، وَنَظَافَةَ الْبِيئَةِ وَالْمُجْتَمَعِ الْعَامَّةَ؛ بَلْ يُعَدُّ الإِسْلاَمُ دِينَ الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ بِأَشْمَلِ مَعَانِيهَا، حَيْثُ حَرَصَ عَلَى نَظَافَةِ الْعَقِيدَةِ مِنَ الشِّرْكِيَّاتِ بِأَنْوَاعِهَا، وَنَظَافَةِ الأَخْلاَقِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالرَّذَائِلِ بِأَشْكَالِهَا، وَنَظَافَةِ اللِّسَانِ مِنَ الْفُحْشِ وَالشَّتْمِ مِنَ الْكَلاَمِ، وَنَظَافَةِ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ مِنَ الأَوْسَاخِ وَالأَقْذَارِ، إِضَافَةً إِلَى الْحِرْصِ عَلَى نَظَافَةِ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ وَالطَّرِيقِ.
فَجَعَلَ فِي الشِّرْكِ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ الَّذِي لاَ يُغْفَرُ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48] وَجَعَلَ مِنَ سِمَاتِ الْمُسْلِمِ السَّلاَمَةَ مِنْ سَيِّئ الأَخْلاَقِ فِي الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ- «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ»
[ رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني ]
وَجَعَلَ مِنْ نَظَافَةِ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ مِنَ الأَوْسَاخِ وَالأَقْذَارِ سَبَبًا لِمَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة:22]، وَأَثْنَى جَلَّ وَعَلاَ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدِ قُبَاءَ فَقَالَ: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة:108]. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» [رواه مسلم من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه - ].
وَحَرَصَ الإِسْلاَمُ عَلَى نَظَافَةِ الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ وَالطَّرِيقِ، فَنَدَبَ الْمُسْلِمَ إِلَى لُبْسِ أَفْضَل الثِّيَابِ عِنْدَ الذَّهَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ، حَيْثُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا بَني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ﴾ [ الأعراف : 31 ] وَحَذَّرَ مِنْ أَذِيَّةِ الْمُصَلِّينَ فِي مَسَاجِدِهِمْ بِثُومٍ أَوْ بَصَلٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» [متفق عليه]، بَلْ وَأَمَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِنَظَافَةِ الْمَسَاجِدِ؛ تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَمَرَ أَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ»
[ رواه أبو داود، وأحمد، وصححه الألباني في المشكاة ].
وَمِمَّا اعْتَنَى الإِسْلاَمُ بِهِ، وَجَعَلَهَا جُزْءًا لاَ يَتَجَزَّأُ مِنَ الإِيمَانِ: نَظَافَةُ الطَّرِيقِ، وَالأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ فَلَمْ يَعُدْ يُنْظَرُ إِلَيْهَا عَلَى أَنَّهَا مُجَرَّدُ سُلُوكٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ ، أَوْ مُتَعَارَفٍ عَلَيْهِ اجْتِمَاعِيًّا يَحْظَى صَاحِبُهُ بِالْقَبُولِ الاِجْتِمَاعِيِّ فَقَطْ؛ بَلْ جَعَلَهَا الإِسْلاَمُ قَضِيَّةً إِيمَانِيَّةَ تَتَّصِلُ بِالْعَقِيدَةِ، يُثَابُ فَاعِلُهَا وَيَأْثَمُ تَارِكُهَا فِي بَعْضِ مَظَاهِرِهَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ-شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» [رواه البخاري ومسلم].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:«عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ..»
الحديث [رواه مسلم].
وَتَأَمَّلُوا أَثَرَ مَنْ أَزَالَ شَيْئًا مِمَّا يُؤْذِي النَّاسَ فِي طُرُقَاتِهِمْ، وَأَخْلَصَ فِي ذَلِكَ للهِ مَاذَا كَانَ أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ؟! قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ» [مُتَّفق عليه] فَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ فَوَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ يُؤْذِي النَّاسَ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْغُصْنُ فِي الشَّجَرَةِ مِنْ فَوْقُ يُؤْذِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رُؤوسِهِمْ، أَوْ مِنْ أَسْفَلُ يُؤْذِيهِمْ مِنْ جِهَةِ أَرْجُلِهِمْ، فَأَزَالَهُ لِيَكُفَّ أَذَاهُ عَنْهُمْ، فَتَقبَّلُ اللهُ مِنْهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَكَانَ جَزَاؤُهُ أَنْ غَفَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ عَلَى إِزَالَتِهِ الشَّوْكَ مِنَ الطَّرِيقِ.
وَمَعَ أَنَّ إِمَاطَةَ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ ،كَذَلِكَ أَذَى النَّاسِ أَمَامَ بُيُوتِهِمْ أَوْ فِي طُرُقَاتِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمُ الْعَامَّةِ وِزْرٌ وَعِقَابٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ --صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ».
فَالتَّخَلِّي فِيمَا يَسْتَظِلُّ بِهِ النَّاسُ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ، سَوَاءً كَانَ شَجَرَةً أَوْ جِدَارًا أَوْ مَظَلَّةً مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ وَنَحْوِهِ أَوْ غَيْرَهَا مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ الأَمَاكِنُ الَّتِي يَتَرَدَّدُ إِلَيْهَا النَّاسُ كَالْمُنْتَزَهَاتِ وَالْحَدَائِقِ، وَأَمَاكِنِ الاِسْتِرَاحَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي بَعْضِ طُرُقِ النَّاسِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ النَّظَافَةَ فِي الإِسْلاَمِ مَطْلَبٌ ضَرُورِيٌّ، وَسُلُوكٌ إِنْسَانِيٌّ وَحَضَارِيٌّ، وَهِيَ أَوَّلُ الاِنْطِبَاعَاتِ الَّتِي تَتَشَكَّلُ عَنِ الْفَرْدِ وَشَخْصِيَّتِه، كَمَا أَنَّهَا مُقَوَّمٌ أَسَاسِيٌّ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ دَعْوَةَ الإِسْلاَمِ إِلَى نَظَافَةِ الْبِيئَةِ كَانَ هَدَفُهَا التَّعَاوُنَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَكَذَلِكَ حِمَايةُ الْمُجْتَمَعِ مِنَ الأَمْرَاضِ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَضْرَارَ التَّلَوُّثِ لَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى الْفَرْدِ وَحْدَهُ بَلْ تَتَعَدَّاهُ إِلَى الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرِ، وَمِنْ ثَمَّ عُنِيَ الإِسْلاَمُ عِنَايَةً خَاصَّةً بِالنَّظَافَةِ، فَهِيَ مِنْ مَظَاهِرِ الإِيمَانِ، وَهِيَ سُلُوكٌ إِنْسَانِيٌّ وَحَضَارِيٌّ، وَفِيهَا إِرْضَاءٌ لِلرَّحْمَنِ، وَعَافِيَةٌ لِلأَبْدَانِ، وَسَلاَمَةٌ مِنَ الأَسْقَامِ.
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ – ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِم