الشيخ/عبدالله الواكد
17-06-2022, 01:27
الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ حَرِّ الدُّنْيَا عِبْرَةً لِحَرِّ الْآخِرَةِ، وَمِنْ عَطَشِهَا تَذْكِرَةً لِعَطَشِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ شَمْسِهَا عِظَةً لِشَمْسِ المَوْقِفِ الْعَظِيمِ، حِينَ تَدْنُو مِنْ رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ قَدْرَ مِيلٍ، فَاعْمَلُوا عَلَى نَجَاتِكُمْ بِعِبَادَةِ رَبِّكُمْ، وَقَدِّمُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا يَكُونُ ذُخْرًا لَكُمْ؛ فَإِنَّ المَوْعِدَ قَرِيبٌ، وَهَوْلَ المُطَّلَعِ شَدِيدٌ (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ)أَيُّهَا النَّاسُ: عِنْدَمَا يَشْتَدُّ الْحَرُّ تَعْظُمُ قِيمَةُ المَاءِ، وَلَا شَيْءَ أَلَذَّ مِنَ المَاءِ الْحُلْوِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ؛ وَلِذَا رغب النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّتَهُ فِي إتباع سُنَّتِهِ بِالشُّرْبِ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ مِنْ حَوْضِهِ الَّذِي وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: «... مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي الْجَنَّةِ (أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) جعلنا الله وإياكم من أهلها ،وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ بَعَثَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِرِسَالَةٍ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ نَبِيِّهَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ...» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.فَلَأَهَمِّيَّةِ المَاءِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ، وَلَذَّتِهِمْ بِهِ حَالَ الْعَطَشِ؛ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَوَصَفَهَا؛ وَذَكَرَهَا الْخَلِيلُ فِي وَصِيَّتِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؛ وَذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْصَافَ حَوْضِهِ فِي المَوْقِفِ الْعَظِيمِ؛ وَخُصَّ الصَّائِمُونَ الظَّامِئُونَ بِبَابِ الرَّيَّانِ فِي الْجَنَّةِ.وَإِذَا عَظُمَتْ حَاجَةُ الْبَشَرِ لِشَيْءٍ كَانَ بَذْلُهُ لَهُمْ أَنْفَعَ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ، وَأَعْظَمَ الْقُرَبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ وَالمَاءُ أَهَمُّ شَيْءٍ لِبَقَاءِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ بَعْدَ الْهَوَاءِ، فَكَانَ فِي بَذْلِهِ إِحْيَاءٌ لَهُمْ، كَمَا أَنَّ فِي مَنْعِهِ عَنْهُمْ هَلَاكًا لَهُمْ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَذْلُ الْمَاءِ، وَكَانَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ مَنْعُ فَضْلِ المَاءِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِيهِ شُرَكَاءُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ، يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ...» الْحَدِيثُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِوَمَنْعُ المَاءِ عَنِ الْحَيَوَانِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ إِثْمُهُ عَظِيمٌ، وَقَدْ دَخَلَتِ النَّارَ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْ عَنْهَا المَاءَ وَالطَّعَامَ حَتَّى مَاتَتْ. فَكَيْفَ إِذَنْ بِحَبْسِ المَاءِ عَنِ الْإِنْسَانِ؟ وَكَيْفَ بِحَبْسِهِ عَنِ المُؤْمِنِ؟!إِنَّ سَقْيَ الْعَطْشَانِ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ، وَصَدَقَةَ المَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَاتِ، كَمَا جَاءَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ».وَكَانَتْ بِئْرُ رُومَةَ لِيَهُودِيٍّ يَبِيعُ مَاءَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، كُلَّ قِرْبَةٍ بِدِرْهَمٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ يشْتَرِي رُومَةَ فَيَجْعَلُ دَلْوَهُ فِيهَا كَدِلاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟» فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَوْقَفَهَا عَلَى المُسْلِمِينَ.وَعَنْ عَمْرَوِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أَنْزِعُ فِي حَوْضِي حَتَّى إِذَا مَلَأْتُهُ لِأَهْلِي، وَرَدَ عَلَيَّ الْبَعِيرُ لِغَيْرِي فَسَقَيْتُهُ، فَهَلْ لِي فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...» رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "سَقْيُ المَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ فَعَلَيْهِ بِسَقْيِ المَاءِ" اهـ.وَقَدْ غُفِرَ لِبَغِيٍّ بِكَلْبٍ سَقَتْهُ مَاءً؛ كَمَا جاء عن النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سَقْيِ المَاءِ إِلَّا قَوْلُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «...يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَنَا وَأَنْ يَفْتَحَ لِلْخَيْرِ قُلُوبَنَا، وَأَنْ يَقْبَلَ مِنَّا وَمِنَ المُسْلِمِينَ صَالِحَ أَعْمَالِنَا.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُالْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: صَدَقَةُ المَاءِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ، وَسَقْيُ الْعَطْشَانِ أَبْلَغُ مِنْ بَذْلِ المَالِ، سَوَاءً كَانَ الْعَطْشَانُ إِنْسَانًا أَمْ حَيَوانًا أَمْ طَائِرًا، وَهُوَ عَمَلٌ قَلِيلٌ وَلَكِنَّ نَفْعَهُ كَبِيرٌ، وَأَثَرَهُ عَظِيمٌ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «...إِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ». فَكَيْفَ بِمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهَا بِئْرٌ سِوَاهَا فَيَشْرَبُ أَهْلُهَا مِنْهَا، وَيْطُبُخُونَ طَعَامَهُمْ بِمَائِهَا، وَيَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ مِنْ حِيَاضِهَا!وَكَيْفَ بِمَنْ أَوْقَفَ بَرَّادَةَ مَاءٍ فِي مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ طَرِيقٍ، فَكُلُّ مَنْ مَرَّ بِهَا شَرِبَ مِنْهَا، وَيَجْرِي أَجْرُهَا مَا جَرَى مَاؤُهَا، وَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْهَا! ولا ننسى البهائم والطيور فَوَضْعُ المِيَاهِ لِلطُّيُورِ وَالْحَيَوَانَاتِ الضَّالَّةِ فِيهِ أَجْرُهُ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرًا.وَسُبُلُ بَذْلِ المَاءِ كَثِيرَةٌ، وَطُرُقُ السُّقْيَا عَدِيدَةٌ، وَالْحَاجَةُ لِلْمَاءِ مُلِحَّةٌ، وَلَا سِيَّمَا فِي هذه الأيام ، في هذا الْحَرِّ الشَّدِيدِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، عباد الله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين يا ربَّ العالمين»