محمدالمهوس
01-12-2021, 08:57
الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَرَ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَمُبَادَرَةِ الْوَقْتِ قَبْلَ الْفَوَاتِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَمَا لَهُ مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَوَّلُ مُبَادِرٍ إِلَى الْخَيْرَاتِ؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ ذَوِي الْمَنَاقِبِ وَالْكَرَامَاتِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْحَيَاةُ فُرْصَةٌ يَسْتَثْمِرُهَا الصَّالِحُونَ النَّاصِحُونَ فَيَمْلَئُونَ أَوْقَاتَهُمْ فِيهَا بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ! وَذَلِكَ لأَنَّهَا هِيَ عُمْرُ الإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا، وَذَخِيرَتُهُ فِي الآخِرَةِ، وَكُلُّ يَوْمٍ يَمْضِي عَلَى الإِنْسَانِ يَأْخُذُ مِنْ عُمْرِهِ وَيُقَرِّبُهُ إِلَى أَجَلِهِ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»
[أخرجه الحاكم في المستدرك، وصححه الألباني في صحيح الجامع].
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَرْشَدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الرَّجُلَ وَغَيْرَهُ مِنْ أُمَّتِهِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بِأَخْذِ الْغَنِيمَةِ وَالْعَطِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الأَحْوَالِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الإِنْسَانُ؛ وَخُصُوصًا فِي مَسْأَلَةِ حِفْظِ الْوَقْتِ!
وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَشَدِّ الْغَبْنِ وَالْخَسَارَةِ هُوَ فِي ضَيَاعِ الْوَقْتِ؛ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابنِ عباسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» وَلاَ يَتَمَنَّى الْمُقَصِّرُ عِنْدَمَا يُفَاجِئُهُ الْمَوْتُ شَيْئًا إِلاَّ الْوَقْتَ وَالإِمْهَالَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 99-100]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: 10].
وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَسْبَابًا مُهِمَّةً لِحِفْظِ وَقْتِ الْمُسْلِمِ يَحْسُنُ التَّنْبِيهُ لَهَا، مِنْ أَهَمِّهَا: حِفْظُ اللهِ تَعَالَى؛ كَمَا قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لاِبْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- : «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ» [رواه الترمذي، وصححه الألباني].
فَمَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللهِ تَعَالَى حَفِظَ اللهُ لَهُ وَقْتَهُ وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الْوَقْتِ: مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ: وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تُعِينُ الْمُسْلِمَ عَلَى اغْتِنَامِ وَقْتِهِ فِي طَاعَةِ اللهِ؛ وَهِيَ دَأْبُ الصَّالِحِينَ وَطَرِيقُ الْمُتَّقِينَ.
قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «لاَ يَكُونُ الْعَبْدُ تَقِيًّا حَتَّى يَكُونَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِنَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ».
وَلِهَذَا قِيلَ: النَّفْسُ كَالشَّرِيكِ الْخَوَّانِ إِنْ لَمْ تُحَاسِبْهُ ذَهَبَ بِمَالِكَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لاِغْتِنَامِ الأَوْقَاتِ، وَأَعِنَّا فِيهَا لِلْعَمَلِ بِالطَّاعَاتِ، وَالْبُعْدِ عَنِ السَّيِّئَاتِ يَا رَبَّ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرِ الرَّحِيمِ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الْوَقْتِ: التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالتَّنَوُّعَ فِيهَا؛ وَالَّتِي مِنْهَا: صِلَةُ الرَّحِمِ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ له فِي رِزْقِهِ، وأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»
[أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ].
وَقَوْلُهُ: «يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ» أَيْ: يُطِيلَ اللهُ فِي عُمْرِهِ، وَيُبَارِكَ لَهُ فِيهِ، وَيُوَفِّقَهُ فِيهِ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَيُبْقِيَ أَثَرَهُ الْجَمِيلَ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ.
وَأَمَّا طَلَبُ الْعِلْمِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَاتِ، وَأَفْضَلُ مَا شُغِلَ بِهِ الأَوْقَاتُ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ بَرَكَةً فِي أَوْقَاتِهِمْ هُمُ الْعُلَمَاءُ!
فَتَجِدُ الْعَالِمَ يَعِيشُ مُدَّةً وَجِيزَةً، وَلَكِنْ يُحْيِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أُمَمًا؛ قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [متفق عليه].
وَمِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الْوَقْتِ: مَعْرِفَةُ حَالِ السَّلَفِ مَعَ الْوَقْتِ: فَإِنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِهِمْ وَقِرَاءَةَ سِيَرِهِمْ أَكْبَرُ عَوْنٍ لِلْمُسْلِمِ عَلَى حُسْنِ اسْتِغْلاَلِ وَقْتِهِ، فَهُمْ خَيْرُ مَنْ أَدْرَكَ قِيمَةَ الْوَقْتِ وَأَهَمِّيَّةَ الْعُمْرِ، وَهُمْ أَرْوَعُ الأَمْثِلَةِ فِي اغْتِنَامِ دَقَائِقِ الْعُمْرِ وَاسْتِغْلاَلِ أَنْفَاسِهِ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ شَمْسُهُ، نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي، وَلَمْ يَزْدَدْ فِيهِ عَمَلِي».
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَا جِئْنَا إِلَى سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فِي سَاعَةٍ يُطَاعُ اللهُ فِيهَا إِلاَّ وَجَدْنَاهُ مُطِيعًا، إِنْ كَانَ فِي سَاعَةِ صَلاَةٍ وَجَدْنَاهُ مُصَلِّيًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَاعَةَ صَلاَةٍ وَجَدْنَاهُ إِمَّا مُتَوَضِّأً أَوْ عَائِدًا مَرِيضًا، أَوْ مُشَيِّعًا لِجَنَازَةٍ، أَوْ قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ»، قَالَ: فَكُنَّا نَرَى أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
يَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ أَشَدَّ مِنكُمْ حِرْصًا عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ».
فَاتَّقُوا اللهُ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- وَاحْرِصُوا عَلَى أَوْقَاتِكُمْ قَبْلَ حُلُولِ آجَالِكُمْ، وَبَادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي حَيَاتِكُمْ قَبْلَ مَمَاتِكُمْ، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَرَ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَمُبَادَرَةِ الْوَقْتِ قَبْلَ الْفَوَاتِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَمَا لَهُ مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَوَّلُ مُبَادِرٍ إِلَى الْخَيْرَاتِ؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ ذَوِي الْمَنَاقِبِ وَالْكَرَامَاتِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْحَيَاةُ فُرْصَةٌ يَسْتَثْمِرُهَا الصَّالِحُونَ النَّاصِحُونَ فَيَمْلَئُونَ أَوْقَاتَهُمْ فِيهَا بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ! وَذَلِكَ لأَنَّهَا هِيَ عُمْرُ الإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا، وَذَخِيرَتُهُ فِي الآخِرَةِ، وَكُلُّ يَوْمٍ يَمْضِي عَلَى الإِنْسَانِ يَأْخُذُ مِنْ عُمْرِهِ وَيُقَرِّبُهُ إِلَى أَجَلِهِ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»
[أخرجه الحاكم في المستدرك، وصححه الألباني في صحيح الجامع].
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَرْشَدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الرَّجُلَ وَغَيْرَهُ مِنْ أُمَّتِهِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بِأَخْذِ الْغَنِيمَةِ وَالْعَطِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الأَحْوَالِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الإِنْسَانُ؛ وَخُصُوصًا فِي مَسْأَلَةِ حِفْظِ الْوَقْتِ!
وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَشَدِّ الْغَبْنِ وَالْخَسَارَةِ هُوَ فِي ضَيَاعِ الْوَقْتِ؛ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابنِ عباسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» وَلاَ يَتَمَنَّى الْمُقَصِّرُ عِنْدَمَا يُفَاجِئُهُ الْمَوْتُ شَيْئًا إِلاَّ الْوَقْتَ وَالإِمْهَالَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 99-100]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: 10].
وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَسْبَابًا مُهِمَّةً لِحِفْظِ وَقْتِ الْمُسْلِمِ يَحْسُنُ التَّنْبِيهُ لَهَا، مِنْ أَهَمِّهَا: حِفْظُ اللهِ تَعَالَى؛ كَمَا قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لاِبْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- : «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ» [رواه الترمذي، وصححه الألباني].
فَمَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللهِ تَعَالَى حَفِظَ اللهُ لَهُ وَقْتَهُ وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الْوَقْتِ: مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ: وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تُعِينُ الْمُسْلِمَ عَلَى اغْتِنَامِ وَقْتِهِ فِي طَاعَةِ اللهِ؛ وَهِيَ دَأْبُ الصَّالِحِينَ وَطَرِيقُ الْمُتَّقِينَ.
قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «لاَ يَكُونُ الْعَبْدُ تَقِيًّا حَتَّى يَكُونَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِنَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ».
وَلِهَذَا قِيلَ: النَّفْسُ كَالشَّرِيكِ الْخَوَّانِ إِنْ لَمْ تُحَاسِبْهُ ذَهَبَ بِمَالِكَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لاِغْتِنَامِ الأَوْقَاتِ، وَأَعِنَّا فِيهَا لِلْعَمَلِ بِالطَّاعَاتِ، وَالْبُعْدِ عَنِ السَّيِّئَاتِ يَا رَبَّ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرِ الرَّحِيمِ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الْوَقْتِ: التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالتَّنَوُّعَ فِيهَا؛ وَالَّتِي مِنْهَا: صِلَةُ الرَّحِمِ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ له فِي رِزْقِهِ، وأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»
[أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ].
وَقَوْلُهُ: «يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ» أَيْ: يُطِيلَ اللهُ فِي عُمْرِهِ، وَيُبَارِكَ لَهُ فِيهِ، وَيُوَفِّقَهُ فِيهِ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَيُبْقِيَ أَثَرَهُ الْجَمِيلَ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ.
وَأَمَّا طَلَبُ الْعِلْمِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَاتِ، وَأَفْضَلُ مَا شُغِلَ بِهِ الأَوْقَاتُ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ بَرَكَةً فِي أَوْقَاتِهِمْ هُمُ الْعُلَمَاءُ!
فَتَجِدُ الْعَالِمَ يَعِيشُ مُدَّةً وَجِيزَةً، وَلَكِنْ يُحْيِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أُمَمًا؛ قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [متفق عليه].
وَمِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الْوَقْتِ: مَعْرِفَةُ حَالِ السَّلَفِ مَعَ الْوَقْتِ: فَإِنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِهِمْ وَقِرَاءَةَ سِيَرِهِمْ أَكْبَرُ عَوْنٍ لِلْمُسْلِمِ عَلَى حُسْنِ اسْتِغْلاَلِ وَقْتِهِ، فَهُمْ خَيْرُ مَنْ أَدْرَكَ قِيمَةَ الْوَقْتِ وَأَهَمِّيَّةَ الْعُمْرِ، وَهُمْ أَرْوَعُ الأَمْثِلَةِ فِي اغْتِنَامِ دَقَائِقِ الْعُمْرِ وَاسْتِغْلاَلِ أَنْفَاسِهِ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ شَمْسُهُ، نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي، وَلَمْ يَزْدَدْ فِيهِ عَمَلِي».
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَا جِئْنَا إِلَى سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فِي سَاعَةٍ يُطَاعُ اللهُ فِيهَا إِلاَّ وَجَدْنَاهُ مُطِيعًا، إِنْ كَانَ فِي سَاعَةِ صَلاَةٍ وَجَدْنَاهُ مُصَلِّيًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَاعَةَ صَلاَةٍ وَجَدْنَاهُ إِمَّا مُتَوَضِّأً أَوْ عَائِدًا مَرِيضًا، أَوْ مُشَيِّعًا لِجَنَازَةٍ، أَوْ قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ»، قَالَ: فَكُنَّا نَرَى أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
يَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ أَشَدَّ مِنكُمْ حِرْصًا عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ».
فَاتَّقُوا اللهُ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- وَاحْرِصُوا عَلَى أَوْقَاتِكُمْ قَبْلَ حُلُولِ آجَالِكُمْ، وَبَادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي حَيَاتِكُمْ قَبْلَ مَمَاتِكُمْ، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].