محمدالمهوس
27-10-2021, 17:28
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [ الأحزاب: 70 – 71 ].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِالإِسْلاَمِ، وَهَدَانَا لِلْعَمَلِ بِأَرْكَانِهِ الْعِظَامِ، وَبَعَثَ إِلَيْنَا بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ مَنْ يُبَيِّنُ لَنَا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لِلْعَمَلِ بِهَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَامًا، فَذَكَرَ بَدْءَ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا مِنْ طَائِرٍ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلاَّ ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا» [صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، وَمَعَ بَيَانِهِ الأَكِيدِ، حَذَّرَ التَّحْذِيرَ الشَّدِيدَ بِكُلِّ مَا يُخِلُّ بِجَنَابِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْ ذَلِكَ: إِتْيَانُ الْكَهَنَةِ وَالْعَرَّافِينَ، وَمَنْ لَفَّ لَفَّهُمْ، وَسَلَكَ مَسْلَكَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى عِبَادِ اللهِ، وَمَا أَكْثَرَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ! لاَ كَثَّرَهُمُ اللهُ عَبْرَ الْوَسَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالطُّرُقِ الْمُلْتَوِيَةِ الَّتِي تَخْدَعُ بَعْضَ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ، وَتُوهِمُهُمْ بِالشِّفَاءِ وَالْعَافِيَةِ بَعْدَ تَدْنِيسِ عَقِيدَتِهِمْ وَتَلْوِيثِ عُقُولِهِمْ، وَسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْقَاتِهِمْ؛ وَهُمْ كُهَّانٌ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ كَمَا أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ عَنْهُمْ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَدَّعُونَ عِلْمَ الْغَيْبِ، وَمَا يَحْدُثُ فِي عِلْمِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالَّذِي قَدِ اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ؛ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ لاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلاَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [النمل: 65]. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].
تَقُولُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا الشَّيْءَ يَكُونُ حَقًّا ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ» [رواه مسلم].
وَمِنَ الْعَجَبِ الَّذِي لاَ يَنْقَطِعُ، وَالتَّلْبِيسِ الْخَسِيسِ مِنْ إِبْلِيسَ وَأَعْوَانِهِ مِمَّنْ يُجِيدُ التَّدْلِيسَ عَلَى بَعْضِ الْبَشَرِ؛ أَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ يُصَدِّقُ هَؤُلاَءِ الْكَهَنَةَ وَالْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ! بَلْ يَصِفُهُمْ بِالْمُعَالِجِينَ الرُّوحَانِيِّينَ، وَيُسَوِّقُ لَهُمْ بِأَسْمَاءٍ حَدِيثَةٍ كَالْخُبَرَاءِ، أَوِ الْمُجَرِّبِينَ، أَوِ الْمُدَرِّبِينَ، أَوِ الْمُكْتَشِفِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَسْمَاءِ الْمُسْتَجَدَّةِ، وَيُقَالُ عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ أَهْلُ خِبْرَةٍ وَدِرَايَةٍ وَمَعْرِفَةٍ وَتَدَرُّبٍ، مِنْ خِلاَلِ النَّظَرِ مَثَلاً إِلَى تَوْقِيعِ الشَّخْصِ، أَوْ تَارِيخِ مِيلاَدِهِ أَوِ اسْمِهِ أَوْ بُرْجِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ وَهَؤُلاَءِ بِأَيِّ اسْمٍ تَسَمَّوْا وَبِأَيِّ صِفَةٍ كَانُوا فَإِنَّهُمْ : هُمُ الْعَرَّافُونَ الَّذِينَ حَذَّرَ مِنْهُمْ نَبِيُّنَا -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- صِيَانَةً لِعَقَائِدِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ؛ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» [رواه مسلم]، فَسُؤَالُ الْعَرَّافِ الْمُجَرَّدِ لاَ يَجُوزُ؛ لأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَلأَنَّ فِي سُؤَالِهِمْ إِظْهَارًا لِشَأْنِهِمْ وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِمْ وَإِظْهَارًا لأَمْرِهِمْ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَقْدِيرًا لِمَا يَقُومُونَ بِهِ مِنْ جُهُودٍ! وَيَدْخُلُ فِي الإِتْيَانِ الاِتِّصَالُ بِهِمْ عَبْرَ الْجَوَّالِ أَوِ التَّوَاصُلُ عَبْرَ الإِنْتَرْنِتْ أَوِ الْقَنَوَاتِ الْفَضَائِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْوَاجِبُ التَّبْلِيغُ عَنْهُمْ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُمْ، وَفَضْحُ أَمْرِهِمْ، وَهَجْرُهُمْ وَالتَّقْلِيلُ مِنْ شَأْنِهِمْ؛ رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ».
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
اللَّهُمَّ زِدْنَا بَصِيرَةً فِي دِينِنَا وَعَقِيدَتِنَا أَجْمَعِينَ، وَارْزُقْنَا ثَبَاتًا عَلَى الدِّينِ، وَقِنَا شَرَّ الْفِتَنِ الْمُضِلَّةِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا...
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاحْرِصُوا عَلَى تَوْحِيدِكُمْ فَإِنَّهُ رَأْسُ مَالِكُمْ وَعَلَيْهِ مَآلُكُمْ؛ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَفَقَّهُوا فِي دِينِ اللهِ، وَاحْذَرُوا الْكَهَنَةَ وَالْعَرَّافِينَ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُمْ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ ضَرَرٌ بَالِغٌ وَجَسِيمٌ، وَهَؤُلاَءِ -عِبَادَ اللهِ- يَتَكَاثَرُونَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي تَقِلُّ فِيهَا الدِّرَايَةُ بِالاِعْتِقَادِ الصَّحِيحِ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ، فَمَتَى كَثُرَ فِي مُجْتَمَعٍ الْجَهْلُ بِدِينِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَثُرَ هَؤُلاَءِ الأَفَّاكُونَ الدَّجَّالُونَ، وَأَخَذَ هَؤُلاَءِ يَشْرَعُونَ مِنْ خِلاَلِ إِفْكِهِمْ وَحِيَلِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؛ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ غَايَاتِهِمْ وَأَكْبَرِ مَقَاصِدِهِمْ، فَضْلاً عَنْ تَوْحِيدِ النَّاسِ وَعَقَائِدِهِمْ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [ الأحزاب: 70 – 71 ].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِالإِسْلاَمِ، وَهَدَانَا لِلْعَمَلِ بِأَرْكَانِهِ الْعِظَامِ، وَبَعَثَ إِلَيْنَا بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ مَنْ يُبَيِّنُ لَنَا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لِلْعَمَلِ بِهَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَامًا، فَذَكَرَ بَدْءَ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا مِنْ طَائِرٍ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلاَّ ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا» [صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، وَمَعَ بَيَانِهِ الأَكِيدِ، حَذَّرَ التَّحْذِيرَ الشَّدِيدَ بِكُلِّ مَا يُخِلُّ بِجَنَابِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْ ذَلِكَ: إِتْيَانُ الْكَهَنَةِ وَالْعَرَّافِينَ، وَمَنْ لَفَّ لَفَّهُمْ، وَسَلَكَ مَسْلَكَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى عِبَادِ اللهِ، وَمَا أَكْثَرَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ! لاَ كَثَّرَهُمُ اللهُ عَبْرَ الْوَسَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالطُّرُقِ الْمُلْتَوِيَةِ الَّتِي تَخْدَعُ بَعْضَ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ، وَتُوهِمُهُمْ بِالشِّفَاءِ وَالْعَافِيَةِ بَعْدَ تَدْنِيسِ عَقِيدَتِهِمْ وَتَلْوِيثِ عُقُولِهِمْ، وَسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْقَاتِهِمْ؛ وَهُمْ كُهَّانٌ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ كَمَا أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ عَنْهُمْ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَدَّعُونَ عِلْمَ الْغَيْبِ، وَمَا يَحْدُثُ فِي عِلْمِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالَّذِي قَدِ اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ؛ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ لاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلاَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [النمل: 65]. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].
تَقُولُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا الشَّيْءَ يَكُونُ حَقًّا ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ» [رواه مسلم].
وَمِنَ الْعَجَبِ الَّذِي لاَ يَنْقَطِعُ، وَالتَّلْبِيسِ الْخَسِيسِ مِنْ إِبْلِيسَ وَأَعْوَانِهِ مِمَّنْ يُجِيدُ التَّدْلِيسَ عَلَى بَعْضِ الْبَشَرِ؛ أَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ يُصَدِّقُ هَؤُلاَءِ الْكَهَنَةَ وَالْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ! بَلْ يَصِفُهُمْ بِالْمُعَالِجِينَ الرُّوحَانِيِّينَ، وَيُسَوِّقُ لَهُمْ بِأَسْمَاءٍ حَدِيثَةٍ كَالْخُبَرَاءِ، أَوِ الْمُجَرِّبِينَ، أَوِ الْمُدَرِّبِينَ، أَوِ الْمُكْتَشِفِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَسْمَاءِ الْمُسْتَجَدَّةِ، وَيُقَالُ عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ أَهْلُ خِبْرَةٍ وَدِرَايَةٍ وَمَعْرِفَةٍ وَتَدَرُّبٍ، مِنْ خِلاَلِ النَّظَرِ مَثَلاً إِلَى تَوْقِيعِ الشَّخْصِ، أَوْ تَارِيخِ مِيلاَدِهِ أَوِ اسْمِهِ أَوْ بُرْجِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ وَهَؤُلاَءِ بِأَيِّ اسْمٍ تَسَمَّوْا وَبِأَيِّ صِفَةٍ كَانُوا فَإِنَّهُمْ : هُمُ الْعَرَّافُونَ الَّذِينَ حَذَّرَ مِنْهُمْ نَبِيُّنَا -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- صِيَانَةً لِعَقَائِدِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ؛ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» [رواه مسلم]، فَسُؤَالُ الْعَرَّافِ الْمُجَرَّدِ لاَ يَجُوزُ؛ لأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَلأَنَّ فِي سُؤَالِهِمْ إِظْهَارًا لِشَأْنِهِمْ وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِمْ وَإِظْهَارًا لأَمْرِهِمْ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَقْدِيرًا لِمَا يَقُومُونَ بِهِ مِنْ جُهُودٍ! وَيَدْخُلُ فِي الإِتْيَانِ الاِتِّصَالُ بِهِمْ عَبْرَ الْجَوَّالِ أَوِ التَّوَاصُلُ عَبْرَ الإِنْتَرْنِتْ أَوِ الْقَنَوَاتِ الْفَضَائِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْوَاجِبُ التَّبْلِيغُ عَنْهُمْ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُمْ، وَفَضْحُ أَمْرِهِمْ، وَهَجْرُهُمْ وَالتَّقْلِيلُ مِنْ شَأْنِهِمْ؛ رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ».
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
اللَّهُمَّ زِدْنَا بَصِيرَةً فِي دِينِنَا وَعَقِيدَتِنَا أَجْمَعِينَ، وَارْزُقْنَا ثَبَاتًا عَلَى الدِّينِ، وَقِنَا شَرَّ الْفِتَنِ الْمُضِلَّةِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا...
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاحْرِصُوا عَلَى تَوْحِيدِكُمْ فَإِنَّهُ رَأْسُ مَالِكُمْ وَعَلَيْهِ مَآلُكُمْ؛ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَفَقَّهُوا فِي دِينِ اللهِ، وَاحْذَرُوا الْكَهَنَةَ وَالْعَرَّافِينَ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُمْ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ ضَرَرٌ بَالِغٌ وَجَسِيمٌ، وَهَؤُلاَءِ -عِبَادَ اللهِ- يَتَكَاثَرُونَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي تَقِلُّ فِيهَا الدِّرَايَةُ بِالاِعْتِقَادِ الصَّحِيحِ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ، فَمَتَى كَثُرَ فِي مُجْتَمَعٍ الْجَهْلُ بِدِينِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَثُرَ هَؤُلاَءِ الأَفَّاكُونَ الدَّجَّالُونَ، وَأَخَذَ هَؤُلاَءِ يَشْرَعُونَ مِنْ خِلاَلِ إِفْكِهِمْ وَحِيَلِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؛ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ غَايَاتِهِمْ وَأَكْبَرِ مَقَاصِدِهِمْ، فَضْلاً عَنْ تَوْحِيدِ النَّاسِ وَعَقَائِدِهِمْ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].