الشيخ/عبدالله الواكد
11-10-2018, 22:19
( ثَقَافَةُ الجَمَالِ فِي الإِسْلَامِ )
3/2/1440 هـ
كتبها / عبدالله فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ مَا ذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ ، وَشَكَرَهُ الشَّاكِرُونَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ عَبَادَ اللهِ : فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ القَائِلِ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) النساء (1)
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ :
إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ ، لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَقُولَةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ حَدِيثٌ شَرِيفُ أَخْرَجَهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ ( لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ قَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبَهُ حَسَناً وَنَعِلَهُ حَسَنَةً قَالَ : إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ )
أَيُّهَا النَّاسُ : الجمَاَلُ الذِي لَا تَصْحَبُهُ مَخِيلَةٌ مَمْدُوحٌ فِي الإِسْلَامِ ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ( أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيِ ثَوْبِ دَرِنٍ، فَقَالَ أَلَكَ مَالٌ، قَالَ نَعَمْ، قَالَ مِنْ أَيِّ المَالِ، قاَلَ قَدْ آتَانيَ اللهُ مِنَ الإِبِلِ وَالغَنَمِ وَالخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، قَالَ فَإِذَا آتَاكَ اللهُ مَالاً فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ ) وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
أَيُّهاَ المُسْلِمُونَ : ثَقَافَةُ الجَمَالِ فِي الإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ يَظْهُرُ بِدَايَةً أَنَّهاَ مِنَ المُحَسِّنَاتِ وَالمُكَمِّلَاتِ وَالرَّفَاهِيَّاتِ ، إِلاَّ أَنَّ الإِسْلَامَ أَوْلَاهَا عِنَايَةً عُظْمَى تَطَرَّقَ لَهَا القُرْآنُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ المُطَهَّرَةُ ، إِنَّهَا جَمَالُ الرُّوحِ وَجَمَالُ النَّفْسِ وَجَمَالُ الجَسَدِ وَجَمَالُ وَنَظَافَةُ البَيْتِ وَجَمَالُ البِيئَةِ وَجَمَالُ الهَيْئَةِ ، وَجَمَالُ الفِكْرِ ، إِنَّهَا النَّظَافَةُ وَالطَّهَارَةُ فِي الأَنْفُسِ وَفِي المَسَاجِدِ وَفِي المَلَابِسِ وَفِي الطُّرُقَاتِ وَفِي الأَمَاكِنِ العَامَّةِ ، وَفِي الْمَحِلَّاتِ وَفِي الْمُؤَسَّسَاتِ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ ، فَأَنْتَ حِينَماَ تَأْتِي إِلَى أَحَدِ هَذِهِ الأَمَاكِنِ أَوْ الطُّرُقَاتِ فَتَرَاهَا نَظِيفَةً جَمِيلَةً ، تَأْتِي إِلَيْكَ رَسَائِلُ صَامِتَةٌ تُحَفِّزُ الجَانِبَ الإِيجَابِيَّ لَدَيْكَ فَتَجْعَلُكَ تَسِيرُ فِي نَفْسِ الْمِنْوَالِ وَعَلَى نَفْسِ النَّمَطِ ، وَهَذَا الأَمْرُ مَعْرُوفٌ لَدَيْكُمْ ، وَمَعْرُوفٌ عِلْمِياًّ عِنْدَ أَهْلِ الإِخْتِصَاصِ ، وَمِنَ الذِي يُؤْسَفُ مِنْهُ وَ يُؤْسَفُ عَلَيْهِ أَنْ تَرَى فِي شَوَارِعِنَا عُلَبَ المَشْرُوبَاتِ وَالزُّجَاجَ وَالمُخَلَّفَاتِ الأُخْرَى مَرْمِيَّةً فِي كُلِّ مَكَانٍ لَقَدْ رَأَيْنَا جَمِيعًا الزُّجَاجَ المُتَكَسِّرَ فِي طَرِيقِ المَارَّةِ ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَ أَيُّها الشَّابُ أَنْ تُلْقِيَ زُجَاجَةً لِتَنْكَسِرَ فِي طَرِيقِ إِخْوَانِكَ المُسْلِمِينَ ، مِنَ المُصَلِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ العَابِرِينَ ، ضَعْ فِي سَيَّارَتِكَ بَارَكَ اللهُ فِيكَ ، كِيساً مُخَصَّصاً لِذَلِكَ فَإِذَا نَزَلْتَ ضَعْهُ فِي أَقْرَبِ صُنْدُوقٍ لِلنِّفَايَاتِ ، وَاللهِ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ فِي شُعْبَةٍ مِنَ الإِيمَانِ وَلَكَ الأَجْرُ مِنَ اللهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسُتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَّ ( كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، تَعْدِلُ بَيْنَ الإِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهاَ، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
أَّيُّهَا المُسْلِمُونَ : جَمَالُ الطَّبِيعَةِ الَّتِي خَلَقَهاَ اللهُ ، أَفْسَدَهُ النَّاسُ بِسُوءِ سُلُوكِهِمْ ، وَبِعَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ ، فَعِنْدَمَا تَذْهَبُ إِلَى هَذِهِ الجِبَالِ الجَمِيلَةِ ، وَالشِّعَابِ النَّظِرَةِ ، تَجِدُ بَطْحَاءَهَا قَدْ تَكَدَّرَتْ بِمُخَلَّفَاتِ النَّاسِ ، وَتَرَى بِعَيْنِكَ سُوءَ التَّعَامُلِ مَعَ الطَّبِيعَةِ ، وَحِينَمَا تَمُرُّ بِالحَدَائِقِ وَالمُسَطَّحَاتِ صَبَاحًا تَرَى مَا يَحُزُّ فِي نَفْسِكَ مِنْ نِفَايَاتِ المَسَاءِ وَمُخَلَّفَاتِهِ المُتَنَاثِرَةِ هُنَا وَهُنَاكَ فَمَتَى نَرْتَقِي بِأَفْهَامِنَا وَسُلُوكِيَّاتِنَا إِلَى مَفْهُومِ ثَقَافَةِ الجَمَالِ فِي الإِسْلَامِ
الجَمَالُ أَيُّهَا المُسْلِمُ : مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، فِي الأَخْذِ وَالْعَطَاءِ ، وَالْبَذْلِ وَالسَّخَاءِ ، وَالصَّبْرِ وَالْهَجْرِ ، قَالَ تَعَالَى ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) يَأْمُرُ اللهُ الصَّابِرِينَ بَأَنْ يَكُونَ فِي صَبْرِهِمْ جَمَالٌ فَيَتَحَلَّوْنَ بِأَجْمَلِ مَعَانِي الصَّبْرِ ، وَهَذَا مَا فَعَلَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ فَقَدَ قُرَّةَ عَيْنِهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَتْ ثِمَارُ هَذَا الصَّبْرِ الجَمِيلِ أَنْ أَعَادَ اللهُ إِلَيْهِ إبْنَهُ وَرَدَّ لَهُ بَصَرَهُ ،
أَيُّهَا المُسْلِمُ : حَتَّى الهَجْرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيلاً قَالَ تَعَالىَ ( وَاصْبرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) لِكَيْ يَكُونَ فِي جَمَالِ هَجْرِكَ مُتَّسَعاً يَسْتَوْعِبُ الخَيْرَ وَالإِصْلَاحَ وَالنَّجَاحَ وَالفَلَاحَ ،
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الهَجْرِ فَقَطْ بَلْ حَتَّى فِي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ أَبْغَضُ الحَلَالِ عِنْدَ اللهِ قَالَ اللهُ فِيهِ ( فَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ) فَأَمَرَ اللهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الفِرَاقُ فِيهِ جَمَالٌ وَإِحْسَانٌ فَتَخْرُجُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ مُطَلِّقِهَا وَتُفَارِقُهُ رَاضِيَةً ، قَدْ أَعْطَاهَا حَقَّهاَ وَأَرْضَاهاَ بِشَيْءٍ يُذْهِبُ عَنْهَا أَلَمَ الفِرَاقِ وَحَسْرَةَ الطَّلَاقِ فَتَذْكُرُهُ وَيَذْكرُهَا بِالخَيْرِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ فحَسْب بَلْ فِي أَيِّ فَضٍّ لِشَرَاكَةٍ أَوْ إِنْهَاءٍ لِتَعَامُلٍ ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ الجَمَالُ وَالرَّوْنَقُ الذِي يَلِيقُ بِأُمَّةِ الإِسْلَامِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ هَذَا الجَمَالِ إِلَى الخُصُومَةِ وَالقَطِيعَةِ وَالْمَحَاِكمِ ، كَاَم نَرَاهُ اليَوْمَ فِي كَثِيرٍ مِنْ حَالَاتِ الطَّلَاقِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالخُصُومَةِ وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالمَحَاكِمِ ، فَأَيْنَ الجَمَالُ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ ، فِي حَالَاتِ التَّسْرِيحِ وَالطَّلَاقِ ، وَأَيْنَ السَّرَاحُ الجَمِيلُ الذِي أَمَرَنَا اللهُ بِهِ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (28)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَعَلَى أَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَيُّهَا النَّاسُ : مَوْضُوعُ خُطْبَتِنَا اليَوْمَ جَمِيلٌ بِقَدْرِ جَمِيلِ آثَارِهِ ، فلَقَدْ تَجَاوَزَ هَذَا الجَمَالُ حَتَّى شَمِلَ العُقُوبَةَ وَالْعَفْوَ وَالصَّفْحَ ، قَالَ تَعَالَى (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الحجر(85) فَأَمَرَ اللهُ مَنْ يَعْفُوَ عَنْ الآخَرِينَ ، أَنْ يَكُونَ فِي عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ رَوْنَقاً وَجَمَالاً ، فَلَا يَعْلُو صَفْحُ المُسْلِمِ عَلَى ضَعْفِ أَخِيهِ وَلَا يَمَسُّ كَرَامَتَهُ ، وَأَنْ يَكُونَ صَفْحُكَ عَنْ أَخِيكَ فِيهِ الحُسْنُ وَالجمَاَلُ وَالكَاَثمُ الطَّيِّبُ الذِي يَشْرَحُ الصُّدُورَ وَيَرْتِقُ اللُّحْمَةَ وَيَكُونُ أَدْعَى لِلتَّقَارُبِ وَالمَوَدَّةِ وَالمَحَبَّةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ ، وَالكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالسِّيرَةُ زَوَاخِرُ بِهَذِهِ التَّعَالِيمِ السَّامِيَةِ ، وَمَا أَكْثَرَ الجَمَالَ فِي سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيِهِ ، فَاقْرَؤُوا هَذِهِ السُّنَّةَ لِتَرَو مِنْ مَعَالِمِ الجَمَالِ مَا يَسْلُبُ الأَلْبَابَ ، وَيَفْتَحُ لَكُمُ الأَبْوَابَ ، لِكَيْ تَكُونَ حَيَاتُكُم كُلُّهاَ جَمَالٌ وَنَقَاءٌ وَرَوْنَقٌ وَصَفَاءٌ ،
وَصَلوا وسلموا على من هذه سنته وهذا هديه إذ أمركم ربكم بذلك فقال (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
3/2/1440 هـ
كتبها / عبدالله فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ مَا ذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ ، وَشَكَرَهُ الشَّاكِرُونَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ عَبَادَ اللهِ : فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ القَائِلِ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) النساء (1)
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ :
إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ ، لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَقُولَةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ حَدِيثٌ شَرِيفُ أَخْرَجَهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ ( لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ قَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبَهُ حَسَناً وَنَعِلَهُ حَسَنَةً قَالَ : إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ )
أَيُّهَا النَّاسُ : الجمَاَلُ الذِي لَا تَصْحَبُهُ مَخِيلَةٌ مَمْدُوحٌ فِي الإِسْلَامِ ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ( أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيِ ثَوْبِ دَرِنٍ، فَقَالَ أَلَكَ مَالٌ، قَالَ نَعَمْ، قَالَ مِنْ أَيِّ المَالِ، قاَلَ قَدْ آتَانيَ اللهُ مِنَ الإِبِلِ وَالغَنَمِ وَالخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، قَالَ فَإِذَا آتَاكَ اللهُ مَالاً فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ ) وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
أَيُّهاَ المُسْلِمُونَ : ثَقَافَةُ الجَمَالِ فِي الإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ يَظْهُرُ بِدَايَةً أَنَّهاَ مِنَ المُحَسِّنَاتِ وَالمُكَمِّلَاتِ وَالرَّفَاهِيَّاتِ ، إِلاَّ أَنَّ الإِسْلَامَ أَوْلَاهَا عِنَايَةً عُظْمَى تَطَرَّقَ لَهَا القُرْآنُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ المُطَهَّرَةُ ، إِنَّهَا جَمَالُ الرُّوحِ وَجَمَالُ النَّفْسِ وَجَمَالُ الجَسَدِ وَجَمَالُ وَنَظَافَةُ البَيْتِ وَجَمَالُ البِيئَةِ وَجَمَالُ الهَيْئَةِ ، وَجَمَالُ الفِكْرِ ، إِنَّهَا النَّظَافَةُ وَالطَّهَارَةُ فِي الأَنْفُسِ وَفِي المَسَاجِدِ وَفِي المَلَابِسِ وَفِي الطُّرُقَاتِ وَفِي الأَمَاكِنِ العَامَّةِ ، وَفِي الْمَحِلَّاتِ وَفِي الْمُؤَسَّسَاتِ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ ، فَأَنْتَ حِينَماَ تَأْتِي إِلَى أَحَدِ هَذِهِ الأَمَاكِنِ أَوْ الطُّرُقَاتِ فَتَرَاهَا نَظِيفَةً جَمِيلَةً ، تَأْتِي إِلَيْكَ رَسَائِلُ صَامِتَةٌ تُحَفِّزُ الجَانِبَ الإِيجَابِيَّ لَدَيْكَ فَتَجْعَلُكَ تَسِيرُ فِي نَفْسِ الْمِنْوَالِ وَعَلَى نَفْسِ النَّمَطِ ، وَهَذَا الأَمْرُ مَعْرُوفٌ لَدَيْكُمْ ، وَمَعْرُوفٌ عِلْمِياًّ عِنْدَ أَهْلِ الإِخْتِصَاصِ ، وَمِنَ الذِي يُؤْسَفُ مِنْهُ وَ يُؤْسَفُ عَلَيْهِ أَنْ تَرَى فِي شَوَارِعِنَا عُلَبَ المَشْرُوبَاتِ وَالزُّجَاجَ وَالمُخَلَّفَاتِ الأُخْرَى مَرْمِيَّةً فِي كُلِّ مَكَانٍ لَقَدْ رَأَيْنَا جَمِيعًا الزُّجَاجَ المُتَكَسِّرَ فِي طَرِيقِ المَارَّةِ ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَ أَيُّها الشَّابُ أَنْ تُلْقِيَ زُجَاجَةً لِتَنْكَسِرَ فِي طَرِيقِ إِخْوَانِكَ المُسْلِمِينَ ، مِنَ المُصَلِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ العَابِرِينَ ، ضَعْ فِي سَيَّارَتِكَ بَارَكَ اللهُ فِيكَ ، كِيساً مُخَصَّصاً لِذَلِكَ فَإِذَا نَزَلْتَ ضَعْهُ فِي أَقْرَبِ صُنْدُوقٍ لِلنِّفَايَاتِ ، وَاللهِ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ فِي شُعْبَةٍ مِنَ الإِيمَانِ وَلَكَ الأَجْرُ مِنَ اللهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسُتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَّ ( كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، تَعْدِلُ بَيْنَ الإِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهاَ، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
أَّيُّهَا المُسْلِمُونَ : جَمَالُ الطَّبِيعَةِ الَّتِي خَلَقَهاَ اللهُ ، أَفْسَدَهُ النَّاسُ بِسُوءِ سُلُوكِهِمْ ، وَبِعَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ ، فَعِنْدَمَا تَذْهَبُ إِلَى هَذِهِ الجِبَالِ الجَمِيلَةِ ، وَالشِّعَابِ النَّظِرَةِ ، تَجِدُ بَطْحَاءَهَا قَدْ تَكَدَّرَتْ بِمُخَلَّفَاتِ النَّاسِ ، وَتَرَى بِعَيْنِكَ سُوءَ التَّعَامُلِ مَعَ الطَّبِيعَةِ ، وَحِينَمَا تَمُرُّ بِالحَدَائِقِ وَالمُسَطَّحَاتِ صَبَاحًا تَرَى مَا يَحُزُّ فِي نَفْسِكَ مِنْ نِفَايَاتِ المَسَاءِ وَمُخَلَّفَاتِهِ المُتَنَاثِرَةِ هُنَا وَهُنَاكَ فَمَتَى نَرْتَقِي بِأَفْهَامِنَا وَسُلُوكِيَّاتِنَا إِلَى مَفْهُومِ ثَقَافَةِ الجَمَالِ فِي الإِسْلَامِ
الجَمَالُ أَيُّهَا المُسْلِمُ : مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، فِي الأَخْذِ وَالْعَطَاءِ ، وَالْبَذْلِ وَالسَّخَاءِ ، وَالصَّبْرِ وَالْهَجْرِ ، قَالَ تَعَالَى ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) يَأْمُرُ اللهُ الصَّابِرِينَ بَأَنْ يَكُونَ فِي صَبْرِهِمْ جَمَالٌ فَيَتَحَلَّوْنَ بِأَجْمَلِ مَعَانِي الصَّبْرِ ، وَهَذَا مَا فَعَلَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ فَقَدَ قُرَّةَ عَيْنِهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَتْ ثِمَارُ هَذَا الصَّبْرِ الجَمِيلِ أَنْ أَعَادَ اللهُ إِلَيْهِ إبْنَهُ وَرَدَّ لَهُ بَصَرَهُ ،
أَيُّهَا المُسْلِمُ : حَتَّى الهَجْرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيلاً قَالَ تَعَالىَ ( وَاصْبرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) لِكَيْ يَكُونَ فِي جَمَالِ هَجْرِكَ مُتَّسَعاً يَسْتَوْعِبُ الخَيْرَ وَالإِصْلَاحَ وَالنَّجَاحَ وَالفَلَاحَ ،
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الهَجْرِ فَقَطْ بَلْ حَتَّى فِي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ أَبْغَضُ الحَلَالِ عِنْدَ اللهِ قَالَ اللهُ فِيهِ ( فَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ) فَأَمَرَ اللهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الفِرَاقُ فِيهِ جَمَالٌ وَإِحْسَانٌ فَتَخْرُجُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ مُطَلِّقِهَا وَتُفَارِقُهُ رَاضِيَةً ، قَدْ أَعْطَاهَا حَقَّهاَ وَأَرْضَاهاَ بِشَيْءٍ يُذْهِبُ عَنْهَا أَلَمَ الفِرَاقِ وَحَسْرَةَ الطَّلَاقِ فَتَذْكُرُهُ وَيَذْكرُهَا بِالخَيْرِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ فحَسْب بَلْ فِي أَيِّ فَضٍّ لِشَرَاكَةٍ أَوْ إِنْهَاءٍ لِتَعَامُلٍ ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ الجَمَالُ وَالرَّوْنَقُ الذِي يَلِيقُ بِأُمَّةِ الإِسْلَامِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ هَذَا الجَمَالِ إِلَى الخُصُومَةِ وَالقَطِيعَةِ وَالْمَحَاِكمِ ، كَاَم نَرَاهُ اليَوْمَ فِي كَثِيرٍ مِنْ حَالَاتِ الطَّلَاقِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالخُصُومَةِ وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالمَحَاكِمِ ، فَأَيْنَ الجَمَالُ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ ، فِي حَالَاتِ التَّسْرِيحِ وَالطَّلَاقِ ، وَأَيْنَ السَّرَاحُ الجَمِيلُ الذِي أَمَرَنَا اللهُ بِهِ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (28)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَعَلَى أَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَيُّهَا النَّاسُ : مَوْضُوعُ خُطْبَتِنَا اليَوْمَ جَمِيلٌ بِقَدْرِ جَمِيلِ آثَارِهِ ، فلَقَدْ تَجَاوَزَ هَذَا الجَمَالُ حَتَّى شَمِلَ العُقُوبَةَ وَالْعَفْوَ وَالصَّفْحَ ، قَالَ تَعَالَى (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الحجر(85) فَأَمَرَ اللهُ مَنْ يَعْفُوَ عَنْ الآخَرِينَ ، أَنْ يَكُونَ فِي عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ رَوْنَقاً وَجَمَالاً ، فَلَا يَعْلُو صَفْحُ المُسْلِمِ عَلَى ضَعْفِ أَخِيهِ وَلَا يَمَسُّ كَرَامَتَهُ ، وَأَنْ يَكُونَ صَفْحُكَ عَنْ أَخِيكَ فِيهِ الحُسْنُ وَالجمَاَلُ وَالكَاَثمُ الطَّيِّبُ الذِي يَشْرَحُ الصُّدُورَ وَيَرْتِقُ اللُّحْمَةَ وَيَكُونُ أَدْعَى لِلتَّقَارُبِ وَالمَوَدَّةِ وَالمَحَبَّةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ ، وَالكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالسِّيرَةُ زَوَاخِرُ بِهَذِهِ التَّعَالِيمِ السَّامِيَةِ ، وَمَا أَكْثَرَ الجَمَالَ فِي سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيِهِ ، فَاقْرَؤُوا هَذِهِ السُّنَّةَ لِتَرَو مِنْ مَعَالِمِ الجَمَالِ مَا يَسْلُبُ الأَلْبَابَ ، وَيَفْتَحُ لَكُمُ الأَبْوَابَ ، لِكَيْ تَكُونَ حَيَاتُكُم كُلُّهاَ جَمَالٌ وَنَقَاءٌ وَرَوْنَقٌ وَصَفَاءٌ ،
وَصَلوا وسلموا على من هذه سنته وهذا هديه إذ أمركم ربكم بذلك فقال (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)