محمدالمهوس
14-03-2017, 19:58
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
إنّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وأشْهَدُ أنّ مُـحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيِثِ كِتَابُ اللهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثاتُها ،وَكُلَّ مُحْدثةٍ بِدْعَةٍ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٍ، وكُلَّ ضَلالةٍ فِي النّارِ .
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ / رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : (( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )) ، وَقَالَ : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ، يَا رَبِّ ، يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ))
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطُورَةَ أَكْلِ الْمَالِ الْحَرَامِ ، بِأَيِّ طَرِيقَةٍ كَانَتْ ، وَأَيِّ وَسِيلَةٍ حَصَلَتْ ، وَمِنْ ذَلِكَ : قَضِيَّةُ الْمِيرَاثِ الَّتِي انْتَشَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُؤَخَّرًا حَتَّى بَاتَتْ شِبْهَ ظَاهِرَةٍ ، تَتَسَبَّبُ فِي الْكَثِيرِ مِنْ الْمُعَانَاةِ ، وَتُفَجِّرُ الْخِلَافَاتِ وَالنِّزَاعَاتِ بَيْنَ الْعَائِلَةِ الْوَاحِدَةِ ؛حَتَّى بَاتَ أَفْرَادُ الْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ أَعْدَاءً مُتَنَاحِرِينَ بَدَلًا مِنْ إِخْوَةٍ مُتَحَابِّينَ! مِمَّا يُسَاهِمُ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ وَمُبَاشِرٍ فِي تَمْزِيقِ الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ ؛ وَعِنْدَمَا نَنْظُرُ لِهَذِهِ الْمُشْكِلَةِ ، نَجِدُ أَنَّ سَبَبَ وُجُودِهَا أُمُورٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: تَسَاهُلُ الْكَثِيرُونَ مِنْ النَّاسِ بِالْوَصِيَّةِ ،وَعَدَمُ كِتَابَتِهَا، وَإِيضَاحُ مَا لَدَيْهِ مِنْ أَمْوَالٍ ،وَمَا لَدَيْهِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ مَعَ الْآخَرِينَ ؛ فَقَدْ يَدَّعِي أَحَدُ الْأَوْلَادِ أَنَّهُ شَرِيكٌ لِوَالِدِهِ أَوْ أُمِّهِ ،وَحِينَذَاكَ لابُدَّ مِمَّا يُثْبِتُ ذَلِكَ ،وَإِلَّا فَتَحَ عَلَى الْوَرَثَةِ بَابًا عَرِيضًا مِنْ الْخِلَافَاتِ وَالِاتِّهَامَاتِ ، وَاللَّهُ يَقُولُ ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ )) وَقَالَ تَعَالَى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ )) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَعِنْدَهُ وَصِيَّتُهُ )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهَ عَنْهُمَا .
وَمِنْ أَسْبَابِ النِّزَاعِ فِي الْمِيرَاثِ : تَخْصِيصُ الْوَالِدُ أَحَدَ أَبْنَائِهِ لِمَعْرِفَةِ أَمْلَاكِهِ وَالْبَقِيِّةُ لَا يَعْلَمُونَ ، وَرُبَّمَا أَخْفَى الِابْنُ بَعْضَ الْأَمْوَالِ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأُمَنَاءِ ، أَوْ رُبَّمَا أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ الْوَرَثَةُ كَمْ وَرِثُوا مِنْ مَيِّتِهِمْ ، أَوْ أَخَّرَ تَوْزِيعَ الْمِيرَاثِ وَقَدْ يُوجَدُ قُصَّرٌ يَعِيشُونَ فَقْرًا ، وَالتَّرِكَةُ تُغْنِيهمْ عَنْ صَدَقَاتِ الْمُحْسِنِينَ ، أَوْ رُبَّمَا مَالَ فِي التَّقْسِيمِ لِإِخْوَتِهِ الْأَشِقَّاءِ ، وَالْوَاجِبُ هُوَ تَحَرِّي الْعَدْلَ، وَمَا أُشْكِلَ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْقَاضِي .
وَمِنْ أَسْبَابِ النِّزَاعِ فِي الْمِيرَاثِ : تَصَرُّفُ الْوَصِيُّ فِي الْعَقَارَاتِ خَاصَّةً دُونَ إِذْنِ الْوَرَثَةِ ، أَوْ عَدَمُ تَدْوِينِ حِسَابَاتِ الْمَشَارِيعِ الْمَوْرُوثَةِ بَعْد وَفَاتِ الْمُوَرِّثِ ، أَوْ إِخْفَاءُ الصُّكُوكِ وَالْمُسْتَنَدَاتِ فَتْرَةً طَوِيلَةً لِاسْتِغْلَالِ بَعْضِ الْعَقَارَاتِ وَخَاصَّةً الْمُؤَجَّرَةَ.
عِبَادَ اللَّهِ / مِنْ الظُّلْمِ الْمُنْتَشِرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ :
حِرْمَانُ الْمَرْأَةِ مِنْ الْمِيرَاثِ لِخُصُوصِيَّةِ الرِّجَالِ فِيهِ دُونَ النِّسَاءِ ، أَوْ الْمُمَاطَلَةِ بِحَقِّهَا ، وَبَعْضُهُمْ يُجْبِرُهَا عَلَى تَوْكِيلِهِ ثُمَّ يَأْكُلُ حَقَّهَا وَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ (( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)) وَيَقُولُ : ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)) وَقَالَ تَعَالَى ((وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ))
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ (الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ )) فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ ، وَاسْتَقِيمُوا عَلَى طَاعَتِهِ ، وَابْتَعِدُوا عَنْ مَعَاصِيهِ وَالَّتِيِ مِنْهَا أَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلِ وَالضُّعَفَاءِ وَغَيْرِهِم ؛فَالْقِصَاصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُوُنُ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ ، نَسْاَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ ، بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكَمَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمِ .
اَلْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لَشَانِهِ ، وأشهدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ ، صَلّى الله عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وأعْوانِهِ وسَلّم تَسْلِيماً كثيراً .
عِبَادَ اللهِ / اِتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمِيرَاثَ وَمَا يُخْلِفُهُ الْمَيِّتُ مِنْ الْمَالِ يَجْمَعُ الْأُسْرَةَ وَلَا يُفَرِّقُهَا ، وَيُقَوِّيهَا وَلَا يُضْعِفُهَا ، وَحُبُّ الْمَالِ لَا يُقَدَّمُ عَلَى حُبِّ الْإِخْوَانِ وَالْأَخَوَاتِ ؛ فَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ أَخًا يَشْتَكِي أَخَاهُ فِي الْمَحَاكِمِ ، وَمِنْ يَظُنُّ أَنَّ الْأُخُوَّةَ وَالْأَخَوَاتِ بَعْدَ اجْتِمَاعِ وَوِصَالِ تُفَرِّقُوا وَتُهَاجَرُوا وَتَبَاغَضُوا ! تُرَى لَوْ عَلِمَ وَالدُهُمْ وَمُوَرِّثُهُمْ أَكَانَ هَذَا يُرْضِيِهُ ، بَلْ رُبَّمَا تَمَنَّى لَوْ مَاتَ فَقِيرًا مُعْدَمًا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمَلَايِينِ لِوَرَثَتِهِ الْمُتَنَازِعِيِنَ ، فَبَادِرُوا عِبَادَ اللَّهِ بِقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ ، وَأَعْطُوْا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، وَاحْذَرُوا الظُّلْمَ ؛فَالظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ ، فَقَالَ ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(( مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى الله ُعَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) رَوَاهُ مُسْلِم .
إنّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وأشْهَدُ أنّ مُـحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيِثِ كِتَابُ اللهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثاتُها ،وَكُلَّ مُحْدثةٍ بِدْعَةٍ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٍ، وكُلَّ ضَلالةٍ فِي النّارِ .
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ / رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : (( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )) ، وَقَالَ : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ، يَا رَبِّ ، يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ))
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطُورَةَ أَكْلِ الْمَالِ الْحَرَامِ ، بِأَيِّ طَرِيقَةٍ كَانَتْ ، وَأَيِّ وَسِيلَةٍ حَصَلَتْ ، وَمِنْ ذَلِكَ : قَضِيَّةُ الْمِيرَاثِ الَّتِي انْتَشَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُؤَخَّرًا حَتَّى بَاتَتْ شِبْهَ ظَاهِرَةٍ ، تَتَسَبَّبُ فِي الْكَثِيرِ مِنْ الْمُعَانَاةِ ، وَتُفَجِّرُ الْخِلَافَاتِ وَالنِّزَاعَاتِ بَيْنَ الْعَائِلَةِ الْوَاحِدَةِ ؛حَتَّى بَاتَ أَفْرَادُ الْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ أَعْدَاءً مُتَنَاحِرِينَ بَدَلًا مِنْ إِخْوَةٍ مُتَحَابِّينَ! مِمَّا يُسَاهِمُ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ وَمُبَاشِرٍ فِي تَمْزِيقِ الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ ؛ وَعِنْدَمَا نَنْظُرُ لِهَذِهِ الْمُشْكِلَةِ ، نَجِدُ أَنَّ سَبَبَ وُجُودِهَا أُمُورٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: تَسَاهُلُ الْكَثِيرُونَ مِنْ النَّاسِ بِالْوَصِيَّةِ ،وَعَدَمُ كِتَابَتِهَا، وَإِيضَاحُ مَا لَدَيْهِ مِنْ أَمْوَالٍ ،وَمَا لَدَيْهِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ مَعَ الْآخَرِينَ ؛ فَقَدْ يَدَّعِي أَحَدُ الْأَوْلَادِ أَنَّهُ شَرِيكٌ لِوَالِدِهِ أَوْ أُمِّهِ ،وَحِينَذَاكَ لابُدَّ مِمَّا يُثْبِتُ ذَلِكَ ،وَإِلَّا فَتَحَ عَلَى الْوَرَثَةِ بَابًا عَرِيضًا مِنْ الْخِلَافَاتِ وَالِاتِّهَامَاتِ ، وَاللَّهُ يَقُولُ ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ )) وَقَالَ تَعَالَى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ )) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَعِنْدَهُ وَصِيَّتُهُ )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهَ عَنْهُمَا .
وَمِنْ أَسْبَابِ النِّزَاعِ فِي الْمِيرَاثِ : تَخْصِيصُ الْوَالِدُ أَحَدَ أَبْنَائِهِ لِمَعْرِفَةِ أَمْلَاكِهِ وَالْبَقِيِّةُ لَا يَعْلَمُونَ ، وَرُبَّمَا أَخْفَى الِابْنُ بَعْضَ الْأَمْوَالِ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأُمَنَاءِ ، أَوْ رُبَّمَا أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ الْوَرَثَةُ كَمْ وَرِثُوا مِنْ مَيِّتِهِمْ ، أَوْ أَخَّرَ تَوْزِيعَ الْمِيرَاثِ وَقَدْ يُوجَدُ قُصَّرٌ يَعِيشُونَ فَقْرًا ، وَالتَّرِكَةُ تُغْنِيهمْ عَنْ صَدَقَاتِ الْمُحْسِنِينَ ، أَوْ رُبَّمَا مَالَ فِي التَّقْسِيمِ لِإِخْوَتِهِ الْأَشِقَّاءِ ، وَالْوَاجِبُ هُوَ تَحَرِّي الْعَدْلَ، وَمَا أُشْكِلَ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْقَاضِي .
وَمِنْ أَسْبَابِ النِّزَاعِ فِي الْمِيرَاثِ : تَصَرُّفُ الْوَصِيُّ فِي الْعَقَارَاتِ خَاصَّةً دُونَ إِذْنِ الْوَرَثَةِ ، أَوْ عَدَمُ تَدْوِينِ حِسَابَاتِ الْمَشَارِيعِ الْمَوْرُوثَةِ بَعْد وَفَاتِ الْمُوَرِّثِ ، أَوْ إِخْفَاءُ الصُّكُوكِ وَالْمُسْتَنَدَاتِ فَتْرَةً طَوِيلَةً لِاسْتِغْلَالِ بَعْضِ الْعَقَارَاتِ وَخَاصَّةً الْمُؤَجَّرَةَ.
عِبَادَ اللَّهِ / مِنْ الظُّلْمِ الْمُنْتَشِرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ :
حِرْمَانُ الْمَرْأَةِ مِنْ الْمِيرَاثِ لِخُصُوصِيَّةِ الرِّجَالِ فِيهِ دُونَ النِّسَاءِ ، أَوْ الْمُمَاطَلَةِ بِحَقِّهَا ، وَبَعْضُهُمْ يُجْبِرُهَا عَلَى تَوْكِيلِهِ ثُمَّ يَأْكُلُ حَقَّهَا وَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ (( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)) وَيَقُولُ : ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)) وَقَالَ تَعَالَى ((وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ))
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ (الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ )) فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ ، وَاسْتَقِيمُوا عَلَى طَاعَتِهِ ، وَابْتَعِدُوا عَنْ مَعَاصِيهِ وَالَّتِيِ مِنْهَا أَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلِ وَالضُّعَفَاءِ وَغَيْرِهِم ؛فَالْقِصَاصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُوُنُ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ ، نَسْاَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ ، بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكَمَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمِ .
اَلْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لَشَانِهِ ، وأشهدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ ، صَلّى الله عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وأعْوانِهِ وسَلّم تَسْلِيماً كثيراً .
عِبَادَ اللهِ / اِتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمِيرَاثَ وَمَا يُخْلِفُهُ الْمَيِّتُ مِنْ الْمَالِ يَجْمَعُ الْأُسْرَةَ وَلَا يُفَرِّقُهَا ، وَيُقَوِّيهَا وَلَا يُضْعِفُهَا ، وَحُبُّ الْمَالِ لَا يُقَدَّمُ عَلَى حُبِّ الْإِخْوَانِ وَالْأَخَوَاتِ ؛ فَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ أَخًا يَشْتَكِي أَخَاهُ فِي الْمَحَاكِمِ ، وَمِنْ يَظُنُّ أَنَّ الْأُخُوَّةَ وَالْأَخَوَاتِ بَعْدَ اجْتِمَاعِ وَوِصَالِ تُفَرِّقُوا وَتُهَاجَرُوا وَتَبَاغَضُوا ! تُرَى لَوْ عَلِمَ وَالدُهُمْ وَمُوَرِّثُهُمْ أَكَانَ هَذَا يُرْضِيِهُ ، بَلْ رُبَّمَا تَمَنَّى لَوْ مَاتَ فَقِيرًا مُعْدَمًا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمَلَايِينِ لِوَرَثَتِهِ الْمُتَنَازِعِيِنَ ، فَبَادِرُوا عِبَادَ اللَّهِ بِقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ ، وَأَعْطُوْا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، وَاحْذَرُوا الظُّلْمَ ؛فَالظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ ، فَقَالَ ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(( مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى الله ُعَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) رَوَاهُ مُسْلِم .