الشيخ/عبدالله الواكد
30-09-2015, 22:33
خطبة جمعة
بعنوان
( حادثة الشملي )
كتبها
عبدالله بن فهد الواكد
الخطبة الأولى
أما بعدُ أيها المسلمون : فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ حقَّ التقوى واستمسكوا منَ الإسلامِ بالعروةِ الوثقى ، فإنَّ تقوى اللهِ هي المخرجُ في الأزماتِ وهي الملاذُ عندَ الملماتِ وهي الطمأنينةُ عندَ الفتنِ والسكنُ في المُدلهماتِ ، فمن اتقى اللهَ وقاهُ ومنْ راقبَ اللهَ عافاهُ ، فتقوى اللهِ يا عبادَ اللهِ : معينٌ لا ينضب وزادٌ لا يَقْشَب ، قالَ تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ حقَّ تقاتِهِ ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون )
عبادَ اللهِ : كُنا نقرأُ أحاديثَ الفتنِ التي تقعُ في آخرِ الزمانِ ، ولم نكنْ نعلمُ أننا سنرى شيئاً منها في زمننا هذا ، ولماَّ رأينا بعضَ هذه الفتن ، تعجبنا كثيراً من دقةِ وصفِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ لها ولأهلِها ، ولا عجبَ فهو رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ ( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى )
أيها المسلمون : صدقَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ إذْ قالَ فيما رواهُ الإمامُ أحمدُ في مسندِه وصححهُ الشيخُ الألبانيُّ عن أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنهُ قالَ : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا أَنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ . قِيلَ : وَمَا الْهَرْجُ ؟ قَال : الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ . قَالُوا : أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ ؟ قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْكُفَّارَ ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ . قَالُوا : سُبْحَانَ اللَّهِ ! وَمَعَنَا عُقُولُنَا ؟ قالَ : لَا ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكَ الزَّمَانِ ، حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ ) تأملوا يا عبادَ اللهِ كيفَ استغربَ الصحابةُ رضي اللهُ عنهم وذُهلوا من كلامِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ ، وعَجبُوا من أمرِ أهلِ ذلكَ الزمانِ ، فقالوا : سبحانَ اللهِ ! ومعناَ عقولُنا ؟ قالَ : لَا ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكَ الزَّمَانِ ، حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ ، فدلَّ ذلكَ يا عبادَ اللهِ : على أنَّ من يفعلُ ذلكَ ، فقدْ غابَ عنهُ سواءُ عقلِهِ ، وصوابُ تصرفِهِ ،
أيها المسلمونَ : عندما كان الملايينُ من الحجاجِ في رحابِ منى وفي رحابِ بيتِ اللهِ الحرامِ تُكبِّرُ وتُتمُّ نسكَها وتقضي تفَثهَا ، وتحمدُ اللهَ خاضعةً مستسلمةً ، ترسمُ في تلك الرحابِ الطاهرةِ أروعَ معاني الأخوةِ والإيمانِ ، والتلاحمِ والإحسانِ ، والسكينةِ والإطمئنانِ ، شاهدنا تلكَ المناظرَ الإيمانيةَ الخلابةَ ، من خلالِ القنواتِ الفضائيةِ ، وما يُنشرُ بين الناسِ من مقاطعَ جميلةٍ ، وصورٍ بيضاءَ ناصعةٍ مشرقةٍ ، تُفعِمُ النفسَ بالسرورِ ، وتملأُ الروحَ بالحبورِ ، كدَّرَ تلكَ النشوةَ الإيمانيةَ ، والصورَ البيضاءَ الناصعةَ ، صورةٌ أخرى ، قاتمةٌ مظلمةٌ ، وسلوكٌ وحشيٌّ مجرمٌ ، تجردَ من كلِّ القيمِ الدينيةِ ، والمعاني الإنسانيةِ ، والمُثلِ الأخلاقيةِ ، كدَّرَنا وكدرَكمُ جميعاً ، ذلكم الشرُّ والإرهابُ الذي تجرَّدَ من كلِّ القِيَمِ والمعاني والمشاعرِ والأصولِ والأعرافِ ، هذا الفكرُ الضالُ الذي جعلَ الإبنَ يقتلُ أباهُ والأخَ يسفِكُ دمَ أخيهِ وابنَ العمِّ يغدُرُ بابنِ عَمِّهِ ويقتُلُهُ خيانةً وغدراً ، ليقدِّمَ أولائكَ السُّذَّجُ دماءَ هؤلاءِ الأقاربِ طاعةً وقرباناً لزعيمٍ بايعوُهُ ولم يروْهُ ولم يعرفوهُ ولا يدرونَ من يقِفُ خلفَهُ ، وقدَّمُوا قولَهُ على قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا )[النساء:93]. وقدَّمُوا قولَهُ على قولِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ { لا يزالُ المؤمنُ في فسحةٍ من دينِهِ ما لم يُصبْ دماً حراماً } [رواه البخاري]
أيها المسلمون : حادثةُ الشملي التي هزتْ كيانَ بلادِ المسلمينَ عامةً وأهلَ حائلَ خاصةً جسَّدَتْ أبشعَ صُورِ الإرهابِ والغدرِ والخيانةِ لهذا الفكرِ الضالِ والتنظيمِ المتوحشِ ، شبابٌ في مقتبلِ عمرِهم أبناءُ عمٍّ تربوا في بيتٍ واحدٍ ، في يومِ عيدِ الأَضحى يغدُرُونَ بابنِ عمِّهم اليتيمِ الذي تربى معهم في بيتٍ واحدٍ وشاركهم أجملَ مراحلِ الطفولةِ ، وأحلى أيامِ العمرِ، يقتلونهُ غدراً وخيانةً ، لا لشيءٍ إلا لأنَّهُ التحقَ بالعسكريةِ قبل شهرٍ واحدٍ ليخدمَ دينَهُ ووطنَهُ ، لا لشيءٍ إلا لتنفيذِ إملاءاتِ ذلك التنظيمِ الغادرِ .
أيها المسلمون : من رأى وسمعَ صرخاتِ الإستجداءِ ، ونخواتِ الدمِ والقربى (تكفى ياسعدُ) هذهِ الكلماتُ التي هزتْ مشاعرَ الملايينِ من المسلمين ، ولم يكنْ سعدُ في تلكَ اللحظاتِ إلا إمعةً ومجرماً وقاتلاً ، يصُمُّ أذنيهِ عن نخواتِ ابنِ عمِّهِ ، ويشيحُ بوجهِهِ عن قيمِ الرجولةِ والشهامةِ ، التي نشأَ عليها أهلُهُ وعشيرتُهُ ، ويتوجهُ تلقاءَ الخسةِ والدناءةِ ، والغدرِ والخيانةِ ، ويبايعُ زعيمَ تنظيمٍ إرهابيٍ ، مجرمٍ وحشيٍ ، ما كانَ أبناؤُنا كذلكَ ، كانتْ فيهم الرجولةُ والشهامةُ والوفاءُ والنخوةُ ، مالذي حلَّ بهم ! هؤلاءِ الذين نتحدثُ عنهم ، هم من أبنائِنا ، آباؤُهم وأمهاتُهم منَّا وفينا ، ليسوا غرباءَ عنا ، مالذي حلَّ بهم أيها المسلمون ، إنها سرقةُ العقولِ ، وتسميمُ الأفكارِ ، وتلويثُ المباديءِ والقيمِ ، ورغمَ الألمُ الذي يعتصرُ الأمةَ أسفاً وحَزَناً ، إلا أننا نحمدُ اللهَ ، فهم قلةٌ قليلةٌ ، إذْ أنَّ معظمَ الشبابِ أمثالكُم ، لا يزالونَ يحفظونَ لهذا الوطنِ عهدَهُ ولولِي الأمرِ بيعتَهُ ، ولا يزالونَ يحملونَ لواءَ الدفاعِ عن دينِهم وولاةِ أمرِهم ووطنِهم ، ويذودونَ عن وحدتِهم ومقدساتِهم ، ويتقطعونَ ألماً وحسرةً لمثلِ هذهِ الفجائعِ المؤلمةِ .
أيها المسلمون : إنهُ تحولٌ خطيرٌ في فكرِ هؤلاءِ الخوارجِ المنتسبينَ لداعش ، وأساليبِ هذا المنهجِ الضالِ في إقناعِ هؤلاءِ الأغرارِ بقتلِ أقاربهِم ، حتى أصبحَ الأمر ُخطراً جسيماً على عقولِ صغارِ السنِّ الذين لم يتجاوزوا العشرينَ عاماً ، يتطلبُ الأمرُ أيها المسلمونَ ، أنْ نسلطَ الأضواءَ ، وأنْ نجوبَ الأنحاءَ ، وأنْ نمحِّصَ الأبناءِ ، فهاهي جنودٌ مجندةٌ في الإنترنت ، مسلطةٌ على هؤلاءِ الأحداثِ يغزونهم بينَ أهاليهم وفي منازِلهم ، عن طريقِ شبكاتِ الإنترنت ، وشبكاتِ الجوالِ ، وأيِّ وسيلةِ إتصالٍ ممكنةٍ ، فلم تكن جريمةُ الشملي البشعةِ هي الأولى في بشاعتِها فقد سبقَ لهذا التنظيمِ جرائمُ مشابهةٌ في المملكةِ وخارجِها ، أحدُهم قتلَ والدَهُ في خميس مشيط في شهرِ رمضانَ الماضي بعدَ محاصرةِ رجالِ الأمنِ لمنزلِه ، والآخرُ قتلَ خالَهُ الذي يعملُ في الجهازِ الأمنيِّ برتبةِ عقيدٍ في منزله قبلَ أن يفَجِّرَ هذا المجرمُ نفسَهُ في نقطةِ تفتيش ، وفي مدينةِ الموصلِ بالعراقِ ، قام أحدُ المنتمينَ لهذا التنظيمِ قبلَ شهرٍ ، بقتلِ أُمِّهِ وشقيقِهِ رمياً بالرصاصِ أمامَ أنظارِ الناسِ ، فأيُّ حالٍ وصلتْ إليه عقولُ هؤلاءِ المغررِ بهم وما الذي غمسَهُم في هذا الضلالِ والوحشيةِ ، أهكذا كانَ دينُ الله ! أهكذا هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ ! تقولُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، رضي اللهُ عنها وعن أبيها : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ ، فَقُلْتُ :يارسول الله إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : " نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ " لم يقلْ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لا تَصِليها فهي مشركةٌ ، واللهُ عزَ وجلَّ يقول (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ) بل لم يكنْ عليه الصلاةُ والسلامُ كما في البخاريِّ ومسلمٍ ليقتلَ أحداً من المنافقينَ والزنادقةِ على ما رأى منهم من إيذاءٍ وكفرٍ وضلالٍ لئلاَّ يتحدثُ الناسُ أنَّ محمداً يقتلُ أصحابَهُ ، أماَّ أمرُ هؤلاءِ الخوارِجِ فلم يكنْ جديداً ، فلقد قالَ أصحابُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ قد رأينا من يقتلُ أباهُ زمنَ الأزارقةِ في السنةِ الرابعةِ والستينِ للهجرةِ هؤلاءِ الأزارقةُ هم دواعشُ المئةِ الأولى من الهجرة ، قاتلهم المهلبُ بنُ أبي صفرةَ الذي عينهُ ابنُ الزبيرِ لحربهم فأثخنَ فيهم وأوهنَ قوتَهم ودحرَهُم ، على ماتميزوا به من قوةٍ وكثرةٍ يقولُ البغدادي : " ولم يكنْ للخوارجِ قطُّ فرقةٌ أكثرَ عدداً ولا أشدَّ منهم شوكةً " فدحرهم اللهُ ، قاتلهم اللهُ ، وكفى اللهُ الإسلامَ والمسلمينَ شرَّهم ، وكفى اللهُ أبناءَنا شرَّ دعاتِهم ومضليهم ،
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الثانية
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ )رواه مسلم
أيها المسلمون : يجبُ عليكُم جميعاً أنْ تتنبهوا لهذا الخطرِ المحدقِ ، وليسَ الأمرُ مسؤوليةَ ولاةِ الأمرِ وحدِهِم ، أنتَ أيها الوليُّ مسؤولٌ عن متابعةِ أبنائِكَ وملاحظةِ سلوكِهم ومراقبةِ المواقعِ التي يدخلونَها في الإنترنت ، كُنْ قريباً منهم ولصيقاً بهم ، وخصوصاً في هذه السنواتِ العمريةِ الخطرةِ التي يحسبُ الشابُّ فيها أنه على شيءٍ وما هو على شيءٍ في هذا العمرِ من الخامسةِ عشرَ الى الخامسةِ والعشرين ، يُحبُّ الشابُ أن ينفردَ برأيِهِ ويتخذَ قراراتهِ بنفسِه يحبُّ أن يتجردَ من المرجعيةِ الأسريةِ ، يحبُّ المغامراتِ ، فيجدُ فيمن يتسللونَ عليه من عناصرِ التنظيمِ ويمجدونه ، ويمنحونه الثقةَ ويولونه الإهتمامَ ، ويوجهونَه ، ويسممونَ فكرهُ ، ويصورونَ له أن المجتمعَ الذي يعيشُ فيه مجتمعٌ كافرٌ ، يستحقُ القتلَ ، وجزاءُ من يقتُلُه الجنةَ ، هكذا يمنونَهُم ويعدونَهم ، وما يعدُهُم الشيطانُ إلا غروراً ، حتى إذا نفَّذَ لهم ما يريدونَ ، قطعوا عنهُ كلَّ الإتصالاتِ ، وتركوهُ يواجهُ مصيرَهُ المظلمَ لوحدِه ، فكونوا أيها الأولياءُ حماةً لأبنائكِم من هؤلاءِ الغزاةِ ، أيسُرُّكَ أن تستيقظَ يوماً على ما استيقظَ عليه والدُ سعدٍ ، وتنفجعَ بما انفجعَ به ، وتحترقَ بما احترقَ به ، فكن يقظاً وعيناً ساهرةً على هذا الثغرِ العظيمِ ثغرِ أبنائِك والإنترنت ، لنكُنْ جميعاً يداً واحدةً وصفاًّ واحداً في وجهِ هذا الخطرِ العظيمِ حمانا اللهُ وإياكُم من شرِّهِ وشرِّ دعاتِه ، ورحمَ اللهُ جنودَنا البواسلَ ، الذين استشهدوا في هذهِ الحادثةِ وغيرِها من الحوادثِ التي تقعُ على ثغورِ الدفاعِ عن أمنِ هذا الوطنِ ، وشفى اللهُ المصابينَ ، وحفظَ اللهُ بلادَنا وولاةَ أمرِنا ، وأهلَ هذهِ البلادِ وسائرَ بلادِ المسلمين .
صلوا وسلموا على محمد
بعنوان
( حادثة الشملي )
كتبها
عبدالله بن فهد الواكد
الخطبة الأولى
أما بعدُ أيها المسلمون : فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ حقَّ التقوى واستمسكوا منَ الإسلامِ بالعروةِ الوثقى ، فإنَّ تقوى اللهِ هي المخرجُ في الأزماتِ وهي الملاذُ عندَ الملماتِ وهي الطمأنينةُ عندَ الفتنِ والسكنُ في المُدلهماتِ ، فمن اتقى اللهَ وقاهُ ومنْ راقبَ اللهَ عافاهُ ، فتقوى اللهِ يا عبادَ اللهِ : معينٌ لا ينضب وزادٌ لا يَقْشَب ، قالَ تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ حقَّ تقاتِهِ ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون )
عبادَ اللهِ : كُنا نقرأُ أحاديثَ الفتنِ التي تقعُ في آخرِ الزمانِ ، ولم نكنْ نعلمُ أننا سنرى شيئاً منها في زمننا هذا ، ولماَّ رأينا بعضَ هذه الفتن ، تعجبنا كثيراً من دقةِ وصفِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ لها ولأهلِها ، ولا عجبَ فهو رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ ( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى )
أيها المسلمون : صدقَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ إذْ قالَ فيما رواهُ الإمامُ أحمدُ في مسندِه وصححهُ الشيخُ الألبانيُّ عن أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنهُ قالَ : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا أَنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ . قِيلَ : وَمَا الْهَرْجُ ؟ قَال : الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ . قَالُوا : أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ ؟ قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْكُفَّارَ ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ . قَالُوا : سُبْحَانَ اللَّهِ ! وَمَعَنَا عُقُولُنَا ؟ قالَ : لَا ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكَ الزَّمَانِ ، حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ ) تأملوا يا عبادَ اللهِ كيفَ استغربَ الصحابةُ رضي اللهُ عنهم وذُهلوا من كلامِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ ، وعَجبُوا من أمرِ أهلِ ذلكَ الزمانِ ، فقالوا : سبحانَ اللهِ ! ومعناَ عقولُنا ؟ قالَ : لَا ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكَ الزَّمَانِ ، حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ ، فدلَّ ذلكَ يا عبادَ اللهِ : على أنَّ من يفعلُ ذلكَ ، فقدْ غابَ عنهُ سواءُ عقلِهِ ، وصوابُ تصرفِهِ ،
أيها المسلمونَ : عندما كان الملايينُ من الحجاجِ في رحابِ منى وفي رحابِ بيتِ اللهِ الحرامِ تُكبِّرُ وتُتمُّ نسكَها وتقضي تفَثهَا ، وتحمدُ اللهَ خاضعةً مستسلمةً ، ترسمُ في تلك الرحابِ الطاهرةِ أروعَ معاني الأخوةِ والإيمانِ ، والتلاحمِ والإحسانِ ، والسكينةِ والإطمئنانِ ، شاهدنا تلكَ المناظرَ الإيمانيةَ الخلابةَ ، من خلالِ القنواتِ الفضائيةِ ، وما يُنشرُ بين الناسِ من مقاطعَ جميلةٍ ، وصورٍ بيضاءَ ناصعةٍ مشرقةٍ ، تُفعِمُ النفسَ بالسرورِ ، وتملأُ الروحَ بالحبورِ ، كدَّرَ تلكَ النشوةَ الإيمانيةَ ، والصورَ البيضاءَ الناصعةَ ، صورةٌ أخرى ، قاتمةٌ مظلمةٌ ، وسلوكٌ وحشيٌّ مجرمٌ ، تجردَ من كلِّ القيمِ الدينيةِ ، والمعاني الإنسانيةِ ، والمُثلِ الأخلاقيةِ ، كدَّرَنا وكدرَكمُ جميعاً ، ذلكم الشرُّ والإرهابُ الذي تجرَّدَ من كلِّ القِيَمِ والمعاني والمشاعرِ والأصولِ والأعرافِ ، هذا الفكرُ الضالُ الذي جعلَ الإبنَ يقتلُ أباهُ والأخَ يسفِكُ دمَ أخيهِ وابنَ العمِّ يغدُرُ بابنِ عَمِّهِ ويقتُلُهُ خيانةً وغدراً ، ليقدِّمَ أولائكَ السُّذَّجُ دماءَ هؤلاءِ الأقاربِ طاعةً وقرباناً لزعيمٍ بايعوُهُ ولم يروْهُ ولم يعرفوهُ ولا يدرونَ من يقِفُ خلفَهُ ، وقدَّمُوا قولَهُ على قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا )[النساء:93]. وقدَّمُوا قولَهُ على قولِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ { لا يزالُ المؤمنُ في فسحةٍ من دينِهِ ما لم يُصبْ دماً حراماً } [رواه البخاري]
أيها المسلمون : حادثةُ الشملي التي هزتْ كيانَ بلادِ المسلمينَ عامةً وأهلَ حائلَ خاصةً جسَّدَتْ أبشعَ صُورِ الإرهابِ والغدرِ والخيانةِ لهذا الفكرِ الضالِ والتنظيمِ المتوحشِ ، شبابٌ في مقتبلِ عمرِهم أبناءُ عمٍّ تربوا في بيتٍ واحدٍ ، في يومِ عيدِ الأَضحى يغدُرُونَ بابنِ عمِّهم اليتيمِ الذي تربى معهم في بيتٍ واحدٍ وشاركهم أجملَ مراحلِ الطفولةِ ، وأحلى أيامِ العمرِ، يقتلونهُ غدراً وخيانةً ، لا لشيءٍ إلا لأنَّهُ التحقَ بالعسكريةِ قبل شهرٍ واحدٍ ليخدمَ دينَهُ ووطنَهُ ، لا لشيءٍ إلا لتنفيذِ إملاءاتِ ذلك التنظيمِ الغادرِ .
أيها المسلمون : من رأى وسمعَ صرخاتِ الإستجداءِ ، ونخواتِ الدمِ والقربى (تكفى ياسعدُ) هذهِ الكلماتُ التي هزتْ مشاعرَ الملايينِ من المسلمين ، ولم يكنْ سعدُ في تلكَ اللحظاتِ إلا إمعةً ومجرماً وقاتلاً ، يصُمُّ أذنيهِ عن نخواتِ ابنِ عمِّهِ ، ويشيحُ بوجهِهِ عن قيمِ الرجولةِ والشهامةِ ، التي نشأَ عليها أهلُهُ وعشيرتُهُ ، ويتوجهُ تلقاءَ الخسةِ والدناءةِ ، والغدرِ والخيانةِ ، ويبايعُ زعيمَ تنظيمٍ إرهابيٍ ، مجرمٍ وحشيٍ ، ما كانَ أبناؤُنا كذلكَ ، كانتْ فيهم الرجولةُ والشهامةُ والوفاءُ والنخوةُ ، مالذي حلَّ بهم ! هؤلاءِ الذين نتحدثُ عنهم ، هم من أبنائِنا ، آباؤُهم وأمهاتُهم منَّا وفينا ، ليسوا غرباءَ عنا ، مالذي حلَّ بهم أيها المسلمون ، إنها سرقةُ العقولِ ، وتسميمُ الأفكارِ ، وتلويثُ المباديءِ والقيمِ ، ورغمَ الألمُ الذي يعتصرُ الأمةَ أسفاً وحَزَناً ، إلا أننا نحمدُ اللهَ ، فهم قلةٌ قليلةٌ ، إذْ أنَّ معظمَ الشبابِ أمثالكُم ، لا يزالونَ يحفظونَ لهذا الوطنِ عهدَهُ ولولِي الأمرِ بيعتَهُ ، ولا يزالونَ يحملونَ لواءَ الدفاعِ عن دينِهم وولاةِ أمرِهم ووطنِهم ، ويذودونَ عن وحدتِهم ومقدساتِهم ، ويتقطعونَ ألماً وحسرةً لمثلِ هذهِ الفجائعِ المؤلمةِ .
أيها المسلمون : إنهُ تحولٌ خطيرٌ في فكرِ هؤلاءِ الخوارجِ المنتسبينَ لداعش ، وأساليبِ هذا المنهجِ الضالِ في إقناعِ هؤلاءِ الأغرارِ بقتلِ أقاربهِم ، حتى أصبحَ الأمر ُخطراً جسيماً على عقولِ صغارِ السنِّ الذين لم يتجاوزوا العشرينَ عاماً ، يتطلبُ الأمرُ أيها المسلمونَ ، أنْ نسلطَ الأضواءَ ، وأنْ نجوبَ الأنحاءَ ، وأنْ نمحِّصَ الأبناءِ ، فهاهي جنودٌ مجندةٌ في الإنترنت ، مسلطةٌ على هؤلاءِ الأحداثِ يغزونهم بينَ أهاليهم وفي منازِلهم ، عن طريقِ شبكاتِ الإنترنت ، وشبكاتِ الجوالِ ، وأيِّ وسيلةِ إتصالٍ ممكنةٍ ، فلم تكن جريمةُ الشملي البشعةِ هي الأولى في بشاعتِها فقد سبقَ لهذا التنظيمِ جرائمُ مشابهةٌ في المملكةِ وخارجِها ، أحدُهم قتلَ والدَهُ في خميس مشيط في شهرِ رمضانَ الماضي بعدَ محاصرةِ رجالِ الأمنِ لمنزلِه ، والآخرُ قتلَ خالَهُ الذي يعملُ في الجهازِ الأمنيِّ برتبةِ عقيدٍ في منزله قبلَ أن يفَجِّرَ هذا المجرمُ نفسَهُ في نقطةِ تفتيش ، وفي مدينةِ الموصلِ بالعراقِ ، قام أحدُ المنتمينَ لهذا التنظيمِ قبلَ شهرٍ ، بقتلِ أُمِّهِ وشقيقِهِ رمياً بالرصاصِ أمامَ أنظارِ الناسِ ، فأيُّ حالٍ وصلتْ إليه عقولُ هؤلاءِ المغررِ بهم وما الذي غمسَهُم في هذا الضلالِ والوحشيةِ ، أهكذا كانَ دينُ الله ! أهكذا هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ ! تقولُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، رضي اللهُ عنها وعن أبيها : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ ، فَقُلْتُ :يارسول الله إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : " نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ " لم يقلْ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لا تَصِليها فهي مشركةٌ ، واللهُ عزَ وجلَّ يقول (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ) بل لم يكنْ عليه الصلاةُ والسلامُ كما في البخاريِّ ومسلمٍ ليقتلَ أحداً من المنافقينَ والزنادقةِ على ما رأى منهم من إيذاءٍ وكفرٍ وضلالٍ لئلاَّ يتحدثُ الناسُ أنَّ محمداً يقتلُ أصحابَهُ ، أماَّ أمرُ هؤلاءِ الخوارِجِ فلم يكنْ جديداً ، فلقد قالَ أصحابُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ قد رأينا من يقتلُ أباهُ زمنَ الأزارقةِ في السنةِ الرابعةِ والستينِ للهجرةِ هؤلاءِ الأزارقةُ هم دواعشُ المئةِ الأولى من الهجرة ، قاتلهم المهلبُ بنُ أبي صفرةَ الذي عينهُ ابنُ الزبيرِ لحربهم فأثخنَ فيهم وأوهنَ قوتَهم ودحرَهُم ، على ماتميزوا به من قوةٍ وكثرةٍ يقولُ البغدادي : " ولم يكنْ للخوارجِ قطُّ فرقةٌ أكثرَ عدداً ولا أشدَّ منهم شوكةً " فدحرهم اللهُ ، قاتلهم اللهُ ، وكفى اللهُ الإسلامَ والمسلمينَ شرَّهم ، وكفى اللهُ أبناءَنا شرَّ دعاتِهم ومضليهم ،
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الثانية
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ )رواه مسلم
أيها المسلمون : يجبُ عليكُم جميعاً أنْ تتنبهوا لهذا الخطرِ المحدقِ ، وليسَ الأمرُ مسؤوليةَ ولاةِ الأمرِ وحدِهِم ، أنتَ أيها الوليُّ مسؤولٌ عن متابعةِ أبنائِكَ وملاحظةِ سلوكِهم ومراقبةِ المواقعِ التي يدخلونَها في الإنترنت ، كُنْ قريباً منهم ولصيقاً بهم ، وخصوصاً في هذه السنواتِ العمريةِ الخطرةِ التي يحسبُ الشابُّ فيها أنه على شيءٍ وما هو على شيءٍ في هذا العمرِ من الخامسةِ عشرَ الى الخامسةِ والعشرين ، يُحبُّ الشابُ أن ينفردَ برأيِهِ ويتخذَ قراراتهِ بنفسِه يحبُّ أن يتجردَ من المرجعيةِ الأسريةِ ، يحبُّ المغامراتِ ، فيجدُ فيمن يتسللونَ عليه من عناصرِ التنظيمِ ويمجدونه ، ويمنحونه الثقةَ ويولونه الإهتمامَ ، ويوجهونَه ، ويسممونَ فكرهُ ، ويصورونَ له أن المجتمعَ الذي يعيشُ فيه مجتمعٌ كافرٌ ، يستحقُ القتلَ ، وجزاءُ من يقتُلُه الجنةَ ، هكذا يمنونَهُم ويعدونَهم ، وما يعدُهُم الشيطانُ إلا غروراً ، حتى إذا نفَّذَ لهم ما يريدونَ ، قطعوا عنهُ كلَّ الإتصالاتِ ، وتركوهُ يواجهُ مصيرَهُ المظلمَ لوحدِه ، فكونوا أيها الأولياءُ حماةً لأبنائكِم من هؤلاءِ الغزاةِ ، أيسُرُّكَ أن تستيقظَ يوماً على ما استيقظَ عليه والدُ سعدٍ ، وتنفجعَ بما انفجعَ به ، وتحترقَ بما احترقَ به ، فكن يقظاً وعيناً ساهرةً على هذا الثغرِ العظيمِ ثغرِ أبنائِك والإنترنت ، لنكُنْ جميعاً يداً واحدةً وصفاًّ واحداً في وجهِ هذا الخطرِ العظيمِ حمانا اللهُ وإياكُم من شرِّهِ وشرِّ دعاتِه ، ورحمَ اللهُ جنودَنا البواسلَ ، الذين استشهدوا في هذهِ الحادثةِ وغيرِها من الحوادثِ التي تقعُ على ثغورِ الدفاعِ عن أمنِ هذا الوطنِ ، وشفى اللهُ المصابينَ ، وحفظَ اللهُ بلادَنا وولاةَ أمرِنا ، وأهلَ هذهِ البلادِ وسائرَ بلادِ المسلمين .
صلوا وسلموا على محمد