المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطبة الجمعة : خطورة الفرقة والتباغض



الياس اسكندر
30-07-2015, 00:23
الخطبة الأولى : خطورة الفرقة والتباغض

الحمد لله الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ، والذي أخرج المرعى ، أحمده سبحانه حمد الشاكرين ، وأشكره شكر الحامدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، خير الخلق أجمعين ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين . . . أما بعد : فاتقوا الله عباد الله ، وألزموا أنفسكم طاعة ربكم ، فهي المنجية ، وهي الموجبة ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً " .

أيها المسلمون : كم كانت الأمم والشعوب قبل البعثة المحمدية ، تغط في ظلم عميق ، وتغوص في جهل سحيق ، في ظلمات ظلماء ، وجاهلية جهلاء ، لقد سادت في تلك الحقبة من الزمن أموراً وعاداتٍ ظالمة قاسية باطلة ، أثرت سلباً على مجريات الحياة إبان ذاك ، فهضمت الحقوق ، وسلبت الأموال ، وانتهكت الأعراض ، وقتلت الأنفس ، وسادت الحزبية القبلية الجاهلية ، وكثر الخصام ، وانعدم الوئام ، وزادت مساحة النفاق ، واتسعت رقعة الشقاق ، فعمت الفوضى ، وكثرت اللأوى ، فرحم الله البشرية بأن أرسل إليهم أفضل البرية ، محمداً صلى الله عليه وسلم ، ليخرجهم من ظلمات الجهل ، إلى نور العلم ، فقضى على معالم الوثنية ، وأبطل عادات الجاهلية ، واجتث جرثومتها ، واستأصل شأفتها ، فتاقت النفوس لهذا الدين الإسلامي العظيم ، الذي حفظ للناس كرامتهم ، وصان أعراضهم ، وحصن فروجهم ، ووحد صفوفهم ، وأعطى كل ذي حق حقه . قال تعالى : (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) .

أيها المؤمنون عباد الله : مما انتشر في بلاد المسلمين ، من أمور محرمة ، والتي هيأت لها بعض النفوس بالتمكين ، وعمل لها الشيطان الرجيم ، ظهور الحقد والغل وانتشار الكراهية والبغضاء بين الناس ، فساد مجتمعات المسلمين القطيعة والشحناء ، وعمت بها ربوع كثير من البلاد ، فأصبحت القلوب في ضيق ونكد ، وفي تعب ونصب ، لقد أصبح الابن يبغض أباه ، والأخ يكره أخاه ، والقريب يظلم قريبه ، والجار يكيد لجاره ، وكل ذلك بسبب أطماع دنيوية دنيئة ، من أجل حفنة من تراب ، أو شبر من خراب ، من أجل قطعة من أرض ، أو بضعة من غرض ، إن مثل تلك العادات يمقتها رب الأرض والسموات ، يقول الله تعالى : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) ، لقد قطعت أواصر المحبة والمودة بين الناس ، بسبب تلك الأطماع ، وبسبب حب الدنيا وزينتها وزخرفها وبهرجتها ، ولقد مزقت وشائج صلة الأرحام ، بسبب حب الأرض وما فيها من دمار ، يحسبون أنهم سيخلدون في هذه الحياة ، والله من فوق سبع سموات قال لهم : (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون )، ولقد حذر المولى جل وعلا من الركون إلى الدنيا ، أو اتخاذها وطناً وسكناً ، وأنها غادرة ما كرة ، فقال تعالى : ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ) ، هذا هو الجزاء الأوفى لمن ركن إلى الدنيا ، ورضيها من دون الأخرى ، أن يكون مصيره إلى النار والعياذ بالله .

أيها المسلمون : إن الإسلام يدعو أهله إلى الألفة والمحبة والمودة ، وتقوية الأواصر ، والتفاني من أجل خدمة المسلم لأخيه المسلم ، والتواضع لله ولعباده ، فمن تواضع لله رفعه ، ومن تعاظم على الله وضعه ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ، بل كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ، هكذا جاء على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم ، ويقول ربكم تبارك وتعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، وشبك بين أصابعه " [ متفق عليه ] ، فأين تطبيق تلك الآيات ، وأين العمل بتلك الأحاديث الكريمات ، أم أننا نسمع ولا نعقل ؟ أم أننا ننصت ولا ندرك ؟ أين المحبة اليوم ؟ أين الإيثار اليوم ؟ أين الاخوة اليوم ؟ ، قال صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " [ متفق عليه ].
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء ، فيقال انظروا هذين ، حتى يصطلحا ، انظروا هذين حتى يصطلحا ، انظروا هذين حتى يصطلحا ) [ رواه مسلم ، فيالها من خسارة فادحة ، ومصيبة عظيمة ، ونكبة كبيرة ، أن لا يرفع للإنسان عمل حتى يصفو قلبه على أخيه المسلم ، فلماذا لا تصفوا النفوس إذاً ، ولماذا لا تسموا القلوب أبداً ، ما أعظم أن يموت الإنسان ، ويقوم على جنازته مئات المسلمين للصلاة عليه ، وما أجمل أن يموت الإنسان ويقوم على قبره مئات المسلمين لدفنه ، الكل يسعى للصلاة عليه ، والكل يتسابق لدفنه ، والكل يدعو له بالمغفرة والرحمة ، والكل يذكر محاسنه ويكف عن مساوئه ، كل هذا بسبب حسن الخلق ، والتواضع لله ولعباده ، والتغاضي عن بعض التعديات ، والصفح عن الزلات ، ومغفرة الهفوات .

عباد الله : أيعقل أن يتقابل اثنان ولا يسلم أحدهما على الآخر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار ) [ رواه أبو داود ] . أيقبل من اخوة وأسرة التنافر والتباغض ؟ أيقبل منهم الكراهية والشحناء ، إنها أموراً منكرة ، وعادات سيئة ، فالدين لا يأمر بذلك ، والعاقل لا يرضى بذلك ، وضررها على الفرد والمجتمع ، إن تلك الأعمال الغوغاء ، والأفعال الهوجاء ، وكثرة القيل والقال ، وإفساد ذات البين بين المسلمين ، والفرح بإيقاع العداوة بينهم ، ليست من الدين في شيء ، وليست من العقل في شيء ، بل هي أقرب إلى عادات الجاهلية ، وأقرب إلى مسالك أهل النفاق والشقاق.

عباد الله : احذروا كل الحذر من الفرقة والتباغض ، وابتعدوا عن التنافر وكثرة الشكاوى وإزعاج السلطات بأمور دنيوية تافهة ، أو لرأي إنسان يريد الإفساد لا الإصلاح ، من كانت له على أخيه ملاحظة ، أو رأى منه زلة وهفوة ، أو لمس من خطأ وجفوة ، فلا يعني ذلك أن يحمل عليه في صدره كرهاً وبغضاً ، وليس معنى ذلك أن يتقدم ضده بخصومة أو شكوى ، وليس معنى ذلك أن يؤلب الناس عليه ، أو يثير الفوضى ، فيكثر الهلكى ، بسبب أمر كان من الممكن أن يتدارك بالنصيحة الأخوية ، وبالمشورة والروية ، وبالتسامح والعفو والإحسان ، وغض الطرف عن المشكلات ، وإيجاد الحلول المناسبة لها ، دون اللجوء إلى حقوق جاهلية ، أو أكل للأموال بالباطل ، حتى يتدارك الخطأ ، وتمنع الزلات ، وتقال العثرات .

نسأل المولى سبحانه وتعالى أن يقيل عثراتنا ويغفر زلاتنا ويورثنا رحمة خلقه إنّه سميع قريب مجيب ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم .

























الخطبة الثانية : "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"


الحمد لله المُتوحِّد في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المُتفرِّد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المُتعالي بعظمته ومجده الذي نزَّل الفُرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله المُؤيَّد بالمُعجزات، والمنصورُ من ربِّ البريَّات، عليه من الله أفضلُ صلاةٍ وأزكى تسليمٍ، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد عباد الله ، فقد جاء في حديثُ جَريرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ في حَجَّةِ الْوَداعِ: (اسْتَنْصِتِ النَّاسَ، فَقالَ: لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ). متفق عليه.
و في حديثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (وَيْلَكُمْ أَوْ وَيْحَكُمْ، لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ). متفق عليه.

عباد الله ، في الحديثين الشريفين تحذير النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين من القتال فيما بينهم والنزاع والفرقة لأجل الدنيا وزينتها أو طلب الرئاسة أو الفتنة وقد وقع ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في زمن مبكر صدر الإسلام. والمقصود في هذا النص وشبهه التحذير من القتال بغير حق أما القتال الشرعي بحق الذي له سبب ومقتضى شرعي من قتال الخوارج والبغاة ودعاة البدعة والممتنعين من إظهار الشعائر الخارجين عن الجماعة فهذا فعل مأذون فيه شرعا مرغب فيه ولا يدخل في القتال المذموم المنهي عنه.
وكذلك إذا قاتل المرء أخاه المسلم دفاعا عن نفسه أو أهله أو ماله كان فعله مباحا ولم يؤاخذ على ذلك ولو قتله لأن غرضه في ذلك دفع الأذى عن نفسه وحرمته وقد رخص الشرع في ذلك ولو مات بسبب ذلك كان شهيدا. أما إذا قاتله لأجل دنيا أو عداوة شخصية أو أخذ بثأر حرم عليه ذلك واستوجب دخول النار ولو كان مقتولا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
والشيطان يوقع الفرقة والخلاف بين المسلمين ويلقي بينهم العداوة والبغضاء فيحملهم ذلك على قتال بعضهم لبعض وسفك الدماء والتاريخ حافل بوقائع الفتنة ومشاهد الفرقة بين أهل الإسلام عند غلبة الهوى وفشو الجهل مما يندى لها الجبين ويحزن لها القلب. والشريعة جاءت بسد كل طريق يفضي إلى النزاع والفرقة وضبطت أحوال المسلمين السياسية والاجتماعية ووضعت لهم ضوابط لحقن دمائهم وحفظ اجتماعهم واتحاد كلمتهم. فينبغي على المسلم تعظيم هذا الأمر وعدم المشاركة مطلقا في أي قتال إلا إذا استفتى الراسخين من أهل العلم وصدر عن رأيهم وامتثل طاعة ولي الأمر الشرعي وظهر له وجه الحق وبان له. أما إذا اشتبه عليه الأمر وحصل له نوع تردد و كثر اختلاف الناس فيه فهذا قتال فتنة وشبهة فليمسك عنه وليعصم دينه من الدماء وليغلق عليه بابه ويكل أمره إلى الله كما تورع السلف الصالح عن الخوض في قتال الفتنة.
ايها المسلمون ، تأمّلوا ما جاء في حديث المصطفى حيث قال :
" لا ترجعوا بعدي كفّارا "..بمعنى أنّ من أمّة محمّد من سيرتدّ عن دين الله والعياذ بالله وتكون موالاته لأعداء الدين وأفعاله مسيئة للدّين. أفلا ترون عباد الله ما يحصل من مجازر في حق المسلمين في أماكن كثيرة من العالم كسوريا والعراق واليمن وليبيا وبورما وإفريقيا الوسطى وغيرها من البلدان..
وقد ساهم كثير من المتعصبين الجهلة في تشويه الدين ونشر صورة خاطئة عنه ، ولعلّ اول سبب لذلك هو سوء فهم الدين الذي جرّ معه تكفير الناس و الدعوة للقتل والإرهاب بكل أشكاله..
ألا فليعلم أولئك الضالين أنّ رسولنا جاء بحنيفيّة سمحة لا عوج فيها ولا تعصّب ولا تطرّف ، فقد كانت معاملته رحمة للعالمين كما كان لينه وحسن عشرته وصبره على الأذى مثالا لجميع الناس..
عباد الله ، علينا التمسّك بكتاب الله وسنّة رسوله بوعي وفهم لما جاء فيهما من نصوص شرعيّة تستوجب الإيمان بها والعمل بمقتضاها .
نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من عباده الصالحين المصلحين كما نسأله أن يجمع شتات الأمة إنّه وليّ التوفيق.