المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشتــــــــــاء والناس 1436هـ



الشيخ/عبدالله السالم
20-11-2014, 11:33
الحمدُ للهِ المبدئِ المعيدِ ، الفعالِ لما يريدُ ، ذي العرشِ المجيدِ ، والبطشِ الشديدِ ، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ وسلم عليه ،وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الوعيدِ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ).أما بعدُ: أيهُا الأخوةُ في الله : ها قد بدأنا نُحسُّ بنفثاتِ برْدِ الشتاء ، ونستنشقُ نسماتِ هوائِهِ اللاذعِ، وأَخذُ الأهبةِ لهذا الفصلِ من العامِ ، والاستعدادُ له بأنواعِ الملابسِ والمدافئ ، لَهو من بابِ الأخذِ بالأسبابِ ، التي هيأَها المولى سبحانَهُ لنا ، وأنعمَ بها علينا، ولقد امتنَّ سبحانه على عبادِهِ ، بأنْ خلقَ لهم من أصوافِ بهيمةِ الأنعامِ ، وأوبارِها وأشعارِها ما فيهِ دفءٌ لهم، فقال سبحانه (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ *وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) وروى ابنُ المباركِ عن صفوانَ بنِ عمروٍ عن سليمِ بنِ عامرٍ قالَ : كان عمرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنه إذا حضرَ الشتاءُ ، تعاهدَهم وكتبَ لهم الوصيةَ: [إن الشتاءَ قد حضرَ وهو عدوٌّ، فتأهبوا له أهبتَهُ من الصوفِ والخفافِ والجواربِ، واتخذوا الصوفَ شعارًا ودثارًا، فإن البردَ عدوٌ، سَريعٌ دُخولُهُ، بَعيدٌ خُروجُهُ] وإنما كانَ يكتبُ بذلكَ عُمرُ إلى أهلِ الشامِ ، لما فُتحتْ في زمنِهِ، فكان يَخشَى على مَنْ بِهَا مِن الصّحابةِ وغيرِهم ، ممن لم يكنْ له عهدٌ بالبردِ ، أن يتأذى ببردِ الشامِ ،وذلك من تمامِ نصيحتِهِ ، وحسنِ نظرِهِ وشفقتِهِ وحياطتِهِ لرعيتِهِ رضي اللهُ عنه. ، فحينما نأخذُ بالاستعدادِ لتهيئةِ بيوتِنا بالمدافئِ والملابسِ الشتويةِ ، وأجودِ أنواعِ الفُرُشِ ، فلا يغيبُ عن أذهانِنا أنَّ من جيرانِنا وأقاربِنا وإخوانِنا المسلمينَ ، مَن يجلسونَ جلستَهم العائليةَ بلا مدافئٍ ، وترتعدُ أجسادُهم في جُنحِ الليالي من شدةِ البردِ ، ويذهبُ أطفالُهم إلى مدارسِهم ، من غيرِ الكساءِ ، الذي يلبسُهُ أبناؤنا وإخوانُنا، فيخترقُ البردُ عظامَهم، وليس ذلك إلا من قلةِ ذاتِ اليدِ ، وقلةِ المحسنينَ الذين كانوا يتابعونَهم ويتعاهدُ ونَهم في رمضانَ ، ولمَّا انتهى رمضانُ غفلوا عنهم . وكأن الإحسانَ محصورٌ في رمضانَ فقط ، وكأن الصدقةَ لا تُقبلُ إلاَّ في رمضانَ ، بالرغمِ من كثرةِ المحتاجِ ، وكثرةِ المُوسرينَ ، الذين بإمكانِهم أن يتصدقوا بالليلِ والنهارِ ، من كثرةِ ما يجدونَ ، ونحنُ المسلمونَ كالجسدِ الواحدِ ؛ إذا اشتكى منه عضوٌ ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمى. هكذا قالَ المصطفى  في الحديثِ الذي رواه البخاريُ ومسلمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه أنَّه قال  {تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى } فأين نحنُ من هذا الحديثِ ، نحن نعيشُ الآنَ في نعمةٍ لا تُقدرُ بثمنٍ ، نلبسُ ونغيّرُ في كلِّ عامٍ، ونقتني كلَّ واقٍ يقينا من شدةِ البردِ ، فننامُ ملتحفينَ ، ونخرجُ إلى مساجدِنا مثلَ ذلك ، ويعيشُ بعضُنا وكأنه في وسطِ الصيفِ، وليسَ ذلك إلاَّ من نعمةِ الخالقِ سبحانه وبحمدهِ ، فلنحبَّ لإخوانِنا ما نُحِبُّهُ لأنفسِنا ،فإنَّ النبيَّ  قالَ كما في البخاري من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه {لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } فإذا مرتْ عليكَ ـ أيها المسلمُ ـ ليلةٌ شاتيةٌ ، وذقتَ فيها البردَ القارصَ ، ففررتَ إلى مكانٍ دافئٍ ، وغُصتَ بين أحضانِ فراشٍ وفيرٍ ، فاعلمْ حينَها ، أن هناك من يشاركُكَ الشعورَ بالبردِ ،في القُرى وفي الأحياء وفي كُلِّ منان ، وإخوةً لنا مُسلمين في العراء يفتَرِشُونَ الأرضَ ويَلتَحِفُونَ السماءَ ،حَربٌ وخَوفٌ ولؤواء ، وفَقرٌ وجوعٌ وشتاء ، كم من مُسلمٌ يَصرُخ ، ملايين المُسلمنَ الْمُهجَرين ،يعيشونَ في مُخيمات الموت ، حيثُ لا طعامَ ولا كهرباء ، ولا لباسَ أو غِطاءٍ أو دواء ، ويزدادُ العناء ، معَ المَطَرِ والشتاء ، فتأملوا أحوال الْمُسلمينَ في سوريا بالمُخيمات ، وفي بُرمل وفي مالي وفي كُلِّ مكان ، فلا تنسوا إخوانَكُم ، فهناك يموتُ العشراتُ من البرد ، والأموالُ متيسرةٌ عندَ الكثيرِ منا ، والثيابُ والألبسةُ الزائدةُ ، عندَ الكثيرِ منَّا لم تلبسْ، ولم تنفقْ للمحتاجينَ، بل هي أَسيرةٌ في الخزاناتِ وفي المستودعاتِ أو في سلاتِ المهملاتِ، وإخوانٌ لنا في أمسِّ الحاجةِ لها ،لكنها قد تعثّرَ وصولُها إلى أهلِها ،لقلةِ الاكتراثِ ، وضعفِ الإيمانِ ، فَقَدِّموا لأنفسِكم ما تجدوهُ عندَ اللهِ ذُخرا (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، قلت ما سمعتم، وأسأل الله أن يجعلني وإياكم من ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، وسلم تسليمًا كثيرا.أما بعد: فيا عبادَ اللهِ، أخرجَ الإمامُ أحمدُ رحمه اللهُ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدري رضي اللهُ عنه عن النبي قال: {الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ}.وزادَ البيهقي وغيره: {قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَ وَطَالَ لَيْلُهُ فَقَامَ} قال ابنُ رجبٍ رحمه الله في اللطائفِ: وإنما كان الشتاءُ ربيعَ المؤمنِ ، لأنه يرتعُ فيهِ في بساتينِ الطاعاتِ، ويسرحُ في ميادينِ العباداتِ، ويُنزِهُ قلبَهُ في رياضِ الأعمالِ الميسّرةِ فيهِ، كَمَا تَرتَعُ البهائمُ في المرعى الربيعِ، فتسمنُ وتُصلِحُ أجسادَها، فكذلك يصلحُ دينُ المؤمنِ في الشتاءِ ، بما يَسرَ اللهُ فيهِ من الطاعاتِ، فإن المؤمنَ يَقدِرُ في الشتاءِ ، على صيامِ نهارِهِ من غيرِ مَشقةٍ ولا كُلفةٍ ، وجاءَ في المسندِ والترمذي عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ الْجُمَحِىِّ أنَّ النبيَّ  قال: {الصَّوْمُ فِى الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ}، وكان أبو هريرةَ رضي اللهُ عنه يقول: ألا أدلُّكم على الغنيمةِ الباردةِ؟ قالوا: بلى، قالَ: الصيامُ في الشتاءِ.وأما قيامُ ليلِ الشتاءِ ، فلطولِهِ يمكنُ أن تأخذَ النَّفسُ حظَّها من النّومِ، ثم تقومُ بعدَ ذلك إلى الصلاةِ، فيقرأُ المصلي وردَهُ كلَّهُ من القرآنِ وقد أخذتْ نفسُهُ حظَّها من النومِ، فيجتمعُ له فيهِ نومُهُ المحتاجُ إليهِ ، مع إدراكِ وردِهِ من القرآنِ، فيكملُ له مصلحةُ دينِهِ وراحةُ بدنِهِ. وكان ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه يقولُ:[مرحبًا بالشتاءِ، تنزلُ فيه البركةُ، يطولُ فيه الليلُ للقيامِ، ويقصرُ فيهِ النهارُ للصيامِ] ومن كلامِ يحيى بنُ معاذٍ: "الليلُ طويلٌ فلا تقصرُهُ بمنامِكَ، والإسلامُ نقيٌ فلا تدنسُهُ بآثامِكَ"،عباد الله على الهادي البشيرِ ، والسراجِ المنيرِ ، كما أمرَكم بذلك اللطيفُ الخبيرُ ، فقال سبحانه قولاً كريما ( إِنَّ اللهَ وَملاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيْ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُواْ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) وقد قال عليه الصلاةُ والسلامُ { حيثما كنتم فصلوا عليَّ فإنَّ صلاتَكم تبلغني }وقال{ من صلى علي صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشراً } اللهم صلِّ وسلمْ وأنعمْ وأكرمْ وزدْ وباركْ ، على عبدِك ورسولِكَ محمدٍ ، وارضَ اللهم عن أصحابِهِ الأطهارِ ، ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ ، أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ ، وعن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين ، وعن التابعينَ وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ ، وعنَّا معَهم بمنِّكَ وفضلِكَ ورحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ .اللهم أعزَّ الإسلامَ المسلمينَ ، ودمرْ أعداءَ الدينِ من اليهودِ والنصارى ، وجميعِ الكفرةِ الملحدينَ ، اللّهُم يا عظيمَ العفوِ ، ويا وسعَ المغفرةِ ، ويا قريبَ الرّحمةِ ، ويا ذا الجلالِ والإكرامِ ، هبْ لنا العافيةَ ، في الدُنيا والآخرةِ ، اللّهُم اجعلْ رزقَنَا رغداً ، ولا تُشمتْ بنا أحداً ، اللهم إنا نسألُكَ ، بعزِّكَ الذي لا يرامُ ، وملكِكَ الذي لا يُضامُ ، وبنورِكَ الذي ملأ أركانَ عرشِكَ ، أن تكفيَنا شرَّ ما أهمَنا وما لا نهتمُ به ، وأن تعيذَنا من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا ، اللهم رَغّبْنا فيما يبقى ، وَزَهّدْنا فيما يفنى ، وهبْ لنا اليقينَ ، الذي لا تسكنْ النفوسُ إلا إليهِ ، ولا يُعوَّلُ في الدينِ إلا عليهِ ، اللهم اجعلْ بَلدَنا هذا آمناً مطمئناً ، وسائرَ بلادِ المسلمينَ ، اللهم أرحمْ موتانا ، وعافي مُبتلانا ، واقضِ الدينَ عن مدينِنا ، وردَّ ضالَنا إليكَ رداً جميلاً ، ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) ، عبادَ اللهِ ، ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )