الياس اسكندر
22-10-2013, 23:21
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى : من فضائل الشهادة
الْحَمْدُ للهِ حَمْدَاً كَثِيرَاً طَيِّبَاً مُبَارَكَاً فِيهِ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلالِ وَجْهِهِ وَلِعَظِيمِ سُلْطَانِهِ , وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ , وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الأَمَانَةَ وَنَصَحَ الأُمَّةَ وَكَشَفَ اللهُ بِهِ الْغُمَّةَ وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِين , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً إِلَى يَوْمِ الدِّين.أمّا بعد، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل : " ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربّهم يرزقون"
عباد الله ، إنّ منزلة الشهيد عند الله تعالى منزلة عظيمة ؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل". أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. فيا لها من أمنية كيف انبعثت من هذا القلب الطهور معبرة أبلغ التعبير عن هذا الحب العميق، والشوق الغامر إلى هذا الباب العظيم من أبواب جنات النعيم.
وإن للشهيد عند ربه ست خصال جاءت مبينة في حديث المقدام بن معد يكرب -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفقة - هي الدفعة من الدم وغيره- ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويُزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه". وفي لفظ: "من أهل بيته". أخرجه الترمذي وابن ماجه في سننهما بإسناد صحيح. فأيّ فضل أكبر من فضل الله عزّ وجلّ.
إخوة الإيمان، إنّ توالي الاغتيالات في صفوف السياسيين وحماة الوطن بتونسنا الغالية أمر يبعث على القلق والحيرة في صفوف عامّة الشعب، كيف لا ونحن مهدّدون في أمننا وأرواحنا ، رغم إيماننا الراسخ بأنّ
الأجل محتوم و الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يصيب، وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله جسده على النار، وأن الشهداء عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه وخطاياه وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه يأمن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لا يجد كرب الموت ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمسّ القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة، وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضل من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النار عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يومًا من أيامه، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبدًا لا ينقطع، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها أجمع، وأنه يؤمَن من فتنة القبر وعذابه وأن الله يكرمه يوم القيامة بحسن مآبه.
فإذا عُلم أن الأجل محتوم وله ساعة لا تستأخر ولا تستقدم فإنه لا حزن على الشهداء الذين -ولا شك- حانت ساعة وفاتهم، فاصطفى الله -عز وجل- لهم هذه الميتة الخالدة التي يجزل لهم فيها العطاء والمثوبة بدلاً من أن يموتوا على أسِرَّتهم، بل ماتوا شجعانًا في ميدان الوغى مقبلين غير مدبرين، مضحين بأنفسهم التي هي أغلى ما لدى الإنسان لأجل نصرة دين ربهم والذود عنه، وممّا يزيدنا ثقة بالمولى عزّ وجلّ وجزيل كرمه وعطائه أنّ الجنود الذين استشهدوا منذ أيّام في جبل الكرامة والذود عن الوطن..انتقلوا إلى الرفيق الأعلى وهم صائمون محتسبون ،إذ كانوا يحملون معهم زادهم وسحورهم، غير أنّ الله عزّ وجلّ اختارهم ضيوفا عنده ليكونوا على موائده الكريمة بعد دقائق من خروجهم في سبيل الله..
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة) [البخاري مع فتح الباري (6/11)].
الجنة تحت ظلالا السيوف
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، كتب إلى عمر بن عبيد الله حين خرج إلى الحروريَّين (فرقة من الخوارج): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس، فقال: (يا أيها الناس لا تمنَّو لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) [البخاري رقم 3024، فتح الباري (6/156) ومسلم (3/1362)].
وأي فضل أكبر من هذا الفضل ؟ يصول المجاهد ويجول في حومة الوغى وهو يعلم أنه يتجوَّل في عرصات الجنة تحت ظل سيفه وسيف عدوه، وما أن يسقط في هذه الأرض حتى يرى مقعده في الجنة وتظِله الملائكة .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يُخرجه إلا الإيمان بي وتصديق برسلي، أن أُرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خَلْف سريَّة، ولوددت أني أُقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أُقتل، ثم أحيا ثم أُقتل) [البخاري مع فتح الباري (1/92) ومسلم (3/1497)].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة) [البخاري رقم 2817، فتح الباري (6/32) ومسلم (3/1498)].
فالمجاهد – كما يظهر من حديث أبي هريرة – رابح على كل حال، انتصر على عدوه فعاد إلى بيته غانماً مأجوراً، أم استشهد فدخل الجنة، وهذه الأخيرة هي الكرامة التي ميَّز الله بها الشهيد حيث لا يتمنى أحد غيره أن يحييه الله فيقتل مراراً، لما رأى من الخير العظيم المترتب على الشهادة في سبيل الله.
وعن فضل الشهادة في سبيل الله تعالى ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأيَّامِ الْعَشْرِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ).
وعن عتبة بن عبد السُّلمي رضي الله عنه – وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القتلى ثلاثة: رجل مؤمن قاتل بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذلك الشهيد المفتخر) وفي رواية الممتحن [رجَّح هذه الرواية البنا في الفتح الرباني (13/32)] في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا، وجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، مُحيت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محَّاء الخطايا، وأُدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض. ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله في ظاهر أمره حتى يقتل، فإن ذلك في النار، السيف لا يمحوا النفاق) [أحمد (4/185)، قال البنا: وإسناده جيد، وانظر الجهاد لابن المبارك (1/30)].
كلّ هذه الفضائل وزيادة عند الله سبحانه وتعالى لمن استشهد في سبيله ، لكنّ ذلك لا ينبغي أن يلهينا عن واجب التعاون على حماية الوطن وتحصينه من الغادرين والمناوئين، ولعلّ من أوكد الواجبات علينا جميعا تعليم أبنائنا وبناتنا أصول الدين وحقيقته من وسطية واعتدال حث عليها الله عز وجلّ القائل في محكم التنزيل :(وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، كما أنّ من واجبنا جميعا نبذ الفرقة والتناحر من أجل السلطة أو المناصب لأنّ في ذلك إرهاقا لكاهل المجموعة الوطنيّة وإضعافا لجهود حماة الوطن.. فشتّان بين من يضحي من أجل الوطن بروحه وبين من يدافع عن مصالحه الضيقة، فالأولى بنا جميعا أن كون يدا واحدة في مقاومة أعداء الوطن وكشف نواياهم وذلك أضعف الإيمان ، لأنّ الكارثة توشك أن تحلّ بنا جميعا إذا تركنا العدوّ المتربّص بنا وانشغلنا في سفاسف الجدال العقيم والتناحر من أجل فتات الدنيا.
ولتعلموا عباد الله أنّنا مسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى لحماية وطننا من بغاة الفتنة سواء من جاهر بحرب المسلمين بلسانه أو من رفع في وجه الآمنين سلاحه..
نسأل الله العزيز القدير أن يتقبّل جميع شهدائنا في علّيين ويسكنهم فراديس الجنان مع الفائزين، ونحن بإذن الله تعالى سنقوم بصلاة الغائب على أرواح الشهداء عقب صلاة جمعة اليوم وهي تماما كصلاة الجنازة ، ذات أربع تكبيرات وبتسليمة واحدة ، وذلك أقلّ واجب تجاههم إذ لم نتمكّن من حضور مواكب دفن رفاتهم منذ أيّام والله الموفّق ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
الخطبة الأولى : من فضائل الشهادة
الْحَمْدُ للهِ حَمْدَاً كَثِيرَاً طَيِّبَاً مُبَارَكَاً فِيهِ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلالِ وَجْهِهِ وَلِعَظِيمِ سُلْطَانِهِ , وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ , وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الأَمَانَةَ وَنَصَحَ الأُمَّةَ وَكَشَفَ اللهُ بِهِ الْغُمَّةَ وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِين , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً إِلَى يَوْمِ الدِّين.أمّا بعد، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل : " ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربّهم يرزقون"
عباد الله ، إنّ منزلة الشهيد عند الله تعالى منزلة عظيمة ؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل". أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. فيا لها من أمنية كيف انبعثت من هذا القلب الطهور معبرة أبلغ التعبير عن هذا الحب العميق، والشوق الغامر إلى هذا الباب العظيم من أبواب جنات النعيم.
وإن للشهيد عند ربه ست خصال جاءت مبينة في حديث المقدام بن معد يكرب -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفقة - هي الدفعة من الدم وغيره- ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويُزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه". وفي لفظ: "من أهل بيته". أخرجه الترمذي وابن ماجه في سننهما بإسناد صحيح. فأيّ فضل أكبر من فضل الله عزّ وجلّ.
إخوة الإيمان، إنّ توالي الاغتيالات في صفوف السياسيين وحماة الوطن بتونسنا الغالية أمر يبعث على القلق والحيرة في صفوف عامّة الشعب، كيف لا ونحن مهدّدون في أمننا وأرواحنا ، رغم إيماننا الراسخ بأنّ
الأجل محتوم و الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يصيب، وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله جسده على النار، وأن الشهداء عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه وخطاياه وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه يأمن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لا يجد كرب الموت ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمسّ القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة، وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضل من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النار عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يومًا من أيامه، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبدًا لا ينقطع، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها أجمع، وأنه يؤمَن من فتنة القبر وعذابه وأن الله يكرمه يوم القيامة بحسن مآبه.
فإذا عُلم أن الأجل محتوم وله ساعة لا تستأخر ولا تستقدم فإنه لا حزن على الشهداء الذين -ولا شك- حانت ساعة وفاتهم، فاصطفى الله -عز وجل- لهم هذه الميتة الخالدة التي يجزل لهم فيها العطاء والمثوبة بدلاً من أن يموتوا على أسِرَّتهم، بل ماتوا شجعانًا في ميدان الوغى مقبلين غير مدبرين، مضحين بأنفسهم التي هي أغلى ما لدى الإنسان لأجل نصرة دين ربهم والذود عنه، وممّا يزيدنا ثقة بالمولى عزّ وجلّ وجزيل كرمه وعطائه أنّ الجنود الذين استشهدوا منذ أيّام في جبل الكرامة والذود عن الوطن..انتقلوا إلى الرفيق الأعلى وهم صائمون محتسبون ،إذ كانوا يحملون معهم زادهم وسحورهم، غير أنّ الله عزّ وجلّ اختارهم ضيوفا عنده ليكونوا على موائده الكريمة بعد دقائق من خروجهم في سبيل الله..
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة) [البخاري مع فتح الباري (6/11)].
الجنة تحت ظلالا السيوف
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، كتب إلى عمر بن عبيد الله حين خرج إلى الحروريَّين (فرقة من الخوارج): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس، فقال: (يا أيها الناس لا تمنَّو لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) [البخاري رقم 3024، فتح الباري (6/156) ومسلم (3/1362)].
وأي فضل أكبر من هذا الفضل ؟ يصول المجاهد ويجول في حومة الوغى وهو يعلم أنه يتجوَّل في عرصات الجنة تحت ظل سيفه وسيف عدوه، وما أن يسقط في هذه الأرض حتى يرى مقعده في الجنة وتظِله الملائكة .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يُخرجه إلا الإيمان بي وتصديق برسلي، أن أُرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خَلْف سريَّة، ولوددت أني أُقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أُقتل، ثم أحيا ثم أُقتل) [البخاري مع فتح الباري (1/92) ومسلم (3/1497)].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة) [البخاري رقم 2817، فتح الباري (6/32) ومسلم (3/1498)].
فالمجاهد – كما يظهر من حديث أبي هريرة – رابح على كل حال، انتصر على عدوه فعاد إلى بيته غانماً مأجوراً، أم استشهد فدخل الجنة، وهذه الأخيرة هي الكرامة التي ميَّز الله بها الشهيد حيث لا يتمنى أحد غيره أن يحييه الله فيقتل مراراً، لما رأى من الخير العظيم المترتب على الشهادة في سبيل الله.
وعن فضل الشهادة في سبيل الله تعالى ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأيَّامِ الْعَشْرِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ).
وعن عتبة بن عبد السُّلمي رضي الله عنه – وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القتلى ثلاثة: رجل مؤمن قاتل بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذلك الشهيد المفتخر) وفي رواية الممتحن [رجَّح هذه الرواية البنا في الفتح الرباني (13/32)] في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا، وجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، مُحيت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محَّاء الخطايا، وأُدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض. ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله في ظاهر أمره حتى يقتل، فإن ذلك في النار، السيف لا يمحوا النفاق) [أحمد (4/185)، قال البنا: وإسناده جيد، وانظر الجهاد لابن المبارك (1/30)].
كلّ هذه الفضائل وزيادة عند الله سبحانه وتعالى لمن استشهد في سبيله ، لكنّ ذلك لا ينبغي أن يلهينا عن واجب التعاون على حماية الوطن وتحصينه من الغادرين والمناوئين، ولعلّ من أوكد الواجبات علينا جميعا تعليم أبنائنا وبناتنا أصول الدين وحقيقته من وسطية واعتدال حث عليها الله عز وجلّ القائل في محكم التنزيل :(وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، كما أنّ من واجبنا جميعا نبذ الفرقة والتناحر من أجل السلطة أو المناصب لأنّ في ذلك إرهاقا لكاهل المجموعة الوطنيّة وإضعافا لجهود حماة الوطن.. فشتّان بين من يضحي من أجل الوطن بروحه وبين من يدافع عن مصالحه الضيقة، فالأولى بنا جميعا أن كون يدا واحدة في مقاومة أعداء الوطن وكشف نواياهم وذلك أضعف الإيمان ، لأنّ الكارثة توشك أن تحلّ بنا جميعا إذا تركنا العدوّ المتربّص بنا وانشغلنا في سفاسف الجدال العقيم والتناحر من أجل فتات الدنيا.
ولتعلموا عباد الله أنّنا مسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى لحماية وطننا من بغاة الفتنة سواء من جاهر بحرب المسلمين بلسانه أو من رفع في وجه الآمنين سلاحه..
نسأل الله العزيز القدير أن يتقبّل جميع شهدائنا في علّيين ويسكنهم فراديس الجنان مع الفائزين، ونحن بإذن الله تعالى سنقوم بصلاة الغائب على أرواح الشهداء عقب صلاة جمعة اليوم وهي تماما كصلاة الجنازة ، ذات أربع تكبيرات وبتسليمة واحدة ، وذلك أقلّ واجب تجاههم إذ لم نتمكّن من حضور مواكب دفن رفاتهم منذ أيّام والله الموفّق ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.