الياس اسكندر
08-09-2013, 13:29
الْخُطْبَةُ الأُولَى : فَضْلُ الْعِلْمِ وِالْعُلَمَاءِ
الحمدُ للهِ الَّذِي أَعْلَى مَرَاتبَ العلماءِ وجعلَهُمْ ورثةَ الأنبياءِ، وأشهدُ أنْ لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شريكَ لهُ ، الملكُ العليمُ الخبيرُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنَا محمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ البشيرُ النَّذِيرُ أمرَهُ مولاهُ بطلبِ الزِّيادةِ مِنَ العلمِ فقالَ تعالَى :(وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَى سيدِنَا محمدٍ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، ومَنْ تبِعَهُمْ بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ .
أمَّا بعدُ: فأوصيكُمْ عبادَ اللهِ ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالَى وطاعته، يقولُ الحقُّ عزَّ وجلّfile:///C:\Users\FUJITSU\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\clip_image001.gif :(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
أيُّها المسلمونَ: لقَدِ اهتمَ الإسلامُ بالعلمِ اهتمامًا بالغًا، لأنهُ سبيلُ معرفةِ اللهِ تعالَى وتوحيدِهِ وعبوديتِهِ، ولأنَّ العلمَ أساسُ نَهضةِ الأممِ وتقدمِهَا وحضارتِهَا ، وهُوَ سببُ سعادةِ المرءِ فِي الدنيَا والآخرةِ، وليسَ غريبًا أنْ تنْزلَ أولُ آيةٍ مِنْ كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ تدعُو إلَى العلمِ والمعرفةِ وتنوِّهُ بقيمةِ القراءةِ، لأنَّهَا أعظمُ وسائلِ اكتسابِ العلمِ فقدْ قالَ تعالَى في محكم التنزيل:( اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )
ولقدْ أقسمَ اللهُ سبحانَهُ بالقلمِ ومَا يسطرُهُ، فقالَ عزّ وجلّ :( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ )وحثَّنَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم علَى طلبِ العلمِ؛ وجعلَهُ طريقاً إلَى الجنَّةِ فقالَ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»
ألاَ فهنيئًا لأهلِ العلمِ هذهِ الوِراثةُ .
وقدْ بيَّنَ القرآنُ الكريمُ مكانةَ العلماءِ ومنْزلتَهُمْ، قالَ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وجعلَ اللهُ تعالَى هذِهِ الدَّرجةَ لَهُمْ دونَ غيرِهِمْ فقالَ عزَّ وجلَّ ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ ).
ولذَا يُنْزِلُ اللهُ تعالَى العلماءَ بعدَ ذاتِهِ العليَّةِ وملائكتِهِ فِي أعظمِ شهادِةِ وأقدسِهَا، قالَ سبحانهُ (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) وناهيكَ بِهذا شرفاً وفضلاً ونبلاً ، وهنيئاً للعلماءِ هذِهِ الشهادةُ العظيمةُ، وهنيئاً لَهُمْ شهادةُ اللهِ بأنَّهمْ أشدُّ النَّاسِ خشيةً لهُ، قالَ تعالَى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ )
عبادَ اللهِ: هَا هوَ الحبيبُ المصطفَى صلى الله عليه وسلم يصوِّرُ مكانةَ العلمِ والعلماءِ فيقولُ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» ويقدِّمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم العلماءَ فِي إمامةِ المسلمينَ بأعظمِ أركانِ الدِّينِ وهذا التَّقديمُ يدلُّ علَى عُلوِّ شأنِهِمْ، ورفعةِ قدرِهمْ، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :« يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ»
وجعلَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم العلمَ النَّافعَ دائمَ الثَّوابِ مستمرَ الأجرِ ولوْ بعدَ موتِ صاحبِهِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ : إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
وأخبرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ اللهَ إذَا أرادَ بعبدٍ خيراً رزقَهُ العلمَ النَّافعَ فقالَ صلى الله عليه وسلم:« مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ»
إنَّ هذهِ الآياتِ والأحاديثَ تدفعُنَا وتحفِّزُ هممَنَا لطلبِ العلمِ النَّافعِ
لنَا ولأبنائِنَا كمَا كانَ أجدادُنَا مِنَ العلماءِ السَّابقِينَ الَّذينَ كانَ لهمُ
السَّبقُ فِي كلِّ ميادينِ العلمِ والمعرفةِ فِي شتَّى العلومِ، فكانَ منهمُ الإمامُ مالكُ بنُ أنسٍ، والشَّافعيُّ وأبُو حنيفةَ ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، والبخاريُّ ومسلمٌ فِي علومِ الشريعةِ، وابنُ سينَا وابنُ النَّفِيسِ فِي الطبِّ، والخوارزميُّ وجابرُ بنُ حيَّانَ فِي الرياضياتِ، ومئاتُ العلماءِ الَّذينَ برعُوا فِي كلِّ العلومِ، وملأُوا أطباقَ الأرضِ نوراً وعلماً نفعَ اللهُ بهِ النَّاسَ أجمعينَ، فيَا أبناءَنَا ارفعُوا رؤوسَكُم فخرًا واعتزازاًً بأجدادِكُمْ ، وكونُوا مثلَهُمْ، فإنَّ التَّشبهَ بالعلماءِ فلاحٌ.
عبادَ اللهِ : لئنْ كانَتْ هذهِ درجةُ العلمِ والعلماءِ فحريٌّ بنَا أنْ نُجلَّهُمْ ونعرفَ قدرَهُمْ ومنْزلتَهُمْ، يقولُ سيدُ العلماءِ وإمامُ الأنبياءِ صلى الله عليه وسلم:« لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرَفْ لِعَالِمِنَا حقَّهُ »
وإنَّ مِنْ حقِّ العلماءِ علينَا احترامَهُمْ والتواضعَ لهمْ ولينَ القولِ والجانبِ لهمْ، وكذلكَ أهلُ العلمِ منْ أئمةَ وخطباءَ ووعاظٍ .
عباد الله ، إنّ لعلمائنا علينا حقَّان حينما يقع بعضُ السُّفهاء في أعراضهم: حقُّ الأخوَّة الإيمانية وحقُّ العلم، فلنتثبَّتْ فيما يُقال عنهم أو يُنسب إليهم من فَتاوى مُستغربة، خصوصًا الأموات؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
علينا أن نردَّ عن أعرضهم كلٌّ بحسبه وعلى قدر وسعه في الوسائل المتاحة المباحة؛ فعن أبي الدرداء عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((من ردَّ عن عرض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة))؛ رواه الترمذي (1931)، وقال: هذا حديث حسن.
علينا أن نتذكَّرَ أن هذه سُنَّة الله في العلماء الصادقين، فينبغي أن تزيدَنا هذه الحملات مَحبةً لهم ورجوعًا إليهم.
شرفُ العالم وفضله مَتّصل بنيته الصالحة وعمله، لا بكثرة تحصيله؛ ففي حديث أبي هريرة في أوَّل الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه: ((َرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ))؛ رواه مسلم (1905).
فحين كان قَصْدُ هذا المتعلم العُلوَّ والرِّفْعَة بين الناس، كان من أول من تُسعَّرُ به النار، ولم يَشفع له ما عنده من علم، وربُّنا ذم اليهود حينما لم يعملوا بما عندهم من علم؛ {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]، قال القرطبي في المُفْهِم (6/686):" العالمُ لو ترك شيئًا من الواجبات لكان مَذمومًا، ولم يَستحقَّ اسم العالم"، وإنّ من أوكد واجباته : نشر العلم والفضيلة والسعي لإصلاح المجتمع .
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إن الله لا يَنزعُ العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا، ولكن يَنتزعُه منهم مع قَبضِ العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جُهَّال يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ برأيهم، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ))؛ رواه البخاريُّ (7307)، واللفظ له، ومسلم (2673).
فيتعيَّنُ علينا مَعرفة من نستفتي حينما نحتاجُ إلى فتوى، فنستفتي من إذا أفتى، قال: "قال الله"، "قال رسوله"، "قال الصحابة"، نستفتي من عُرِف عنه طلبُ العلم على العلماء الذين جمعوا فنون العلم، نستفتي من لم يُعرفْ عنه التقصير في الواجبات أو الوقوع في الكبائر، نستفتي من يَعملُ بما يَعلمُ، نستفتي من عُرِفَ عنه الثبات وسلوك طريقِ العلماء العاملين، نستفتي من لا يتأثرُ بالواقع من لا يتأثرُ برياح التغيير التي تمرُّ بها الأمة، نستفتي من لا يكون همُّه حين الفتوى ردَّة فِعل الناس، نستفتي من لا يتطلع لجاهٍ يَحصلُ عليه مُقابل عِلمه، نستفتي عالم مِلَّة.
حذار أيّها الإخوة ، من علماء السلطان الذين يسعون لإرضاء الطغاة والظلمة ويفتون ابتغاء مرضاة الحكّام وأشباههم .
نسأل المولى سبحانه وتعالى أن يرفَعْ مكانةَ مَنْ أجلَّ العلماءَ واحترمَهُمْ وعرفَ حقَّهُمْ وأَكْرِمْهُ فِي الدَّاريْنِ يَا ربَّ العالمينَ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم .
الحمدُ للهِ الَّذِي أَعْلَى مَرَاتبَ العلماءِ وجعلَهُمْ ورثةَ الأنبياءِ، وأشهدُ أنْ لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شريكَ لهُ ، الملكُ العليمُ الخبيرُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنَا محمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ البشيرُ النَّذِيرُ أمرَهُ مولاهُ بطلبِ الزِّيادةِ مِنَ العلمِ فقالَ تعالَى :(وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَى سيدِنَا محمدٍ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، ومَنْ تبِعَهُمْ بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ .
أمَّا بعدُ: فأوصيكُمْ عبادَ اللهِ ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالَى وطاعته، يقولُ الحقُّ عزَّ وجلّfile:///C:\Users\FUJITSU\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\clip_image001.gif :(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
أيُّها المسلمونَ: لقَدِ اهتمَ الإسلامُ بالعلمِ اهتمامًا بالغًا، لأنهُ سبيلُ معرفةِ اللهِ تعالَى وتوحيدِهِ وعبوديتِهِ، ولأنَّ العلمَ أساسُ نَهضةِ الأممِ وتقدمِهَا وحضارتِهَا ، وهُوَ سببُ سعادةِ المرءِ فِي الدنيَا والآخرةِ، وليسَ غريبًا أنْ تنْزلَ أولُ آيةٍ مِنْ كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ تدعُو إلَى العلمِ والمعرفةِ وتنوِّهُ بقيمةِ القراءةِ، لأنَّهَا أعظمُ وسائلِ اكتسابِ العلمِ فقدْ قالَ تعالَى في محكم التنزيل:( اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )
ولقدْ أقسمَ اللهُ سبحانَهُ بالقلمِ ومَا يسطرُهُ، فقالَ عزّ وجلّ :( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ )وحثَّنَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم علَى طلبِ العلمِ؛ وجعلَهُ طريقاً إلَى الجنَّةِ فقالَ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»
ألاَ فهنيئًا لأهلِ العلمِ هذهِ الوِراثةُ .
وقدْ بيَّنَ القرآنُ الكريمُ مكانةَ العلماءِ ومنْزلتَهُمْ، قالَ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وجعلَ اللهُ تعالَى هذِهِ الدَّرجةَ لَهُمْ دونَ غيرِهِمْ فقالَ عزَّ وجلَّ ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ ).
ولذَا يُنْزِلُ اللهُ تعالَى العلماءَ بعدَ ذاتِهِ العليَّةِ وملائكتِهِ فِي أعظمِ شهادِةِ وأقدسِهَا، قالَ سبحانهُ (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) وناهيكَ بِهذا شرفاً وفضلاً ونبلاً ، وهنيئاً للعلماءِ هذِهِ الشهادةُ العظيمةُ، وهنيئاً لَهُمْ شهادةُ اللهِ بأنَّهمْ أشدُّ النَّاسِ خشيةً لهُ، قالَ تعالَى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ )
عبادَ اللهِ: هَا هوَ الحبيبُ المصطفَى صلى الله عليه وسلم يصوِّرُ مكانةَ العلمِ والعلماءِ فيقولُ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» ويقدِّمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم العلماءَ فِي إمامةِ المسلمينَ بأعظمِ أركانِ الدِّينِ وهذا التَّقديمُ يدلُّ علَى عُلوِّ شأنِهِمْ، ورفعةِ قدرِهمْ، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :« يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ»
وجعلَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم العلمَ النَّافعَ دائمَ الثَّوابِ مستمرَ الأجرِ ولوْ بعدَ موتِ صاحبِهِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ : إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
وأخبرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ اللهَ إذَا أرادَ بعبدٍ خيراً رزقَهُ العلمَ النَّافعَ فقالَ صلى الله عليه وسلم:« مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ»
إنَّ هذهِ الآياتِ والأحاديثَ تدفعُنَا وتحفِّزُ هممَنَا لطلبِ العلمِ النَّافعِ
لنَا ولأبنائِنَا كمَا كانَ أجدادُنَا مِنَ العلماءِ السَّابقِينَ الَّذينَ كانَ لهمُ
السَّبقُ فِي كلِّ ميادينِ العلمِ والمعرفةِ فِي شتَّى العلومِ، فكانَ منهمُ الإمامُ مالكُ بنُ أنسٍ، والشَّافعيُّ وأبُو حنيفةَ ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، والبخاريُّ ومسلمٌ فِي علومِ الشريعةِ، وابنُ سينَا وابنُ النَّفِيسِ فِي الطبِّ، والخوارزميُّ وجابرُ بنُ حيَّانَ فِي الرياضياتِ، ومئاتُ العلماءِ الَّذينَ برعُوا فِي كلِّ العلومِ، وملأُوا أطباقَ الأرضِ نوراً وعلماً نفعَ اللهُ بهِ النَّاسَ أجمعينَ، فيَا أبناءَنَا ارفعُوا رؤوسَكُم فخرًا واعتزازاًً بأجدادِكُمْ ، وكونُوا مثلَهُمْ، فإنَّ التَّشبهَ بالعلماءِ فلاحٌ.
عبادَ اللهِ : لئنْ كانَتْ هذهِ درجةُ العلمِ والعلماءِ فحريٌّ بنَا أنْ نُجلَّهُمْ ونعرفَ قدرَهُمْ ومنْزلتَهُمْ، يقولُ سيدُ العلماءِ وإمامُ الأنبياءِ صلى الله عليه وسلم:« لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرَفْ لِعَالِمِنَا حقَّهُ »
وإنَّ مِنْ حقِّ العلماءِ علينَا احترامَهُمْ والتواضعَ لهمْ ولينَ القولِ والجانبِ لهمْ، وكذلكَ أهلُ العلمِ منْ أئمةَ وخطباءَ ووعاظٍ .
عباد الله ، إنّ لعلمائنا علينا حقَّان حينما يقع بعضُ السُّفهاء في أعراضهم: حقُّ الأخوَّة الإيمانية وحقُّ العلم، فلنتثبَّتْ فيما يُقال عنهم أو يُنسب إليهم من فَتاوى مُستغربة، خصوصًا الأموات؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
علينا أن نردَّ عن أعرضهم كلٌّ بحسبه وعلى قدر وسعه في الوسائل المتاحة المباحة؛ فعن أبي الدرداء عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((من ردَّ عن عرض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة))؛ رواه الترمذي (1931)، وقال: هذا حديث حسن.
علينا أن نتذكَّرَ أن هذه سُنَّة الله في العلماء الصادقين، فينبغي أن تزيدَنا هذه الحملات مَحبةً لهم ورجوعًا إليهم.
شرفُ العالم وفضله مَتّصل بنيته الصالحة وعمله، لا بكثرة تحصيله؛ ففي حديث أبي هريرة في أوَّل الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه: ((َرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ))؛ رواه مسلم (1905).
فحين كان قَصْدُ هذا المتعلم العُلوَّ والرِّفْعَة بين الناس، كان من أول من تُسعَّرُ به النار، ولم يَشفع له ما عنده من علم، وربُّنا ذم اليهود حينما لم يعملوا بما عندهم من علم؛ {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]، قال القرطبي في المُفْهِم (6/686):" العالمُ لو ترك شيئًا من الواجبات لكان مَذمومًا، ولم يَستحقَّ اسم العالم"، وإنّ من أوكد واجباته : نشر العلم والفضيلة والسعي لإصلاح المجتمع .
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إن الله لا يَنزعُ العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا، ولكن يَنتزعُه منهم مع قَبضِ العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جُهَّال يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ برأيهم، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ))؛ رواه البخاريُّ (7307)، واللفظ له، ومسلم (2673).
فيتعيَّنُ علينا مَعرفة من نستفتي حينما نحتاجُ إلى فتوى، فنستفتي من إذا أفتى، قال: "قال الله"، "قال رسوله"، "قال الصحابة"، نستفتي من عُرِف عنه طلبُ العلم على العلماء الذين جمعوا فنون العلم، نستفتي من لم يُعرفْ عنه التقصير في الواجبات أو الوقوع في الكبائر، نستفتي من يَعملُ بما يَعلمُ، نستفتي من عُرِفَ عنه الثبات وسلوك طريقِ العلماء العاملين، نستفتي من لا يتأثرُ بالواقع من لا يتأثرُ برياح التغيير التي تمرُّ بها الأمة، نستفتي من لا يكون همُّه حين الفتوى ردَّة فِعل الناس، نستفتي من لا يتطلع لجاهٍ يَحصلُ عليه مُقابل عِلمه، نستفتي عالم مِلَّة.
حذار أيّها الإخوة ، من علماء السلطان الذين يسعون لإرضاء الطغاة والظلمة ويفتون ابتغاء مرضاة الحكّام وأشباههم .
نسأل المولى سبحانه وتعالى أن يرفَعْ مكانةَ مَنْ أجلَّ العلماءَ واحترمَهُمْ وعرفَ حقَّهُمْ وأَكْرِمْهُ فِي الدَّاريْنِ يَا ربَّ العالمينَ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم .