محمدالمهوس
26-05-2011, 21:34
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد له الذي عرّف أولياءه غوائلَ الدنيا وآفاتَها ، وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها . وأشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم ، ينقل عبادَه من دار الغرور إلى ظلمة القبور ، ثم إمّا إلى جنّات حيث القصور والسرور ، وإمّا إلى نار تلظى وتفور ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ، المرسلُ إلى العالمين بشيراً ونذيراً ، وسراجاً منيراً صلى الله عليه وعلى من كان من أهله وأصحابه له في الدين ظهيراً وسلم تسليما كثيراً .
أيها الناس / أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله خيرُ زاد يقرّب إلى رضوان الله تعالى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) {سورة آل عمران : 102 }
عباد الله / في هذه الدنيا مصائبُ وأحزان ورزايا ومحن وهموم وبلايا، آلامٌ تضيق بها النفوس، ومزعجاتٌ تورث الخوف والجزع ، فكم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوامٍ يشكو علة وسقماً، أو حاجة وفقراً، وكم ترى من متبرمٍ من زوجه وولده، لوامٍ لأهله وعشيرته.
ترى من كسدت تجارته وبارت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه .
تلك هي الدنيا، والله يقول : (( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ... )) {سورة يونس 24}
حكـمُ المنيةِ في البرية جاري *** ما هذه الدنيا بدار قرارِ
بينا يرى الإنسان فيها مُخبراً ***حتى يُرى خبراً من الأخبارِ
جُبِلَتْ على كَدَرٍ وأنت تُريدَها *** صَفْواً من الأقذاء والأكدارِ
ومُكلّف الأيامِ ضِدَّ طِباعِها *** مُتطلّبٌ في الماء جَذْوةَ نارِ
عباد الله / حلالُ هذه الدنيا حساب، وحرامها عقاب، ومصيرها إلى الخراب، ولا يركن إليها إلا من فقد الرشد والصواب،فلماذا الحزن فيها ونحن نعلم أن الحزنَ لا يردُّ مفقوداً ، ولا يبعث ميتاً ، ولا يردُّ قدراً ، ولا يجلب نفعاً بل.يزعج من الماضي ، ويخوف من المستقبل ويذهب على المرء يومه , يقبض له القلب ، ويعبس له الوجه وتنطفي منه الروح ، ويتلاشى معه الأمل , ويسرُّ العدو ، ويغيظ الصديق ، ويضيّق الطريق ، ويغيِّر على المرء الحقائق ، وهو مخاصمةٌ للقضاء ، وخروج على الأنس ونقمة على النعمة ،
((لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ماأصابكم والله خبير بماتعملون )) { آل عمران153}
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه : كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أسمعه كثيراً يقول : (( اللهُم إني أعوذ بك منَ الهَم والْحَزَنِ ، والعَجْزِ والكَسلِ ، والبُخْلِ والجُبْنِ , وَضَلَعِ الديْن ، وَغَلَبةِ الرجالِ )) {متفق عليه }
فيا أخي الحبيب ... لماذا الحزن ؟ فإن كنت فقيراً فغيرك محبوس في دَيْن ، وإن كنت لا تملك وسيلةَ نقلٍ فسواك مبتور القدمين ، وإن كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون على الأسرة البيضاء ، وإن فقدت ولداً فسواك فقد عدداً من الأولاد في حادث واحد .
قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((عَجَبًا لأَمْرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ ليسَ ذلكَ لأَحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ)) {رواهُ مُسْلِمٌ}
أخي الحبيب : إنْ أذنبتَ فتُب ، وإن أسأت فاستغفر ، وإن أخطأت فأصلح ، فالرحمة واسعة ، والباب مفتوح ، والتوبة مقبولة ومحبوبة .
ولربَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى *** ذرعاً وعند الله منها المخرَجُ
ضاقت فلما استحكمت حِلَقَاتُها *** فُرِجَت وكان يظنُّها لا تُفْرَجُ
فإذا وقعت المصيبة وحلّت النكبة وجثمت الكارثة ، فقل يا الله ، وإذا بارت الحيل وضاقت السبل وانتهت الآمال وتقطعت الحبال وضاقت عليك الأرض بما رحُبت وضاقت عليك نفسك بما حَمَلت ، فقل يا الله.
(( وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ )) { سورة غافر:60 }
ولقد ذكرتُك والخطوبُ كوالـِحُ *** سود ووجه الدهر أغبرُ قاتمُ
فهتفت في الأسحار باسمك صارخاً **** فإذا محيا كلُّ فجر باسم
أخي الحبيب : إذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، اليوم فحسب ستعيش ، فلا أمس الذي ذهب بخيره وشره ، ولا الغد الذي لم يأت إلى الآن ، اليوم الذي أظلتك شمسُه ، وأدركك نهاره هو يومك فحسب ، عمرك يوم واحد ، فاجعل في خَلدك العيش لهذا اليوم وكأنك ولدت فيه وتموت فيه حينها لا تتعثر حياتك بين هاجس الماضي وهمّه وغمّه ، وبين توقع المستقبل وشبحه المخيف وزحفه المرعب ، لليوم فقط اصرف تركيزَك واهتمامك وإبداعك وكدك وجدك ، فلهذا اليوم لابد أن تقدمَ صلاةً خاشعة وتلاوة بتدبر ،وذكراً بحضور ، وزرعاً لخير ، وإسداء لجميل ، واستغفاراً من ذنب ، واتزاناً في الأمور ، وحسناً في خلق ، ورضاً بالمقسوم ، ونفعاً للآخرين ((يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار)) { سورة غافر : 39 }
لليوم الذي أنت فيه ، تذكر فيه الرب ،وجدد التوبة , وتهيأ للرحيل ، وكن بين فرح وسرور ، وأمن وسكينة ، ترضى فيه برزقك ، بزوجتك ، بأطفالك بوظيفتك ، ببيتك ، بعلمك ، بمستواك ((فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ )) { سورة الأعراف :144 } تعيش هذا اليوم بلا حزن ولا انزعاج ، ولا سخط ولا حقد ، ولا حسد. ((أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )) {سورة يونس: 62-64}
أخي الحبيب : لا تستبق الأحداث ، ولا تقطف الثمرة قبل النّضج ،وربك يقول(( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)){سورة النحل : 1} فغداً مفقود لا حقيقة له ، ليس له وجود ، ولاطعم ، ولا لون ، فلماذا نشغل أنفسنا به ، ونتوجّس من مصائبه ، ونهتم لحوادثه ، نتوقع كوارثـَه ، ولا ندري هل يحال بيننا وبينه ، أو نلقاه ، فإذا هو سرور وحبور ((قل لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)) { سورة التوبة : 51 } ، ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
أخي الحبيب : يقول نبينا صلى الله عليه وسلم :((وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ )) { رواه البخاري } فلا يصيبُك قلق من مرض أو موت ابن ، أو خسارة مالية ، أو احتراق بيت ، فإن الباري قد قدّر والقضاء قد حلّ ، والاختيار هكذا ، والخيرة لله، والأجر حصل ، والذنب كفر ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول : ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ )) { رواه مسلم }
فليهدا بالـَك – أخي الحبيب - إذا فعلت الأسباب ، وبذلت الحيل ، ثم وقع ما كنت تحذر ، لا تظن أنه كان بوسعك إيقافُ الجدار أن ينهارَ ، وحبْس الماء أن ينسكب ، ومنع الريح أن تهب..! على رغمي ورغمك ، سوف يقع المقدور ، وينفذ القضاء ، ويحل المتكوب ((فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ )) { سورة المائدة : 120 } اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والبخل والجبن ، وضَلَع الدَّين ، وغلبة الرجال . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب إته هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله جعل لكل شيءٍ قَدراً، وأحاط بكل شيءٍ خبراً، أحمده سبحانه وأشكره، فنعمه علينا تتْرى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيّنا محمداً عبدُه ورسوله خُصّ بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد أخي الحبيب : بالأمس جرّبت الحزن فما نفعك شيئاً ، رسب ابنُك فحزنت ، فهل نجح؟! مات والدك فحزنت فهل عاد حياً؟ خسرت تجارتك فحزنت ، فهل عادت الخسائر أرباحاً؟ فالحزن لن ينفع معه الدارُ الواسعة ، ولا الزوجة الحسناء ، ولا المال الوفير ، ولا المنصب السام ، ولا الأولاد النّجباء .
تحزن يا أخي ولك دِيِنٌ تعتقده ، وبيت تسكنه ، وخبز تأكله ، وماء تشربه ، وثوب تلبسه ، وزوجة تأوي إليها .. ! تحزنُ وعندك العينان والأذنان والشفتان واليدان والرجلان واللسان ، والجنان والأمن والأمان والعافية في الأبدان.
أتى رجل لأحد الصالحين يشكو قلّة اليد وشدّةَ الحاجة ، فقال له : هل عندك زوجه ؟ قال : نعم ، فقال له : وهل عندك بيت تأوي إليه ؟ قال : نعم ، فقال : أنت أمير من الأمراء ، فقال الرجل : وعندي خادم أيضاً ، فقال له : أنت إذاً مَلِك من الملوك .
أخي الحبيب : أوصيك ونفسي بالإيمان مع العمل الصالح والله تعالى قال ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) {سورة النحل : 97} فالمؤمن العامل للصالحات يعيش في حياة طيبة و سعادة هنيئة و أمره كله خيراً إذا أصابته الضراء و المصائب و البلاء صبر فكان خيراً له و إذا أصابته السراء و الرخاء شكر فكان خيراً له ... إذا نزل به المرض تراه صابراً لا يتضجر و لا يتبرم يعلم أنه من الله بل و يعلم أن هذا المرض إنما أنزله الله عليه ليُكفّر ذنوبه و يمحو سيئاته و يزيل خطيئاته ، يعي تماماً ما علمه نبيّه محمدٌ صلى الله عليه وسلم القائل : (( إنّ الله إذا أرادَ بِعبْدٍ خَيْراً عجَّلَ لهُ الْعُقوبةَ في الدّنيا و إذا أراد بِعبْدٍ شَرّاً أَمْسَكَ عَنْهُ حَتّى يُوافَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذَنْبِهِ))صححه الألباني في السلسلة الصحيحة .
ويعي تماماً مارواه البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ قَالَ : (( إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ يُرِيدُ عَيْنَيْهِ ))
فاتقوا الله رحمكم الله واصبروا، واثبتوا، وأمِّلوا، ولا تطغينَّكم الصحةُ والثّراء، والعزة والرخاء، ولا تضعفنَّكم الأحداثُ والشدائد ففرّج الله آتٍ ورحمتُه قريبٌ من المحسنين.
اللهم إنا نعوذ بك من جَهْدِ البلاء، ودَرَك الشقاء، وسُوء القضاء، وشماتة الأعداء، ونسألك خشيتُك في الغيب والشهادة، وكلمةُ الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى. وأحسن اللهم عاقبتَنا في الأمور كلِّها، وأجرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .
ألا وصلّوا وسلموا -عباد الله- على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلّم ...
الخطبة الأولى
الحمد له الذي عرّف أولياءه غوائلَ الدنيا وآفاتَها ، وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها . وأشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم ، ينقل عبادَه من دار الغرور إلى ظلمة القبور ، ثم إمّا إلى جنّات حيث القصور والسرور ، وإمّا إلى نار تلظى وتفور ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ، المرسلُ إلى العالمين بشيراً ونذيراً ، وسراجاً منيراً صلى الله عليه وعلى من كان من أهله وأصحابه له في الدين ظهيراً وسلم تسليما كثيراً .
أيها الناس / أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله خيرُ زاد يقرّب إلى رضوان الله تعالى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) {سورة آل عمران : 102 }
عباد الله / في هذه الدنيا مصائبُ وأحزان ورزايا ومحن وهموم وبلايا، آلامٌ تضيق بها النفوس، ومزعجاتٌ تورث الخوف والجزع ، فكم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوامٍ يشكو علة وسقماً، أو حاجة وفقراً، وكم ترى من متبرمٍ من زوجه وولده، لوامٍ لأهله وعشيرته.
ترى من كسدت تجارته وبارت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه .
تلك هي الدنيا، والله يقول : (( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ... )) {سورة يونس 24}
حكـمُ المنيةِ في البرية جاري *** ما هذه الدنيا بدار قرارِ
بينا يرى الإنسان فيها مُخبراً ***حتى يُرى خبراً من الأخبارِ
جُبِلَتْ على كَدَرٍ وأنت تُريدَها *** صَفْواً من الأقذاء والأكدارِ
ومُكلّف الأيامِ ضِدَّ طِباعِها *** مُتطلّبٌ في الماء جَذْوةَ نارِ
عباد الله / حلالُ هذه الدنيا حساب، وحرامها عقاب، ومصيرها إلى الخراب، ولا يركن إليها إلا من فقد الرشد والصواب،فلماذا الحزن فيها ونحن نعلم أن الحزنَ لا يردُّ مفقوداً ، ولا يبعث ميتاً ، ولا يردُّ قدراً ، ولا يجلب نفعاً بل.يزعج من الماضي ، ويخوف من المستقبل ويذهب على المرء يومه , يقبض له القلب ، ويعبس له الوجه وتنطفي منه الروح ، ويتلاشى معه الأمل , ويسرُّ العدو ، ويغيظ الصديق ، ويضيّق الطريق ، ويغيِّر على المرء الحقائق ، وهو مخاصمةٌ للقضاء ، وخروج على الأنس ونقمة على النعمة ،
((لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ماأصابكم والله خبير بماتعملون )) { آل عمران153}
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه : كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أسمعه كثيراً يقول : (( اللهُم إني أعوذ بك منَ الهَم والْحَزَنِ ، والعَجْزِ والكَسلِ ، والبُخْلِ والجُبْنِ , وَضَلَعِ الديْن ، وَغَلَبةِ الرجالِ )) {متفق عليه }
فيا أخي الحبيب ... لماذا الحزن ؟ فإن كنت فقيراً فغيرك محبوس في دَيْن ، وإن كنت لا تملك وسيلةَ نقلٍ فسواك مبتور القدمين ، وإن كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون على الأسرة البيضاء ، وإن فقدت ولداً فسواك فقد عدداً من الأولاد في حادث واحد .
قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((عَجَبًا لأَمْرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ ليسَ ذلكَ لأَحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ)) {رواهُ مُسْلِمٌ}
أخي الحبيب : إنْ أذنبتَ فتُب ، وإن أسأت فاستغفر ، وإن أخطأت فأصلح ، فالرحمة واسعة ، والباب مفتوح ، والتوبة مقبولة ومحبوبة .
ولربَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى *** ذرعاً وعند الله منها المخرَجُ
ضاقت فلما استحكمت حِلَقَاتُها *** فُرِجَت وكان يظنُّها لا تُفْرَجُ
فإذا وقعت المصيبة وحلّت النكبة وجثمت الكارثة ، فقل يا الله ، وإذا بارت الحيل وضاقت السبل وانتهت الآمال وتقطعت الحبال وضاقت عليك الأرض بما رحُبت وضاقت عليك نفسك بما حَمَلت ، فقل يا الله.
(( وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ )) { سورة غافر:60 }
ولقد ذكرتُك والخطوبُ كوالـِحُ *** سود ووجه الدهر أغبرُ قاتمُ
فهتفت في الأسحار باسمك صارخاً **** فإذا محيا كلُّ فجر باسم
أخي الحبيب : إذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، اليوم فحسب ستعيش ، فلا أمس الذي ذهب بخيره وشره ، ولا الغد الذي لم يأت إلى الآن ، اليوم الذي أظلتك شمسُه ، وأدركك نهاره هو يومك فحسب ، عمرك يوم واحد ، فاجعل في خَلدك العيش لهذا اليوم وكأنك ولدت فيه وتموت فيه حينها لا تتعثر حياتك بين هاجس الماضي وهمّه وغمّه ، وبين توقع المستقبل وشبحه المخيف وزحفه المرعب ، لليوم فقط اصرف تركيزَك واهتمامك وإبداعك وكدك وجدك ، فلهذا اليوم لابد أن تقدمَ صلاةً خاشعة وتلاوة بتدبر ،وذكراً بحضور ، وزرعاً لخير ، وإسداء لجميل ، واستغفاراً من ذنب ، واتزاناً في الأمور ، وحسناً في خلق ، ورضاً بالمقسوم ، ونفعاً للآخرين ((يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار)) { سورة غافر : 39 }
لليوم الذي أنت فيه ، تذكر فيه الرب ،وجدد التوبة , وتهيأ للرحيل ، وكن بين فرح وسرور ، وأمن وسكينة ، ترضى فيه برزقك ، بزوجتك ، بأطفالك بوظيفتك ، ببيتك ، بعلمك ، بمستواك ((فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ )) { سورة الأعراف :144 } تعيش هذا اليوم بلا حزن ولا انزعاج ، ولا سخط ولا حقد ، ولا حسد. ((أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )) {سورة يونس: 62-64}
أخي الحبيب : لا تستبق الأحداث ، ولا تقطف الثمرة قبل النّضج ،وربك يقول(( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)){سورة النحل : 1} فغداً مفقود لا حقيقة له ، ليس له وجود ، ولاطعم ، ولا لون ، فلماذا نشغل أنفسنا به ، ونتوجّس من مصائبه ، ونهتم لحوادثه ، نتوقع كوارثـَه ، ولا ندري هل يحال بيننا وبينه ، أو نلقاه ، فإذا هو سرور وحبور ((قل لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)) { سورة التوبة : 51 } ، ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
أخي الحبيب : يقول نبينا صلى الله عليه وسلم :((وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ )) { رواه البخاري } فلا يصيبُك قلق من مرض أو موت ابن ، أو خسارة مالية ، أو احتراق بيت ، فإن الباري قد قدّر والقضاء قد حلّ ، والاختيار هكذا ، والخيرة لله، والأجر حصل ، والذنب كفر ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول : ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ )) { رواه مسلم }
فليهدا بالـَك – أخي الحبيب - إذا فعلت الأسباب ، وبذلت الحيل ، ثم وقع ما كنت تحذر ، لا تظن أنه كان بوسعك إيقافُ الجدار أن ينهارَ ، وحبْس الماء أن ينسكب ، ومنع الريح أن تهب..! على رغمي ورغمك ، سوف يقع المقدور ، وينفذ القضاء ، ويحل المتكوب ((فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ )) { سورة المائدة : 120 } اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والبخل والجبن ، وضَلَع الدَّين ، وغلبة الرجال . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب إته هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله جعل لكل شيءٍ قَدراً، وأحاط بكل شيءٍ خبراً، أحمده سبحانه وأشكره، فنعمه علينا تتْرى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيّنا محمداً عبدُه ورسوله خُصّ بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد أخي الحبيب : بالأمس جرّبت الحزن فما نفعك شيئاً ، رسب ابنُك فحزنت ، فهل نجح؟! مات والدك فحزنت فهل عاد حياً؟ خسرت تجارتك فحزنت ، فهل عادت الخسائر أرباحاً؟ فالحزن لن ينفع معه الدارُ الواسعة ، ولا الزوجة الحسناء ، ولا المال الوفير ، ولا المنصب السام ، ولا الأولاد النّجباء .
تحزن يا أخي ولك دِيِنٌ تعتقده ، وبيت تسكنه ، وخبز تأكله ، وماء تشربه ، وثوب تلبسه ، وزوجة تأوي إليها .. ! تحزنُ وعندك العينان والأذنان والشفتان واليدان والرجلان واللسان ، والجنان والأمن والأمان والعافية في الأبدان.
أتى رجل لأحد الصالحين يشكو قلّة اليد وشدّةَ الحاجة ، فقال له : هل عندك زوجه ؟ قال : نعم ، فقال له : وهل عندك بيت تأوي إليه ؟ قال : نعم ، فقال : أنت أمير من الأمراء ، فقال الرجل : وعندي خادم أيضاً ، فقال له : أنت إذاً مَلِك من الملوك .
أخي الحبيب : أوصيك ونفسي بالإيمان مع العمل الصالح والله تعالى قال ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) {سورة النحل : 97} فالمؤمن العامل للصالحات يعيش في حياة طيبة و سعادة هنيئة و أمره كله خيراً إذا أصابته الضراء و المصائب و البلاء صبر فكان خيراً له و إذا أصابته السراء و الرخاء شكر فكان خيراً له ... إذا نزل به المرض تراه صابراً لا يتضجر و لا يتبرم يعلم أنه من الله بل و يعلم أن هذا المرض إنما أنزله الله عليه ليُكفّر ذنوبه و يمحو سيئاته و يزيل خطيئاته ، يعي تماماً ما علمه نبيّه محمدٌ صلى الله عليه وسلم القائل : (( إنّ الله إذا أرادَ بِعبْدٍ خَيْراً عجَّلَ لهُ الْعُقوبةَ في الدّنيا و إذا أراد بِعبْدٍ شَرّاً أَمْسَكَ عَنْهُ حَتّى يُوافَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذَنْبِهِ))صححه الألباني في السلسلة الصحيحة .
ويعي تماماً مارواه البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ قَالَ : (( إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ يُرِيدُ عَيْنَيْهِ ))
فاتقوا الله رحمكم الله واصبروا، واثبتوا، وأمِّلوا، ولا تطغينَّكم الصحةُ والثّراء، والعزة والرخاء، ولا تضعفنَّكم الأحداثُ والشدائد ففرّج الله آتٍ ورحمتُه قريبٌ من المحسنين.
اللهم إنا نعوذ بك من جَهْدِ البلاء، ودَرَك الشقاء، وسُوء القضاء، وشماتة الأعداء، ونسألك خشيتُك في الغيب والشهادة، وكلمةُ الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى. وأحسن اللهم عاقبتَنا في الأمور كلِّها، وأجرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .
ألا وصلّوا وسلموا -عباد الله- على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلّم ...