اسامه الدندشي
11-01-2011, 01:17
وهم في اسمه فصيره "خالد بن جبلة".وقال عن الحرب: "وقع بين رجل من العرب كان ملكه يخطيانوس على عرب وقد تحدث الطبري عن الحرب التي وقعت بين المنذر بن النعمان ملك الحيرة، والحارث بن جبلة، الا انه الشام، يقال له خالد بن جبلة، وبين رجل من لخم، كان ملكه كسرى على ما بين عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز ومن فيها من العرب، يقال له المنذر بن النعمان نائرة، فأغار خالد بن جبلة على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، وغنم أموالا من أمواله، فشكا المنذر إلى كسرى، وسأله الكتاب إلى ملك الروم في انصافه من خالد، فكتب كسرى إلى يخطيانوس، الا انه لم يحفل بكتاباته فغزا كسرى بلاده، وتوغل فيها واضطر يخطيانوس" عندئذ إلى عقد صلح معه، والى ارضائه.
ويرى "نولدكه" أيضا إن هذا الحارث هو الحارث الذي ذكر عنه المؤرخ ملالا انه أخمد ثورة السامربين الذين ثاروا في فلسطين في سنة "529".
وقد ورد في تأريخ "بروكوبيوس" "Procopius" إن المنذر ملك العرب "سركينوى" "Sarakynou" الذين كانوا في مملكة الفرس، لما أكثر من الغارات على حدود انبراطورية الروم، وعجز قواد الروم من أرباب لقب " Duxi" "Duce" "Dux" وسادات القباب من أرباب لقب "فيلارخ" "Phylarchus" المحالفين للروم عن صده والوقوف أمامه، رأى القيصر"يسطانوس""Justinianus" ان يمنح الحارث بن جبلة الذي كان يحكم عرب العربية "Arabia" لقب "ملك" ليقف بوجه "المنذر" "Alamoundaros". وقد ذكر إن هذا اللقب لم يمنح لأحد من قبل.ولكن المنذر لم يرعو مع ذلك عن غزو الحدود الشرقية لبلاد الشام والعبث بها مدة طويلة من الزمن. وقد ذهب "نولدكه" إلى أن هذه الحوادث كانت في سنة "529م".
وقد بلغ المنذر في هجومه على بلاد الشام أسوار "انطاكية"، ولكنه تراجع بسرعة حينما سمع بمجيء قوات كبيرة من قوات الروم، تراجع بسرعة أعجزت الروم عن اللحاق به. ويشك نولدكه في رواية بروكوبيوس بشأن منح الحارث لقب ملك، ذلك لأن لقب ملك كان خاصا بقياصرة الروم، فلا يمنح لغيرهم.
ويلاحظ أن بعض كتبة اليونان أطلقوا أيضا لقب ملك على الأمراء العرب، مثل "ماوية"، فقد لقبت ب "ملكة". ولم يستعملوا كلمة "فيلارخوس" "Phylarkos" "Phylarque" "Phylarcos" التي تعني العامل أو سيد قبيلة. وأما الكتبة السريان، فقد لقبوا رؤساء القبائل العربية بلقب "ملك" في بعض الأحيان على نحو ما نجده في الشعر العربي. ولكن نولدكه يرى أن هذا الاستعمال لا يمكن أن يكون سندا لاثبات أن الروم أطلقوا لقب ملك على الحارث أو على خلفائه رسميا، لأن الوثائق الرسمية لم تطلق هذا اللقب عليهم.
والذي صح اطلاقه من الألقاب على أمراء الغساسنة " وثبت وجوده في الوثائق الرسمية، هو لقب "بطريق" "Patricius"، ولقب "عامل" أو سيد قبيلة "فيلارخوس" "Phylarchus" "Phylarkos" "Phylarcos" مقرونا بنعت من النعوت التابعة له، أو مجردا منه، كالذي جاء عن المنذر الذي حكم بعد الحارث بن جبلة البطريق الفائق المديح، ورئيس القبيلة "فلارخوس المنذر"، و "المنذر البطريق الفائق المديح"، وما ورد عن الحارث "الحارث البطريق ورئيس القبيلة".
ولقب "البطريق" من ألقاب الشرف الفخمة عند الروم، ولذلك فلم يكن يمنح إلا لعدد قليل من الخاصة، ولصاحبه امتيازات ومنزلة في الدولة حتى ان بعض الملوك كانوا يحبذون الحصول على هذا اللقب من القيصر. وقد منح القيصر "يسطنيانوس" "Justinianus" "الحارث" هذا اللقب، وكذلك لقب "فيلارخ" فكان بذلك أول رجل من الغساسنة يمنح هذين اللقبين اللذين انتقلا منه إلى أبنائه فيما بعد.
ويلاحظ إن نص أبرهة الذي ذكر في جملة ما ذكره إن الحارث بن جبلة أرسل رسولا عنه إلى مدينة مأرب ليهنئه بترميمه سد مأرب، لم يدون كلمة "ملك" مع اسم الحارث، ولكن ذكر "ورسل حرثم بن جبلت"، أي: "ورسول الحارث بن جبلة". فلم يلقبه بلقب "ملك"، ويدل عدم اطلاق أبرهة لقب ملك على الحارث على انه اتبع الأصول الدبلوماسية المقررة عند البيزنطيين وان لقب ملك لم يكن لقبا رسميا له مقررا دوليا. وقد كان وصول رسول الحارث أو رسله في سنة "542م".
ويتبين من رواية المؤرخين بروكوبيوس وملالا إن الحارث بن جبلة كان قد اشترك في المعركة التي نشبت بين الفرس والروم في 19 نيسان سنة "531م"، وانتهت باندحار الروم، وكان قائدهم "بليزاريوس". وذكر إن الفرس أسروا رجلا اسمه "عمرو" "Amros"، وكان حائزا على درجة "قائد" "Dux". وقد أثار تصرف الحارث في الحرب التي نشبت في سنة "541م" بين الفرس والروم، شك الروم في إخلاصه لهم، والحذر منه، اذ ما كان يعبر هذا الأمير نهر دجلة مع القائد بليزاريوس حتى بدا له فرجع إلى مواضعه بعد أن سلك طريقا آخر غير الطريق الذي اتبعه معظم الجيش دون أن يقوم بعمل يذكر في هذه الحرب. وهذا مما حمل الروم على الشك في صداقته لهم، وجعلهم في يحذرون منه ويراقبون حركاته، خوفا من انقلابه عليهم وإلحاقه الأذى بهم واتفاقه سرا مع الفرس.
وقد عاد النزاع فتجدد بين الحارث والمنذر حوالي سنة "544م"، وانتهى بسقوط ملك الحيرة قتيلا في معركة حدثت في سنة "554م"، على مقربة من "قنسرين" بالقرب من الحيار. وهذه المعركة هي معركة يوم حليمة على رأي نولدكه. ويظهر أن المنذر كان قد هاجم بلاد الشام، وتوغل فيها حتى وصل إلى حدود قنسرين، فصرع هناك. حدث ذلك في السنة السابعة والعشرين من حكم "يوسطنيانوس" "Justinianus "على رواية ابن العبري.
وقد كان سبب اختلاف الحارث مع المنذر، تنازعهما على ارض يطلق الروم عليها اسم "Strata" جنوب تدمر، تمر بها الطرق البرية الموصلة إلى بلاد الشام وهي من الطرق العسكرية المهمة ومرعى مهم للاعراب، يرعى فيها أعراب العراق وأعراب بلاد الشام. وقد ألف "جستنيان" لجنة تحكيم، لم تتمكن من فض النزاع. وقد اتهم الفرس أعداءهم الروم بأنهم يريدون الاتصال سرا بالمنذر ورشوته لتحريضه على القيام على الفرس.
وقد ذكر ابن العبري في أثناء كلامه على هذه الحرب أن "برحيرت"، "Bar-Herath" أي "ابن الحارث" سقط قتيلا في الحرب. وكان قد ذكر قبل كلمات إن المنذر بن النعمان، لما هاجم منطقة "Rhomaye" وتوغل فيها، نازله "الحارث بن جبلة" "Herath bar Gebala" بهجوم مقابل، فهزمه وقتله في قنسرين. ثم ذكر إن ابن الحارث سقط قتيلا في هذا الموضع. ويعرف هذا الولد باسم جبلة.
ونجد في شعر "حسان بن ثابت" إشارة الى "زمين حليمة" أي زمن حليمة. كما نجد في الأمثال "ما يوم حليمة بسر"، دلالة على شهرة ذلك اليوم.
و كان الحارث من أنصار "المنوفستيين" "'Monophysites"، أي القائلين بوجود طبيعة واحدة في المسيح، ويقال انه سعى لدى الانبراطورة "ثيودورة" في تعيين "يعقوب البرادعي" ورفيقه "ثيودورس"، أسقفين للمقاطعات السورية العربية. فنجح في مسعاه هذا في سنة "542 - 543م"، وبذلك وطد هذا المذهب في بلاده.
ونسب المؤرخ السرياني "ميخائيل الكبير" إلى الحارث محاورة جرت بينه وبين البطريق "افرام" "526 - 545م" في السريانية أو اليونانية في طبيعة المسيح وفي مذهبه القائل بوجود طبيعة واحدة فيه. وهو مذهب "يعقوب البرادعي" المتوفي سنة "578م". وقد"صيغت الحكاية بأسلوب يفهم منه انه تغلب بأدب ولطف على خصمه البطريق.
ولمعارضة مذهب اليعاقبة أتباع يعقوب البرادعي لمذهب الكنيسة الرسمي للانبراطورية عد الروم هذا المذهب من المذاهب المنشقة المعارضة فقاوموه وناضلوا أصحابه ولا سيما في أيام القيصر يوسطنيانوس، باعتباره مذهبا من المذاهب المناهضة لسياسة الملوك والدولة، كمعارضة الأحزاب السياسية في الزمن الحاضر، الا إن الحارث سعى جهد امكانه في تخفيف حدة غضب الحكومة على رجال هذا المذهب، ومن التقريب ما أمكن بين آراء رجال الكنيستين. ولجهود الحارث ومسعاه في حماية هذا المذهب، فضل كبير ولاشك في بقائه، وفي انتشاره بين السريان وعرب الشام.
وقد زار الحارث القسطنطينية في تشرين الثاني من سنة "563م"، فاستقبل استقبالا حافلا. وأثر أثرا عميقا في نفوس أهل العاصمة وفي رجال القصر والحاشية، ويقال إن رجال البلاط كانوا يخوفون القيصر "يوسطينوس" "Justinius" بعد خرفه بالحارث، فكان يهدأ ويسكت روعه حين سماعه اسمه. والظاهر إن الغاية التي من أجلها ذهب الحارث إلى القسطنطينية هي مفاوضة رجال الحكم فيمن سيخلفه على عرشه بعد وفاته من أولاده، وفي السياسة التي يجب سلوكها تجاه عمرو ملك الحيرة.
والى هذا الحارث قصد امرؤ القيس الكندي الشاعر، ليوصله إلى القيصر يشكو له ظلامته، ويطلب منه مساعدته في استرجاع حقه واخذه بالثأر حسب رواية الأخباريين. واليه تنسب أيضا قصة مطالبة السموأل بن عاديا باعادة دروع امرئ القيس التي أودعها لديه في القصة الشهيرة التي يحكيها الأخباريون في معرض كلامهم على امرئ القيس وقصة السموأل والوفاء. وهناك جماعة من الأخباريين ترى إن الحارث الذي طالب بتسليم دروع امرئ القيس إليه، هو شخص آخر اسمه الحارث بن ظالم. ولكنها لم تذكر الصلة التي كانت بين الحارث بن ظالم وامرئ القيس، وحملته على المطالبة بتلك الدروع.
وقد ذكر "الجمحى" أن "الحارث بن أبي شمر الغساني" هو الذي طلب إلى "السموأل بن عادياء" أن يدفع إليه سلاح "امرىء القيس" الذي استودعه عنده، فأبى السموأل أن يسلمه إليه. وقد ذكر "أبو زبيد الطائي" أنه زاره ونعته بأنه "الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام". وقد كان "أبو زبيد" هذا "من زوار الملوك، ولملوك العجم خاصة. وكان عالما بسيرها ".
وقد تعرض "ابن قتيبة" لموضوع "امرى القيس"، فقال: "وكان امرؤ القيس في زمان أنو شروان ملك العجم، لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأكبر، والحارث هو قاتل المنذر بن امرئ القيس الذي نصبه أنو شروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنو شروان وبين مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، أربعين سنة".
وذكر أيضا إن "الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأكبر، لما بلغه ما خلف امرؤ القيس عند السموأل، بعث إليه رجلا من اهل بيته يقال له "الحارث بن مالك" وأمره إن يأخذ منه سلاح امرئ القيس وودائعه فلما انتهى إلى حصن السموأل أغلقه دونه، وكان للسموأل ابن خارج الحصن يتصيد فأخذه الحارث، وقال للسموأل: إن انت دفعت إلي السلاح وإلا قتلته، فأبى إن يدقع إليه ذلك. وقال له: اقتل أسيرك، فإني لا ادفع اليك شيئا، فقتله، وضربت العرب المثل بالسموأل في الوفاء".
وذكر الأخباريون أن الحارث الأعرج - وهو في روايتهم هذه الحارث بن أبي شمر الغساني - غزا قبيلة تغلب، وكان السبب الذي حمله على هذا الغزو مروره بجماعات منها لم تهتم به كما كان يجب إن يكون. وقد نصحه الشاعر "عمرو بن كلثوم"-على حد قولهم- بعدم غزوهم، واعتذر عنهم إليه. ولكنه لم يأخذ بنصيحته، فلما تقابل معهم، انهزم مع قومه من غسان، وقتل منهم عدد كثير كان في جملتهم أحد إخوة الحارث.
ويظن بعض الباحثين إن الحارث هو الذي أمر ببناء كنيسة الرصافة الكبرى لا الملك يوسنيانوس، ذلك. لأن المؤرخ "بروكوبيوس" لم يشر في أثناء كلامه على هذا القيصر الى أي أثر له في هذه المدينة،على حين أشار إلى تسوير الحارث لها والى احترامه العظيم للقديس "سرجيوس" المدفون بها، وهو قديس له منزلة كبرى في نفوس نصارى عرب الشام.
وينسب إلى الحارث اصلاح ذات البين فيما بين قبائل طيء، وكانت متخاصمة متحارية، فلما هلك عادت إلى حربها،ووقع بينها يوم اليحاميم حيث دارت الدائرة فيه على جديلة من طيء، ويعرف أيضا بقارات حوق.
ومن الأمراء العرب الذين عاصروا الحارث بن جبلة، أمير اسمه "أبو كرب ابن جبلة"، لعله شقيق الحارث. وقد ورد اسمه في نص "أبرهة"، حيث كان "أبو كرب" قد أرسل إليه رسولا لتهنئته بترميمه سد مأرب. والأمير "قيس" "Kaisus" وكان عاملا على "فلسطين الثالثة" في حوالي سنة 530م. والأسود، ويظهر انه كان قد تحارب مع الحارث.
وعثر في احدى الكتابات في حران على اسم أمير يدعى "شرجيل بن ظالم" يرى نولدكه انه أمير كندي، لأن هذين الاسمين من الأسماء الشائعة في كنده ويرجع تأريخ هذه الكتابة المدونة باليونانية والعربية إلى حوالي سنة "568م". وقد دونت عند تدشين هذا العامل بناء اقامه للقديس يوحنا المعمدان، فيكون "شراحيل" شرحيل اذن من المعاصرين للحارث بن جبلة. ويستنتج نولدكه من ذلك إن عددا من المشايخ ظلوا يتمتعون بسلطانهم حتى بعد تألق نجم آل غسان. ويرى إن ذلك مما يوافق سياسة الروم الذين لم يكن من مصلحتهم ظهور أمير واحد قوي وإنما كان من مصلحتهم وجود جملة امراء متنافسين، ليتمكنوا بذلك من السيطرة عليهم جميعا بضرب بعضهم ببعض.
وقد دعي الأمير المذكور ب "Asaraelus" ودعي أبوه به "Talemus" وكان يحكم "اللجاة"، فيظهر من ذلك إن إمارات كانت تنافس، امارة الغساسنة في هذا العهد.
وقد توفي الحارث في سنة "569م" او "570م" على رأي نولدكه، استنتج ذلك من ورود اسمه في الوثائق الكنسية التي يعود تأريخها إلى سنتي "568 و 569"، والى ربيع سنة "570م" حيث حل اسم ابنه المنذر في محله، فاستدل من هذا التغيير على أنه توفي في هذا الزمن.
وقد حكم "المنذر" من سنة "569 - 0 57م" حتى سنة "1 58م"، على تقدير بعض الباحثين.
وقد عرف المنذر ب "Alamoundaros" "Alamundaros" عند اليونان والسريان وقد استهل حكمه بالحرب مع ملك الحيرة قابوس. والظاهر إن عرب الحيرة كانوا هم البادئين بها، فانتصر عليهم في يوم 20 أيار "مايس" من سنة 570م.
ثم انتصر عليهم في معركة أخرى فيما بعد. ويرى نولدكه إن المعركة الأولى هي عين أباغ.
والمنذر هو أبو كرب الذي ذكر اسمه في نص سرياني عثر عليه في احدى ضواحي تدمر، وهو نص ديني ورد فيه اسم الأسقفين يعقوب وثيودور، وهما: يعقوب البرادعي وصاحبه.
لقد حدث سوء تفاهم بين القيصر "يسطينوس". "Justinus" وبين المنذر تطور حتى صار قطيعة. ولما أحس المنذر بأن القصر قد دبر له مؤامرة، وأنه أمر عامله البطريق "مرقيانوس" "Marcianus" بأن يحتال عليه ليقتله، تمرد على الروم، وغادر أرضهم إلى البادية. فانتهز عرب الحيرة هذه الفرصة المؤاتية فأمعنوا في غزو بلاد الشام، وايقاع الرعب في نفوس سكان القرى المجاورة لهذه الحدود مما حمل الروم على مراسلة المنذر والتودد إليه لاسترضائه، حتى إذا ما تلطف الجو أرسلوا إليه البطريق "يوسطنيانوس" ليجتمع به في مدينة الرصافة عند قبر القديس "سرجيوس" لاقناعه بترك موقفه والموافقة على العودة إلى محله. وعند القبر المقدس عقد الصلح بينهما في صيف سنة "578م". فعاد المنذر إلى أرضه، ليقوم بالدفاع عن حدود الشام.
وقد أشار ابن العبري إلى هذا الحادث، فذكر أن العرب "طياية" كانوا منقسمين إلى جماعتين: جماعة المنذر بن الحارث "منذر برحيرت" Mundar bar Herath، وكان نصرانيا وكذلك كان جنوده وجماعة قابوس، فهاجم قابوس وجنوده العرب النصارى، وقصد بذلك الغساسنة، واستاق ما وجده أمامه من ماشية، ثم قفل إلى بلاده. فلما رأى المنذر ما حدث، جمع جيشا هجم به على قابوس، فتغلب عليه، ورجع بغنائم عديدة وعدد كبير من الابل. وعاد قابوس فهاجم المنذر، غير أنه مني بهزيمة ثانية اضطرته إلى طلب النجدة من الفرس. فأخبر القيصر بسطينوس بذلك،، وطلب منه امداده بالمال لبؤلف به جيشا يقف أمام الفرس، فاستاء القيصر منه، وقرر التخلص منه بقتله، لظنه أنه كان السبب في غزو الفرس ل "Rhomaye" وكتب إلى عامله مرقيانوس وكان معسكرا يومئذ في منطقة "نصيبين" "Nisibis" أن يتربص بالمنذر فيقبض عليه، ويقطع رأسه. وقد أخطأ كاتب الرسالة،فأرسل الرسالة الخاصة بالبطريق مرقيانوس إلى المنذر،وأرسل الرسالة الخاصة بالمنذر إلى البطريق. فلما قرأ المنذر الكتاب وعرف بما أراد القيصر أن يفعله به،غضب غضبا شديدا،وتصالح مع قابوس،وصارا يهاجمان بلاد الشام.فظن يسطينوس إن مرقيانوس قد خانه،وانه أخبر المنذر بالمؤامرة، فأمر بالقبض عليه، وحبسه ولما صار "طبياريوس" "Tiberius" قيصرا، ذهب المنذر إلى القسطنطينية، فلامه القيصر على ما صنع، ولكنه قدره واحترمه كثيرا حينما أراه رسالة يسطينوس التي أراد توجيهها إلى عامله لاغتيال المنذر، وأنعم عليه بهدايا كثيرة، وألطاف سنية، ثم عاد مكرما إلى مركزه السابق.
لقد قام المنذر بالزيارة المذكورة للقسطنطينية في اليوم الثامن من شباط سنة580 م مصطحبا معه ابنين فن أبنائه. فلما بلغها، استقبل بكل احترام وتبجبل، وأنعم القيصر " طيباريوس" "Tiberius" عليه بلقب "Rex" وبالتاج وهو لقب كان له شأن كبير في امبراطورية الروم. ويرى نولدكه إن الروم لم يمنحوا عمالهم العرب على بلاد الشام من قبل الا "الاكليل"، ودرجته دون درجة "التاج". وقد أغدق القيصر عليه بالهدايا. الثمينة النفيسة ومن بينها مصوغات من ذهب وفضة، مما لم ينعم. على أي ملك عربي من قبل. كما أنعم على ولديه بدرجات عسكرية.
وكان المنذر مثل والده من القائلين بمذهب "الطبيعة الواحدة" والمدافعين عنه، ولذلك انتهز فرصة وجوده في القسطنطينية، فسعى في اقناع رجال القصر بالتسامح مع رجال مذهبه والصفح عنهم. ويظهر انه عقد هناك مجمعا في اليوم الثاني من شهر آذار سنة "585م" لمعاضدة هذا المذهب والدفاع عنه،كما اتصل بالبطاركة للتوفيق بين رجال الكنيستين، غير انه خابت مساعيه بالرغم من اظهار البطاركة رغبتهم في ذلك وعدم ممانعتهم فيه.
وقد ذكر إن المنذر بنى صهاريج لايصال الماء إلى الرصافة مدينة القديس "سرجيوس" ذي المكانة العظيمة عند عرب الشام. وظهر من كتابة عثر عليها في أنقاض كنيسة في الرصافة إن المنذر بنى أو جدد بناء تلك الكنيسة. وأما بناؤها فهو على الطراز البيزنطي.
ولم تمنع قدسية مدينة الرصافة الأعراب، ولا سيما أعراب العراق من التحرش بها، فغزتها مرارا، وأخذت قبيله تغلب صورة القديس بعد عودتها من غزو المدينة، وهدم أهل الحيرة صهاريج المدينة مرارا، ولحمايتها من الهجمات أحاطها القيصر "يوسطنيانوس" بسور قوي، بدلا من سورها القديم.
وذكر إن المنذر لما كان في القسطنطينية طلب من البيزنطيين مساعدته في بناء قصر يكون أعظم قصر غساني بني حتى أيامه، وذلك بأن يرسلوا إليه أحسن المعمارين والبنائين الحاذقين. فلبى الييزنطيون طلبه فأمدوه بما يحتاج إليه من معمارين ومن مواد بناء. ومن أبنيته الخربة المعروفة اليوم بناء يعرف باسم "البرج". وقد عثر على اسمه مدونا على حجارة من ذلك البناء. ولما حاول الروم غزو حدود الفرس في سنة "585م"، وجدوا الجسر المنصوب على نهر الفرات مهدما، فاضطروا إلى التراجع وترك الغزو. وكان المنذر معهم في هذه الحملة، فذهبوا إلى إن المنذر كان على اتفاق سري مع الفرس، وانه هو الذي اوعز بهدم الجسر، ليكتب للحملة الاخفاق، وقرروا القبض عليه والايقاع به، انتقاما منه.للخيبة التي منوا بها. ولما عاد المنذر فغزا أرض الحيرة بنفسه فيما بعد ملحقا بالمدينة أذى كثيرا، جاعلا اياها طعمة للنيران، اتفذ الروم هذه الغزوة دليلا" على تحدي المنذر لهم، ورغبته في الخروج على طاعتهم،فقرروا الانتقام منه بقتله،فأصدروا إلى حاكم بلاد الشام "ماكنوس" Magnus" صديق المنذر أمرا سريا بالعمل على قتله. وصادف إن الروم كانوا قد انتهوا من بناء كنيسة في "حوارين"، وقد عزم "ماكنوس" على تدشينها، فكتب يدعو صديقه إلى الاحتفال بذلك. فلما كان على مقرية منه، قبض عليه وأرسله مخفورا إلى العاصمة حيث أجبر على الاقامة فيها مع احدى نسائه وبعض أولاده وبناته، وذلك في أيام القيصر طباريوس وفي ابتداء السنة "582" للميلاد. ولما انتقل العرش إلى موريقيوس، وكان يكرهه ويعاديه، أمر بنفيهما إلى صقلية وبقطع المعولة التي كان الروم يدفعونها إلى الغساسنة في كل عام.
وقد لقب حمزة المنذر بلقب الأكبر، وجعل مدة حكمه ثلاث سنين، ونسب إليه بناء "حربا"، وموضع "زرقا" على مقربة من الغدير. وقد أخطأ "حمزة" في مدة حكم المنذر، إذ هي تزيد على تلك المدة، فقد حكم على رأي الباحثين من سنة "569" حتى سنة "582" للميلاد.
أثار عمل الروم هذا ثائرة أبناء المنذر، فتركوا ديارهم، وتحصنوا بالبادية، وأخذوا يهاجمون منها حدود الروم ملحقين بها أذى شديدا، فاضطر القيصر على أثره أن يوعز إلى القائد "ماكنوس" بتجهيز حملة من أبناء المنذر ألحق بها أحد إخوة المنذر. وكان قد أعد ليتولى مقام أخيه، غير انه توفي بعد أيام. ولما كان من الصعب على الروم مهاجمة أبناء المنذر في البادية، عمد القائد إلى المكيدة فأرسل إلى النعمان كبير أبناء المنذر انه يريد مقابلته للاتفاق معه على وضع شروط للصلح. وقد ظن الأمير أن القائد صادق فيما دعا إليه فذهب لمقابلته، فقبض الروم عليه، وأرسلوه مخفورا إلى العاصمة حيث حجروا فيها عليه.
وكان موضع "حوارين" في جملة المواضع التي هاجمها النعمان بعد ارتحال "ماكنوس" عنها، وقد استولت عساكره عليها، وقتلوا بعض أهلها، وأسروا قسما من الباقين،ثم عادوا بغنائم كثيرة إلى البادية للاحتماء بها من هجمات الروم.
وذكر ابن للعبري إن النعمان لما بلغته رسالة القائد ماكنوس لم يذهب إليه، وإنما أرسل إليه بعض الشبان وأمره أن يتظاهر له بأنه هو النعمان. فلما وصل الشاب إلى القائد، سأله: أأنت النعمان ؟ فقال له: نعم، جئتك بحسب أمرك، فقال القائد لمن معه: أقبضوا على عدو الملك، وقيدوه بالحديد. ولما تبين للقائد أنه لم يكن النعمان، هم بقتله، ثم أمر باخراجه، فعاد إلى أهله. وتوفي ماكنوس بعد ذلك بأمد قصير.
ويدعي ابن العبري أن النعمان ذهب بعد ذلك إلى "موريقيوس"" M auricius" واعتذر إليه،وبين له أنه إنما حارب مع الفرس ليتمكن بذلك من انقاذ والده من الأسر. ولما طلب منه "موريقيوس" أن يدخل في المذهب الخلقيدوني، أجابه إن جميع القبائل العربية "طياية" هي على المذهب الحنيف "الأرثدوكس" "Orthodox"، وانه إذا بدل مذهبه لا يأمن على نفسه من القتل. ولما قفل راجعا، قبض عليه ونفي.
لقد تصدع بناء الغساسنة وتفكك، وانقسم الأمراء على أنفسهم،وذلك حوالي سنة "583" أو "584م" على تقدير نولدكه. ويشير ميخائيل السوري وابن العبري إلى انهم انقسموا بعد القبض على النعمان إلى خمسة عشرة فرقة تركت بعضها ديارها فهاجرت إلى العراق وتشتت الباقون، ولم يبق لهم شأن يذكر. ولم يشر الكتبة السريان أو البيزنطيون ولم يشر الأخباريون إلى هذا الحادث، ويظهر انهم لم يعرفوه. وقد ذكر حمزة إن الذي حكم بعد المنذر هو شقيقه النعمان. وقد جعل مدة حكمه خمس عشرة سنة وستة أشهر.
وزاد في ربك وضع الغساسنة وفي انقسامهم على أنفسهم، غزو الفرس لبلاد الشام سنة "613 - 4 1 6 م"، فقد اكتسح الفرس كل بلاد الشام، وصار عرب بلاد الشام أمام حكام جدد، لم يألفوا حكمهم من قبل، ولكن ألفوهم دائما في جانب عرب الحيرة أعداء الغساسنة ومنافسيهم.
وقد تمكن الغساسنة من رؤية وجوه البيزنطيين مرة أخرى وذلك في حوالي سنة "629 م"، فقد تمكن البينرنطيون من طرد الفرس من الأرضين التي استولوا عليها ومن إجلائهم نهائيا عنها، وإعادة فرض حكمهم عليها، غير أن الأقدار أبت إن تبقيهم هذه المرة مدة طويلة في بلاد الشام، فأكرهتهم على فتح أبوابها للاسلام، فتساقطت مدنها في أيدي المسلمين تساقط ورق الشجر في أيام الخريف. وصارت دمشق درة بلاد الشام من أهم حواضر الإسلام. أما ملك الغساسنة، فقد ولى، ولم يبق للغسانين حكم في هذه البلاد منذ هذا الزمن.
وقد خمد اسم رؤساء غسان في الموارد اليونانية والسريانية منذ قبض على النعمان، فعدنا لا نجد في تلك الموارد شيئا يذكر عنهم. وفي سكوت هذه الموارد عن ايراد أخبارهم، دليل على زوال شوكتهم وهيبتهم وعدم اهتمام الروم بأمرهم، حيث ضعف امرهم بمسبب تفرق كلمتهم وتنازعهم بينهم. أما الموارد الاسلامية، فإنها بقيت تذكر أسماء رجال منهم زعمت انهم ملكوا وحكموا، بل زعمت أن بعضهم حكموا دمشق، وبقيت تذكر أسماءهم إلى ايام الفتح الاسلامي. ومن هذه الموارد تأريخ حمزة الاصفهاني،الذي استمر يذكر أسماء من ملك من آل غسان حتى انتهى بآخرهم وهو جبلة بن الأيهم. وفي هذه الأسماء تكرار وزيادات، لذلك زاد عدد من ذكرهم من ملوك غسان على عدد ما ورد عند سواه من المؤرخين.
وأنا لا استطيع أن اوافق حمزة على العدد المذكور، واخالفه في مدد حكمهم وفي ترتيبهم على النحو المدون في تأريخه. فالذين ذكرهم على أنهم ملوك لم يكن مجال حكمهم كبيرا واسعا،وهم لم يكونوا في الواقع إلا سادات بيوت أو سادات عشائر منشقة، تمسكت باللقب القديم الموروث: لقب ملك. وقد كان بعضهم يعاصر بعضا، ويدعي الرئاسة لنفسه، وذلك بسبب تخاصمهم، ولهذا كثرت أسماؤهم في قائمة حمزة. وقد انحسر مد حكمهم وانكمش فاقتصر على البوادي، ولا يتعارض ذلك بالطبع مع ورود أخبار بسكناهم في قصورهم عند أطراف المدن ومشارف القرى، فإن سادات القبائل في هذا اليوم أيضا يحكمون القبائل ويعيشون في قصور في المدن، وهم لا يحكمون المدن بالطبع.
والذي يظهر من روايات أخرى من روايات أهل الأخبار من غير حمزة إن أبين رجل من غسان ظهر بعد النعمان، هو "الحارث" المعروف ب "الأصغر" ثم "عمرو بن الحارث"، وهو الذي مدحه "النابغة"، ثم "النعمان بن الحارث" وهو شقيق "عمرو"، وقد مات مقتولا كما يظهر ذلك من شعر للنابغة الذبياني، ثم "شرحبيل بن عمرو الغساني"، و "جبلة بن.الأيهم".
ولما كنا قد سرنا على قائمة حمزة في ترتيب الملوك، فاننا نجاريه في ترتيبه لهم فنذكر أسماء من حكم الغساسنة بعد النعمان على وفق هذه القائمة، فنقول: حكم بعد النعمان على رواية حمزة وآخرين "المنذر بن الحارث" أي شقيق المنذر والنعمان، وجعل حمزة مدة حكمه ثلاث عشرة سنة، ولقبه بلقب "الأصغر" وكناه ب "أبي شمر".
وتولى بعده على رواية حمزة أخوه جبلة، وجعل منزله ب "حارب" ونسب إليه بناء "قصر حارب" و "محارب" و "صنيعة"، وكانت مدة حكمه على رأيه أربعا وثلاثين سنة.
وحكم بعد جبلة على رواية حمزة أخوه الأيهم. وقد حكم على رأيه ثلاث سنين ونسب إليه بناء "دير ضخم" و "دير النبوة" و"دير سعف".
ثم انتقل الحكم على رواية حمزة أيضا إلى عمرو، وهو أيضا على رأيه احد أبناء الحارث بن جبلة. وقد حكم ستا وعشرين سنة وشهرين، وذكر انه نزل السدير، وبنى قصر "الفضا" "قصر الفضة" و "صفاة العجلات" و "قصر منار".
وعمرو هذا هو الذي مدحه النابغة الذبياني، وقد كان متكبرأ دميما قبيح السيرة أنشأ في دمشق وضواحيها - على حد قول أهل الأخبار - عدة قصور شامخات، منها: قصر الفضة، وقصر "صفات العجلات"، وقصر منار. وقد صور في بعض هذه القصور مجالسه وجلساءه ورؤساء دولته، وأشكال صورته. ثم اتعظ وتغير على أثر شعر قاله له عمرو بن الصعق العدواني، وكان قد أسر الأمير أخته، وحسنت سيرته ومات بعد أن حكم ستا وعشرين سنة.
ويقول أهل الأخبار إن من قديم الشعر الذي قاله النابغة في مدح عمرو بن الحارث، قصيدته البائيه التي يقول في جملة ما يقول فيها: علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
وقد أوغل فيها في مدح الغساسنة وفي ذكر ملوكهم، وهي من عيون شعره. وقد قال هذا الشعر حينما اختلف مع النعمان بن المنذر في موضوع الشعر الذي وصف به زوجة النعمان "المتجردة"، وصفا استغله أعداؤه، فوشوا به إلى النعمان، فهرب منه، وانحاز إلى خصومه آل غسان. ولجأ إلى زعيمهم في تلك الأيام، وهو "عمرو بن الحارث".
وللنابغة أشعار أخرى في مدح "عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني"، في جملتها أبيات يعتذر النابغة فيها إليه من وشاية أثارت حنق عمرو عليه، فنظمها في استرضائه، وقد ذكر فيها انه اكرمه وحباه بمئة من الابل، وانه يريش قوما ويبري اخرين، وانه يجزي الناس على أفعالهم.
ونجد في قصيدة للنابغة مطلعها:
أهاجك من أسماء رسم المنازل بروضته نعمى فذات الأجاول
خبر غزو قام به "عمرو بن الحارث" لبني مرة، وقد أوجعهم فيها على ما يظهر من هذه القصيدة.
هؤلاء الستة الذين ذكرهم حمزة بعد الحارث بن جبلة، هم أبناؤه إذن، وقد حكموا على زعمه بالتعاقب دون فترة. ثم نقل الحكم من عمرو الى رجل دعاه جفنة الأصغر، وهو على رأيه ابن المنذر بن الحارث. ولم يذكر أي منذر قصد. وذكر أنه كان سيارة جوابا. ثم هلك، وكان ملكه ثلاثين سنة.
وحكم بعد جفنة الأصغر على رواية حمزة النعمان الأصغر بن المنذر الأكبر. حكم سنة واحدة، ولم ينسب اليه بناء ما.
ثم انتقل الحكم على زعم حمزة إلى النعمان بن عمرو بن المنذر ولم يكن أبوه عمرو على رأي حمزة ملكأ، وانما كان غازيأ يغزو بها بالجيوش، وكان ملكه سبعا وعشرين سنة، ونسب إليه بناء "السويدا" و "قصر حارب".
وذكر حمزة إن "عمرو" المذكور، أي والد النعمان على زعمه، هو الذي مدحه النابغه بقوله:
على لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
وذكر انه، أي النابغة "ذكر أباه المنذر بقوله":
وقصر بصيداء التي عند حارب
وقد أخطأ حمزة في ذهابه إلى أن الشخص الممدوح هو "النعمان بن عمرو"، فان رواة هذا الشعر يذكرون إن الملك الممدوح الذي قصده النابغة بمديحه، هو "عمر بن الحارث بن أبي شمر" المتقدم ذكره، وهو شقيق "النعمان بن الحارث ابن أبي شمر" الذي مدحه النابغة كذلك، وكانت له صلات حسنة وثيقة به.
وجعل حمزة بعد النعمان ابنه جبلة وزعم إن منزله ب "صفين"، وانه صاحب "عين أباغ"، وقاتل المنذر بن ماء السماء، وكان ملكه ست عشرة سنة.
ثم ملك - بعد جبلة - النعمان بن الأيهم بن الحارث بن مارية، وكان ملكه إحدى وعشرين سنة لم يحدث خلالها على حد قول حمزة شيء، فتولى من بعده النعمان بن الحارث، وهو الذي أصلح صهاريج الرصافة، وكان بعض ملوك لخم خربها، وكان ملكه ثماني عشرة سنة.
ويرى "الويس موسل" إن النعمان هذا كان قد حارب الفرس من حوالي سنة "4 0 6" حتى سنة "16 6 م"، وانه قد احتمى مرارا بأسوار الرصافة. وبهذه المناسبات على ما يظهر قام بترميم صهاريج المدينة لخزن الماء.
وذكر حمزة اسم "المنذر بن النعمان" بعد النعمان بن الحارث، وهو ابنه. قال: ولم يحدث شي في أيامه، ثم هلك وكان ملكه تسع عشرة سنة.
ثم صار الحكم من بعده - على رأي حمزة- إلى عمرو بن النعمان. وهو شقيقه ولم يحدث شيئا في أيامه، ثم هلك، وكان ملكه ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر. ثم انتقل الحكم إلى حجر بن النعمان، وهو شقيق عمرو، وجعل حمزة ملكه اثنتي عشرة سنة. ثم صير الملك إلى ابنه من بعده، وهو الحارث بن حجر. وجعل ملكه ستا وعشرين سنة.
وصير حمزة الملك إلى جبلة بن الحارث " بعد وفاة والده "الحارث بن حجر". وجعل مدة حكمه سبع عشرة سنة وشهرا واحدا.
ثم صير حمزة الحكم إلى "الحارث بن جبلة"، وهو على رأيه ابن الملك المتوفى "جبلة بن الحارث". وذكر حمزة أنه يسمى أيضا ب "الحارث بن أبي شمر"، وهو الذي أوقع ببني كنانة، وكان يسكن الجابية. وكان ملكه إحدى وعشرين سنه وخمسة أشهر. ويجب إن يكون هذا الحارث هو "الحارث اين أبي شمر الغساني"، الذي ذكر أن الرسول وجه كتابا إليه، حمله إليه: شجاع بن وهب كما سياتي فيما بعد.
وذكر حمزة أن الذي حكم بعد "الحارث بن جبلة"، هو ابنه "النعمان بن الحارث"، وكنيته "أبو كرب"، ولقبه "قطام"، وهو الذي بنى ما أشرف على "الغور الأقصى". وكان ملكه سبعا وثلاثين سنة وثلاثة أشهر.
وقد اخطأ حمزة في إضافة لقب "قطام" الى النعمان بن الحارث، ولا نعرف إن أحدا اضاف هذا اللقب إليه.
ونجد للنابغة الذبياني أشعارا في مدح "النعمان" المذكور،وكان يزوره ويتوسط لديه في فك أسرى قومه الذين كانوا يقعون في أسر الغساسنة، وذلك بسبب غاراتهم المتوالية على بني غسان وأعرابهم. وكان قومه "بنو ذبيان" وحلفاؤهم "بنو أسد" إلى جانب عرب الحيرة، وكانوا ينقمون على الغساسنة ويغيرون دوما على أرضهم، فيتدخل النابغة لدى الغساسنة للصفح عن قومه، ويتوسل اليهم في فك أسرهم. ولما أغار قومه على وادي "ذي اقر"، نهاهم النابغة عن هذه الغارة، وحذرهم من عواقبها، وهولهم بكثرة ما لدى "النعمان بن الحارث"، من جموع وحشود، غير انهم لم يهتموا بنصح النابغة، ولم يحفلوا بتخويفه لهم، بل عدوا نصيحته هذه لهم من امارات الخوف والجبن، فتصدت لهم أعراب "النعمان" بقيادة "النعمان ين الجلاح الكلبي"، وأوقعت بهم خسائر فادحة، ويذكر بعض الرواة أن "ابن الجلاح" سبى ستين أسيرا وأهداهم إلى قيصر الروم. ولم يتطرقوا لبيان الأسباب التي أدت بالغساسنة إلى اهداء هؤلاء الأسرى إلى الروم. وأعتقد إن اقحام "قيصر الروم" في هذا الاهداء، هو من مبالغات الرواة، وقد عودونا أمثال هذه المبالغات. إلا أن يكون أولئك الأعراب قد غزوا حدود الروم، فأوجعوا أهلها، فقدم "ابن الجلاح" الذي تعقبهم، من وقع في أسره إلى حاكم من حكام الروم لتأديبهم.
وقد طلب "النابغة" في شعره في وصف هذه الغارة من "حصن بن حذيفة" سيد "ذبيان" ومن "ابن سيار" فك من وقع أسيرا من النساء دفعا للخزي والعار من وقوعهن "أسيرات في أيدي العضاريط من الأتباع والأجراء.
ونجد النابغة يحذر "النعمان" من غزو "بني حن بن حرام"، وينصحه بعدم التورط في قتالهم، لأنهم أناس محاربون صعاب. فلما أبى إلا قتالهم، بعث النابغة إلى قومه يخبرهم بغزو النعمان لهم، ويأمرهم أن يمدوا بني حن، ففعلوا. فلما غزاهم النعمان، هزم بنو حن وبنو ذبيان جمعه، وحازوا ما معهم من الغنائم، فقال النابغة في ذلك شعرا منه:
لقد قلت للنعمان يوم لقيته يريد بني حن ببرقة صادر
تجنب بني حن فان لقاءهم كريه، وإن لم تلق إلا بصابر
فهو يعاتب بذلك النعمان، ويذكره بعدم اهتمامه بنصحه له، وتخويفه اياه من عاقبة هذه الغارة.
وكان في جملة ما قاله النابغة عن بني حن بن حرام، وهم من عذرة، انهم كانوا قد منعوا "وادي القرى" عن عدوهم ومن أهله وحموه منهم، وهو كثير النخل، فتمنعوا بثمره، وطردوا "بليا"، وهم من "بني القين" وهم أصحابه من هذا الوادي، واستولوا على نخيلهم، ونفوهم إلى غير بلادهم، وهم الذين ضربوا أنف الفزارى، وهم الذين منعوها من قضاعة كلها ومن "مضر الحمراء"، وقتلوا الطائي بالحجر عنوة، ويريد به "أبا جابر الجلاس ابن وهب بن قيس بن عبيد، وكان ممن اجتمع عليه جديلة طيء. ومثل هؤلاء قوم لا يغلبون.
ويظهر من شعر للنابغة إن "النعمان" كان قد غزا تميما وقيس وائل، وانه أوجعهم، وقد غزاهم في الربيع.
وللنابغة أشعار أخرى في مدح "النعمان" هذا، منها أبيات استهلها بقوله:
والله والله لنعم الفتى إذ أعرج، لا النكس ولا الخامل
وقد أدرك النابغة أجل "النعمان بن الحارث بن أبي شمر"، اذ مات مقتولا فرثاه بقصيدة، يظهر منها انه كان يكنى ب "أبي حجر"، وانه قبر في موضع يقع بين "بصرى" و "جاسم".
وقد غزا "النعمان" العراق، ولا يستبعد "نولدكه" أن يكون هو الذي قصده المؤرخ "ثيوفلكتوس" حين تحدث عن غزو قام به عرب الروم على العراق في زمن الصلح أي حوالي سنة "600 م".
وقد مدح النابغة "النعمان بن الحارث الأصغر" في القصيدة التي تبدأ بقوله:
إن يرجع النعمان نفرح ونبتهج ويأت معدا ملكها وربيعها
ويرجع إلى غسان ملك وسؤدد وتلك التي لو اننا نستطيعها
ورثى "النابغة" النعمان في قصيدة جاء فيها إن شيبان وذهلا وقيس بني ثعلبة وتميما سروا بوفاته، لأنهم أمنوا بذلك على أنفسهم من غاراته ومن غزوه لهم. ويظهر من شعر النابغة فيه انه كان محاربا يغزو القبائل، ولذلك هابته. وقد بكاه بقوله:
بكى حارث الجولان من فقد ربه وجوران منه خاشع متفائل
وذكر "ابن قتيبة" إن النابغة لما صار إلى غسان، انقطع إلى "عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني" والى أخيه "النعمان بن الحارث"، فأقام النابغة فيهم فامتدحهم، فغم ذلك النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وبلغه إن الذي قذف به عنده باطل، فبعث إليه من يسأله أن يعود، فاعتذر النابغة في شعر، وقدم عليه مع زياد بن سيار ومنظور بن سيار الفزاريين، وقبل عذره ورحب به.
ثم ملك بعده - على رأي حمزة - الأيهم بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر، وهو على حد تعبيره صاحب "تدمر" و "قصر بركة" و "ذات أنمار" وغير ذلك.
ثم ملك بعد الأيهم بن جبلة شقبقه المنذر بن جبلة، وكان ملكه على رواية حمزة ثلاث عشرة سنة.
ثم صار الملك إلى شقيقه "شراحيل بن جبلة" على رواية حمزة. وكان ملكه خمسا وعشرين سنة وثلاثة أشهر.
ثم انتقل الحكم إلى "عمرو بن جبلة" بعد وفاة "شراحيل" وهو على رأي حمزة شقيقه، وقد حكم عشر سنين وشهرين.
ثم حول حمزة الحكم إلى "جبلة بن الحارث"، بعد وفاة "عمرو بن جبلة"، وهو على رأيه ابن أخيه. وجعل حكمه أربع سنين.
ثم صير حمزة الملك إلى "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن مارية"، وهو على رأيه آخر ملوك غسان. وكان ملكه ثلاث سنين. وهو الذي كان أسلم ثم تنصر، ولجأ إلى الروم. وقد سرد المسعودي نسبه على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن حجر بن النعمان بن الحارث بن الأيهم ابن الحارث بن جبلة بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة"، وسرده على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن مازن" في مكان آخر.
وذكره "ابن عبد ربه" على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني". وذكر "الذهبي" أن الأصل هو "الأهيم"، لا "الأيهم"، وكناه ب "أبي المنذر"، وقال إنه كان ينزل "الجولان".
وقد وصف بأنه كان طويلا، طوله اثني عشر شبرا، وكان إذا ركب مسحت قدمه الأرض.
وقد ورد اسم "جبلة بن الأيهم" في أخبار الفتوحات الاسلامية لبلاد الشام، إذ ذكر في "فتوح البلدان" للبلاذري: أن "هرقل" لما سمع بتجمع المسلمين ومقدمهم "يوم اليرموك"، بعث على مقدمته "جبلة بن الأيهم الغساني" في مستعربة الشام من لخم وجذام وغيرهم لمقاتلة المسلمين، غير أن "جبلة" انحاز في القتال إلى الأنصار قائلا: "أنتم إخوتنا وبنو أبينا، وأظهر الإسلام ".
أما الطبري فقد ذكر: أن خالدا لما صار إلى "مرج الصفر"، لقي عليه غسان، وعليهم "الحارث بن الأيهم". ولم يشر إلى جبلة. فيظهر أن وهما في الاسم قد وقع للرواة، فصار "جبلة" عند بعض، وصار "الحارث" عند بعض آخر، ولعل مرده إلى سهو وقع من النساخ.
ولحسان بن ثابت شعر في مدح "جبلة بن الأيهم"، وفي ذكر ملكه وملك "آل جفنة "، يظهر منه شدة تعلقه بهم على بعده عنهم وزوال ملكهم وابتعاده عنهم بالاسلام. وقد أورد المسعودي بعض الأشعار التي مدح حسان بها "جبلة ابن الأيهم" منها:
أشهرنها فإن ملكك بالشا م إلى الروم فخر كل يماني
وقد ورد في رواية من روايات أهل الأخبار أن حسان بن ثابت زار "جبلة ابن الأيهم"، وعنده "النابغة" و "علقمة بن عبدة" فانشده شعرا، فأعطاه ثلاثمئة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد، في كل عام مثلها. وتذكر رواية أخرى إن الشخص الذي زاره "حسان" هو "عمرو بن الحارث الأعرج"، وأنه مدحه فأعطاه الف دينار مرجوحة، وهي التي في كل دينار عشرة دنانير.
وذكر إن "جبلة بن الأيهم" لما سمع، وهو ببلاد الروم، أن حسانا قد صار مضرور البصر كبير السن، أرسل إليه خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج، فلما سلمها الرسول الذي حمل الهدية إليه، نظم شعرا في مدحه أوله:
إن ابن جفنة من بقية معشر لم يغذهم آباؤهم باللؤم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها كلا ولا متنصرا بالروم
وأخذ يراجع ذكريات تلك الأيام الخالية التي قضاها معه ومع بقية آل غسان.
وقد اتفقت روايات أهل الأخبار في موضوع دخول جبلة في الإسلام، ثم في ارتداده، إلا رواية واحدة ذهبت إلى انه لم يسلم. وقد ذهب أكثرهم في سبب ردته إلى إن أعرابيا من فزارة وطىء فضل إزار جبلة وهو يسحبه في الأرض بمكة، فلطمه جبلة، فنابذه الأعرابي إلى عمر، فحكم عمر له بالقصاص، فعد" جبلة القصاص اهانة له وهو ملك، ففر إلى بلاد الروم وارتد بها، وبقي بها مرتدا حتى وافته منيته. ولكن رواية "ابن قتيبة"، تختلف عن رواية أكثر أهل الأخبار في موضوع المكان الذي كان السبب في ارتداده عن الإسلام،اذ جعلته مدينة "دمشق"، قالت: "وكان سبب تنصره انه مر في سوق دمشق، فأوطأ رجلا فرسه، فوثب الرجل فلطمه، فأخذه الغسانيون فأدخلوه على أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم سيدنا. فقال أبو عبيدة بن الجراح: البينة إن هذا لطمك. قال: وما تصنع بالبينة ؟ قال: إن كان لطمك لطمته بلطمتك. قال: ولا يقتل؟ قال: لا. قال: ولا تقطع يده. قال: لا. انما أمر الله بالقصاص، فهي لطمة بلطمة. فخرج جبله ولحق بأرض الروم وتنصر".
ونجد خبر "ابن قتيبة" المذكور مدونا في كتاب "الطبقات" لابن سعد، حيث جاء: "وكتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب باسلامه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واهدى له هدية ولم يزل مسلما حتى كان في زمان عمر بن الخطاب، فبينما هو في سوق دمشق اذ وطىء رجلا من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ وانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبيلة،قال: فليلطمه، قالوا: وما يقتل ؟ قال: لا، قالوا: فما تقطع يده؟ قال: انما أمر الله، تبارك وتعالى بالقود. قال جبلة: أو ترون اني جاعل وجهي ندأ لوجه جدي جاء من عمق ! بئس الدين هذا ! ثم ارتد نصرانيا ! وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر، فشق عليه، وقال لحسان بن ثابت: أبا الوليد، أما علمت أن صديقك جبلة بن الأيهم ارتد نصرانيا ؟ قال: وحق له، فقام اليه عمر بالدرة فضربه بها".
وذكر بعض أهل السير والأخبار، أن الرسول كتب إلى جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان، كتابا دعاه فيه إلى الإسلام. فلما وصل الكتاب أسلم، وكتب إلى الرسول يعلمه باسلامه. و ذكر أن "شجاع بن وهب" انما بعثه رسول الله إلى جبلة، فأسلم، وأرسل إلى رسول الله هدية. وكان ينزل بالجولان.
وتزعم بعض الروايات أنه زار المدينة في خلافة "عمر". وقد عد يوم مجيئه اليها من الأيام المشهورة، اذ جاء اليها في موكب حافل كبير فيه خيول كثيرة لم تر المدينة مثلها من قبل، وخرج الناس إلى الطرق لرؤية موكبه. وفرح عمر بمجيئه، وعد ذلك توفيقا من الله للاسلام، وأكرمه غاية الاكرام. وبعد أن قابل الخليفة، استأذن منه بالذهاب إلى الحج، فوقع له عندئذ حادث الإزار مع الأعرابي، ففر إلى بلاد الروم، ويقال: انه توفي بالقسطنطينية سنة عشرين من الهجرة. وذكر أنه لما قدم المدينة كان في خمسمئة فارس من عك وجفنة. فلما دنا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوج بالذهب والفضة، ولبس تاجه وفيه قرط مارية وهي جدته، فلم يبق يومئذ بالمدينة أحد الا خرج ينظر إليه.
وقد ذكر "البلاذري" أن "جبلة بن الأيهم" حكم بعد "الحارث بن أبي شمر". وروى أنه لما قدم "عمر" الشام سنة "17" للهجرة، حدث أن لطم "جبلة" رجلا من مزينة على عينه، فأمره عمر بالاقتصاص منه، فقال: او عينه مثل عيني ! والله لا أقيم ببلد علي به سلطان. فدخل بلاد الروم مرتدا. وروى رواية أخرى خلاصتها أن جبلة أتى عمر على نصرانية، فعرض عمر عليه الإسلام، ولكنه لم بتفق مع عمر. فلما قال له عمر: ما عندي لك الا واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما أداء الجزية، وإما الذهاب إلى حيث شئت. فدخل بلاد الروم في ثلاثين ألفا فلما بلغ ذلك عمر ندم.
وتذكر رواية أن "جبلة بن الأيهم" عاش في القسطنطينية حتى مات سنه عشرين من الهجرة.
فنحن أمام روايتين بشأن مكان ردة جبلة، وتجاه رواية عن إسلامه. رواية تجعل ارتداده في مكة، ورواية تجعل ارتداده بدمشق، ورواية تذكر أنه لم يدخل مطلقا في الإسلام. ويظهر أن رواية دمشق هي أقرب إلى المنطق، اذ لا يعقل فرار جبلة من مكة إلى بلاد الروم بمثل هذه السهولة التي تخيلها أهل الأخبار، وبينه وبين بلاد الروم مسافات شاسعة ما كان في امكانه قطعها قط والنجاة من تعقب المسلمين له، لو كان موضع هربه هو مكة. أما دمشق، فانها قريبة من حدود الروم، ولدى جبلة فيها وسائل كبيرة تساعده على الهرب.
والرأي عندي أن جبلة، لم يدخل ابدا في الإسلام، وانما بقي مع الروم. وغادر بلاد الشام معهم، وكان يحارب المسلمين إلى جانبهم، وانتقل بأتباعه ممن بقوا على دينهم إلى بلاد الروم فأقآموا بها، وقد مات هناك ودفن في تلك البلاد. وما هذا الذي روي عن اسلامه وعن زيارته ليثرب ولمكة إلا من قصص القصاص وضعوه فيما بعد.
إن ما يذكره أهل الأخبار من ملك "جبلة"، لا يخلو من مبالغة. وما يقال عن ملكه وعن استقبال "هرقل" له، ذلك الاستقبال العظيم، لا- يخلو من مبالغة أيضا. نعم من الجائز أن الروم قبلوه لاجئا، ورحبوا به وساعدوه على أمل استخدامه لمهاجمة المسلمين، واسترداد بلاد الشام منهم. غير أننا لا نستطيع أن نوافق على ما ورد في روايات. أهل الأخبار من ذلك الوصف الذي ذكروه من احتفال الروم في القسطنطينية. ومن المعيشة التي كان يعيشها في عاصمتهم إلى حين وفاته. بل لقد شك بعض المستشرقين مثل "نولدكه" حتى في موضوع تملكه وتولية الحكم له على عرب الشام.
ونجد في خبر فتح دومة الجندل، رجلا من غسان كان قد تزعم قومه وجاء في "طواف من غسان وتنوخ" لنجدة أهل "دومة الجندل". وقد دعاه "الطبري"، "ابن الأيهم". ولم يشر إلى اسمه.
ونجد في "العقد الفريد" وصفا لمجلس "جبلة" ولمسكنه في القسطنطينية لا يخلو من مبالغة، وقد كتب وصفه إلى الرسول ذكر أن الخليفة عمر كان قد أرسله إلى "هرقل" ليدعوه إلى الإسلام. ويذكر الرسول الموفد أن "هرقل"" هو الذي أشار عليه بزيارة قصر "جبلة" فلما ذهب إليه، وجد على بابه من القهارمة والحجاب وكثرة الجمع مثل الذي على باب "هرقل"، ثم وصف مجلسه وأرائكه المرصعة بالجواهر، وغناء الجواري.في مجلسه بغناء حسان بن ثابت مما يجعله في ثراء الملوك الحاكمين لا الملوك الفارين.
واسم الرسول المذكور هو "جثامة بن مساحق الكناني". ويذكر بعض أهل الأخبار أن الخليفة معاوية أرسل "عبد الله بن مسعود الفزاري" إلى ملك الروم فوجد عنده "جبلة بن الأيهم "،فوصف مجلسه وما كان عليه من فاخر الملبس والمأكل والمسكن، وهو كلام فيه مبالغات وغلو في الكلام، على نمط ما رأيناه في وصف "جثامة". وهو يتفق معه في الخبر. والظاهر أن الرواة قد أخطأوا في هذا الخبر، فنسبوه مرة إلى رسول عمر،ونسبوه مرة أخرى إلى رسول معاوية
اسامه الدندشي
ويرى "نولدكه" أيضا إن هذا الحارث هو الحارث الذي ذكر عنه المؤرخ ملالا انه أخمد ثورة السامربين الذين ثاروا في فلسطين في سنة "529".
وقد ورد في تأريخ "بروكوبيوس" "Procopius" إن المنذر ملك العرب "سركينوى" "Sarakynou" الذين كانوا في مملكة الفرس، لما أكثر من الغارات على حدود انبراطورية الروم، وعجز قواد الروم من أرباب لقب " Duxi" "Duce" "Dux" وسادات القباب من أرباب لقب "فيلارخ" "Phylarchus" المحالفين للروم عن صده والوقوف أمامه، رأى القيصر"يسطانوس""Justinianus" ان يمنح الحارث بن جبلة الذي كان يحكم عرب العربية "Arabia" لقب "ملك" ليقف بوجه "المنذر" "Alamoundaros". وقد ذكر إن هذا اللقب لم يمنح لأحد من قبل.ولكن المنذر لم يرعو مع ذلك عن غزو الحدود الشرقية لبلاد الشام والعبث بها مدة طويلة من الزمن. وقد ذهب "نولدكه" إلى أن هذه الحوادث كانت في سنة "529م".
وقد بلغ المنذر في هجومه على بلاد الشام أسوار "انطاكية"، ولكنه تراجع بسرعة حينما سمع بمجيء قوات كبيرة من قوات الروم، تراجع بسرعة أعجزت الروم عن اللحاق به. ويشك نولدكه في رواية بروكوبيوس بشأن منح الحارث لقب ملك، ذلك لأن لقب ملك كان خاصا بقياصرة الروم، فلا يمنح لغيرهم.
ويلاحظ أن بعض كتبة اليونان أطلقوا أيضا لقب ملك على الأمراء العرب، مثل "ماوية"، فقد لقبت ب "ملكة". ولم يستعملوا كلمة "فيلارخوس" "Phylarkos" "Phylarque" "Phylarcos" التي تعني العامل أو سيد قبيلة. وأما الكتبة السريان، فقد لقبوا رؤساء القبائل العربية بلقب "ملك" في بعض الأحيان على نحو ما نجده في الشعر العربي. ولكن نولدكه يرى أن هذا الاستعمال لا يمكن أن يكون سندا لاثبات أن الروم أطلقوا لقب ملك على الحارث أو على خلفائه رسميا، لأن الوثائق الرسمية لم تطلق هذا اللقب عليهم.
والذي صح اطلاقه من الألقاب على أمراء الغساسنة " وثبت وجوده في الوثائق الرسمية، هو لقب "بطريق" "Patricius"، ولقب "عامل" أو سيد قبيلة "فيلارخوس" "Phylarchus" "Phylarkos" "Phylarcos" مقرونا بنعت من النعوت التابعة له، أو مجردا منه، كالذي جاء عن المنذر الذي حكم بعد الحارث بن جبلة البطريق الفائق المديح، ورئيس القبيلة "فلارخوس المنذر"، و "المنذر البطريق الفائق المديح"، وما ورد عن الحارث "الحارث البطريق ورئيس القبيلة".
ولقب "البطريق" من ألقاب الشرف الفخمة عند الروم، ولذلك فلم يكن يمنح إلا لعدد قليل من الخاصة، ولصاحبه امتيازات ومنزلة في الدولة حتى ان بعض الملوك كانوا يحبذون الحصول على هذا اللقب من القيصر. وقد منح القيصر "يسطنيانوس" "Justinianus" "الحارث" هذا اللقب، وكذلك لقب "فيلارخ" فكان بذلك أول رجل من الغساسنة يمنح هذين اللقبين اللذين انتقلا منه إلى أبنائه فيما بعد.
ويلاحظ إن نص أبرهة الذي ذكر في جملة ما ذكره إن الحارث بن جبلة أرسل رسولا عنه إلى مدينة مأرب ليهنئه بترميمه سد مأرب، لم يدون كلمة "ملك" مع اسم الحارث، ولكن ذكر "ورسل حرثم بن جبلت"، أي: "ورسول الحارث بن جبلة". فلم يلقبه بلقب "ملك"، ويدل عدم اطلاق أبرهة لقب ملك على الحارث على انه اتبع الأصول الدبلوماسية المقررة عند البيزنطيين وان لقب ملك لم يكن لقبا رسميا له مقررا دوليا. وقد كان وصول رسول الحارث أو رسله في سنة "542م".
ويتبين من رواية المؤرخين بروكوبيوس وملالا إن الحارث بن جبلة كان قد اشترك في المعركة التي نشبت بين الفرس والروم في 19 نيسان سنة "531م"، وانتهت باندحار الروم، وكان قائدهم "بليزاريوس". وذكر إن الفرس أسروا رجلا اسمه "عمرو" "Amros"، وكان حائزا على درجة "قائد" "Dux". وقد أثار تصرف الحارث في الحرب التي نشبت في سنة "541م" بين الفرس والروم، شك الروم في إخلاصه لهم، والحذر منه، اذ ما كان يعبر هذا الأمير نهر دجلة مع القائد بليزاريوس حتى بدا له فرجع إلى مواضعه بعد أن سلك طريقا آخر غير الطريق الذي اتبعه معظم الجيش دون أن يقوم بعمل يذكر في هذه الحرب. وهذا مما حمل الروم على الشك في صداقته لهم، وجعلهم في يحذرون منه ويراقبون حركاته، خوفا من انقلابه عليهم وإلحاقه الأذى بهم واتفاقه سرا مع الفرس.
وقد عاد النزاع فتجدد بين الحارث والمنذر حوالي سنة "544م"، وانتهى بسقوط ملك الحيرة قتيلا في معركة حدثت في سنة "554م"، على مقربة من "قنسرين" بالقرب من الحيار. وهذه المعركة هي معركة يوم حليمة على رأي نولدكه. ويظهر أن المنذر كان قد هاجم بلاد الشام، وتوغل فيها حتى وصل إلى حدود قنسرين، فصرع هناك. حدث ذلك في السنة السابعة والعشرين من حكم "يوسطنيانوس" "Justinianus "على رواية ابن العبري.
وقد كان سبب اختلاف الحارث مع المنذر، تنازعهما على ارض يطلق الروم عليها اسم "Strata" جنوب تدمر، تمر بها الطرق البرية الموصلة إلى بلاد الشام وهي من الطرق العسكرية المهمة ومرعى مهم للاعراب، يرعى فيها أعراب العراق وأعراب بلاد الشام. وقد ألف "جستنيان" لجنة تحكيم، لم تتمكن من فض النزاع. وقد اتهم الفرس أعداءهم الروم بأنهم يريدون الاتصال سرا بالمنذر ورشوته لتحريضه على القيام على الفرس.
وقد ذكر ابن العبري في أثناء كلامه على هذه الحرب أن "برحيرت"، "Bar-Herath" أي "ابن الحارث" سقط قتيلا في الحرب. وكان قد ذكر قبل كلمات إن المنذر بن النعمان، لما هاجم منطقة "Rhomaye" وتوغل فيها، نازله "الحارث بن جبلة" "Herath bar Gebala" بهجوم مقابل، فهزمه وقتله في قنسرين. ثم ذكر إن ابن الحارث سقط قتيلا في هذا الموضع. ويعرف هذا الولد باسم جبلة.
ونجد في شعر "حسان بن ثابت" إشارة الى "زمين حليمة" أي زمن حليمة. كما نجد في الأمثال "ما يوم حليمة بسر"، دلالة على شهرة ذلك اليوم.
و كان الحارث من أنصار "المنوفستيين" "'Monophysites"، أي القائلين بوجود طبيعة واحدة في المسيح، ويقال انه سعى لدى الانبراطورة "ثيودورة" في تعيين "يعقوب البرادعي" ورفيقه "ثيودورس"، أسقفين للمقاطعات السورية العربية. فنجح في مسعاه هذا في سنة "542 - 543م"، وبذلك وطد هذا المذهب في بلاده.
ونسب المؤرخ السرياني "ميخائيل الكبير" إلى الحارث محاورة جرت بينه وبين البطريق "افرام" "526 - 545م" في السريانية أو اليونانية في طبيعة المسيح وفي مذهبه القائل بوجود طبيعة واحدة فيه. وهو مذهب "يعقوب البرادعي" المتوفي سنة "578م". وقد"صيغت الحكاية بأسلوب يفهم منه انه تغلب بأدب ولطف على خصمه البطريق.
ولمعارضة مذهب اليعاقبة أتباع يعقوب البرادعي لمذهب الكنيسة الرسمي للانبراطورية عد الروم هذا المذهب من المذاهب المنشقة المعارضة فقاوموه وناضلوا أصحابه ولا سيما في أيام القيصر يوسطنيانوس، باعتباره مذهبا من المذاهب المناهضة لسياسة الملوك والدولة، كمعارضة الأحزاب السياسية في الزمن الحاضر، الا إن الحارث سعى جهد امكانه في تخفيف حدة غضب الحكومة على رجال هذا المذهب، ومن التقريب ما أمكن بين آراء رجال الكنيستين. ولجهود الحارث ومسعاه في حماية هذا المذهب، فضل كبير ولاشك في بقائه، وفي انتشاره بين السريان وعرب الشام.
وقد زار الحارث القسطنطينية في تشرين الثاني من سنة "563م"، فاستقبل استقبالا حافلا. وأثر أثرا عميقا في نفوس أهل العاصمة وفي رجال القصر والحاشية، ويقال إن رجال البلاط كانوا يخوفون القيصر "يوسطينوس" "Justinius" بعد خرفه بالحارث، فكان يهدأ ويسكت روعه حين سماعه اسمه. والظاهر إن الغاية التي من أجلها ذهب الحارث إلى القسطنطينية هي مفاوضة رجال الحكم فيمن سيخلفه على عرشه بعد وفاته من أولاده، وفي السياسة التي يجب سلوكها تجاه عمرو ملك الحيرة.
والى هذا الحارث قصد امرؤ القيس الكندي الشاعر، ليوصله إلى القيصر يشكو له ظلامته، ويطلب منه مساعدته في استرجاع حقه واخذه بالثأر حسب رواية الأخباريين. واليه تنسب أيضا قصة مطالبة السموأل بن عاديا باعادة دروع امرئ القيس التي أودعها لديه في القصة الشهيرة التي يحكيها الأخباريون في معرض كلامهم على امرئ القيس وقصة السموأل والوفاء. وهناك جماعة من الأخباريين ترى إن الحارث الذي طالب بتسليم دروع امرئ القيس إليه، هو شخص آخر اسمه الحارث بن ظالم. ولكنها لم تذكر الصلة التي كانت بين الحارث بن ظالم وامرئ القيس، وحملته على المطالبة بتلك الدروع.
وقد ذكر "الجمحى" أن "الحارث بن أبي شمر الغساني" هو الذي طلب إلى "السموأل بن عادياء" أن يدفع إليه سلاح "امرىء القيس" الذي استودعه عنده، فأبى السموأل أن يسلمه إليه. وقد ذكر "أبو زبيد الطائي" أنه زاره ونعته بأنه "الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام". وقد كان "أبو زبيد" هذا "من زوار الملوك، ولملوك العجم خاصة. وكان عالما بسيرها ".
وقد تعرض "ابن قتيبة" لموضوع "امرى القيس"، فقال: "وكان امرؤ القيس في زمان أنو شروان ملك العجم، لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأكبر، والحارث هو قاتل المنذر بن امرئ القيس الذي نصبه أنو شروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنو شروان وبين مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، أربعين سنة".
وذكر أيضا إن "الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأكبر، لما بلغه ما خلف امرؤ القيس عند السموأل، بعث إليه رجلا من اهل بيته يقال له "الحارث بن مالك" وأمره إن يأخذ منه سلاح امرئ القيس وودائعه فلما انتهى إلى حصن السموأل أغلقه دونه، وكان للسموأل ابن خارج الحصن يتصيد فأخذه الحارث، وقال للسموأل: إن انت دفعت إلي السلاح وإلا قتلته، فأبى إن يدقع إليه ذلك. وقال له: اقتل أسيرك، فإني لا ادفع اليك شيئا، فقتله، وضربت العرب المثل بالسموأل في الوفاء".
وذكر الأخباريون أن الحارث الأعرج - وهو في روايتهم هذه الحارث بن أبي شمر الغساني - غزا قبيلة تغلب، وكان السبب الذي حمله على هذا الغزو مروره بجماعات منها لم تهتم به كما كان يجب إن يكون. وقد نصحه الشاعر "عمرو بن كلثوم"-على حد قولهم- بعدم غزوهم، واعتذر عنهم إليه. ولكنه لم يأخذ بنصيحته، فلما تقابل معهم، انهزم مع قومه من غسان، وقتل منهم عدد كثير كان في جملتهم أحد إخوة الحارث.
ويظن بعض الباحثين إن الحارث هو الذي أمر ببناء كنيسة الرصافة الكبرى لا الملك يوسنيانوس، ذلك. لأن المؤرخ "بروكوبيوس" لم يشر في أثناء كلامه على هذا القيصر الى أي أثر له في هذه المدينة،على حين أشار إلى تسوير الحارث لها والى احترامه العظيم للقديس "سرجيوس" المدفون بها، وهو قديس له منزلة كبرى في نفوس نصارى عرب الشام.
وينسب إلى الحارث اصلاح ذات البين فيما بين قبائل طيء، وكانت متخاصمة متحارية، فلما هلك عادت إلى حربها،ووقع بينها يوم اليحاميم حيث دارت الدائرة فيه على جديلة من طيء، ويعرف أيضا بقارات حوق.
ومن الأمراء العرب الذين عاصروا الحارث بن جبلة، أمير اسمه "أبو كرب ابن جبلة"، لعله شقيق الحارث. وقد ورد اسمه في نص "أبرهة"، حيث كان "أبو كرب" قد أرسل إليه رسولا لتهنئته بترميمه سد مأرب. والأمير "قيس" "Kaisus" وكان عاملا على "فلسطين الثالثة" في حوالي سنة 530م. والأسود، ويظهر انه كان قد تحارب مع الحارث.
وعثر في احدى الكتابات في حران على اسم أمير يدعى "شرجيل بن ظالم" يرى نولدكه انه أمير كندي، لأن هذين الاسمين من الأسماء الشائعة في كنده ويرجع تأريخ هذه الكتابة المدونة باليونانية والعربية إلى حوالي سنة "568م". وقد دونت عند تدشين هذا العامل بناء اقامه للقديس يوحنا المعمدان، فيكون "شراحيل" شرحيل اذن من المعاصرين للحارث بن جبلة. ويستنتج نولدكه من ذلك إن عددا من المشايخ ظلوا يتمتعون بسلطانهم حتى بعد تألق نجم آل غسان. ويرى إن ذلك مما يوافق سياسة الروم الذين لم يكن من مصلحتهم ظهور أمير واحد قوي وإنما كان من مصلحتهم وجود جملة امراء متنافسين، ليتمكنوا بذلك من السيطرة عليهم جميعا بضرب بعضهم ببعض.
وقد دعي الأمير المذكور ب "Asaraelus" ودعي أبوه به "Talemus" وكان يحكم "اللجاة"، فيظهر من ذلك إن إمارات كانت تنافس، امارة الغساسنة في هذا العهد.
وقد توفي الحارث في سنة "569م" او "570م" على رأي نولدكه، استنتج ذلك من ورود اسمه في الوثائق الكنسية التي يعود تأريخها إلى سنتي "568 و 569"، والى ربيع سنة "570م" حيث حل اسم ابنه المنذر في محله، فاستدل من هذا التغيير على أنه توفي في هذا الزمن.
وقد حكم "المنذر" من سنة "569 - 0 57م" حتى سنة "1 58م"، على تقدير بعض الباحثين.
وقد عرف المنذر ب "Alamoundaros" "Alamundaros" عند اليونان والسريان وقد استهل حكمه بالحرب مع ملك الحيرة قابوس. والظاهر إن عرب الحيرة كانوا هم البادئين بها، فانتصر عليهم في يوم 20 أيار "مايس" من سنة 570م.
ثم انتصر عليهم في معركة أخرى فيما بعد. ويرى نولدكه إن المعركة الأولى هي عين أباغ.
والمنذر هو أبو كرب الذي ذكر اسمه في نص سرياني عثر عليه في احدى ضواحي تدمر، وهو نص ديني ورد فيه اسم الأسقفين يعقوب وثيودور، وهما: يعقوب البرادعي وصاحبه.
لقد حدث سوء تفاهم بين القيصر "يسطينوس". "Justinus" وبين المنذر تطور حتى صار قطيعة. ولما أحس المنذر بأن القصر قد دبر له مؤامرة، وأنه أمر عامله البطريق "مرقيانوس" "Marcianus" بأن يحتال عليه ليقتله، تمرد على الروم، وغادر أرضهم إلى البادية. فانتهز عرب الحيرة هذه الفرصة المؤاتية فأمعنوا في غزو بلاد الشام، وايقاع الرعب في نفوس سكان القرى المجاورة لهذه الحدود مما حمل الروم على مراسلة المنذر والتودد إليه لاسترضائه، حتى إذا ما تلطف الجو أرسلوا إليه البطريق "يوسطنيانوس" ليجتمع به في مدينة الرصافة عند قبر القديس "سرجيوس" لاقناعه بترك موقفه والموافقة على العودة إلى محله. وعند القبر المقدس عقد الصلح بينهما في صيف سنة "578م". فعاد المنذر إلى أرضه، ليقوم بالدفاع عن حدود الشام.
وقد أشار ابن العبري إلى هذا الحادث، فذكر أن العرب "طياية" كانوا منقسمين إلى جماعتين: جماعة المنذر بن الحارث "منذر برحيرت" Mundar bar Herath، وكان نصرانيا وكذلك كان جنوده وجماعة قابوس، فهاجم قابوس وجنوده العرب النصارى، وقصد بذلك الغساسنة، واستاق ما وجده أمامه من ماشية، ثم قفل إلى بلاده. فلما رأى المنذر ما حدث، جمع جيشا هجم به على قابوس، فتغلب عليه، ورجع بغنائم عديدة وعدد كبير من الابل. وعاد قابوس فهاجم المنذر، غير أنه مني بهزيمة ثانية اضطرته إلى طلب النجدة من الفرس. فأخبر القيصر بسطينوس بذلك،، وطلب منه امداده بالمال لبؤلف به جيشا يقف أمام الفرس، فاستاء القيصر منه، وقرر التخلص منه بقتله، لظنه أنه كان السبب في غزو الفرس ل "Rhomaye" وكتب إلى عامله مرقيانوس وكان معسكرا يومئذ في منطقة "نصيبين" "Nisibis" أن يتربص بالمنذر فيقبض عليه، ويقطع رأسه. وقد أخطأ كاتب الرسالة،فأرسل الرسالة الخاصة بالبطريق مرقيانوس إلى المنذر،وأرسل الرسالة الخاصة بالمنذر إلى البطريق. فلما قرأ المنذر الكتاب وعرف بما أراد القيصر أن يفعله به،غضب غضبا شديدا،وتصالح مع قابوس،وصارا يهاجمان بلاد الشام.فظن يسطينوس إن مرقيانوس قد خانه،وانه أخبر المنذر بالمؤامرة، فأمر بالقبض عليه، وحبسه ولما صار "طبياريوس" "Tiberius" قيصرا، ذهب المنذر إلى القسطنطينية، فلامه القيصر على ما صنع، ولكنه قدره واحترمه كثيرا حينما أراه رسالة يسطينوس التي أراد توجيهها إلى عامله لاغتيال المنذر، وأنعم عليه بهدايا كثيرة، وألطاف سنية، ثم عاد مكرما إلى مركزه السابق.
لقد قام المنذر بالزيارة المذكورة للقسطنطينية في اليوم الثامن من شباط سنة580 م مصطحبا معه ابنين فن أبنائه. فلما بلغها، استقبل بكل احترام وتبجبل، وأنعم القيصر " طيباريوس" "Tiberius" عليه بلقب "Rex" وبالتاج وهو لقب كان له شأن كبير في امبراطورية الروم. ويرى نولدكه إن الروم لم يمنحوا عمالهم العرب على بلاد الشام من قبل الا "الاكليل"، ودرجته دون درجة "التاج". وقد أغدق القيصر عليه بالهدايا. الثمينة النفيسة ومن بينها مصوغات من ذهب وفضة، مما لم ينعم. على أي ملك عربي من قبل. كما أنعم على ولديه بدرجات عسكرية.
وكان المنذر مثل والده من القائلين بمذهب "الطبيعة الواحدة" والمدافعين عنه، ولذلك انتهز فرصة وجوده في القسطنطينية، فسعى في اقناع رجال القصر بالتسامح مع رجال مذهبه والصفح عنهم. ويظهر انه عقد هناك مجمعا في اليوم الثاني من شهر آذار سنة "585م" لمعاضدة هذا المذهب والدفاع عنه،كما اتصل بالبطاركة للتوفيق بين رجال الكنيستين، غير انه خابت مساعيه بالرغم من اظهار البطاركة رغبتهم في ذلك وعدم ممانعتهم فيه.
وقد ذكر إن المنذر بنى صهاريج لايصال الماء إلى الرصافة مدينة القديس "سرجيوس" ذي المكانة العظيمة عند عرب الشام. وظهر من كتابة عثر عليها في أنقاض كنيسة في الرصافة إن المنذر بنى أو جدد بناء تلك الكنيسة. وأما بناؤها فهو على الطراز البيزنطي.
ولم تمنع قدسية مدينة الرصافة الأعراب، ولا سيما أعراب العراق من التحرش بها، فغزتها مرارا، وأخذت قبيله تغلب صورة القديس بعد عودتها من غزو المدينة، وهدم أهل الحيرة صهاريج المدينة مرارا، ولحمايتها من الهجمات أحاطها القيصر "يوسطنيانوس" بسور قوي، بدلا من سورها القديم.
وذكر إن المنذر لما كان في القسطنطينية طلب من البيزنطيين مساعدته في بناء قصر يكون أعظم قصر غساني بني حتى أيامه، وذلك بأن يرسلوا إليه أحسن المعمارين والبنائين الحاذقين. فلبى الييزنطيون طلبه فأمدوه بما يحتاج إليه من معمارين ومن مواد بناء. ومن أبنيته الخربة المعروفة اليوم بناء يعرف باسم "البرج". وقد عثر على اسمه مدونا على حجارة من ذلك البناء. ولما حاول الروم غزو حدود الفرس في سنة "585م"، وجدوا الجسر المنصوب على نهر الفرات مهدما، فاضطروا إلى التراجع وترك الغزو. وكان المنذر معهم في هذه الحملة، فذهبوا إلى إن المنذر كان على اتفاق سري مع الفرس، وانه هو الذي اوعز بهدم الجسر، ليكتب للحملة الاخفاق، وقرروا القبض عليه والايقاع به، انتقاما منه.للخيبة التي منوا بها. ولما عاد المنذر فغزا أرض الحيرة بنفسه فيما بعد ملحقا بالمدينة أذى كثيرا، جاعلا اياها طعمة للنيران، اتفذ الروم هذه الغزوة دليلا" على تحدي المنذر لهم، ورغبته في الخروج على طاعتهم،فقرروا الانتقام منه بقتله،فأصدروا إلى حاكم بلاد الشام "ماكنوس" Magnus" صديق المنذر أمرا سريا بالعمل على قتله. وصادف إن الروم كانوا قد انتهوا من بناء كنيسة في "حوارين"، وقد عزم "ماكنوس" على تدشينها، فكتب يدعو صديقه إلى الاحتفال بذلك. فلما كان على مقرية منه، قبض عليه وأرسله مخفورا إلى العاصمة حيث أجبر على الاقامة فيها مع احدى نسائه وبعض أولاده وبناته، وذلك في أيام القيصر طباريوس وفي ابتداء السنة "582" للميلاد. ولما انتقل العرش إلى موريقيوس، وكان يكرهه ويعاديه، أمر بنفيهما إلى صقلية وبقطع المعولة التي كان الروم يدفعونها إلى الغساسنة في كل عام.
وقد لقب حمزة المنذر بلقب الأكبر، وجعل مدة حكمه ثلاث سنين، ونسب إليه بناء "حربا"، وموضع "زرقا" على مقربة من الغدير. وقد أخطأ "حمزة" في مدة حكم المنذر، إذ هي تزيد على تلك المدة، فقد حكم على رأي الباحثين من سنة "569" حتى سنة "582" للميلاد.
أثار عمل الروم هذا ثائرة أبناء المنذر، فتركوا ديارهم، وتحصنوا بالبادية، وأخذوا يهاجمون منها حدود الروم ملحقين بها أذى شديدا، فاضطر القيصر على أثره أن يوعز إلى القائد "ماكنوس" بتجهيز حملة من أبناء المنذر ألحق بها أحد إخوة المنذر. وكان قد أعد ليتولى مقام أخيه، غير انه توفي بعد أيام. ولما كان من الصعب على الروم مهاجمة أبناء المنذر في البادية، عمد القائد إلى المكيدة فأرسل إلى النعمان كبير أبناء المنذر انه يريد مقابلته للاتفاق معه على وضع شروط للصلح. وقد ظن الأمير أن القائد صادق فيما دعا إليه فذهب لمقابلته، فقبض الروم عليه، وأرسلوه مخفورا إلى العاصمة حيث حجروا فيها عليه.
وكان موضع "حوارين" في جملة المواضع التي هاجمها النعمان بعد ارتحال "ماكنوس" عنها، وقد استولت عساكره عليها، وقتلوا بعض أهلها، وأسروا قسما من الباقين،ثم عادوا بغنائم كثيرة إلى البادية للاحتماء بها من هجمات الروم.
وذكر ابن للعبري إن النعمان لما بلغته رسالة القائد ماكنوس لم يذهب إليه، وإنما أرسل إليه بعض الشبان وأمره أن يتظاهر له بأنه هو النعمان. فلما وصل الشاب إلى القائد، سأله: أأنت النعمان ؟ فقال له: نعم، جئتك بحسب أمرك، فقال القائد لمن معه: أقبضوا على عدو الملك، وقيدوه بالحديد. ولما تبين للقائد أنه لم يكن النعمان، هم بقتله، ثم أمر باخراجه، فعاد إلى أهله. وتوفي ماكنوس بعد ذلك بأمد قصير.
ويدعي ابن العبري أن النعمان ذهب بعد ذلك إلى "موريقيوس"" M auricius" واعتذر إليه،وبين له أنه إنما حارب مع الفرس ليتمكن بذلك من انقاذ والده من الأسر. ولما طلب منه "موريقيوس" أن يدخل في المذهب الخلقيدوني، أجابه إن جميع القبائل العربية "طياية" هي على المذهب الحنيف "الأرثدوكس" "Orthodox"، وانه إذا بدل مذهبه لا يأمن على نفسه من القتل. ولما قفل راجعا، قبض عليه ونفي.
لقد تصدع بناء الغساسنة وتفكك، وانقسم الأمراء على أنفسهم،وذلك حوالي سنة "583" أو "584م" على تقدير نولدكه. ويشير ميخائيل السوري وابن العبري إلى انهم انقسموا بعد القبض على النعمان إلى خمسة عشرة فرقة تركت بعضها ديارها فهاجرت إلى العراق وتشتت الباقون، ولم يبق لهم شأن يذكر. ولم يشر الكتبة السريان أو البيزنطيون ولم يشر الأخباريون إلى هذا الحادث، ويظهر انهم لم يعرفوه. وقد ذكر حمزة إن الذي حكم بعد المنذر هو شقيقه النعمان. وقد جعل مدة حكمه خمس عشرة سنة وستة أشهر.
وزاد في ربك وضع الغساسنة وفي انقسامهم على أنفسهم، غزو الفرس لبلاد الشام سنة "613 - 4 1 6 م"، فقد اكتسح الفرس كل بلاد الشام، وصار عرب بلاد الشام أمام حكام جدد، لم يألفوا حكمهم من قبل، ولكن ألفوهم دائما في جانب عرب الحيرة أعداء الغساسنة ومنافسيهم.
وقد تمكن الغساسنة من رؤية وجوه البيزنطيين مرة أخرى وذلك في حوالي سنة "629 م"، فقد تمكن البينرنطيون من طرد الفرس من الأرضين التي استولوا عليها ومن إجلائهم نهائيا عنها، وإعادة فرض حكمهم عليها، غير أن الأقدار أبت إن تبقيهم هذه المرة مدة طويلة في بلاد الشام، فأكرهتهم على فتح أبوابها للاسلام، فتساقطت مدنها في أيدي المسلمين تساقط ورق الشجر في أيام الخريف. وصارت دمشق درة بلاد الشام من أهم حواضر الإسلام. أما ملك الغساسنة، فقد ولى، ولم يبق للغسانين حكم في هذه البلاد منذ هذا الزمن.
وقد خمد اسم رؤساء غسان في الموارد اليونانية والسريانية منذ قبض على النعمان، فعدنا لا نجد في تلك الموارد شيئا يذكر عنهم. وفي سكوت هذه الموارد عن ايراد أخبارهم، دليل على زوال شوكتهم وهيبتهم وعدم اهتمام الروم بأمرهم، حيث ضعف امرهم بمسبب تفرق كلمتهم وتنازعهم بينهم. أما الموارد الاسلامية، فإنها بقيت تذكر أسماء رجال منهم زعمت انهم ملكوا وحكموا، بل زعمت أن بعضهم حكموا دمشق، وبقيت تذكر أسماءهم إلى ايام الفتح الاسلامي. ومن هذه الموارد تأريخ حمزة الاصفهاني،الذي استمر يذكر أسماء من ملك من آل غسان حتى انتهى بآخرهم وهو جبلة بن الأيهم. وفي هذه الأسماء تكرار وزيادات، لذلك زاد عدد من ذكرهم من ملوك غسان على عدد ما ورد عند سواه من المؤرخين.
وأنا لا استطيع أن اوافق حمزة على العدد المذكور، واخالفه في مدد حكمهم وفي ترتيبهم على النحو المدون في تأريخه. فالذين ذكرهم على أنهم ملوك لم يكن مجال حكمهم كبيرا واسعا،وهم لم يكونوا في الواقع إلا سادات بيوت أو سادات عشائر منشقة، تمسكت باللقب القديم الموروث: لقب ملك. وقد كان بعضهم يعاصر بعضا، ويدعي الرئاسة لنفسه، وذلك بسبب تخاصمهم، ولهذا كثرت أسماؤهم في قائمة حمزة. وقد انحسر مد حكمهم وانكمش فاقتصر على البوادي، ولا يتعارض ذلك بالطبع مع ورود أخبار بسكناهم في قصورهم عند أطراف المدن ومشارف القرى، فإن سادات القبائل في هذا اليوم أيضا يحكمون القبائل ويعيشون في قصور في المدن، وهم لا يحكمون المدن بالطبع.
والذي يظهر من روايات أخرى من روايات أهل الأخبار من غير حمزة إن أبين رجل من غسان ظهر بعد النعمان، هو "الحارث" المعروف ب "الأصغر" ثم "عمرو بن الحارث"، وهو الذي مدحه "النابغة"، ثم "النعمان بن الحارث" وهو شقيق "عمرو"، وقد مات مقتولا كما يظهر ذلك من شعر للنابغة الذبياني، ثم "شرحبيل بن عمرو الغساني"، و "جبلة بن.الأيهم".
ولما كنا قد سرنا على قائمة حمزة في ترتيب الملوك، فاننا نجاريه في ترتيبه لهم فنذكر أسماء من حكم الغساسنة بعد النعمان على وفق هذه القائمة، فنقول: حكم بعد النعمان على رواية حمزة وآخرين "المنذر بن الحارث" أي شقيق المنذر والنعمان، وجعل حمزة مدة حكمه ثلاث عشرة سنة، ولقبه بلقب "الأصغر" وكناه ب "أبي شمر".
وتولى بعده على رواية حمزة أخوه جبلة، وجعل منزله ب "حارب" ونسب إليه بناء "قصر حارب" و "محارب" و "صنيعة"، وكانت مدة حكمه على رأيه أربعا وثلاثين سنة.
وحكم بعد جبلة على رواية حمزة أخوه الأيهم. وقد حكم على رأيه ثلاث سنين ونسب إليه بناء "دير ضخم" و "دير النبوة" و"دير سعف".
ثم انتقل الحكم على رواية حمزة أيضا إلى عمرو، وهو أيضا على رأيه احد أبناء الحارث بن جبلة. وقد حكم ستا وعشرين سنة وشهرين، وذكر انه نزل السدير، وبنى قصر "الفضا" "قصر الفضة" و "صفاة العجلات" و "قصر منار".
وعمرو هذا هو الذي مدحه النابغة الذبياني، وقد كان متكبرأ دميما قبيح السيرة أنشأ في دمشق وضواحيها - على حد قول أهل الأخبار - عدة قصور شامخات، منها: قصر الفضة، وقصر "صفات العجلات"، وقصر منار. وقد صور في بعض هذه القصور مجالسه وجلساءه ورؤساء دولته، وأشكال صورته. ثم اتعظ وتغير على أثر شعر قاله له عمرو بن الصعق العدواني، وكان قد أسر الأمير أخته، وحسنت سيرته ومات بعد أن حكم ستا وعشرين سنة.
ويقول أهل الأخبار إن من قديم الشعر الذي قاله النابغة في مدح عمرو بن الحارث، قصيدته البائيه التي يقول في جملة ما يقول فيها: علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
وقد أوغل فيها في مدح الغساسنة وفي ذكر ملوكهم، وهي من عيون شعره. وقد قال هذا الشعر حينما اختلف مع النعمان بن المنذر في موضوع الشعر الذي وصف به زوجة النعمان "المتجردة"، وصفا استغله أعداؤه، فوشوا به إلى النعمان، فهرب منه، وانحاز إلى خصومه آل غسان. ولجأ إلى زعيمهم في تلك الأيام، وهو "عمرو بن الحارث".
وللنابغة أشعار أخرى في مدح "عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني"، في جملتها أبيات يعتذر النابغة فيها إليه من وشاية أثارت حنق عمرو عليه، فنظمها في استرضائه، وقد ذكر فيها انه اكرمه وحباه بمئة من الابل، وانه يريش قوما ويبري اخرين، وانه يجزي الناس على أفعالهم.
ونجد في قصيدة للنابغة مطلعها:
أهاجك من أسماء رسم المنازل بروضته نعمى فذات الأجاول
خبر غزو قام به "عمرو بن الحارث" لبني مرة، وقد أوجعهم فيها على ما يظهر من هذه القصيدة.
هؤلاء الستة الذين ذكرهم حمزة بعد الحارث بن جبلة، هم أبناؤه إذن، وقد حكموا على زعمه بالتعاقب دون فترة. ثم نقل الحكم من عمرو الى رجل دعاه جفنة الأصغر، وهو على رأيه ابن المنذر بن الحارث. ولم يذكر أي منذر قصد. وذكر أنه كان سيارة جوابا. ثم هلك، وكان ملكه ثلاثين سنة.
وحكم بعد جفنة الأصغر على رواية حمزة النعمان الأصغر بن المنذر الأكبر. حكم سنة واحدة، ولم ينسب اليه بناء ما.
ثم انتقل الحكم على زعم حمزة إلى النعمان بن عمرو بن المنذر ولم يكن أبوه عمرو على رأي حمزة ملكأ، وانما كان غازيأ يغزو بها بالجيوش، وكان ملكه سبعا وعشرين سنة، ونسب إليه بناء "السويدا" و "قصر حارب".
وذكر حمزة إن "عمرو" المذكور، أي والد النعمان على زعمه، هو الذي مدحه النابغه بقوله:
على لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
وذكر انه، أي النابغة "ذكر أباه المنذر بقوله":
وقصر بصيداء التي عند حارب
وقد أخطأ حمزة في ذهابه إلى أن الشخص الممدوح هو "النعمان بن عمرو"، فان رواة هذا الشعر يذكرون إن الملك الممدوح الذي قصده النابغة بمديحه، هو "عمر بن الحارث بن أبي شمر" المتقدم ذكره، وهو شقيق "النعمان بن الحارث ابن أبي شمر" الذي مدحه النابغة كذلك، وكانت له صلات حسنة وثيقة به.
وجعل حمزة بعد النعمان ابنه جبلة وزعم إن منزله ب "صفين"، وانه صاحب "عين أباغ"، وقاتل المنذر بن ماء السماء، وكان ملكه ست عشرة سنة.
ثم ملك - بعد جبلة - النعمان بن الأيهم بن الحارث بن مارية، وكان ملكه إحدى وعشرين سنة لم يحدث خلالها على حد قول حمزة شيء، فتولى من بعده النعمان بن الحارث، وهو الذي أصلح صهاريج الرصافة، وكان بعض ملوك لخم خربها، وكان ملكه ثماني عشرة سنة.
ويرى "الويس موسل" إن النعمان هذا كان قد حارب الفرس من حوالي سنة "4 0 6" حتى سنة "16 6 م"، وانه قد احتمى مرارا بأسوار الرصافة. وبهذه المناسبات على ما يظهر قام بترميم صهاريج المدينة لخزن الماء.
وذكر حمزة اسم "المنذر بن النعمان" بعد النعمان بن الحارث، وهو ابنه. قال: ولم يحدث شي في أيامه، ثم هلك وكان ملكه تسع عشرة سنة.
ثم صار الحكم من بعده - على رأي حمزة- إلى عمرو بن النعمان. وهو شقيقه ولم يحدث شيئا في أيامه، ثم هلك، وكان ملكه ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر. ثم انتقل الحكم إلى حجر بن النعمان، وهو شقيق عمرو، وجعل حمزة ملكه اثنتي عشرة سنة. ثم صير الملك إلى ابنه من بعده، وهو الحارث بن حجر. وجعل ملكه ستا وعشرين سنة.
وصير حمزة الملك إلى جبلة بن الحارث " بعد وفاة والده "الحارث بن حجر". وجعل مدة حكمه سبع عشرة سنة وشهرا واحدا.
ثم صير حمزة الحكم إلى "الحارث بن جبلة"، وهو على رأيه ابن الملك المتوفى "جبلة بن الحارث". وذكر حمزة أنه يسمى أيضا ب "الحارث بن أبي شمر"، وهو الذي أوقع ببني كنانة، وكان يسكن الجابية. وكان ملكه إحدى وعشرين سنه وخمسة أشهر. ويجب إن يكون هذا الحارث هو "الحارث اين أبي شمر الغساني"، الذي ذكر أن الرسول وجه كتابا إليه، حمله إليه: شجاع بن وهب كما سياتي فيما بعد.
وذكر حمزة أن الذي حكم بعد "الحارث بن جبلة"، هو ابنه "النعمان بن الحارث"، وكنيته "أبو كرب"، ولقبه "قطام"، وهو الذي بنى ما أشرف على "الغور الأقصى". وكان ملكه سبعا وثلاثين سنة وثلاثة أشهر.
وقد اخطأ حمزة في إضافة لقب "قطام" الى النعمان بن الحارث، ولا نعرف إن أحدا اضاف هذا اللقب إليه.
ونجد للنابغة الذبياني أشعارا في مدح "النعمان" المذكور،وكان يزوره ويتوسط لديه في فك أسرى قومه الذين كانوا يقعون في أسر الغساسنة، وذلك بسبب غاراتهم المتوالية على بني غسان وأعرابهم. وكان قومه "بنو ذبيان" وحلفاؤهم "بنو أسد" إلى جانب عرب الحيرة، وكانوا ينقمون على الغساسنة ويغيرون دوما على أرضهم، فيتدخل النابغة لدى الغساسنة للصفح عن قومه، ويتوسل اليهم في فك أسرهم. ولما أغار قومه على وادي "ذي اقر"، نهاهم النابغة عن هذه الغارة، وحذرهم من عواقبها، وهولهم بكثرة ما لدى "النعمان بن الحارث"، من جموع وحشود، غير انهم لم يهتموا بنصح النابغة، ولم يحفلوا بتخويفه لهم، بل عدوا نصيحته هذه لهم من امارات الخوف والجبن، فتصدت لهم أعراب "النعمان" بقيادة "النعمان ين الجلاح الكلبي"، وأوقعت بهم خسائر فادحة، ويذكر بعض الرواة أن "ابن الجلاح" سبى ستين أسيرا وأهداهم إلى قيصر الروم. ولم يتطرقوا لبيان الأسباب التي أدت بالغساسنة إلى اهداء هؤلاء الأسرى إلى الروم. وأعتقد إن اقحام "قيصر الروم" في هذا الاهداء، هو من مبالغات الرواة، وقد عودونا أمثال هذه المبالغات. إلا أن يكون أولئك الأعراب قد غزوا حدود الروم، فأوجعوا أهلها، فقدم "ابن الجلاح" الذي تعقبهم، من وقع في أسره إلى حاكم من حكام الروم لتأديبهم.
وقد طلب "النابغة" في شعره في وصف هذه الغارة من "حصن بن حذيفة" سيد "ذبيان" ومن "ابن سيار" فك من وقع أسيرا من النساء دفعا للخزي والعار من وقوعهن "أسيرات في أيدي العضاريط من الأتباع والأجراء.
ونجد النابغة يحذر "النعمان" من غزو "بني حن بن حرام"، وينصحه بعدم التورط في قتالهم، لأنهم أناس محاربون صعاب. فلما أبى إلا قتالهم، بعث النابغة إلى قومه يخبرهم بغزو النعمان لهم، ويأمرهم أن يمدوا بني حن، ففعلوا. فلما غزاهم النعمان، هزم بنو حن وبنو ذبيان جمعه، وحازوا ما معهم من الغنائم، فقال النابغة في ذلك شعرا منه:
لقد قلت للنعمان يوم لقيته يريد بني حن ببرقة صادر
تجنب بني حن فان لقاءهم كريه، وإن لم تلق إلا بصابر
فهو يعاتب بذلك النعمان، ويذكره بعدم اهتمامه بنصحه له، وتخويفه اياه من عاقبة هذه الغارة.
وكان في جملة ما قاله النابغة عن بني حن بن حرام، وهم من عذرة، انهم كانوا قد منعوا "وادي القرى" عن عدوهم ومن أهله وحموه منهم، وهو كثير النخل، فتمنعوا بثمره، وطردوا "بليا"، وهم من "بني القين" وهم أصحابه من هذا الوادي، واستولوا على نخيلهم، ونفوهم إلى غير بلادهم، وهم الذين ضربوا أنف الفزارى، وهم الذين منعوها من قضاعة كلها ومن "مضر الحمراء"، وقتلوا الطائي بالحجر عنوة، ويريد به "أبا جابر الجلاس ابن وهب بن قيس بن عبيد، وكان ممن اجتمع عليه جديلة طيء. ومثل هؤلاء قوم لا يغلبون.
ويظهر من شعر للنابغة إن "النعمان" كان قد غزا تميما وقيس وائل، وانه أوجعهم، وقد غزاهم في الربيع.
وللنابغة أشعار أخرى في مدح "النعمان" هذا، منها أبيات استهلها بقوله:
والله والله لنعم الفتى إذ أعرج، لا النكس ولا الخامل
وقد أدرك النابغة أجل "النعمان بن الحارث بن أبي شمر"، اذ مات مقتولا فرثاه بقصيدة، يظهر منها انه كان يكنى ب "أبي حجر"، وانه قبر في موضع يقع بين "بصرى" و "جاسم".
وقد غزا "النعمان" العراق، ولا يستبعد "نولدكه" أن يكون هو الذي قصده المؤرخ "ثيوفلكتوس" حين تحدث عن غزو قام به عرب الروم على العراق في زمن الصلح أي حوالي سنة "600 م".
وقد مدح النابغة "النعمان بن الحارث الأصغر" في القصيدة التي تبدأ بقوله:
إن يرجع النعمان نفرح ونبتهج ويأت معدا ملكها وربيعها
ويرجع إلى غسان ملك وسؤدد وتلك التي لو اننا نستطيعها
ورثى "النابغة" النعمان في قصيدة جاء فيها إن شيبان وذهلا وقيس بني ثعلبة وتميما سروا بوفاته، لأنهم أمنوا بذلك على أنفسهم من غاراته ومن غزوه لهم. ويظهر من شعر النابغة فيه انه كان محاربا يغزو القبائل، ولذلك هابته. وقد بكاه بقوله:
بكى حارث الجولان من فقد ربه وجوران منه خاشع متفائل
وذكر "ابن قتيبة" إن النابغة لما صار إلى غسان، انقطع إلى "عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني" والى أخيه "النعمان بن الحارث"، فأقام النابغة فيهم فامتدحهم، فغم ذلك النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وبلغه إن الذي قذف به عنده باطل، فبعث إليه من يسأله أن يعود، فاعتذر النابغة في شعر، وقدم عليه مع زياد بن سيار ومنظور بن سيار الفزاريين، وقبل عذره ورحب به.
ثم ملك بعده - على رأي حمزة - الأيهم بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر، وهو على حد تعبيره صاحب "تدمر" و "قصر بركة" و "ذات أنمار" وغير ذلك.
ثم ملك بعد الأيهم بن جبلة شقبقه المنذر بن جبلة، وكان ملكه على رواية حمزة ثلاث عشرة سنة.
ثم صار الملك إلى شقيقه "شراحيل بن جبلة" على رواية حمزة. وكان ملكه خمسا وعشرين سنة وثلاثة أشهر.
ثم انتقل الحكم إلى "عمرو بن جبلة" بعد وفاة "شراحيل" وهو على رأي حمزة شقيقه، وقد حكم عشر سنين وشهرين.
ثم حول حمزة الحكم إلى "جبلة بن الحارث"، بعد وفاة "عمرو بن جبلة"، وهو على رأيه ابن أخيه. وجعل حكمه أربع سنين.
ثم صير حمزة الملك إلى "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن مارية"، وهو على رأيه آخر ملوك غسان. وكان ملكه ثلاث سنين. وهو الذي كان أسلم ثم تنصر، ولجأ إلى الروم. وقد سرد المسعودي نسبه على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن حجر بن النعمان بن الحارث بن الأيهم ابن الحارث بن جبلة بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة"، وسرده على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن مازن" في مكان آخر.
وذكره "ابن عبد ربه" على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني". وذكر "الذهبي" أن الأصل هو "الأهيم"، لا "الأيهم"، وكناه ب "أبي المنذر"، وقال إنه كان ينزل "الجولان".
وقد وصف بأنه كان طويلا، طوله اثني عشر شبرا، وكان إذا ركب مسحت قدمه الأرض.
وقد ورد اسم "جبلة بن الأيهم" في أخبار الفتوحات الاسلامية لبلاد الشام، إذ ذكر في "فتوح البلدان" للبلاذري: أن "هرقل" لما سمع بتجمع المسلمين ومقدمهم "يوم اليرموك"، بعث على مقدمته "جبلة بن الأيهم الغساني" في مستعربة الشام من لخم وجذام وغيرهم لمقاتلة المسلمين، غير أن "جبلة" انحاز في القتال إلى الأنصار قائلا: "أنتم إخوتنا وبنو أبينا، وأظهر الإسلام ".
أما الطبري فقد ذكر: أن خالدا لما صار إلى "مرج الصفر"، لقي عليه غسان، وعليهم "الحارث بن الأيهم". ولم يشر إلى جبلة. فيظهر أن وهما في الاسم قد وقع للرواة، فصار "جبلة" عند بعض، وصار "الحارث" عند بعض آخر، ولعل مرده إلى سهو وقع من النساخ.
ولحسان بن ثابت شعر في مدح "جبلة بن الأيهم"، وفي ذكر ملكه وملك "آل جفنة "، يظهر منه شدة تعلقه بهم على بعده عنهم وزوال ملكهم وابتعاده عنهم بالاسلام. وقد أورد المسعودي بعض الأشعار التي مدح حسان بها "جبلة ابن الأيهم" منها:
أشهرنها فإن ملكك بالشا م إلى الروم فخر كل يماني
وقد ورد في رواية من روايات أهل الأخبار أن حسان بن ثابت زار "جبلة ابن الأيهم"، وعنده "النابغة" و "علقمة بن عبدة" فانشده شعرا، فأعطاه ثلاثمئة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد، في كل عام مثلها. وتذكر رواية أخرى إن الشخص الذي زاره "حسان" هو "عمرو بن الحارث الأعرج"، وأنه مدحه فأعطاه الف دينار مرجوحة، وهي التي في كل دينار عشرة دنانير.
وذكر إن "جبلة بن الأيهم" لما سمع، وهو ببلاد الروم، أن حسانا قد صار مضرور البصر كبير السن، أرسل إليه خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج، فلما سلمها الرسول الذي حمل الهدية إليه، نظم شعرا في مدحه أوله:
إن ابن جفنة من بقية معشر لم يغذهم آباؤهم باللؤم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها كلا ولا متنصرا بالروم
وأخذ يراجع ذكريات تلك الأيام الخالية التي قضاها معه ومع بقية آل غسان.
وقد اتفقت روايات أهل الأخبار في موضوع دخول جبلة في الإسلام، ثم في ارتداده، إلا رواية واحدة ذهبت إلى انه لم يسلم. وقد ذهب أكثرهم في سبب ردته إلى إن أعرابيا من فزارة وطىء فضل إزار جبلة وهو يسحبه في الأرض بمكة، فلطمه جبلة، فنابذه الأعرابي إلى عمر، فحكم عمر له بالقصاص، فعد" جبلة القصاص اهانة له وهو ملك، ففر إلى بلاد الروم وارتد بها، وبقي بها مرتدا حتى وافته منيته. ولكن رواية "ابن قتيبة"، تختلف عن رواية أكثر أهل الأخبار في موضوع المكان الذي كان السبب في ارتداده عن الإسلام،اذ جعلته مدينة "دمشق"، قالت: "وكان سبب تنصره انه مر في سوق دمشق، فأوطأ رجلا فرسه، فوثب الرجل فلطمه، فأخذه الغسانيون فأدخلوه على أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم سيدنا. فقال أبو عبيدة بن الجراح: البينة إن هذا لطمك. قال: وما تصنع بالبينة ؟ قال: إن كان لطمك لطمته بلطمتك. قال: ولا يقتل؟ قال: لا. قال: ولا تقطع يده. قال: لا. انما أمر الله بالقصاص، فهي لطمة بلطمة. فخرج جبله ولحق بأرض الروم وتنصر".
ونجد خبر "ابن قتيبة" المذكور مدونا في كتاب "الطبقات" لابن سعد، حيث جاء: "وكتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب باسلامه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واهدى له هدية ولم يزل مسلما حتى كان في زمان عمر بن الخطاب، فبينما هو في سوق دمشق اذ وطىء رجلا من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ وانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبيلة،قال: فليلطمه، قالوا: وما يقتل ؟ قال: لا، قالوا: فما تقطع يده؟ قال: انما أمر الله، تبارك وتعالى بالقود. قال جبلة: أو ترون اني جاعل وجهي ندأ لوجه جدي جاء من عمق ! بئس الدين هذا ! ثم ارتد نصرانيا ! وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر، فشق عليه، وقال لحسان بن ثابت: أبا الوليد، أما علمت أن صديقك جبلة بن الأيهم ارتد نصرانيا ؟ قال: وحق له، فقام اليه عمر بالدرة فضربه بها".
وذكر بعض أهل السير والأخبار، أن الرسول كتب إلى جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان، كتابا دعاه فيه إلى الإسلام. فلما وصل الكتاب أسلم، وكتب إلى الرسول يعلمه باسلامه. و ذكر أن "شجاع بن وهب" انما بعثه رسول الله إلى جبلة، فأسلم، وأرسل إلى رسول الله هدية. وكان ينزل بالجولان.
وتزعم بعض الروايات أنه زار المدينة في خلافة "عمر". وقد عد يوم مجيئه اليها من الأيام المشهورة، اذ جاء اليها في موكب حافل كبير فيه خيول كثيرة لم تر المدينة مثلها من قبل، وخرج الناس إلى الطرق لرؤية موكبه. وفرح عمر بمجيئه، وعد ذلك توفيقا من الله للاسلام، وأكرمه غاية الاكرام. وبعد أن قابل الخليفة، استأذن منه بالذهاب إلى الحج، فوقع له عندئذ حادث الإزار مع الأعرابي، ففر إلى بلاد الروم، ويقال: انه توفي بالقسطنطينية سنة عشرين من الهجرة. وذكر أنه لما قدم المدينة كان في خمسمئة فارس من عك وجفنة. فلما دنا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوج بالذهب والفضة، ولبس تاجه وفيه قرط مارية وهي جدته، فلم يبق يومئذ بالمدينة أحد الا خرج ينظر إليه.
وقد ذكر "البلاذري" أن "جبلة بن الأيهم" حكم بعد "الحارث بن أبي شمر". وروى أنه لما قدم "عمر" الشام سنة "17" للهجرة، حدث أن لطم "جبلة" رجلا من مزينة على عينه، فأمره عمر بالاقتصاص منه، فقال: او عينه مثل عيني ! والله لا أقيم ببلد علي به سلطان. فدخل بلاد الروم مرتدا. وروى رواية أخرى خلاصتها أن جبلة أتى عمر على نصرانية، فعرض عمر عليه الإسلام، ولكنه لم بتفق مع عمر. فلما قال له عمر: ما عندي لك الا واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما أداء الجزية، وإما الذهاب إلى حيث شئت. فدخل بلاد الروم في ثلاثين ألفا فلما بلغ ذلك عمر ندم.
وتذكر رواية أن "جبلة بن الأيهم" عاش في القسطنطينية حتى مات سنه عشرين من الهجرة.
فنحن أمام روايتين بشأن مكان ردة جبلة، وتجاه رواية عن إسلامه. رواية تجعل ارتداده في مكة، ورواية تجعل ارتداده بدمشق، ورواية تذكر أنه لم يدخل مطلقا في الإسلام. ويظهر أن رواية دمشق هي أقرب إلى المنطق، اذ لا يعقل فرار جبلة من مكة إلى بلاد الروم بمثل هذه السهولة التي تخيلها أهل الأخبار، وبينه وبين بلاد الروم مسافات شاسعة ما كان في امكانه قطعها قط والنجاة من تعقب المسلمين له، لو كان موضع هربه هو مكة. أما دمشق، فانها قريبة من حدود الروم، ولدى جبلة فيها وسائل كبيرة تساعده على الهرب.
والرأي عندي أن جبلة، لم يدخل ابدا في الإسلام، وانما بقي مع الروم. وغادر بلاد الشام معهم، وكان يحارب المسلمين إلى جانبهم، وانتقل بأتباعه ممن بقوا على دينهم إلى بلاد الروم فأقآموا بها، وقد مات هناك ودفن في تلك البلاد. وما هذا الذي روي عن اسلامه وعن زيارته ليثرب ولمكة إلا من قصص القصاص وضعوه فيما بعد.
إن ما يذكره أهل الأخبار من ملك "جبلة"، لا يخلو من مبالغة. وما يقال عن ملكه وعن استقبال "هرقل" له، ذلك الاستقبال العظيم، لا- يخلو من مبالغة أيضا. نعم من الجائز أن الروم قبلوه لاجئا، ورحبوا به وساعدوه على أمل استخدامه لمهاجمة المسلمين، واسترداد بلاد الشام منهم. غير أننا لا نستطيع أن نوافق على ما ورد في روايات. أهل الأخبار من ذلك الوصف الذي ذكروه من احتفال الروم في القسطنطينية. ومن المعيشة التي كان يعيشها في عاصمتهم إلى حين وفاته. بل لقد شك بعض المستشرقين مثل "نولدكه" حتى في موضوع تملكه وتولية الحكم له على عرب الشام.
ونجد في خبر فتح دومة الجندل، رجلا من غسان كان قد تزعم قومه وجاء في "طواف من غسان وتنوخ" لنجدة أهل "دومة الجندل". وقد دعاه "الطبري"، "ابن الأيهم". ولم يشر إلى اسمه.
ونجد في "العقد الفريد" وصفا لمجلس "جبلة" ولمسكنه في القسطنطينية لا يخلو من مبالغة، وقد كتب وصفه إلى الرسول ذكر أن الخليفة عمر كان قد أرسله إلى "هرقل" ليدعوه إلى الإسلام. ويذكر الرسول الموفد أن "هرقل"" هو الذي أشار عليه بزيارة قصر "جبلة" فلما ذهب إليه، وجد على بابه من القهارمة والحجاب وكثرة الجمع مثل الذي على باب "هرقل"، ثم وصف مجلسه وأرائكه المرصعة بالجواهر، وغناء الجواري.في مجلسه بغناء حسان بن ثابت مما يجعله في ثراء الملوك الحاكمين لا الملوك الفارين.
واسم الرسول المذكور هو "جثامة بن مساحق الكناني". ويذكر بعض أهل الأخبار أن الخليفة معاوية أرسل "عبد الله بن مسعود الفزاري" إلى ملك الروم فوجد عنده "جبلة بن الأيهم "،فوصف مجلسه وما كان عليه من فاخر الملبس والمأكل والمسكن، وهو كلام فيه مبالغات وغلو في الكلام، على نمط ما رأيناه في وصف "جثامة". وهو يتفق معه في الخبر. والظاهر أن الرواة قد أخطأوا في هذا الخبر، فنسبوه مرة إلى رسول عمر،ونسبوه مرة أخرى إلى رسول معاوية
اسامه الدندشي