الشيخ/عبدالله الواكد
29-07-2010, 04:53
كتبتها تبيانا للناس بأن العمدة في دخول الأشهر القمرية هي الرؤية وليس الحساب الفلكي فعادة ما تكون بين يدي هذا الشهر الكريم وقبل أزفه جلبة واحتدام بين اهل الرؤية وأرباب الحساب
عبدالله بن فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحمد لله بنى السماء فأحكم ما بنى، وأجزل العطاء لمن كان محسِنا، وغفر الذنب لمن أساء وجنى، أحمده حمدا كثيرا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مسرًّا ومعلنًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله دعا إلى الله فما ضعف وما ونى، صلـى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أهل العز والسنا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله : فأوصيكم ونفسي بتقوى الله القائل ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )، فاتقوا الله رحمكم الله، فالأيام قلائل، والأهواء قواتل، فليعتبر الأواخر بالأوائل، من كان الموت طالبُه كيف يلذّ له قرار؟ ومن كان رحيله إلى الآخرة فليست له الدنيا بدار.
بنو آدم فرائس الأحداث، وغرائس الأجداث، لقد صدق الزمان في تصريفه وما كذب، وأرى الناس في تقلباته العجب، فبادروا ـ رحمكم الله ـ فرمضان على الأبواب ، وأيامكم من سراب إلى سراب ، فقد بقي على رمضان إحدى عشر يوما ، فاستعدوا صدقة وذكرا وقياما وصوما ، فما أتعس من ملأ أيامه كسلا ونوما ، استعدوا للقدوم إلى رحمة غافر الذنب وقابل التوب ، أكثروا فيه الندم على مافات ، والعمل لما هو آت ، والترحم على من مات ، من الآباء والأمهات ، والأقرباء والقريبات
معاشر المسلمين،لا يزال ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن:5]، هذان الكوكابان النيران ، يجريان بدقة بالغة، ويسيران بنظام عجيب ، وقد هدى الله الإنسان لإدراك مسيرهما، لينظم أوقاته، ويعرف اتجاهاته، فعرف الأفلاك في دورانها، والنجوم في منازلها وجريانها ، وتقلّب الأيام في فصولها، صيفها وشتائها وخريفها وربيعها، فتبارك الله (تَبَارَكَ ٱلَّذِى جَعَلَ فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً )
فيا عباد الله
في تعاقب الشهور والأهلة مشهدُ الفناء على رؤوس الأحياء، تمضي الأيام وتمضي معها أشطار العمر وأجزاؤه،
ولقد كان لديننا من حساب الزمن موقفٌ واضح بناؤه , إذ ربط ذلك الحساب بالهلال ، فربط به حساب الشهور وتقدير أوقاتها ، لتجري عليها أمور الدين والدنيا والتشريع، ( هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقّ يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5]، لقد قدر الله بمنّه ولطفه القمر منازل حتى عاد كالعرجون القديم ، وجعل له أحوالاً من الإهلال والإقمار والإبدار والإسرار ، لنعلم عددَ السنين والحساب، فجاءت كثير من الأحكام والتشريعات مرتبطة بالأوقات وبالأهلة ، قال تعالى ( إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَـٰباً مَّوْقُوتاً [النساء:103]، وقال سبحانه ( شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، وقال عز وجل ( يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجّ [البقرة:189 ، فجعل الله الأهلة مواقيت للعبادات العامة والخاصة ، للحج والصيام والإفطار وصوم الكفارة وصوم النذر والطلاق والإيلاء وغيرها، عباداتٌ وأحكام موقوتة في مواقيت محدودة، مرتبطة بالزمن، وهذا الزمن مقيد بالهلال .
أيها الإخوة المسلمون ، ارتبط حسابُ الزمن بالأهلة تيسيراً على العباد ، لو قيل للعباد لا تتم صلاتكم وصيامكم وحجكم إلا بحساب فلكي ، لا يتم إلا بحساب الزوايا وظلها وجيوبها وسمتها وغايتها ونظيرها وأقواسها ، وأخماسها وأسداسها ، وضرب شيء في شيء مما لا يعرفه إلا القلة المتخصصة من الناس ، لكان حرجا عظيما ، قال تعالى (ما جعل الله عليكم في الدين من حرج )،
من رحمة الله عز وجل بعباده أن جعل لأوقات العبادات علاماتٌ واضحة، لا يختص بمعرفتها فئة دون فئة، بل يشترك في إدراكها العامة والخاصة، أُنيطت بأمور محسوسة، وعلامات مشاهدة، وكواكب سيارة، يعرفها المتعلم والأمي، والحاضر والباد ، ويهتدي بطلوعها وغروبها المكلَّفون أجمعون، من رؤيةٍ وطلوع وغروب وظلٍّ وزوال ، أُنيط ضبط العبادات والمعاملات ، بما تدركه فهوم عموم المكلَّفين، وما جرت عليه عاداتهم، ونعلم جميعا أن الضبط للمواقيت مقياس تحضُّر الأمم، ولكن التكلف في التوقيت في جانب العبادات تضييق وحرج، فإذا ما دقّت وسائل التوقيت ضاق الحال على المكلَّفين. وما أيسر قول الله تعالى ( فكلوا واشربوا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) وما أيسر قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم )
أحكام شرعية مربوطة بأبسط المقاييس الحسية ، يدركها البدوي في الصحراء ، والمزارع في الحقل ، والناس في كل مكان ، يسر وسهولة ، وعدم تعنيت وتكليف ،
من أجل هذا ـ أيها المسلمون ـ فالعمدة في دخول شهر رمضان وخروجه وغيره من أشهر المسلمين ، ليس الحساب الفلكي ، ولكن رؤية الهلال ، ولا بأس بالإستعانة بالحساب الفلكي ، لمعرفة منزل الهلال يوم الرؤية ، ودرجة مغيبه ، وبعده الزاوي ، لتسهيل رؤيته ، ولكن لا يعتمد عليه في دخول الشهر وخروجه ، إنما يعتمد على الرؤية ، هذا ما دلت عليه ظاهر الأدلة بمنطوقها وليس بمفهومها ، فكلكم بفضل الله يستطيع أن يحتسب الأجر عند الله ، ويشارك المسلمين في ترائي شهر رمضان المبارك ، فإذا كان اليوم التاسع والعشرون من شعبان ، فاخرج لترائي الهلال ، وشارك المسلمين في هذا العمل الجليل ، لأن الشارع علق دخول الشهر بإحدى طريقتين: إما رؤية الهلال، وإما إكمال العدة ثلاثين، وهما طريقتان ميسّرتان، يعرفهما عموم الخلق، فهو ربط بأمر محسوس، يستوي في إدراكه جميع البشر، تأملوا ياعباد الله الحديثين التاليين وكلاهما صحيح ، الأول فيه أمر بالصيام والآخر فيه نهي عن الصيام إلا بشرط الرؤية ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فاقدروا ثلاثين)) أخرجه البخاري ومسلم فهذا أمر ، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي[2] وهذا نهي عن الصيام حتى يرى الهلال . والشهر الهلالي يكون تارة ثلاثين يوما، وتارة تسعة وعشرين يوما، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الشهر يكون تسعاً وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) أخرجه البخاري ومسلم ، وما سمِّي الهلال هلالاً إلا لظهوره وبيانه، والحكم مبنيٌ على رؤية الهلال بالبصر، لا على تقدير وجوده في السماء ، ولا على ولادته ، لأنه قد يولد ولا يرى ، لأننا متعبدون برؤيته وليس بولادته ، فإن لم يُرَ بالبصر أكمل الناس عدةَ الشهر ثلاثين يوماً، ففي الحديث الصحيح: ((فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين))[4]، وهو توجيه جليّ، لأن الهلال إذا لم يُر بسبب حائلٍ من غمام أو غبار وإن كان قد هل ، فإن المطلوب إكمال ثلاثين يوماً، ولسنا مأمورين بركوب طائرة وتخطي السحاب والغمام وتكليف أنفسنا رؤيته ، وركوب الطائرة أقرب إلى الصواب من الحساب ، لأن فيه رؤية ومع ذلك لم نكلف ذلك ، فلما يتكلّف المسلمون ما لم يكلفوا .
فيا عباد الله : الرؤية شيء حسِّيّ عملي، وليست فكراً ولا حساباً، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "وكان من هديه أن لا يدخل في صوم إلا برؤية محقّقة أو بشهادة شاهد واحد، فإن لم يكن رؤية ولا شهادة، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً"[5].
أيها المسلمون: نسأل الله عز وجل أن يبلغنا وإياكم شهر الرحمة والغفران رمضان ، نسأله أن يبلغنا رؤية هلال بشير الخير ، ومشرق أنوار القرآن، وشذا نفحات الجنان، وواحة الاسترواح في صحراء الضعف والتقصير، وراحُ الأرواح بالصلاة والصيام والقرآن والقيام
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:37-40].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أما بعد أيها المسلمون : فاختلافُ مطالع الأهلة بين البلدان والأقاليم أمر متقرِّر عند أهل الشأن، ولكن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا إذا رئي الهلال في بلد أو إقليم فهل يلزم جميع البلدان الصيام؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أن لكل قوم رؤيتهم، وذهب طوائف من أهل العلم إلى القول بلزوم الصوم على الجميع، والأمر في هذه المسألة ولله الحمد والمنة واسع، والاجتهاد فيها فسيح، غيرَ أنه لا ينبغي التهويل ولا الإرجاف ، ولا القدح في وحدة المسلمين ، بسبب أنهم اختلفوا في مداخل ومخارج شهورهم ، فالحج مثلا يتقرر دخول شهره ، بحسب المكان الذي فيه عرفه ، وهي مكة المكرمة ، وأما غير الحج من العبادات ، فهي تتبع لأماكنها ، ولا يكون اختلاف الأقطار الإسلامية في يومي الصوم والإفطار مدعاة للتفكّك والنزاع، فاختلاف المسلمين في يوم صومهم ويوم فطرهم لا أثر له في وحدة المسلمين ، ولا حرج أن يصوم قطر قبل قطر ، أو دولة قبل دولة ، فربما رأى هؤلاء الهلال ، وغم على أولائك فلم يروه فقدروا له ثلاثين يوما ، لا حرج في ذلك ، لكن الحرج والبأس أن يتفكك المسلمون ، لأن المسلمين كانوا متّحدين مع اختلافهم في وقت دخول الشهر وخروجه، فهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في مدينة رسول الله لم يوافق معاوية رضي الله عنه في الشام في يوم الدخول ولا في يوم الخروج، ولم تتفرّق القلوب، ولم يتشتّت شملُ الأمة الموحدة، والوحدة الإسلامية لا تتمّ بارتجالية الفكر، ولا بعاطفة الشعور. ولكن بالتمسك بنصوص الشريعة والاشتغال بما يجمع الكلمة من الحكم بشرع الله، وسلامة القلوب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتربية أبناء المسلمين على منهج الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير نبيكم محمد المصطفى ورسولكم المجتبى، فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال في محكم كتابه قولاً كريماً: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
عبدالله بن فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحمد لله بنى السماء فأحكم ما بنى، وأجزل العطاء لمن كان محسِنا، وغفر الذنب لمن أساء وجنى، أحمده حمدا كثيرا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مسرًّا ومعلنًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله دعا إلى الله فما ضعف وما ونى، صلـى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أهل العز والسنا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله : فأوصيكم ونفسي بتقوى الله القائل ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )، فاتقوا الله رحمكم الله، فالأيام قلائل، والأهواء قواتل، فليعتبر الأواخر بالأوائل، من كان الموت طالبُه كيف يلذّ له قرار؟ ومن كان رحيله إلى الآخرة فليست له الدنيا بدار.
بنو آدم فرائس الأحداث، وغرائس الأجداث، لقد صدق الزمان في تصريفه وما كذب، وأرى الناس في تقلباته العجب، فبادروا ـ رحمكم الله ـ فرمضان على الأبواب ، وأيامكم من سراب إلى سراب ، فقد بقي على رمضان إحدى عشر يوما ، فاستعدوا صدقة وذكرا وقياما وصوما ، فما أتعس من ملأ أيامه كسلا ونوما ، استعدوا للقدوم إلى رحمة غافر الذنب وقابل التوب ، أكثروا فيه الندم على مافات ، والعمل لما هو آت ، والترحم على من مات ، من الآباء والأمهات ، والأقرباء والقريبات
معاشر المسلمين،لا يزال ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن:5]، هذان الكوكابان النيران ، يجريان بدقة بالغة، ويسيران بنظام عجيب ، وقد هدى الله الإنسان لإدراك مسيرهما، لينظم أوقاته، ويعرف اتجاهاته، فعرف الأفلاك في دورانها، والنجوم في منازلها وجريانها ، وتقلّب الأيام في فصولها، صيفها وشتائها وخريفها وربيعها، فتبارك الله (تَبَارَكَ ٱلَّذِى جَعَلَ فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً )
فيا عباد الله
في تعاقب الشهور والأهلة مشهدُ الفناء على رؤوس الأحياء، تمضي الأيام وتمضي معها أشطار العمر وأجزاؤه،
ولقد كان لديننا من حساب الزمن موقفٌ واضح بناؤه , إذ ربط ذلك الحساب بالهلال ، فربط به حساب الشهور وتقدير أوقاتها ، لتجري عليها أمور الدين والدنيا والتشريع، ( هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقّ يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5]، لقد قدر الله بمنّه ولطفه القمر منازل حتى عاد كالعرجون القديم ، وجعل له أحوالاً من الإهلال والإقمار والإبدار والإسرار ، لنعلم عددَ السنين والحساب، فجاءت كثير من الأحكام والتشريعات مرتبطة بالأوقات وبالأهلة ، قال تعالى ( إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَـٰباً مَّوْقُوتاً [النساء:103]، وقال سبحانه ( شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، وقال عز وجل ( يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجّ [البقرة:189 ، فجعل الله الأهلة مواقيت للعبادات العامة والخاصة ، للحج والصيام والإفطار وصوم الكفارة وصوم النذر والطلاق والإيلاء وغيرها، عباداتٌ وأحكام موقوتة في مواقيت محدودة، مرتبطة بالزمن، وهذا الزمن مقيد بالهلال .
أيها الإخوة المسلمون ، ارتبط حسابُ الزمن بالأهلة تيسيراً على العباد ، لو قيل للعباد لا تتم صلاتكم وصيامكم وحجكم إلا بحساب فلكي ، لا يتم إلا بحساب الزوايا وظلها وجيوبها وسمتها وغايتها ونظيرها وأقواسها ، وأخماسها وأسداسها ، وضرب شيء في شيء مما لا يعرفه إلا القلة المتخصصة من الناس ، لكان حرجا عظيما ، قال تعالى (ما جعل الله عليكم في الدين من حرج )،
من رحمة الله عز وجل بعباده أن جعل لأوقات العبادات علاماتٌ واضحة، لا يختص بمعرفتها فئة دون فئة، بل يشترك في إدراكها العامة والخاصة، أُنيطت بأمور محسوسة، وعلامات مشاهدة، وكواكب سيارة، يعرفها المتعلم والأمي، والحاضر والباد ، ويهتدي بطلوعها وغروبها المكلَّفون أجمعون، من رؤيةٍ وطلوع وغروب وظلٍّ وزوال ، أُنيط ضبط العبادات والمعاملات ، بما تدركه فهوم عموم المكلَّفين، وما جرت عليه عاداتهم، ونعلم جميعا أن الضبط للمواقيت مقياس تحضُّر الأمم، ولكن التكلف في التوقيت في جانب العبادات تضييق وحرج، فإذا ما دقّت وسائل التوقيت ضاق الحال على المكلَّفين. وما أيسر قول الله تعالى ( فكلوا واشربوا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) وما أيسر قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم )
أحكام شرعية مربوطة بأبسط المقاييس الحسية ، يدركها البدوي في الصحراء ، والمزارع في الحقل ، والناس في كل مكان ، يسر وسهولة ، وعدم تعنيت وتكليف ،
من أجل هذا ـ أيها المسلمون ـ فالعمدة في دخول شهر رمضان وخروجه وغيره من أشهر المسلمين ، ليس الحساب الفلكي ، ولكن رؤية الهلال ، ولا بأس بالإستعانة بالحساب الفلكي ، لمعرفة منزل الهلال يوم الرؤية ، ودرجة مغيبه ، وبعده الزاوي ، لتسهيل رؤيته ، ولكن لا يعتمد عليه في دخول الشهر وخروجه ، إنما يعتمد على الرؤية ، هذا ما دلت عليه ظاهر الأدلة بمنطوقها وليس بمفهومها ، فكلكم بفضل الله يستطيع أن يحتسب الأجر عند الله ، ويشارك المسلمين في ترائي شهر رمضان المبارك ، فإذا كان اليوم التاسع والعشرون من شعبان ، فاخرج لترائي الهلال ، وشارك المسلمين في هذا العمل الجليل ، لأن الشارع علق دخول الشهر بإحدى طريقتين: إما رؤية الهلال، وإما إكمال العدة ثلاثين، وهما طريقتان ميسّرتان، يعرفهما عموم الخلق، فهو ربط بأمر محسوس، يستوي في إدراكه جميع البشر، تأملوا ياعباد الله الحديثين التاليين وكلاهما صحيح ، الأول فيه أمر بالصيام والآخر فيه نهي عن الصيام إلا بشرط الرؤية ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فاقدروا ثلاثين)) أخرجه البخاري ومسلم فهذا أمر ، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي[2] وهذا نهي عن الصيام حتى يرى الهلال . والشهر الهلالي يكون تارة ثلاثين يوما، وتارة تسعة وعشرين يوما، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الشهر يكون تسعاً وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) أخرجه البخاري ومسلم ، وما سمِّي الهلال هلالاً إلا لظهوره وبيانه، والحكم مبنيٌ على رؤية الهلال بالبصر، لا على تقدير وجوده في السماء ، ولا على ولادته ، لأنه قد يولد ولا يرى ، لأننا متعبدون برؤيته وليس بولادته ، فإن لم يُرَ بالبصر أكمل الناس عدةَ الشهر ثلاثين يوماً، ففي الحديث الصحيح: ((فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين))[4]، وهو توجيه جليّ، لأن الهلال إذا لم يُر بسبب حائلٍ من غمام أو غبار وإن كان قد هل ، فإن المطلوب إكمال ثلاثين يوماً، ولسنا مأمورين بركوب طائرة وتخطي السحاب والغمام وتكليف أنفسنا رؤيته ، وركوب الطائرة أقرب إلى الصواب من الحساب ، لأن فيه رؤية ومع ذلك لم نكلف ذلك ، فلما يتكلّف المسلمون ما لم يكلفوا .
فيا عباد الله : الرؤية شيء حسِّيّ عملي، وليست فكراً ولا حساباً، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "وكان من هديه أن لا يدخل في صوم إلا برؤية محقّقة أو بشهادة شاهد واحد، فإن لم يكن رؤية ولا شهادة، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً"[5].
أيها المسلمون: نسأل الله عز وجل أن يبلغنا وإياكم شهر الرحمة والغفران رمضان ، نسأله أن يبلغنا رؤية هلال بشير الخير ، ومشرق أنوار القرآن، وشذا نفحات الجنان، وواحة الاسترواح في صحراء الضعف والتقصير، وراحُ الأرواح بالصلاة والصيام والقرآن والقيام
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:37-40].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أما بعد أيها المسلمون : فاختلافُ مطالع الأهلة بين البلدان والأقاليم أمر متقرِّر عند أهل الشأن، ولكن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا إذا رئي الهلال في بلد أو إقليم فهل يلزم جميع البلدان الصيام؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أن لكل قوم رؤيتهم، وذهب طوائف من أهل العلم إلى القول بلزوم الصوم على الجميع، والأمر في هذه المسألة ولله الحمد والمنة واسع، والاجتهاد فيها فسيح، غيرَ أنه لا ينبغي التهويل ولا الإرجاف ، ولا القدح في وحدة المسلمين ، بسبب أنهم اختلفوا في مداخل ومخارج شهورهم ، فالحج مثلا يتقرر دخول شهره ، بحسب المكان الذي فيه عرفه ، وهي مكة المكرمة ، وأما غير الحج من العبادات ، فهي تتبع لأماكنها ، ولا يكون اختلاف الأقطار الإسلامية في يومي الصوم والإفطار مدعاة للتفكّك والنزاع، فاختلاف المسلمين في يوم صومهم ويوم فطرهم لا أثر له في وحدة المسلمين ، ولا حرج أن يصوم قطر قبل قطر ، أو دولة قبل دولة ، فربما رأى هؤلاء الهلال ، وغم على أولائك فلم يروه فقدروا له ثلاثين يوما ، لا حرج في ذلك ، لكن الحرج والبأس أن يتفكك المسلمون ، لأن المسلمين كانوا متّحدين مع اختلافهم في وقت دخول الشهر وخروجه، فهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في مدينة رسول الله لم يوافق معاوية رضي الله عنه في الشام في يوم الدخول ولا في يوم الخروج، ولم تتفرّق القلوب، ولم يتشتّت شملُ الأمة الموحدة، والوحدة الإسلامية لا تتمّ بارتجالية الفكر، ولا بعاطفة الشعور. ولكن بالتمسك بنصوص الشريعة والاشتغال بما يجمع الكلمة من الحكم بشرع الله، وسلامة القلوب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتربية أبناء المسلمين على منهج الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير نبيكم محمد المصطفى ورسولكم المجتبى، فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال في محكم كتابه قولاً كريماً: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].