محمدالمهوس
08-04-2010, 20:44
(( الله احشرني في زمرة المســــاكين ))
خطبة جمعة الغد ، أسأل الله أن ينفع بها
لا تنسوني من دعوة خاصة .
وفقكم الله
*** الخطبة منزلة على ملف أسفله .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، قدّر منازلَ البريّة وقضاها، أحمده تعالى وأشكره على آلائه التي لا تتناهَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خصَّنا بشريعة التراحم والتكافل وجليلِ مزاياها، وأشهد أن نبينا محمّدًا عبد الله ورسوله أرأَف الخليقة وأحناها، خير من أرسى حقوق الفقراء والأيتامى وحماها، فأزال عن أمته معالم الخصاصة وعفَّاها، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الباذلين كرائم الندى وأحلاها، وصحبه الأُولى زاحموا بتعاطفهم فرقد السنَاءِ وثُريَّاها، فحازوا أنبل أوجه السعادة ومُحيَّاها، ومن تبعهم بإحسان ما سعت أمة في إصلاح دينها ودنياها.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى؛ فعند الله للأتقياءِ المزيد، ولهم النجاةُ يومَ الوعيد.
أيّها المسلمون / فئةٌ في المجتمَع هم أكثرُ أهلِ الجنة، أعلَى الله منزلتَهم وإن احتقَرهم بعضُ الخلق، أدناهم الله مِنه وإن جفَاهم النّاس، قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اطَّلعتُ في الجنّة فرأيتُ أكثرَ أهلها الفقراءَ ...)) متفق عليه.
هم أقرَب النّاس إلى الأنبياءِ وأكثرُ أتباعِ الرّسل، قال جل شأنه حكايةً عن قوم نوحٍ عليه السلام:((قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ)) [الشعراء:111]، وعندما سأل هرقل أبا سفيان: عن أتباعِ محمّد، قال أبوسفيان ضعفاء الناس، قال: نعم وهم أتباعُ الرسل. رواه البخاريّ.
أمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يكون إقبالُه عليهم، وأنزلَ الله العتاب في الإعراضِ عنهم: ((عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)) [عبس:1-4].
من لم يدنُ منهم أو يَأمر بالإحسانِ إليهم كان موبَّخًا في كتابِ الله: ((كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)) [الفجر:17، 18].
صرَف الله عنهم فِتنةَ هذه الأمّة، قال صلى الله عليه وسلم: ((لكلِّ أمّة فتنةٌ، وفتنة أمّتي المال)) رواه الترمذي.
يغضَب الله على من بخَسهم حقًّا من حقوقِهم، أصحابُ الجنة الذين ذكرَهم الله في سورة القلَم منعوا الفقيرَ تكثُّرًا لأموالهم، فأحرَق الله زروعَهم، ((فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ))[القلم:19، 20].
دعَواتهم حريَّةٌ بالإجابة لخلوِّ قلوبهم من التعلُّق بزُخرف الحياةِ، قال ابن القيم رحمه الله: "والله عند المنكسِرة قلوبُهم".
خيرُ الأطعمة ما شهِدوها، قال صلى الله عليه وسلم: ((شرُّ الطعامِ طعامُ الوليمة؛ يُدعَى لها الأغنياء ويُترَك الفقراء)) متفق عليه، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يأكُل حتّى يؤتى بمسكين يأكل معه. متفق عليه.
إطعامُهم موجِبٌ للجنان، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أفشوا السّلام وأطعِموا الطعامَ وصلّوا والناس نِيام تدخُلوا الجنّةَ بسلام)) رواه الترمذي.
الساعي عليهم كالمجاهدِ والعابد، قال صلى الله عليه وسلم: ((الساعِي على الأرملة والمسكينِ كالمجاهد في سبيلِ الله أو كالذي يصوم النّهارَ ويقوم اللّيل)) متفق عليه، وكان نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم أقربَ الناس إليهم، يتلمَّس أحوالهم، ويقضِي حاجاتِهم، يقول سهل بنُ حنيف رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاءَ المسلمين ويزورهم ويعودُ مرضاهم ويشهَد جنائزهم. رواه أبو يعلى، وكان جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يكنَى بأبي المساكين؛ يحِبُّهم ويسكُن بجانبهم ويكثِر من الصدقة عليهم.
في مجالستِهم نماءُ المال وصفاءُ النفس وزهدٌ في الدنيا وتذكير بالنِّعم وشَحذٌ للهمم إلى الآخرة، في القُرب منهم تتفتَّح أبواب الرّزق، يقول عليه الصلاة والسلام: ((قال الله عز وجل: أَنْفِقْ أُنْفِق عليك)) رواه البخاري، وبهم تدفَع الآفاتُ والشرور، قال عليه الصلاة والسلام: ((هل تنصَرون وترزَقون إلا بضعفائكم؟!)) رواه البخاري، قال المناوي رحمه الله: "بسبَبِ كونِهم بين أظهرِكم، أو بِسبب رِعايَتِكم ذِمامَهم، أو ببَركة دعائهم".
وكان الخلفاء يطلُبون النصرَ بإكرامهم والبذلِ لهم، يقول الخليفة نور الدين رحمه الله وهو يقرِّب الفقراءَ إليه ويحنو إليهم: "هم قومٌ يقاتلون عنِّي وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطِئ" أي: بالدعاء.
فأكرِم نفسَك بإكرامهم وقضاءِ حوائجهم، ولا تحتقر فقيرًا لقلَّة ذاتِ يده؛ ففي الفقراء عظماءُ وجهابِذة وحفّاظ ونُبَلاء. الإمام البخاريّ رحمه الله جمع كتابَه الصحيحَ الذي هو غرّةٌ في جبينِ الزّمان لم يكن عندَه ما يشترِي به طعامًا، بل كان يأكل من نباتِ الأرض، والإمام أحمدُ رحمه الله ـ الذي قال عنه الذهبيّ: "هو الإمام حقًّا وشيخ الإسلام صِدقًا" ـ يرهن نعلَيه عند خبّاز على طعامٍ أخذه منه.
وأشرَف قرنٍ في الزّمان قرنُ صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسَّ الجوع بطونَهم، يقول المغيرة رضي الله عنه: كنّا في بلاءٍ شديد نمُصّ الجلدَ والنوى من الجوع. رواه البخاري. وراوِيَة الإسلام حاوِي العلم أبو هريرة رضي الله عنه كان أحدَ أعلام الفقراء يقول: لقد رأيتُني وإني لأخِرّ فيما بين مِنبر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرةِ عائشة مغشِيًّا عليَّ، فيجيء الجائِي فيضَع رجلَه على عنقِي ويظنّ أني مجنونٌ، وما بي جنون، ما بي إلاّ الجوع. رواه البخاري.
ونبيُّنا محمّد صلى الله عليه وسلم كان يبيت اللياليَ المتتابعَة طاوِيًا هو وأهله لا يجِدون عشاء. متفق عليه. وخرج مِن داره مِرارًا من شدّةِ الجوع، ورَبط على بطنِه حجَرًا وحجَرين تخفيفًا لألمه، يقول أبو طلحة رضي الله عنه: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا من الجوعِ عليه الصلاة والسلام، ولم يخلِّف دِرهمًا ولا دينارًا ولا شاةً ولا بعيرًا. وخرج أبو بكر وعمَر رضي الله عنهما من دارِهما من ألَم الجوع، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: خرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال: ((ما أخرجكما من بيوتِكما هذه الساعةَ؟!)) قالا: الجوع يا رسولَ الله، قال: ((وأنا والذي نفسِي بيده لأخرجَني الذي أخرَجَكما)) رواه البخاري.
فلا تتعالَ على فقيرٍ- ياعبدالله - ففِيهم مجابُ الدعوة المقرَّبُ من الله، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((رُبَّ أشعثَ مدفوع بالأبواب لو أقسَم على الله لأبرّه)) رواه مسلم.
والفقراء يحملون زادَ الأغنياء للآخِرة، فلولا المساكينُ ما انتفَع الغنيُّ بغناه، وللفَقير فضلٌ على الغنيّ في قَبول صدقته، فإن قبِلها الله منكَ رفعَك الله بها درجاتٍ، وطريقُ الغِنى والسّعةِ في الأغلَب طريقُ عَطب، والزمان ذو تقلُّبٍ، تصبِح غنيًّا وقد تمسِي فقيرًا، فاحفَظ مالَك بالإنفاقِ، ولا تردَّ فقيرًا بلا عطاء، فما اشتكى فقيرٌ إلاّ مِن تقصيرِ غنيّ .
فشاطِرِ الفقراءَ أفراحهم وآلامَهم بالبشاشةِ والابتِسام، واجعَل الفقيرَ أحدَ أفراد أسرتِك، وأحبَّه وادنُ منه مع حسنِ الملاطفة واللّين، وتأسَّ بذوِي الكرَم والتواضعِ والسّخاء، يقول عثمان رضي الله عنه: (حُبِّب إليَّ من الدّنيا ثلاثة: إِشباع جائِعٍ وكسوَة العارِي وتلاوة القرآن).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
عباد الله /
سئِل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال: ((تطعِم الطعامَ وتقرأ السلام على مَن عرفت ومَن لم تعرف)) رواه البخاري.
فخِفْضُ جناحِ الذلِّ للفقير بالعطاء والإنفاق عليه من أسبابِ الثّبات على الدّين ، واليسيرُ منَ البذلِ له يستُر منَ النار، يقول عليه الصلاة والسلام: ((يا عائشة، استتِري من النار ولو بشقِّ تمرة؛ فإنها تسدّ من الجائع مسدَّها من الشبعان)) رواه أحمد. والصدقة تدفع البلاءَ، وتقي مصارعَ السوء، وتطفئ الخطيئة، وتهوِّن شدائدَ الدنيا والآخرة، ويستظلّ صاحبها فيها في المحشر حتى يُقضَى بين الخلائق، وتحفَظ المال وتنمّيه، وتجلب الرزقَ، وتحبِّب العبدَ إلى الله، وتدعوه إلى سائر أعمال البرّ فلا تستعصي عليه.
والمنفِق تتيسَّر له أمور الحياة، قال عز وجل: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)) [الليل:5-10]، وفي صبيحة كلِّ يوم يدعو ملَك للمنفِق مالَه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من يومٍ يصبح العبادُ فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللّهمّ أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللّهمّ أعطِ ممسِكًا تلفًا)) متّفق عليه.
والغنيُّ الجشِع لا لنفسِه انتفَع، ولا ببَذله للفقراء ارتفَع. والمال يعرِض له الشرُّ بعارضِ البخل أو الإسرافِ في إنفاقه، ((وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ)) [محمد:38]. والمال كالحجَر في اليد؛ لا ينتفَع به إلاّ إن فارقَ الكف،َّ والممسِك يندم إذا دنَا أجلُه، قال جلّ وعلا: ((وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ)) [المنافقون:10].
هذا وصلوا على البشير النذير والسراج المنير الذي أمر الله بالصلاة والسلام عليه فقال في محكَم التنزيلِ: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على نبيّنا محمّد...
خطبة جمعة الغد ، أسأل الله أن ينفع بها
لا تنسوني من دعوة خاصة .
وفقكم الله
*** الخطبة منزلة على ملف أسفله .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، قدّر منازلَ البريّة وقضاها، أحمده تعالى وأشكره على آلائه التي لا تتناهَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خصَّنا بشريعة التراحم والتكافل وجليلِ مزاياها، وأشهد أن نبينا محمّدًا عبد الله ورسوله أرأَف الخليقة وأحناها، خير من أرسى حقوق الفقراء والأيتامى وحماها، فأزال عن أمته معالم الخصاصة وعفَّاها، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الباذلين كرائم الندى وأحلاها، وصحبه الأُولى زاحموا بتعاطفهم فرقد السنَاءِ وثُريَّاها، فحازوا أنبل أوجه السعادة ومُحيَّاها، ومن تبعهم بإحسان ما سعت أمة في إصلاح دينها ودنياها.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى؛ فعند الله للأتقياءِ المزيد، ولهم النجاةُ يومَ الوعيد.
أيّها المسلمون / فئةٌ في المجتمَع هم أكثرُ أهلِ الجنة، أعلَى الله منزلتَهم وإن احتقَرهم بعضُ الخلق، أدناهم الله مِنه وإن جفَاهم النّاس، قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اطَّلعتُ في الجنّة فرأيتُ أكثرَ أهلها الفقراءَ ...)) متفق عليه.
هم أقرَب النّاس إلى الأنبياءِ وأكثرُ أتباعِ الرّسل، قال جل شأنه حكايةً عن قوم نوحٍ عليه السلام:((قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ)) [الشعراء:111]، وعندما سأل هرقل أبا سفيان: عن أتباعِ محمّد، قال أبوسفيان ضعفاء الناس، قال: نعم وهم أتباعُ الرسل. رواه البخاريّ.
أمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يكون إقبالُه عليهم، وأنزلَ الله العتاب في الإعراضِ عنهم: ((عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)) [عبس:1-4].
من لم يدنُ منهم أو يَأمر بالإحسانِ إليهم كان موبَّخًا في كتابِ الله: ((كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)) [الفجر:17، 18].
صرَف الله عنهم فِتنةَ هذه الأمّة، قال صلى الله عليه وسلم: ((لكلِّ أمّة فتنةٌ، وفتنة أمّتي المال)) رواه الترمذي.
يغضَب الله على من بخَسهم حقًّا من حقوقِهم، أصحابُ الجنة الذين ذكرَهم الله في سورة القلَم منعوا الفقيرَ تكثُّرًا لأموالهم، فأحرَق الله زروعَهم، ((فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ))[القلم:19، 20].
دعَواتهم حريَّةٌ بالإجابة لخلوِّ قلوبهم من التعلُّق بزُخرف الحياةِ، قال ابن القيم رحمه الله: "والله عند المنكسِرة قلوبُهم".
خيرُ الأطعمة ما شهِدوها، قال صلى الله عليه وسلم: ((شرُّ الطعامِ طعامُ الوليمة؛ يُدعَى لها الأغنياء ويُترَك الفقراء)) متفق عليه، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يأكُل حتّى يؤتى بمسكين يأكل معه. متفق عليه.
إطعامُهم موجِبٌ للجنان، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أفشوا السّلام وأطعِموا الطعامَ وصلّوا والناس نِيام تدخُلوا الجنّةَ بسلام)) رواه الترمذي.
الساعي عليهم كالمجاهدِ والعابد، قال صلى الله عليه وسلم: ((الساعِي على الأرملة والمسكينِ كالمجاهد في سبيلِ الله أو كالذي يصوم النّهارَ ويقوم اللّيل)) متفق عليه، وكان نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم أقربَ الناس إليهم، يتلمَّس أحوالهم، ويقضِي حاجاتِهم، يقول سهل بنُ حنيف رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاءَ المسلمين ويزورهم ويعودُ مرضاهم ويشهَد جنائزهم. رواه أبو يعلى، وكان جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يكنَى بأبي المساكين؛ يحِبُّهم ويسكُن بجانبهم ويكثِر من الصدقة عليهم.
في مجالستِهم نماءُ المال وصفاءُ النفس وزهدٌ في الدنيا وتذكير بالنِّعم وشَحذٌ للهمم إلى الآخرة، في القُرب منهم تتفتَّح أبواب الرّزق، يقول عليه الصلاة والسلام: ((قال الله عز وجل: أَنْفِقْ أُنْفِق عليك)) رواه البخاري، وبهم تدفَع الآفاتُ والشرور، قال عليه الصلاة والسلام: ((هل تنصَرون وترزَقون إلا بضعفائكم؟!)) رواه البخاري، قال المناوي رحمه الله: "بسبَبِ كونِهم بين أظهرِكم، أو بِسبب رِعايَتِكم ذِمامَهم، أو ببَركة دعائهم".
وكان الخلفاء يطلُبون النصرَ بإكرامهم والبذلِ لهم، يقول الخليفة نور الدين رحمه الله وهو يقرِّب الفقراءَ إليه ويحنو إليهم: "هم قومٌ يقاتلون عنِّي وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطِئ" أي: بالدعاء.
فأكرِم نفسَك بإكرامهم وقضاءِ حوائجهم، ولا تحتقر فقيرًا لقلَّة ذاتِ يده؛ ففي الفقراء عظماءُ وجهابِذة وحفّاظ ونُبَلاء. الإمام البخاريّ رحمه الله جمع كتابَه الصحيحَ الذي هو غرّةٌ في جبينِ الزّمان لم يكن عندَه ما يشترِي به طعامًا، بل كان يأكل من نباتِ الأرض، والإمام أحمدُ رحمه الله ـ الذي قال عنه الذهبيّ: "هو الإمام حقًّا وشيخ الإسلام صِدقًا" ـ يرهن نعلَيه عند خبّاز على طعامٍ أخذه منه.
وأشرَف قرنٍ في الزّمان قرنُ صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسَّ الجوع بطونَهم، يقول المغيرة رضي الله عنه: كنّا في بلاءٍ شديد نمُصّ الجلدَ والنوى من الجوع. رواه البخاري. وراوِيَة الإسلام حاوِي العلم أبو هريرة رضي الله عنه كان أحدَ أعلام الفقراء يقول: لقد رأيتُني وإني لأخِرّ فيما بين مِنبر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرةِ عائشة مغشِيًّا عليَّ، فيجيء الجائِي فيضَع رجلَه على عنقِي ويظنّ أني مجنونٌ، وما بي جنون، ما بي إلاّ الجوع. رواه البخاري.
ونبيُّنا محمّد صلى الله عليه وسلم كان يبيت اللياليَ المتتابعَة طاوِيًا هو وأهله لا يجِدون عشاء. متفق عليه. وخرج مِن داره مِرارًا من شدّةِ الجوع، ورَبط على بطنِه حجَرًا وحجَرين تخفيفًا لألمه، يقول أبو طلحة رضي الله عنه: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا من الجوعِ عليه الصلاة والسلام، ولم يخلِّف دِرهمًا ولا دينارًا ولا شاةً ولا بعيرًا. وخرج أبو بكر وعمَر رضي الله عنهما من دارِهما من ألَم الجوع، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: خرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال: ((ما أخرجكما من بيوتِكما هذه الساعةَ؟!)) قالا: الجوع يا رسولَ الله، قال: ((وأنا والذي نفسِي بيده لأخرجَني الذي أخرَجَكما)) رواه البخاري.
فلا تتعالَ على فقيرٍ- ياعبدالله - ففِيهم مجابُ الدعوة المقرَّبُ من الله، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((رُبَّ أشعثَ مدفوع بالأبواب لو أقسَم على الله لأبرّه)) رواه مسلم.
والفقراء يحملون زادَ الأغنياء للآخِرة، فلولا المساكينُ ما انتفَع الغنيُّ بغناه، وللفَقير فضلٌ على الغنيّ في قَبول صدقته، فإن قبِلها الله منكَ رفعَك الله بها درجاتٍ، وطريقُ الغِنى والسّعةِ في الأغلَب طريقُ عَطب، والزمان ذو تقلُّبٍ، تصبِح غنيًّا وقد تمسِي فقيرًا، فاحفَظ مالَك بالإنفاقِ، ولا تردَّ فقيرًا بلا عطاء، فما اشتكى فقيرٌ إلاّ مِن تقصيرِ غنيّ .
فشاطِرِ الفقراءَ أفراحهم وآلامَهم بالبشاشةِ والابتِسام، واجعَل الفقيرَ أحدَ أفراد أسرتِك، وأحبَّه وادنُ منه مع حسنِ الملاطفة واللّين، وتأسَّ بذوِي الكرَم والتواضعِ والسّخاء، يقول عثمان رضي الله عنه: (حُبِّب إليَّ من الدّنيا ثلاثة: إِشباع جائِعٍ وكسوَة العارِي وتلاوة القرآن).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
عباد الله /
سئِل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال: ((تطعِم الطعامَ وتقرأ السلام على مَن عرفت ومَن لم تعرف)) رواه البخاري.
فخِفْضُ جناحِ الذلِّ للفقير بالعطاء والإنفاق عليه من أسبابِ الثّبات على الدّين ، واليسيرُ منَ البذلِ له يستُر منَ النار، يقول عليه الصلاة والسلام: ((يا عائشة، استتِري من النار ولو بشقِّ تمرة؛ فإنها تسدّ من الجائع مسدَّها من الشبعان)) رواه أحمد. والصدقة تدفع البلاءَ، وتقي مصارعَ السوء، وتطفئ الخطيئة، وتهوِّن شدائدَ الدنيا والآخرة، ويستظلّ صاحبها فيها في المحشر حتى يُقضَى بين الخلائق، وتحفَظ المال وتنمّيه، وتجلب الرزقَ، وتحبِّب العبدَ إلى الله، وتدعوه إلى سائر أعمال البرّ فلا تستعصي عليه.
والمنفِق تتيسَّر له أمور الحياة، قال عز وجل: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)) [الليل:5-10]، وفي صبيحة كلِّ يوم يدعو ملَك للمنفِق مالَه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من يومٍ يصبح العبادُ فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللّهمّ أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللّهمّ أعطِ ممسِكًا تلفًا)) متّفق عليه.
والغنيُّ الجشِع لا لنفسِه انتفَع، ولا ببَذله للفقراء ارتفَع. والمال يعرِض له الشرُّ بعارضِ البخل أو الإسرافِ في إنفاقه، ((وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ)) [محمد:38]. والمال كالحجَر في اليد؛ لا ينتفَع به إلاّ إن فارقَ الكف،َّ والممسِك يندم إذا دنَا أجلُه، قال جلّ وعلا: ((وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ)) [المنافقون:10].
هذا وصلوا على البشير النذير والسراج المنير الذي أمر الله بالصلاة والسلام عليه فقال في محكَم التنزيلِ: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على نبيّنا محمّد...