fouad ab
19-11-2009, 01:00
البداية :
رفعت الستائر التي تحجب النافذة ، رأيت الأشجار و كأنها هيكل عظمي ، تجرد من الحياة التي تدب فيه ... منذ فترة كانت هناك بقايا للأوراق ، و مساكن بعض العصافير ، أما الآن ... و في الشتاء ، آخر فصول السنة ، لا بد من الوحدة ، و لا بد من الفراغ .
كان البرد قارس ، و الشمس تشرف على المغيب ، ساحبة ورائها آخر خيوط النور ، أغلقت النافذة ... نظرت إلى يدي التي حُفِرت فيها أخاديد العمر ... و شعرت بأن حياتي انسحبت مني كما تسحب الشمس آخر خيوطها ... من يعرف بأن هذا الرجل ذي السبعين عاماً ... منذ فترة و لم تكن ببعيدة ، كان طفلاً يلعب و يمرح ، ثم شاباً له تطلعاته ، و مروراً بالرجولة التي أعطى فيها كل ما يستطيع ، وصولاً إلى الشيخوخة التي جعلته كما هو الآن .
فراغ شديد ، عدم الرغبة في شيء ، لا أمل ، لا حلم ، لا تطلعات ، ماذا يمكنني أن أفعل الآن ... زوجتي تركتني منذ عدة سنين ، أولادي كل منشغل في نفسه ، و في أسرته ، لا يزوروني إلا ما ندر ، و مهما جلست معهم ، لا بد أن تنتهي الثواني ، و أعود للوحدة .
أنزلت الستائر ، و تجولت في أنحاء الغرفة ، علي أجد ما أفعله ، أقضي به على جزء من الفراغ الذي يعتريني ، وقعت عيناي على الحاسب ... عرفت ما سأفعل ، سأفتح ملفي الخاص ...
جهزت نفسي ، قعدت ، جعلت الحاسب يعمل ، ها هو ملفي الخاص ... بدأت أقرأ فيه ، و هذه أول مرة أريد أن أقرأ فقط ، على عكس ما سبق ، فكنت أكتب فيه و أكدس السطور فوق بعضها ، و السطور تملأ الأوراق ، و الأوراق مجموعة في ملف واحد .
كانت فكرة ربما قليل من يفعلها ، أن أكتب حياتي بالتفصيل على الحاسب ، كان كل من يعرف أني أفعل ذلك ، يهزأ بي ، و منهم من ينعتني بالمجنون ، و يقولون : دع الأمر لولي الأمر ، و كف عن حساب مصروفك ... و لهذا جعلت من هذا الملف ، ملفي الخاص ، و لم أعد اطلع أحداً عليه ، حتى زوجتي ...
نعم كانت البداية أن أحسب مصروفي ، و لكن الفكرة تطورت و أصبحت أكتب أصغر الصغائر في حياتي ، و كلها جدولتها ضمن جداول ، لسرعة الحصول عليها .
خطرت لي فكرة ، لماذا لا أصفي حساباتي ؟ – بالمنطق التجاري – أي أن أرى ماذا فعلت في حياتي و أنظر هل كان الربح جيداً أم هناك خسارة ، و لكن فاتني شيء ، فما هو مقياس الربح في هذا النظام ، فكرت ... و فكرت و توصلت إلى نتيجة ... يجب أن يكون الربح لرجل في آخر عمره ، هو عمله أمام رب العالمين ، أعني الحسنات و السيئات ، و كذلك الرضى عن النفس .
فتحت جدول التسبيح ، كانت النسبة تعطي خمس و سبعون بالمائة لما خصصته لنفسي كل يوم ، إذاً فوق الجيد ، ثم راجعت جدول الصلوات و كان هناك ما هو حاضر ، و منها ما تم قضاءه ، و بالمقارنة و بمثابرتي على قضاء الصلوات ، على ما أعتقد تكون النسبة ست و تسعون بالمائة ، و أتمنى من ربي أن يغفر لي تركي لعدد كبير من الصبح حاضراً ، و هنا أيضاً نسبة جيدة و يجب أن أتلافى الأربعة بالمائة ، لان الصلاة أهم شيء ... ثم انتقلت إلى جدول القرآن ، و عدد الختمات التي ختمتها ، و جدول الحفظ ... ... آه كم تمنيت أن أصل إلى النهاية مع حفظ القرآن ... و رغم مثابرتي بالكاد وصلت إلى النصف ، و الآن ليس هناك ذاكرة تساعد ، فإذاً حققت خمسون بالمائة من المطلوب ... ثم انتقلت إلى جدول الزيارات و الصداقات ، وجدت زياراتي لأقاربي نسبتها تعلو بكثير مما كانوا يزوروني فيه ، فالنسبة هنا أيضاً جيدة ...
ثم راجعت أهم الأحداث ، التي مرت بحياتي و استطيع أن ألخص ... عمل مضني و زواج و سعادة ... و لا يخلو الأمر من أيام كانت مزعجة و صعبة ... مشاريع و أفكار و إنجازات رائعة ... تربية أولاد ... همومهم ... دفعهم للأمام و مساعدتهم ... زواجهم ... مفارقتهم ... مفارقة الزوجة ... الوحدة ...
و بهذا أكون قد تجولت في ذكرياتي ، و أعمالي ، و كأني أراها أمامي لشريط لفلم سينمائي مسرّع ، و لكن هل أنا راضٍ عن نفسي ؟ كان لي آمال و طموحات لم أتوصل إلى تحقيقها ... كنت أحب أن تكون لي بصمة في هذه الحياة ، كأن أكون شاعراً تتناقل أشعاره ، أو كاتب يحكى عن أفكاره ، أو مخترع أفاد مجتمعه ... و لكن الأيام كانت قاسية و الظروف أقسى من أن تعطيك كل شيء ، فلا بد من نقص ، و عموماً كرجل شرقي و كرجل عادي أعتقد أني أفضل من غيري ، و أنا راض ٍ نوعاً ما عما قدمته في حياتي
خطرت لي فكرة ، سأضع هذا الملف في بدء تشغيل الحاسب ، حتى إذا حاول أحد أولادي ، بعد وفاتي ، تشغيل الجهاز ، يرى هذا الملف الذي تكتمت عليه طيلة حياتي .
و لكن هل سيهتم به ؟ هل يتعلم منه ؟ هل يدرك قيمته ؟ فمن يهتم بذكريات رجل سبعيني ، أكل الدهر عليه و شرب ، انتقدوني لكتابتي و أنا بينهم ، هل يهتمون بأفكاري و أنا غائب عنهم ، هيهات ... هيهات ... ...
أطفأت الجهاز ، و تجولت قليلاً في هذه الغرفة الموحشة ، و أنا أراجع بعض الصور التي استعرضتها في حياتي ، و أنا أمشي واثق الخطا ، و راض النفس ، و اتجهت نحو السرير ، تمددت ، و على الوسادة ، أطفأت أفكاري ، و أطفأت دماغي ، و أقفلت عيني ...
غابت الأفكار و غابت الذكريات و الذاكرة ، غاب كل شيء .
انتهى
رفعت الستائر التي تحجب النافذة ، رأيت الأشجار و كأنها هيكل عظمي ، تجرد من الحياة التي تدب فيه ... منذ فترة كانت هناك بقايا للأوراق ، و مساكن بعض العصافير ، أما الآن ... و في الشتاء ، آخر فصول السنة ، لا بد من الوحدة ، و لا بد من الفراغ .
كان البرد قارس ، و الشمس تشرف على المغيب ، ساحبة ورائها آخر خيوط النور ، أغلقت النافذة ... نظرت إلى يدي التي حُفِرت فيها أخاديد العمر ... و شعرت بأن حياتي انسحبت مني كما تسحب الشمس آخر خيوطها ... من يعرف بأن هذا الرجل ذي السبعين عاماً ... منذ فترة و لم تكن ببعيدة ، كان طفلاً يلعب و يمرح ، ثم شاباً له تطلعاته ، و مروراً بالرجولة التي أعطى فيها كل ما يستطيع ، وصولاً إلى الشيخوخة التي جعلته كما هو الآن .
فراغ شديد ، عدم الرغبة في شيء ، لا أمل ، لا حلم ، لا تطلعات ، ماذا يمكنني أن أفعل الآن ... زوجتي تركتني منذ عدة سنين ، أولادي كل منشغل في نفسه ، و في أسرته ، لا يزوروني إلا ما ندر ، و مهما جلست معهم ، لا بد أن تنتهي الثواني ، و أعود للوحدة .
أنزلت الستائر ، و تجولت في أنحاء الغرفة ، علي أجد ما أفعله ، أقضي به على جزء من الفراغ الذي يعتريني ، وقعت عيناي على الحاسب ... عرفت ما سأفعل ، سأفتح ملفي الخاص ...
جهزت نفسي ، قعدت ، جعلت الحاسب يعمل ، ها هو ملفي الخاص ... بدأت أقرأ فيه ، و هذه أول مرة أريد أن أقرأ فقط ، على عكس ما سبق ، فكنت أكتب فيه و أكدس السطور فوق بعضها ، و السطور تملأ الأوراق ، و الأوراق مجموعة في ملف واحد .
كانت فكرة ربما قليل من يفعلها ، أن أكتب حياتي بالتفصيل على الحاسب ، كان كل من يعرف أني أفعل ذلك ، يهزأ بي ، و منهم من ينعتني بالمجنون ، و يقولون : دع الأمر لولي الأمر ، و كف عن حساب مصروفك ... و لهذا جعلت من هذا الملف ، ملفي الخاص ، و لم أعد اطلع أحداً عليه ، حتى زوجتي ...
نعم كانت البداية أن أحسب مصروفي ، و لكن الفكرة تطورت و أصبحت أكتب أصغر الصغائر في حياتي ، و كلها جدولتها ضمن جداول ، لسرعة الحصول عليها .
خطرت لي فكرة ، لماذا لا أصفي حساباتي ؟ – بالمنطق التجاري – أي أن أرى ماذا فعلت في حياتي و أنظر هل كان الربح جيداً أم هناك خسارة ، و لكن فاتني شيء ، فما هو مقياس الربح في هذا النظام ، فكرت ... و فكرت و توصلت إلى نتيجة ... يجب أن يكون الربح لرجل في آخر عمره ، هو عمله أمام رب العالمين ، أعني الحسنات و السيئات ، و كذلك الرضى عن النفس .
فتحت جدول التسبيح ، كانت النسبة تعطي خمس و سبعون بالمائة لما خصصته لنفسي كل يوم ، إذاً فوق الجيد ، ثم راجعت جدول الصلوات و كان هناك ما هو حاضر ، و منها ما تم قضاءه ، و بالمقارنة و بمثابرتي على قضاء الصلوات ، على ما أعتقد تكون النسبة ست و تسعون بالمائة ، و أتمنى من ربي أن يغفر لي تركي لعدد كبير من الصبح حاضراً ، و هنا أيضاً نسبة جيدة و يجب أن أتلافى الأربعة بالمائة ، لان الصلاة أهم شيء ... ثم انتقلت إلى جدول القرآن ، و عدد الختمات التي ختمتها ، و جدول الحفظ ... ... آه كم تمنيت أن أصل إلى النهاية مع حفظ القرآن ... و رغم مثابرتي بالكاد وصلت إلى النصف ، و الآن ليس هناك ذاكرة تساعد ، فإذاً حققت خمسون بالمائة من المطلوب ... ثم انتقلت إلى جدول الزيارات و الصداقات ، وجدت زياراتي لأقاربي نسبتها تعلو بكثير مما كانوا يزوروني فيه ، فالنسبة هنا أيضاً جيدة ...
ثم راجعت أهم الأحداث ، التي مرت بحياتي و استطيع أن ألخص ... عمل مضني و زواج و سعادة ... و لا يخلو الأمر من أيام كانت مزعجة و صعبة ... مشاريع و أفكار و إنجازات رائعة ... تربية أولاد ... همومهم ... دفعهم للأمام و مساعدتهم ... زواجهم ... مفارقتهم ... مفارقة الزوجة ... الوحدة ...
و بهذا أكون قد تجولت في ذكرياتي ، و أعمالي ، و كأني أراها أمامي لشريط لفلم سينمائي مسرّع ، و لكن هل أنا راضٍ عن نفسي ؟ كان لي آمال و طموحات لم أتوصل إلى تحقيقها ... كنت أحب أن تكون لي بصمة في هذه الحياة ، كأن أكون شاعراً تتناقل أشعاره ، أو كاتب يحكى عن أفكاره ، أو مخترع أفاد مجتمعه ... و لكن الأيام كانت قاسية و الظروف أقسى من أن تعطيك كل شيء ، فلا بد من نقص ، و عموماً كرجل شرقي و كرجل عادي أعتقد أني أفضل من غيري ، و أنا راض ٍ نوعاً ما عما قدمته في حياتي
خطرت لي فكرة ، سأضع هذا الملف في بدء تشغيل الحاسب ، حتى إذا حاول أحد أولادي ، بعد وفاتي ، تشغيل الجهاز ، يرى هذا الملف الذي تكتمت عليه طيلة حياتي .
و لكن هل سيهتم به ؟ هل يتعلم منه ؟ هل يدرك قيمته ؟ فمن يهتم بذكريات رجل سبعيني ، أكل الدهر عليه و شرب ، انتقدوني لكتابتي و أنا بينهم ، هل يهتمون بأفكاري و أنا غائب عنهم ، هيهات ... هيهات ... ...
أطفأت الجهاز ، و تجولت قليلاً في هذه الغرفة الموحشة ، و أنا أراجع بعض الصور التي استعرضتها في حياتي ، و أنا أمشي واثق الخطا ، و راض النفس ، و اتجهت نحو السرير ، تمددت ، و على الوسادة ، أطفأت أفكاري ، و أطفأت دماغي ، و أقفلت عيني ...
غابت الأفكار و غابت الذكريات و الذاكرة ، غاب كل شيء .
انتهى