مشاهدة النسخة كاملة : قصص القران ( الحلقه الرابعه)لعمرو خالد
ابو ضاري
26-08-2009, 13:04
الحلقة الرابعة
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ نستكمل قصة موسى، فاليوم مولد بطل قصتنا الذي سنعيش معه طوال رمضان، مولد النبي الذي اختاره الله من أولي العزم الخمسة من الرسل: إبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح، ومحمد عليهم السلام، مولد من وجده النبي عليه الصلاة والسلام في السماء السادسة عندما صعد إلى المعراج ولا يوجد فوقه في السماء السابعة سوى .إبراهيم عليه السلام، مولد من اختصه الله تعالى وقال له:[... إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي] {الأعراف:144} فهو كليم الله.
إن أحد أهدافنا قصتنا أن تحب .موسى، والنبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول: (لا تفضلوني على موسى) ثم يجعلنا نصوم يوم عاشوراء، ويقول: (نحن أولى بموسى منهم) فيجعل صيامه سنّة حتى نتذكر دائمًا أن نجاة موسى هي ذكرى لكل المؤمنين في الأرض وفي هذا رد على من يقول أن موسى ليس نبينًا .
التوكل على الله
القيمة التي سنتحدث عنها هي التوكل على الله، فلكل شيءٍ في هذا الكون معادلة يسير بها، ومعادلة اليوم سارت بها أم موسى، فما هي هذه المعادلة؟ أن تؤدي كل ما عليك + تَوَكَّل على الله = نصر، وعِزَّة، ورحمة، ورعاية، ويُريك عجائب قدرته في أن يُنَجِّيك من حيث لا تدري ولا تتخيل، ويُسَخِّر الكون كله معك كي تنجو. فهل تعرف كيف تطبق معادلة اليوم؟ فهذه الدنيا صعبة ويُظلَمُ فيها الكثيرون، وفرق القوة بينك وبين من يظلمك 1:1000 وهو فرق كبير بكل المعادلات المادية، لذا يجب أن تتحلى بالذكاء بأن تُدخِل الوكيل سبحانه وتعالى في المعادلة وتتغير المعادلة فينصرك ويُعزّك، وقد توكلت أم موسى على الله بعد أن طبقت المعادلة والتي هي شرط أساسي فلا يجب أن تقول يا رب انصرني أو توكلت على الله وأنت لم تؤدي ما هو مطلوب منك بل يجب عليك أن تطبق المعادلة بكل شروطها حتى تتحقق المعادلة.
خطة فرعون:
يقول الله تعالى في سورة القصص: [طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ (4)]. (القصص: 1-4). فماذا فعل فرعون؟ لقد رأى رؤيا بأن هناك ولد من بني إسرائيل سيزيل مُلكه، فبدأ بذبح كل طفل يُولَد ويقوم الجنود بفصل الرأس عن الجسد بالسكين، وقد تم ذبح 1000 طفل فكيف ستنجين يا أم موسى؟ فقد وضع فرعون شعارًا لنفسه أن لن ينجو مني أحد؛ لأنه إن نجا أي طفل من الموت فسيكون هو المقصود بالرؤيا، فوضع خطة محكمة كالآتي:
· أولًا:أن تمشي بعض السيدات المصريات وسط بيوت بني إسرائيل لتكشف إن كان هناك سيدات حبليات أم لا؟
· ثانيًا: أي سيدة تظهر عليها أعراض الحمل يتم وضع علامة سرية على بيتها لا يعرفها إلا الجنود.
· ثالثًا: عمل زيارات مفاجئة لبيوت بني إسرائيل للكشف عن أي سيدة حبلى اختبأت.
· رابعًا: زرع جواسيس في بني إسرائيل يكشفون أمر السيدات الحبليات، ومن هؤلاء الجواسيس شاب طموح يريد أن يصل لمكانة عالية حتى وإن كانت على حساب أهله وبيته، فهو على أتم الاستعداد للتجسس على أهله وإخوته كي يرضي فرعون وهذا الشاب يُدعى قارون وسوف يظهر لدينا في القصة فيما بعد.
خطة أم موسى لمواجهة خطة فرعون:
فبهذه الطرق الأربع تم كشف 1000 سيدة، فبعد وضع العلامة على البيت تُفاجأ السيدة وقت الولادة بالجنود يدخلون فيأخذون منها الولد حين ولادته، ويذبحونه ويُزيلون رأسه ويرمونه، لذا فقد حقّ على من فعل هذا أن يموت غريقًا؛ فقد أغرق ألف طفل في النيل والجزاء لا بد وأن يكون من جنس العمل، فأين تذهبين يا أم موسى من هذه الخطة؟ لقد قررت أم موسى تطبيق المعادلة، فقامت بوضع خطة ثم توكلت على الله، وبمقتضى الخطة اتفقت مع مريم (أخت موسى) وإحدى الجارات من بني إسرائيل في نفس عمر أم موسى ولكنها ليست حاملًا، بأن تخرج مريم لتراقب، فكلما جاءت الزيارات المفاجئة خرجت أم موسى من بيتها لتختفي على ضفاف النيل بين الأعشاب وتأتي جارتها مكانها فإذا كشفوا عليها وجدوها امرأة غير حامل فيتركوها، وهذه عملية غاية في المشقة نظرًا لحدوثها بشكل مفاجئ، ولكنهم واظبوا على المراقبة لمدة 24 ساعة طوال التسعة أشهر وبذلك يكونوا قد أتموا الشق الأول من المعادلة وكان الشق الثاني بالتوكل على الله طوال التسعة أشهر.
مولد موسى:
ويأتي اليوم، يوم مولد موسى عليه السلام ولكم تمنت أمُّه أن يكون بنتًا حتى لا يُذبَح، ولكن لديها نبوءة .يوسف أنه سيولد ولد من رجل من بني إسرائيل يهزم الظلم ويظهر العدل ولكم تمنت أن يكون ابنها، وتمت الولادة وجاء ولد ذكر أسمر جميل أعطاه الله خاصية عجيبة فإن رأيته أحببته، يقول تعالى: [... وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] {طه:39}، فمثلما يُلقي أحدهم عباءته على أحد آخر ألقى الله على .موسى محبة من عنده، ألهذه الدرجة يحبه الله؟ إنه نبي غالٍ يجب أن نحبه.
فيا ترى ماذا فعلت أم موسى وهي تلد؟ قامت بكتم صوتها والولادة في السر حتى لا يسمعها أو يشعر بها أحد، وربما قامت بكتم صوت ولدها حتى لا يسمعه أحد، ووُلدَ موسى وكانت المفاجأة، ماذا ستفعل به؟ فقد يراه أحد، يقول تعالى: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ] {القصص:7}.
أم موسى وما بعد الولادة:
وأوحي إلى أم موسى وهي ليست نبية وإنما امرأة بسيطة مؤمنة متوكلة على الله فصفة التوكل هي من أجمل وأقوى الصفات التي تتحلى بها، فكيف أوحي إليها؟ هل جاءها جبريل؟ بالطبع لا، فهي ليست من الأنبياء، فالوحي ثلاثة أنواع: وحي يأتي إلى الملائكة [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] {الأنفال:12}، ووحي يأتي إلى الأنبياء [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا] {النساء:163}، ووحي آخر هو عبارة عن إلهام فطري يُقذَف في قلبك يملأ كل كيانك، يُحفَر في قلبك ويسيطر عليك فهو من الله لنجاتك أو لخير لك، وهذا هو النوع الثالث الذي حدث لأم موسى والذي قال عنه سبحانه وتعالى: [وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ] {المائدة:111}، فالحواريون ليسوا أنبياء ولكن الله غرز الوحي في قلوبهم وسيطر عليها بأن يؤمنوا ب.عيسى عليه السلام، ويقول تعالى أيضًا: [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ] {النحل:68}.
فقد قذف سبحانه وتعالى الوحي بقوة في قلب أم موسى بأن تُرضعه، وألا تخاف أو تحزن فسوف يرجعه إليها وسوف يكون نبيًا. يحضرني الآن موقف لأحد أصدقائي قد مر بأزمة في حياته وقد ظُلِم واُضُّطر أن يترك بلده ويذهب إلى بلد آخر، فاتصل بأحد أصدقائه وسأله: ماذا أفعل؟ فقال له: اخرج فورًا فظلت هذه الكلمة ترن داخل أذنه حتى ذهب إلى منزله ليصلي ركعتي استخارة، فإذا به يجد نفسه يقرأ هذه الآية في إحدى الركعتين: [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ] {القصص:20}، فأحس بأنه أصبح يقينًا عليه أن يخرج، فقد قذف الله هذا الإلهام في قلبه بقوة حتى تحول إلى يقين.
لقد ملأ الإلهام الذي أرسله الله إلى أم موسى كيانها، فلماذا أم موسى هي التي أوحى الله إليها على الرغم أنها امرأة مؤمنة عادية؟ لقد أوحى الله إليها لأنها تحركت ونفذت نصف المعادلة وتوكلت على الله، فما الفرق بين أم موسى وآلاف السيدات اللآتي ذُبحَ أولادهن؟ إن هؤلاء السيدات مكثن طوال التسعة أشهر يبكين على ما سيحدث لأولادهن، ويقلن توكلنا على الله ويدعين الله ولكن دون أن يتحركن، لذا فالمعادلة خاطئة فهن لم يتوكلن على الله حق التوكل بينما هي توكلت على الله حق التوكل فألهمها الله.
وإذا رجعنا إلى الآية مرة أخرى سوف نجد أن بها أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين في سطر واحد، ما هذا الإعجاز القرآني في اللغة العربية؟ فالأمرين هما: أرضعيه وارميه، والنهيين هما: لا تخافي ولا تحزني، والخبرين والبشارتين هما: إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين وهي أمنيتك القديمة يا أم موسى أن يكون ابنك مثل يوسف عليه السلام، فهل ستلقيه يا أم موسى؟ وإذا لاحظنا هنا نجد أن هناك شيء غاية في الصعوبة فلم يقل الله إذا خفت فاحضنيه أو ضميه أو اخفيه في الأحراش فالمكان الذي كانوا فيه مليء بالنباتات القصيرة كالأحراش ولكن قال ألقيه في اليم أو النيل، لماذا؟ لأنك مع الوكيل مالك الملك، فتوكلي على الله وارميه، فهل تعتقدون أنها سترميه؟
ونرى قمة التوكل على الله حين تصنع هذه المرأة صندوقًا خشبيًا صغيرًا لتضع فيه ابنها ثم تلقيه في هذا النيل الواسع، فيا آباء ويا أمهات ويا شباب هل ترون التوكل على الله؟ لا أقول لك بأن تقوم برمي أولادك في النيل ولكن أقول لك خذي خطوة للأمام وسيخبرك الله بأن تسلكي في هذا الطريق أم لا، وسيضع في قلبك يقينًا أن هذا هو الطريق، فيا أيها الشباب الذين تشكون من البطالة وتقولون كيف سنعمل؟ وماذا نعمل؟ ولا يوجد عمل ولا نعرف كيف نبني مستقبلنا، ويا سيدات اللآتي تشتكين من عدم معرفة كيفية تربية الأولاد، أين التوكل على الله؟ فالقرآن يعلمك التوكل وسورة القصص بالأخص تعلمك التوكل .
فها هي أم موسى صدقت وعد الله، وأمسكت بابنها وألقته في النيل وهي متأكدة أن الوكيل لن يضيعها، فهل ستفعل ذلك لو كنت مكانها؟ هي تعلم جيدًا أن البديل هو الذبح لأن أمامها ألف قصة أخرى من سيدات لم يتوكلن على الله حدث لهن هذا، فهناك من الناس من يرى الآلاف من القصص عندما يعصون الله ماذا يحدث لهم، ويرون من لا يتوكل على الله ماذا يحدث له، ورغم ذلك يقعون في نفس الحفرة، فهم كمن حُفرت أمام بيته حفرة يقع فيها كل يوم عشر مرات، فلتتعلموا التوكل على الله .
هل ستتوكل على الله؟ هل ستثق في وعد الله ؟ فلتسأل نفسك: هل أقوم بأخذ خطوات في حياتي كي أرضي الله وأصلح في حياتي؟ فلا تخف وتوكل على الله وثق في الله، فقد وقفت هذه السيدة أمام هذا النيل الواسع العظيم الكبير بعدما صنعت صندوقًا من الخوص بسرعة شديدة فليس أمامها الكثير من الوقت وعندما همت بأن ترميه لم تستطع، فالأفكار النظرية غير التطبيقية، فالعديد من الناس يقتنعون بفكرة نظرية ما ولكن عند التطبيق لا يستطيعون ذلك وهم هنا يحتاجون إلى تثبيت من الله .
وقد جاء الوحي لأم موسى مرتين وليس مرة واحدة، مرة ذُكرت في سورة القصص ومرة في سورة طه، الآية الأولى كما ذكرنا من قبل: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ] {القصص:7} والثانية بعدما كبر .موسى يقول له الله كيف نجاه: [إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى(38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)] {طه 38-39}. وقد ذكرت الآيتان هنا لنرى الفرق بينهما، يقول المستشرقون أن هذا تكرار قد جاءها بالفعل مرتين، فالوحي الأول قد جاءها بهدوء ورويّة (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ ... وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي) ثم يقول فأرضعيه وكلمة أرضعيه بها مزيدًا من الوقت وهي كلمة جميلة لها العديد من المعاني الأخرى فأرضعيه حتى يعرف مذاق لبن أمه فيرفض كل السيدات الأخريات ويعود لها فترضعه ولكي يشمها ويشعر بها، فتخيل إن لم تطع الله في هذا الجزء ولم ترضعه وأعطته لجارتها كي ترضعه وقذفته في النيل ففي هذه الحالة لن يعود لها موسى، وفي كلمة أرضعيه أيضًا حنان من الله ففي ملامسة الرضيع لأمه حنان، فيا أمهات أولادكم يحتاجون إلى الحنان، فالله ينقل مشهد الرضاعة في كتابه الكريم، فالوحي الأول يُلقي الفكرة حتى تستقبلها، وفي الوحي الثاني كان الجنود قد جاءوا بالفعل وبدأوا في قرع الأبواب على البيوت المقابلة وسوف يدخلون البيت ويرون موسى فقال لها اقذفيه في التابوت فليس هناك المزيد من الوقت.
يقول الله تعالى لأم موسى (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ) ، فلم يكتف بأن يقول لها أرضعيه وارميه لأن الأم غالية جدًا عند الله، فكان حقًا عليه أن يطمئنها، والنبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول الأم يُغفَر لها عند أول طلقة لها وهي حبلى، ويقول يكتب لها وهي تربي ابنها أجر الصائم القائم، فلو لديك ثلاثة أطفال وقد ربيت كلًا منهم مدة 10 سنين أي أنك تأخذين أجر الصائم القائم على مدار 30 عامًا، إنه ثواب وأجر عظيم.
أم موسى ترمي ابنها في النيل:
أين سترمي أم موسى ابنها؟ في نهر النيل، ولكن لماذا نهر النيل؟ لأن جنود فرعون يرمون الأطفال في النيل، فإن كان هناك جندي يراقبها فسوف يتركها لأنها رمت في النيل، وسوف يكتب في دفتره تم الرمي ولن يؤذيها لأن المصري طيب بطبعه ولا يحب الإيذاء، ولكن هناك معنى آخر وراء الرمي في النيل، فإن رمته في هذا النيل الواسع العريض أين سيذهب؟ هناك أكثر من احتمال فإما يأخذه النيل إلى أي مكان بعيد وهنا بالتأكيد لن يرجع إليها، وإما يزداد الموج فينقلب الصندوق، وإما يرميه التيار في البحر فتأكله سمكة، وهنا نرى مدى صعوبة ما كانت أم موسى مقبلة عليه والمغامرة في أنه إما يُذبح وإما تأخذ خطوة للأمام وتتوكل على الله وترميه.
ولكي تشعر بمدى التوكل على الله قم بصنع صندوق من الخوص لتشعر وتحس بم أحست به أم موسى، من مشاعر أم ظُلمت وليس لها إلا الله وليس لها سوى هذا الطريق، فها هي تضعه في الصندوق وترميه في النيل فيجري الصندوق مع التيار، فيا ترى ماذا فعلت قبل أن ترميه؟ هل ضمته؟ هل احتضنته؟ هل قبلته؟ فلتتخيل ماذا فعلت هذه الأم المظلومة، فها هي تبكي وترفع رأسها إلى السماء وتدعو الله، لعلها قامت بالدعاء على فرعون في هذه اللحظة، فالويل لمن يَحرِمُ أمًا من أولادها، فلربما كانت استجابة الله لدعائها في هذه اللحظة هي التي أغرقت فرعون مثلما أجبرها أن لا يكون لابنها طريق سوى البحر، فلا تستهن بدعوة مظلوم خاصة لو كانت من أم حرمت من أطفالها، لعلها قالت حسبي الله ونعم الوكيل وهي ترميه وتراه يفارق أعينها، فأي درجة من التوكل تلك يا أم موسى؟ وبدأ الصندوق في التحرك، ومن ينظر إلى الصندوق يقل [...وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ...] {المدَّثر:31} فهنا بدأت رعاية الله، فقد أصدر الله أمره لجنوده، يا نيل احمل موسى، يا تيار ويا ريح رفقًا بموسى، فعندما تتوكل عليه يسخر لك كل جنوده.
وتقف أم موسى قلقة، على الرغم من توكلها على الله إلا أنها أم، [وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] {القصص:11} "قُصِّيه" أي ابحثي عن أخيك، "فبصرت به عن جُنُب وهم لا يشعرون" أي كانت تراقبه من بعيد فلم تستطع أن تقترب منه حتى لا يراها أحد، وبقيت تمشي وسط الأحراش تراقب الصندوق وهي مندهشة ومتعجبة لأن الصندوق يمشي وكأن به دفتين يحركانه، فالله قد حدد إلى أين سيتجه، وهنا يظهر لدينا معنى اسم الله الوكيل.
موسى وبيت فرعون:
وتستمر أخته في متابعة الصندوق على الرغم من طول المسافة بين بيوت بني إسرائيل وقصر فرعون حوالي 14-20 كيلومتراً)، ويقترب الصندوق من قصر فرعون وتفزع أخته لأنهم فعلوا ذلك ليبعدوه عن فرعون ولكنه يقترب أكثر وأكثر منه حتى يصل إلى قصر فرعون، فتعود الأخت مرتبكة إلى أمها وتحكي لها ما حدث، يقول تعالى: [وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] {القصص:10} فقد كادت أم موسى أن تذهب إلى القصر لتخبرهم أنها أمه لولا أن الله ربط على قلبها.
ويقفز الآن إلى أذهاننا سؤال: لماذا جعل الوكيل الصندوق يصل إلى هناك؟ لأن أفضل وسيلة لحماية موسى هي أن يصل إلى القصر ولكن لماذا؟ لأن .موسى سوف تكون مهمته هي إنقاذ بني إسرائيل الأذلاء من الذل، فهل يعقل أن من يحرر الأذلاء يكون ذليلًا مهانًا، أم يجب عليه أن يكون حرًا؟ بالطبع يجب عليه أن يكون شخصية حرة ولكن لم يكن في مصر حرية في ذلك الوقت ولم يكن هناك مصريون أحرار، لذا فالمكان الوحيد الذي يوجد به حرية هو بيت فرعون، وهناك أيضًا سَببٌ آخر، وهو أن بني إسرائيل محرومون من التعليم وموسى يجب أن يكون متعلمًا تعليمًا جيدًا لأن لا نهضة بدون تعليم، وأمه لا تقدر على تحمل تكلفة تعليمه، لذا فأفضل مكان يتم تعليمه فيه تعليمًا راقيًا هو بيت فرعون وهو من سينفق على تعليمه حتى يزيله موسى في النهاية، فها أنت يا فرعون تقتل كل هؤلاء الأولاد من أجل هذا الولد وها نحن قد أحضرناه لبيتك رضيع لا يملك أي قوة حتى تربيه، أرأيت قدرة الوكيل جلّ وعلا.
موسى وامرأة فرعون:
فيا أيها الناس يا من ظُلِمتم في الدنيا، يا سيدات يا من ظُلِمتن من أزواجكن أرجعوا إلى الوكيل وتوكلوا عليه حق التوكل، يقول تعالى: [فَالتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] {القصص9:8} فلم يلتقطه فرعون بنفسه ولكن زوجته هي من التقطته، وتتجلى عظمة الوكيل سبحانه وتعالى أن يكون توقيت خروج آسيا امرأة فرعون إلى النيل هو وقت وصول الصندوق فتراه وتُخرجه، فلو كان من أخرجه هو أحد الجنود أو فرعون نفسه لتم قتله، وما أن رأته امرأة فرعون حتى أحبته فيقول تعالى: [.. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ...] {طه:39} وقد أراد فرعون قتله ولكنها تصدت له ولكل من أراد قتله، فها هو الوكيل سبحانه وتعالى عندما أراد أن يحمي هذا الطفل الرضيع الذي لا حول له ولا قوة من سكاكين فرعون زوده بسلاح الحب، فسلاح الحب أقوى من سلاح القوة، فيا من تسبُّون الناس وتُهاجمونهم تعلموا من القرآن ومن قصص القرآن أن سلاح الحب أقوى وأنفع.
ورضخ فرعون لرغبة زوجته آسيا وهذا يُدلل على قوة المرأة المصرية على ما يبدو، ففي قصة .يوسف قالت امرأة العزيز اسجنوه فسجنوه، وها هي هنا تقول لا تقتلوه فتنفذ رغبتها ويصدر فرعون قرارًا بعدم القتل وبأنه سيكون ابنه بالتبني وسوف يُطلق عليه ابتداءً من اليوم الأمير موسى فسبحانه الوكيل.
موسى والمرضعات:
وكان الرضيع حتى هذه اللحظة صامتًا لا يبكي ولعل هذا حتى تستطيع آسيا إقناعهم بالاحتفاظ به ولكن بمجرد أن وافقوا وقبلوه بدأ في البكاء، فكم يتحمل الرضيع دون رضاعة؟ تقريبًا 24 ساعة، فها هو هنا يترك أمه عند الفجر ليعود إليها قبل العصر معززًا مكرمًا أي قبل مرور 24 ساعة.
يقول تعالى: [وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ] {القصص:12}، فها هو طابور من المرضعات المصريات حيث أنه ممنوع على أي امرأة من بني إسرائيل دخول القصر وهو يرفضهن جميعًا ولا يقبل الرضاعة منهن كأن الله أمر شفتي موسى أن لا تقبلا الرضاعة، فكأن موسى عاقلٌ وهو رضيع ينظر في وجه السيدات ويقول هذه لا ترضعني وتلك لا ترضعني فهو يبحث عن أمه.
وفي هذه اللحظة دخلت أخته وقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون؟ فمن أين يا مريم أتتك القوة لتدخلي قصر فرعون وتعبري بين الحراس وتقولين هذا الكلام؟ فنظر لها فرعون وقال: "أتعرفينه؟" قالت: "لا"، قال: "من أنت؟" قالت: "فتاة من بني إسرائيل"، فاحمر وجه فرعون غضبًا وفي نفس اللحظة زاد موسى من بكائه كأنه يساعد أخته ويسهل موقفها، وآسيا تصرخ بأن الولد سوف يموت من البكاء وأنهم يحتاجون مراضع بسرعة، فسألها فرعون: "هل لديك مرضعة؟" قالت: "نعم"، قال: "من؟" قالت: "أمي من بني إسرائيل"، فقال: "ولم تريدون أن ترضعوه؟" قالت: "نبتغي الأجر والمال ونحب فرعون"، فقال: "أحضريها" فجاءت أمه، ولنتخيل معًا لحظة دخول أمه القصر يا لها من لحظة يتجلى فيها الوكيل سبحانه وتعالى، وبمجرد أن أمسكته أمه وضمّته ولمس ثديها سكت الرضيع، فدهش كل من في القصر وقال فرعون: "من أنت؟" فقالت أم موسى: "أنا امرأة طيبة اللبن، لا يأتي صبي إلىَّ إلا قبلني ورضع مني"، فإذا بقرار من فرعون أن عينّاكِ مرضعة لابننا ولك الأجر على رضاعته، فسبحان الرزاق فقد كنت سترضعيه يا أم موسى دون أجر إن بقي معك وها أنت ترضعينه وتأخذين المال من عدوّه حتى يكبر ويقضي عليه مثلما ظلمكم، يقول تعالى: [فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] {القصص:13}.
فلتتوكلوا على الله ولا تخافوا وكونوا مع الله ولا تبالوا فإن الله معكم.
جزاك الله خيراً يابوضاري
لنشر هذه الحلقة الهامة من قصص القرآن الكريم
بارك الله بك و حفظك ورعاك
ننتظر المزيد منها
الحلقة الخامسة
من قصص القرآن الكريم
اختصاص ومهمة
لماذا اختص الله موسى عليه السلام بتكليمه؟؟ ولماذا موسى بالأخص هو كليم الله؟ (... وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)(النساء: من الآية164) لم يرتق ِ أحد من البشر ويصل إلى منزلة أن يكلم الله عز وجل دون وسيط إلا " موسى عليه السلام و" محمد صلى الله عليه وسلم في المعراج، ماذا يوجد برسالة " موسى أوصله إلى هذه المنزلة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فجعل الناس يطوفون بالبيت يقولون ما أجمله ما أحسنه إلا موضع لبنة، فأنا موضع اللبنة ) أي أنه هو الذي أكمل هذا البناء، فما هي لبنة " موسى الذي تفرد بها على مر التاريخ؟
هو قائد صنعه الله ليقضي على الظلم ويحول أمة من مستضعفين إلى أعزة منتصرين، مهمته أصعب مهمة في التاريخ بعد مهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي مهمة " موسى عليه السلام، فهو مطلوب منه:
1- مواجهه أكبر طاغية على مر التاريخ (فرعون) ذلك السفاح الذي قتل آلاف الأطفال، يواجهه بمفرده بلا قوة وبلا سلاح.
2- أن يدعو فرعون إلى التوحيد.
3- أن يدعو بلده كلها إلى الإيمان بالله.
4- أن يحرر بني إسرائيل من الذل الذي ملأهم.
5- أن يخرجهم من مصر (... فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ)(الأعراف: من الآية105) وذلك ليبني بهم أمة جديدة ويقوم بعمل نهضه لهذه الأمة.
ولذلك هيئته مناسبة لهذه المهمة، فهو طويل أسمر ذو شعر أجعد مفتول العضلات، ذو شخصية قوية، ولكن لماذا أصبح كليم الله؟ انتبه معي .. إن المهمة شاقة جدًا، واعلم أيضًا أنه كان مهدد بالقتل منذ كان في المهد حتى وفاته، لا يوجد أحد غيره من الأنبياء كان له هذا الحظ من التهديد بالقتل، كل الأنبياء هُددو بالقتل بالفعل وتعرضوا لمحاولات قتل، لكن " موسى الوحيد الذي كان كذلك منذ مولده وحتى وفاته، ذلك بالإضافة إلى مهمته سالفة الذكر، لذا فهو يحتاج لإعانة غير عادية حتى لا يضعف، بل يصمد ويواجه ويستمر في تحقيق مهمته تلك، هو في حاجة لدعم من الله ليعطيه قوه هائلة لمواجهة كل ذلك الظلم والبطش، ولذلك تكررت كلمة الخوف في قصة " موسى كثيرًا جدًا؛ لأنه تعرض لأهوال وفي الوقت نفسه هو بشر فلابد وأن يخاف كسائر البشر، وكأن رسالته من أجل نصرة الضعفاء والمظلومين وتوحيد الأمة على قول لا إله إلا الله ، فهي التي تحرر الأنفس الذليلة، هذا هو معنى لا إله إلا الله ، ألا تخاف من قوي ولا ذو سلطان أو أي أحد فلا إله إلا الله القوي والأقوى من أي شيء أو أحد، إذًا " موسى جاء بالتوحيد والتحرير وحرية الشعوب، وذلك يعني أن أوربا ليست أول من أتت بالحرية، بل إن " موسى وأنبياء الله هم أول من تكلم عن الحرية.
مراحل قصة موسى:
تنقسم حياة " موسى إلى أربع مراحل، مرحلتين إعداد ومرحلتين تنفيذ.
· مرحلة الإعداد الأولى: وهي منذ المولد وحتى الثلاثين من عمره ويقضيها ما بين قصر فرعون وبين بيوت بني إسرائيل، ما بين أمه وبين آسية.
· مرحلة الإعداد الثانية: وهي عبارة عن عشر سنوات يقضيها في مدين حتى يصبح في الأربعين من عمره.
· مرحلة التنفيذ الأولى: وفيها يعود إلى مصر لمواجهة فرعون، وتستمر لمدة خمسة عشر عامًا.
· مرحلة التنفيذ الثانية: وفيها يخرج من مصر، وبناء بني إسرائيل وتحريرهم من الذل الذي قضى عليهم، وتستمر لمدة عشرة أعوام وحتى الوفاة.
وهذا يعني أن " موسى توفي وهو في سن الخامسة والسبعين من عمره تقريبًا.
صناعة قائد:
مرحلة الإعداد الأولى بين قصر فرعون وبيت أمه في البيوت الفقيرة لبني إسرائيل، بين ذلك القصر الفخم، وتلك البيوت الفقيرة، وذلك لينشأ ولديه الثقافتين، ثقافة الملوك وثقافة الفقراء، حتى يتمكن من التعامل مع الفئتين ، لذلك قال الله له ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)(طـه: من الآية39) أي أنه سيتم إعداده على يد الله سبحان الله وتعالى.
نيل وبحر:
ل (موسى) ذكريات عديدة مع ماء النيل، فلقد رُمى في النيل، والتقط من النيل، وعاش جزء من حياته مع أمه على ضفاف النيل، وجزء آخر من حياته في قصر فرعون على ضفاف النيل أيضًا، ثم نجا من فرعون وانشق البحر وتجاوزه هو وبني إسرائيل، ثم قصته مع " (الخضر) ورحلته في الماء، كلمة (موسى) ذات نفسها في اللغة المصرية القديمة معناها المُلتَقط من الماء، (مو) هي الماء، و(سى) هي المُلتقَط، وفي كلام آخر أن (موسى) معناها ابن الماء. هناك أمر آخر.. من تعتقد أنه اسماه (موسى)؟ لا يوجد سوى ثلاث بدائل: إما (فرعون) أو أمه أو (آسيا) ، فأما فرعون فهو لم يكن يحبه، وأما أمه فلا تملك تسميته؛ لأنها أمام الجميع المرضعة، فلا يتبقى سوى (آسيا) التي قامت بتسميته بذلك الاسم وهي الوحيدة التي لها مثل هذه المقدرة.
بين حنان أميه:
أصرت أم موسى أن تربيه في بيوت بني إسرائيل على ضفاف النيل، وسط حياتهم البسيطة، ولقد حاولت معها (آسيا) امرأة فرعون كثيرًا إقناعها بتربيته في القصر، إلا أنها لم تفلح في ذلك، فقد كانت أم موسى على يقين من الله (... إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (القصص:7)، (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ... ) (القصص:13)ووافقت (آسيا) على أن يذهب (موسى) مع مرضعته التي رفض أن يرضع من سواها وذلك خوفًا من أن يموت جوعًا، مرضعته التي هي في الحقيقة أمه، ذهب " (موسى) مع أمه إلى بيوت بني إسرائيل وعاش معها فترة الرضاعة والفطام؛ أي عامين عاش هذين العامين بين حنان أميه، أمه الحقيقية (يوكابد) وأمه بالتبني (آسيا)، هذا الحنان الذي يعيشه " (موسى) هو أولى صفات القائد، حيث يعينه على الوقوف للصعاب وفي نفس الوقت يكون قائد رحيم، تخيل معي بعد أن حُرمت أمه منه بقذفه في اليم، وكاد قلبها ينفطر عليه، ثم عاد إليها لتقر عينها به، تخيل مقدار الحب والحنان اللذين ستغدقهما عليه، وفي نفس الوقت حُرمت (آسيا) من الأولاد فتخيل أيضًا مقدار الحب والعطف اللذين سوف ينعم بهما منها، إن صفة الرحمة التي اكتسبها هي ما تميز القائد الحكيم، فالقائد بدون رحمة يصبح جبار مثل (هتلر) مثلًا .
في قصر فرعون:
وهناك اكتسب (موسى) صفة جديدة من صفات القائد وهي الصفة الثانية له وتتمثل في التعليم المتميز، فهو في قصر فرعون حيث سيتعلم علوم لا يتعلمها باقي المصريين، فما بالك ببني إسرائيل، لم تكن أمه لتستطيع أن توفر له هذا القدر من التعليم، وكأن الله قد أرسله في بعثة إلى أحسن الجامعات للتعلم، شيء آخر تعلمه في قصر فرعون وهي الصفة الثالثة له كقائد وهي القوة البدنية الهائلة، فمن عادات الفراعنه تربية أولادهم على التدريبات البدنية القوية، الصفة الرابعة تعلم في قصر فرعون أن يكون ذو نفس حرة، والتي تؤهله بعد ذلك للتصدي لفرعون نفسه، نعم فرعون نفسه، حياته مع فرعون في نفس القصر في حد ذاتها أفقدته هيبة فرعون؛ فقد رآه على طبيعته، وهو جائع وهو مريض وهو يذهب ليقضي حاجته كسائر البشر، لأنه بشر عادي، فأصبح بالنسبة لـ (موسى) إنسان عادي لا يهابه .
الحقيقة الأولى:
عمره الآن سبع أو ثمانِ سنوات، تعود (موسى) أن يزور مرضعته كثيرًا، مثلما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع مرضعته (حليمة السعدية)، في هذه المرحلة من عمره والتي بدأت فيها شخصيته بالتكون وصار من الطبيعي أن يسأل أو يسمع ويعقل الكلام الذي يسمعه قررت (آسيا) أن تخبره الحقيقة بأنه ليس ابنها وأنها قد التقطته من الماء، لأنه حتمًا سيعلم ذلك، فقد شاهد حادثة التقاطه الكثيرمن الناس، ذلك بالإضافة إلى أن فرعون لا يحبه، فكان من الطبيعي أن يسألها عن أمه من تكون؟ فأجابته بأنها لا تعلم، وفي الوقت نفسه لم تستطع أمه (يوكابد) أن تخبره بحقيقة أنها هي أمه؛ فهو لا يزال صغير وخشيت أن يكثر كلامه مثل سائر الأطفال، فظل لا يعلم لنفسه أمًا، في هذه الفترة بدأت تظهر لديه الصفة الخامسة للقائد ألا وهي الشجاعة، فقد أصبح صاحب نفس شجاعة تتحمل الصدمات، انظر معي إلى شخصيته، لديه الرحمة وفي نفس الوقت الشجاعة وعزة النفس، مما أدى إلى أن تكون نفسه نفس سوية، هذه هي صناعة الله سبحانه وتعالى.
بين قصر فرعون وبيوت بني إسرائيل:
سمحت (آسيا) لـ(موسى) بزيارة مرضعته رغم صغر سنه، وظل (موسى) يتردد على مرضعته ويتودد إليها حتى نشأت علاقة قوية بينه وبينها، وبينه وبين إخوته هارون ومريم، وبدأ يشعر براحة في بيوت بني إسرائيل أكثر من تلك التي يشعر بها في قصر فرعون، ففرعون يكرهه ولولا (آسيا) لما ظل هناك، أراد الله له ذلك لينشأ لديه حب لبني إسرائيل وفي نفس الوقت يعتاد على حياتهم منذ صغره فلا يشعر بغربة بينهم بل يأنس إليهم، فرحت أمه (يوكابد) كثيرًا لما رأته يأنس إلي بيت أبيه وإخوته وقومه حتى وإن كان لا يزال لا يعلم أنه منهم، فأرادت أن تزيد من هذه الصلة، فشرعت تحكي له قصص عن " (يوسف) عليه السلام، وهذا ذكاء منها فقد اختارت له شخصية تاريخية ورمز تاريخي محبوب لدى الفريقين، حتى إذا ذهب إلى القصر وتحدث عن " ( يوسف) لا ينزعج منه أحد؛ فالمصريون يحبون ( يوسف) وفي الوقت نفسه هو من بني إسرائيل، وهي تريد أن تنمي لدى (موسى) حبه لبني إسرائيل تمهيدًا لإخباره بأنه منهم، وهنا تظهر لديه صفة جديدة من صفات القائد وهي الصفة السادسة ألا وهي القدوة والمثل الأعلى الذي يحتذي به، ثم أخبرته أن هذا القائد العظيم الذي أصبح يحبه ويراه مثلًا أعلى هو من أجدادها، فازداد تعلق (موسى) بمرضعته وبني إسرائيل، وزاد انتمائه إليهم.
الحقيقة الثانية:
إلى أن أتى اليوم المناسب الذي تستطيع أن تأتمنه على السر فأخبرته بأنها هي أمه الحقيقية، وأنها لم يكن لديها أي وسيلة أخرى لتنجيه من موت محقق على يد فرعون سفاح الأطفال إلا بقذفه في النيل، وأن الله قذف في قلبها إيمانًا بأنه سيعود إليها ، وها هو قد عاد بالفعل، وسردت له القصة من بدايتها وحتى نهايتها، وأخبرته بأنه يجب أن يعود إلى قصر فرعون حتى لا تُقتل هي أو يُقتل هو إذا علم فرعون بحقيقة أمرهما.
المرونة والموازنة:
لم تكن أم ( موسى ) أمًا عادية بل كانت مربية ذكية، فقد غرست لديه صفة جديدة من صفات القائد، الصفة السابعة وهي المرونة والتوازن، ما رأيك أنت؟ هل يعود إلى حياته في قصر فرعون المليء بالفساد ، فهناك فرعون الذي يقول (أنا ربكم الأعلى) وكهنة وآلهه، أيعود بعد أن عرف الحقيقة وعرف أمه واستقر بين أحضانها، نعم .. أصرت أمه على عودته إلى ذلك القصر بالرغم من كل ذلك؛ فهو لا يزال بحاجة للمزيد من التعليم الذي لا يستطيع أن يحصل عليه إلا في ذلك القصر وحده فقط، وهذه الفترة هي التي أصقلت صفة المرونة والتوازن لديه، الكثير منا سوف يختارون عدم العودة لذلك القصر لما فيه من فتن ومصائب حتى ولو كان ذلك على حساب الفائدة التي يمكن أن يحصل عليها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" المؤمن الذي يخالط الناس خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه". تعلم " موسى الموازنة بين شيء فيه المفسدة والمصلحة في نفس الوقت، ويصر على الحصول على الفائدة دون أن يتأثر بالمفسدة، لذا ظل " موسى في قصر فرعون ليستفيد من العلم المتاح لديه في القصر ويحتك أكثر بالمصريين، ليعرفونه أكثر لأنهم سيدافعون عنه فيما بعد، تواجده في القصر واحتكاكه بالمصرين بعد أن عرف حقيقته وأصله لبني إسرائيل علمه الصفة الثامنة للقائد وهي الشخصية المنفتحة، فقد عاش في البيئتين رغم اختلافهم واختلاف ثقافتهم، يستطيع الآن أن يتعامل مع برتوكولات القصر وطبيعة الحياة الملكية ويتعامل مثل الملوك والفراعنة، وفي الوقت نفسه يستطيع التعامل مع الحياة البسيطة لبني إسرائيل التعايش معها بأريحية بالغة على عكس طبيعة الملوك العاديين.
ولما بلغ أشده:
الصفة التاسعة والتي لا يصلح قائد بدونها، الهدف والرسالة، ولقد قرر أن يكون هدفه إنقاذ بني إسرائيل، الكثير منا يظن أن " (موسى) حرر بني إسرائيل لأن الله كلفه بهذا، ولكن الحقيقة هي أنه اختار ذلك بنفسه فاختبره ربه ووجده مصرًا على أن ينقذهم مما هم فيه بعد أن أحس مدى الذل الذي يعيشونه فكلفه الله بذلك وأيده.
الصفة العاشرة وهي الصحبة الصالحة والتي من دونها يضل أي قائد وأي شخصٍ ناجح، وتمثلت صحبته الصالحة في أخوه هارون الذي سوف يسانده ويقف بجانبه وينصحه إلى آخر رحلته.
إلى الآن اكتسب (موسى ) عليه السلام عشر صفات أساسية من صفات القائد وهي:
1. الرحمة
2. التعليم المتميز
3. القوة البدنية الهائلة
4. نفس حرة
5. الشجاعة
6. القدوة والمثل الأعلى
7. المرونة والتوازن
8. الشخصية المنفتحة
9. الهدف والرسالة
10. الصحبة الصالحة
وقد لخص الله لنا كل ذلك في آية عظيمة، هي من دلالات إعجاز القرآن الكريم (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ)(القصص:14).
سهو الليل
27-08-2009, 11:10
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
وجزاك ربي الف الف خير
واياك اخي سهو الليل
بارك الله بك وحفظك ..
وشكراً للمتابعة و الحضور
موجز الحلقة السادسة
رسالة موسى عليه السلام هي رفع الظلم عن بني اسرائيل:
يقول موسى إنه من بني إسرائيل على الرغم من أنه الأمير موسى فإنه صاحب رسالة ورسالته هي رفع الظلم عن بني إسرائيل. وقد بدأ يحمل هذه الرسالة ويشعر بها، بل وأصبح قرار حياته، ففرعون كان ظالما وكانت هذه الناس مظلومة فموسى لن يقبل الذل والظلم؛ لأن الله جعله شخصية حرة ليست ذليلة فلن يقبل الذل لأهله. ولذلك يعتبر موسى نصير المظلومين في تاريخ البشرية وهو بطل الحرية في تاريخ البشرية فقد قال لا للظلم ولكن بلا عنف، بل بحكمة وعقل فقد قرر منذ هذه الفترة أن ينتمي إلى هؤلاء ويعيش لهؤلاء المستضعفين على الرغم من أنه لم يكلف بعد برسالة من الله! فقد كان عمره ثلاثين عاما بل إنه قد كلف عندما بلغ من العمر أربعين عاما ولكنه رجل مؤمن موحد يحب الله والناس ولا يريد الظلم بل يريد رفع الظلم عنهم، ولذلك بدأ بجمع بني إسرائيل فأصبح له أنصار وأتباع وأشياع.
عندما يختار الإنسان يختبر الله هذا الاختيار ثم يسوق الأحداث سوقا لكي تكبر نتيجة هذا الاختيار وتعلو، فقد كان بنو إسرائيل يقولون إن موسى عليه السلام يقول إنهم من أتباعه ولكنه أيضا الأمير موسى، ولذلك يجب أن يحدث موقف حاسم يوضح أنه منهم. فعند الاختيار سيختبر الله أولاً اختيارك وعند الإصرار عليه يدفع الأحداث دفعا ليظهر أن اختيارك صحيح حتى وإن كانت النتيجة سيئة.
موجز الحلقة السابعة
شهامة ونصرة رغم التعب والجوع والعطش:
وما الذي شاهده وراقبه موسى عليه السلام في ساحة ماء مدين؟ وجد الفتاتين تقفان على جانب الساحة، بينما يقف الناس في طابور على الماء الأقوى فالأقوى، أي أن الأقوى يصل إلى الماء أولًا، يسقى نفسه ثم أهله ثم ماشيته وينصرف، ليأتي الذي يليه في القوة، وهكذا من يأتي البئر مبكرًا يأخذ الماء الصافي، ومع الوقت يبدأ الطين والكدر الموجودان في قاع البئر يعكران الماء، فيأتي الضعيف ويأخذ الماء المكدر بالطين، وبالتالى فإن القوى هو من يحصل على الماء الصافي، بينما الضعيف يحصل على الماء الكدر، وأضعف الضعفاء هو من سيسقى في آخر الوقت بعد انصراف جميع السقاة، وبالطبع أضعف الضعفاء هما الفتاتان لأن والدهما رجل عجوز لا يستطيع أن يسقي بنفسه. استطاع سيدنا موسى عليه السلام بعد أن شاهد وراقب ساحة ماء مدين أن يتعرف على ماهية منطق الحكم عند أهل هذه المدينة، وهو منطق القوة وليس منطق الرحمة، كم من مواقف يحكمها منطق القوة في بلادنا! ومع أى منطق أنت؟ منطق القوة أم منطق الرحمة؟ منطق الأقوياء أم منطق موسى نصير الضعفاء؟ لم تُذكر هذه القصة فى القرآن هباءً بل لتتعلم وتعِىَ الأمور من حولك، وأنت عليك أن تحدد وتختار منطقك، أتريد أن تكون مثل الأقوياء الذين سقوا على البئر بالقوة على حساب الضعفاء؟ ولكنهم لم يُذكروا في التاريخ، أم تريد أن تكون مثل موسى عليه السلام كليم الله وحبيبه؟ لنرى ماذا سيفعل نبي الله موسى عليه السلام مع الفتاتين علمًا أنه ما ورد ماء مدين إلا ليجد من يستضيفه، وهو الغريب الجائع، ومن المؤكد أن الفتاتين لن يستضيفا رجلا، ولو أنه ساعدهما فهذا يعني أنه سيقدمهما بقوته على كثير من الرجال، وتقل فرص استضافته من أحد هؤلاء الرجال أو حتى تنعدم، فمع أي المنطقين سيكون موسى عليه السلام؟ يا موسى، ماذا أنت فاعل وأنت من سرت على رمال مصر إلى أن وصلت إلى حجر مدين، سائرًا على قدمين عاريتين بعد مسيرة ثمانية أيام؟ أنت الذي أُلصقت بطنك بظهرك من الجوع، وأنت المهدد بالقتل من قِبل فرعون، وأنت من لا تعرف هل نجوت أم لا، هل تفكر يا سيدنا موسى، في مساعدة الفتاتين وبك كل هذه الأحوال؟!
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أهلًا بكم..
خروج نبي الله موسى عليه السلام من مصر:
نكمل سويًا ما بدأناه سابقًا، يريد الآن نبي الله موسى عليه السلام الخروج من مصر ليبتعد عن طائلة يد فرعون، ولكن إلى أين وقد ترامت حدود الدولة المصرية في عصرالفرعون رمسيس وغطت مساحة كبيرة من الأراضي؟ ومن ثم سيضطر نبي الله موسى عليه السلام قطع مسافات طويلة سيرًا على الأقدام. ولكى تستطيع استيعاب مدى حرج الموقف، راجع كل الوجهات التي يمكن لنبي الله موسى عليه السلام الفرار إليها، وقد وصلت حدود مصر إلى سوريا وإلى لبنان، فلن تجد إلا "مدين". الطريق إلى مدين يتصف بالوعورة والخطورة وتصعب فيه الحركة إلى أبعد ما يكون، ويقبع على جانبيه جبال، وفى نهايته وادٍ تقع فيه مدينة مدين، والتي تبعد عن مصر إلى ما يصل إلى ألف كيلو متر من الأراضي، والتي قطعها نبي الله موسى عليه السلام في ثمانية أيام، وقد كانت هذه هى أول رحلة لنبي الله موسى عليه السلام خارج مصر. وبالرغم من دراسته لعلم الفلك وإمكانية الاهتداء بالنجوم في الصحراء والاستعانة بها في تحديد المسار الصحيح إلا أنه استعان بالله عز وجل، وظن الخير في إهدائه للمسارالصحيح. ويصف القرآن الكريم خروج نبي الله موسى عليه السلام من مصر بالآية التالية: )وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَّهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القصص:22) وهناك معاني جميلة في "عَسَى رَبِّي أَن يَّهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ"، وكأن نبي الله موسى عليه السلام يلجأ إلى ربه ويقول له سبحانه وتعالى: "يا رب أنا خرجت من مصر لأنى نصرت مظلومًا، فيارب أنا أعلم أنك لن تتركني وستهديني إلى الطريق الصحيح"، وفي هذا حسن ظن بالله عز وجل، وعليه توكل نبي الله موسى عليه السلام، وظن أن يرد عليه عمله الحسن عندما أحسن من قبل وساند مظلومًا، وهنا يأتى لُب الموضوع، والذى سأظل أردده عليكم، وأطلبه منكم وهو أن تقفوا بجانب الغلابة، وأن تساعدوا الضعفاء، وأن تنصروا المظلومين، فبنصرة المظلوم أصبح نبي الله موسى عليه السلام كليمَ الله.
من أصعب الأشياء على النفس أن يخرج الإنسان من بلده فجأة، ولكن ما معنى خروج الفجأة؟ خروج الفجأة معناه أنه ليس هناك طعام يتزود به المسافر في سفره، ولا ركوبة يمتطيها، ولا صديق أو أخ يُوَدِعهُ كهارون عليه السلام، بل ليس هناك حضن أم، فحتى أمه لم يستطع نبي الله موسى عليه السلام أن يُودعها. خروج الفجأة خروج صعب على النفس، ولكن لا خيار آخر أمام نبي الله موسى عليه السلام لينجو بنفسه من القتل غير هذا الخروج الأليم، ولم يكن خروج نبي الله موسى عليه السلام من مصر مجرد خروج فجأة بل لقد كان أيضًا خروج من كونه موسى الأمير إلى موسى المطارد؛ الذى يخرج فقط لينجو بنفسه من القتل وذلك لأنه ساعد ضعيفًا.
ويبدأ الترحال في حياة نبي الله موسى عليه السلام من ذلك اليوم، فهو لن يكون مستقرًا من الآن فصاعدًا فى حياته. وهكذا كانت رحلته الأولى من مصر إلى مدين، والتي قضى فيها عشر سنوات من عمره، ثم رحلته الثانية من مدين إلى مصر، والتى قضى فيها خمس عشرة سنة، ثم من مصر إلى سيناء وإلى صحراء النقب، ومرة أخرى إلى حدود الأردن وإلى حدود فلسطين، ثم التيه فى صحراء النقب حتى الوفاة. لقد كانت حياته سبعين سنة بدون استقرار من أجل الضعفاء!
هناك الملايين من الضعفاء الغلابة في بلادنا، ماذا فعلت لهم؟ ولماذا أسرد عليك هذه القصة؟ وبماذا تشعر تجاه نبي الله موسى عليه السلام؟ اعلم أن مساعدة ومناصرة نبي الله موسى عليه السلام للضعفاء كانت هى السبب فى استحقاقه لأن يكون كليم الله، لقد أحببت نبي الله موسى عليه السلام جدًا من قراءتي لسيرته، فهو لم يعش مستقرًا أبدًا. أما نحن فنعيش في استقرار، وإذا ما نقلنا من بيت إلى آخر بحاجاتنا من أثاث وديكور وغيره نعتبر هذا أيَّما مشقة.
الوضع في مصر:
يبحث فرعون عن نبي الله موسى عليه السلام في كل مكان، وقد استشاط غضبًا، وعليه أن يجده، فمن أجله قتل آلاف الأطفال الرضع منذ ثلاثين عامًا، وياللقدر! ينجو هو، وقد كان هو المراد من القتل، بل ولقد رباه فى بيته. ومع اشتداد حذر فرعون من تحقق الرؤيا وسلب ملكه اشتدت أوامره لجنوده بإيجاد نبي الله موسى عليه السلام حيًا أو ميتًا، وإن كان قد نجا من الموت منذ ثلاثين عامًا فيجب أن يذبح الآن ولا يفلت أبدًا هذه المرة، فانتشر جنود فرعون في بيوت بنى إسرائيل ليفتشوها، وعذبوهم لعلهم يجدونه، ولكنهم لم يبحثوا عنه قط في الصحراء؛ وذلك لعلمهم بأن الصحراء جرداء، من دخلها وهو لا يملك ركوبة ولا دليل فهو هالكٌ لا محالة، ولعل نبي الله موسى عليه السلام فى هذه الأثناء كان يناجي نفسه بأنه ما أراد إلا أن يُصلح في بنى إسرائيل ويساعد الضعفاء، ولكن يا للخُسارة ضاعت رسالته. أو لعله كان يتساءل: لماذا كان عاقبة مساعدته مظلومًا خروجًا مفاجئًا من وطنه وأهله، وهو لا يدري أن هذا هو منتهى الحب والإعداد من الله عز وجل له، يا نبي الله موسى، لكى تكون كليم الله عز وجل، ولكى تحمل الرسالة يجب أن تتحمل مشاقًا ومشاقًا تقويك وتؤهلك أن تكون على قدر المسؤلية الآتية، فتربية القصور لا تجدي بمفردها نفعًا مع هذه المهام العظيمة، ومن ثم وجبت مشاق الصحراء وتعبها وجهادها. فكل ما في هذه الرحلة هو من قول الله عز وجل:(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه: 41) واصطنعتك لنفسى، الله الله على هذه الكلمة، فكل ما يحدث لك يا نبي الله موسى هو إعداد لك من الله عز وجل، وهناك قاعدة تقول: "ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك"، والمعنى أن في بعض الأحيان قد يمنع الله عز وجل عنك ما تريده ولكن هذا في حقيقته لا يكون إلا عين العطاء ومنتهى الحب من الله عز وجل، خذوها قاعدة في حياتكم يا شباب، وتعلموها من نبي الله موسى عليه السلام، لو أنك على الحق، ولو أنك على الخير، ولو أنك تساعد الغلابة والمظلومين وفى هذا تعرضت لصعاب ومشاق مثل ما تعرض له نبي الله موسى عليه السلام فى الطريق، فاعلم أن هذا من اصطناعة الله عز وجل لك، فكل من يريد الله ويريد الحق يصنعه الله ويُعده، وإن كنت منهم فافرح ولا تحزن فهذا من صناعة الله عز وجل لك، هذه كانت مشاعر نبي الله موسى عليه السلام مقترنة بحسن ظن فى الله عز وجل.
نبي الله موسى عليه السلام في الطريق إلى مدين:
يسير نبي الله موسى عليه السلام في الطريق الوعر الخطير إلى مدين، وهو مهدد بالقتل، وذلك للمرة الثانية في حياته، والتى سبقتها محاولة قتله وهو لا يزال بعد رضيعًا صغيرًا، وفي هذا رسالة خفية إلى موسى عليه السلام من رب العالمين له، وفيها أنك يا موسى، نجوت فى المرة الأولى وستنجو فى الثانية، وفيها أيضا أنك يجب أن تعلم أن أَجَلُك وأجل العباد في يدي أنا الله، وها أنت تتعرض للقتل مرتين، وممن؟ من فرعون، ولكن الله عز وجل ينجيك فى المرتين، وعلينا نحن أن نعي هذه الرسالة جيدًا، وفي هذا يقول سيد النبيين محمد صلى الله عليه وسلم: "نفث روح القدس في روعي أن نفسًا لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلهاوتستوعب رزقها". لا تخشوا على أرزاقكم وأعماركم؛ فهى مضمونة لكم بين يدى الله عز وجل، ولكن افعلوا الخير، واعملوا الحق. تعلموا من نبي الله موسى عليه السلام ومن رحلته إلى مدين.
يسير نبي الله موسى عليه السلام في الطريق إلى مدين، ويمر عليه يوم ويومان وثلاثة، وفي هذا يصف ابن عباس نقلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حال نبي الله موسى عليه السلام في هذه الرحلة، فيقول: "التصقت بطنه بظهره من شدة الجوع، أكل ورق الشجر، تقيحت فاه، بات ليال فى الصحراء عاريًا، ثم سقط نعله، ثم سقط جلد قدميه، وسقطت أظافره، وأدميت قدماه". إن لكم أن تعلموا أن المسافرين في الصحراء يُحَّذًَرُون من العقارب؛ فهى تقبع تحت الصخور، وتخرج على السائر في الصحراء، وتلدغ الجالس فيها. فكيف كان حال نبي الله موسى عليه السلام في هذا المكان وقد مرت عليه ثمانية أيام، وكان لا يجد مأوىً للنوم إلا أرض الصحراء العارية؟ ولم تكن هذه هى المشقة الوحيدة التى تعرض لها نبي الله موسى عليه السلام، بل ومن طول مسيرته تقطع نعله، وسقط جلد قدميه، ونزفت رجلاه. أليس بعد معرفة بعض مشاق هذه الرحلة يجدر علينا أن نتعب لله عز وجل؟ ألسنا نتعب كثيرًا من أجل الدنيا؟ أنبخل ببعض التعب لله عز وجل؟ ألم تُدمى قدما كل من نبي الله موسى ونبي الله محمد عليهما الصلاة والسلام؟ وألم يسيرا- كلٌ منهما- في الطريق الطويل؟ فيسير نبي الله موسى عليه السلام إلى مدين، ويسير نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى الطائف؟ يقول نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم: "يُبتلى المرء على قدر دينه، فمن كان في دينه صلابة زِيدَ في ابتلائه، قالوا: ومن أكثر الناس ابتلاءً يا رسول الله؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل" إذا كنت ممن تعمل الخير وتتعرض للصعاب فأنت تسير على طريق الأنبياء، فأنت على خطى نبي الله موسى عليه السلام، وأنت كأنك تسير في طريق نبي الله موسى عليه السلام إلى مدين، ثم إلى الدرجات والمقامات العلا في الجنة، يا أهل البلاء، اصبروا، اصبروا كما صبر نبي الله موسى عليه السلام، والحق في القرآن الكريم يقول:)... إِنَّمَا يُوفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيرِ حِسَابٍ (الزمر:10(.
الأنس بالله عز وجل:
أنا أتخيل نبي الله موسى عليه السلام وهو سائر على قدميه خائر القوى، يكاد يسقط من شدة التعب، وها هو يقترب من مدين، وها هى مدين تلوح فى الأفق، أريد أن أنبهكم إلى عبادة جميلة عاشها نبي الله موسى عليه السلام فى هذه الأيام الثمانية، ألا وهى الأُنس بالله عز وجل، ولكن ما معنى الأُنس بالله؟ الأنس بالله هو أن تصبح الوحدة ليست بوحدة لأنك مع الله. عليكم بتجربة هذه العبادة، والله إنها لعبادة جميلة، فبدلًا من أن تقول سأشاهد التلفاز ساعتين أو ثلاثة، أو سأتكلم فى الهاتف لأضيع الوقت، جرب أن تأنس بالله عز وجل، هيا، قلد نبي الله موسى عليه السلام، ولكن كيف لك أن تأنس بالله عز وجل؟ ركعتين، نعم عليك بالصلاة، لأنك فى الصلاة وبينما أنت تقول "الحمد لله رب العالمين"، يقول الله عز وجل لك: "حمدني عبدي"، وبينما أنت تقول: "الرحمن الرحيم" فيرد عليك الله عز وجل، ويقول: "أثنى على عبدي"، وبينما أنت تقول: "مالك يوم الدين"، فيقول ربنا عز وجل: "مجدني عبدي"، وبينما أنت تقول: "إياك نعبد وإياك نستعين"، فيقول عز من قال: "هذا بيني وبين عبدي"، الله الله الله على هذا! كان لنبي الله عمر بن عبد العزيز مع الفاتحة عملًا عجيبًا، وهو أن يصمت بعد كل مقطع فيها هنيهة من الوقت، فسألوه: لماذا تصمت؟ قال: لأستمتع برد ربى. هذا هو الأنس بالله، هل أدلكم على عمل جميل للأنس بالله عز وجل؟ اذكروا الله.. فذكر الله هو قمة الأنس) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ...) (البقرة:152) وهناك حديث قدسي يقول: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه"، قل الآن: "لا إله إلا الله"، يذكرك الله تعالى الآن باسمك.
كان الأنس بالله عز وجل هو حال نبي الله موسى عليه وسلم طيلة الثمانية أيام التى قضاها في رحلته قاطعًا الصحراء بين مصر ومدين، وأخيرًا بدأت ظهور بعض ملامح الحياة في الأفق، وكانت تلك مشارف مدين بالفعل، وهكذا استجاب الله تعالى لدعاء نبي الله موسى عليه السلام وحسن ظنه به عز وجل، والكلمة التى قالها "عَسَى رَبِّي أَن يَّهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ" قد تحققت.
دخول نبي الله موسى عليه السلام إلى مدين:
ودخل نبي الله موسى عليه السلام إلى مدين وتوجه إلى مُجتَمَع الناس، وهو ماء مدين، وهذا هو المكان الذي يسقي الناس فيه، وإن أنتم ذهبتم إلى مدين في زماننا هذا ستجدون نفس عين الماء المذكورة في القرآن الكريم، والتي ذهب إليها نبي الله موسى عليه السلام منذ ثلاث آلاف سنة، ومن المعلوم أنه إن لم يكن تحديد هذا المكان غير ذي أهمية لما تم ذكره في القرآن الكريم، توجد ماء مدين فيما يعرف الآن باسم محافظة الكرك في دولة الأردن، ومن يصل إلى هذه المنطقة سيجد لوحة مُعلقة مكتوبٌ عليها الآية القرآنية التي تقول:(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ...) (القصص:23) ولا تزال هذه الماء تسقي حتى وقتنا الحاضر، ولا يزال البشر يَرِدُونها ليسقوا منها.
يالها من رحلة طويلة ومشقة كبيرة، ولكن هكذا تستحق الرسالات العظيمة. ياليتكم تكونون مثل نبي الله موسى عليه السلام تنصرون الضعفاء، وما ماء مدين إلا مكانٌ آخرٌ ينصر فيه نبي الله موسى عليه السلام ضعفاء آخرين، فهنا في هذا المكان ساعد الفتاتين، وهذا هو لب قصة نبي الله موسى عليه السلام، فنصرة الضعيف هى السيرة الذاتية التي أهلته لكى يكون نبيًا، ولكى يكون كليم الله. أتريد أن يكون لك مقام عند الله عز وجل؟ انظر ماذا تفعل مع الضعفاء، وما هو مقام الغلابة عندك؟ وأنت ستعلم ما هو مقامك عند الله، وهكذا سَيُؤَهَل نبي الله موسى عليه السلام من هذا المكان- ماء مدين- ليكون كليم الله عز وجل.
ولنتعرف أكثر على أرض مدين، فأرض مدين هى أرض نبي الله شعيب عليه السلام، وهو نبي من أنبياء الله عز وجل عاصر نبي الله لوطًا عليه السلام، وجاء بعد نبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ويبعد زمنه عن زمن نبي الله موسى عليه السلام بثلاثمائة سنة. وككل الأنبياء أُُرسل نبي الله شعيب عليه السلام إلى أهل هذه البلدة في زمانه يدعوهم إلى الله العزيز الغفار، ولكنهم كذبوا ورفضوا الدعوة، وهكذا نقرأ في القرآن الكريم:) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ...) (الأعراف:85) وكانت هذه الأرض أرض زراعة وحضارة، يعيش أهلها عيشة هنية، ولكنهم كانوا يُطففون في الميزان –وهذا نوع من الظلم وللأسف الشديد ينتشر الآن وبكثرة في بلادنا- فأرسل الله عز وجل إليهم شعيبًا، وأعطاهم الكثير من الفرص كي يُقلِعُوا عن ذنوبهم ويعودوا إلى طريق الرشاد، ولكن مع حلم الله عليهم ازداد ظلمهم وجهلهم، فكان أن أخذهم عذاب يوم الظلة، كما يسرد القرآن الكريم: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمُ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء: 189( وكان أن حدث زلزال شديد أدى إلى سقوط وتهدم بيوتهم فهلكوا جميعًا بعد حلم الله عز وجل عليهم، ولكن السؤال الآن: لماذا نذكر هذه القصة هنا في هذا المكان- ماء مدين- وفي هذا الزمان، زمن نبي الله موسى عليه السلام؟ لأن الله عز وجل أراد أن يأتى نبي الله موسى عليه السلام إلى أرض كَثُرَ فيها الظلم كما هى أرض مصر الآن في زمن فرعون، وذلك ردًا على تساؤلات نبي الله موسى عليه السلام الداخلية التى لابد وأنه كان يتساءل بها فى نفسه، مثل: أأخرج أنا وأنا من نصر المظلوم بينما يبقى الظالم في مكانه ولا يخرج من أرضه؟! فكان لابد أن يجيب الله عز وجل عليه بطريقة عملية وواقعية وليست نظرية، وكأنه يقول له: لا يا موسى، فإن ربك حليم يمهل العباد، ويُعطي الفرص لعل الناس يرجعون عن ظلمهم، ولكنه إن أخذ_ سبحانه وتعالى_ فإن أخذه أليم شديد. كان لابد لنبي الله موسى عليه السلام أن يدخل أرض مدين ليُحكى له قصة هذه الأرض وقصة أهلها مع نبيهم وتكذيبهم له وأخذ الله لهم، وليرى نبي الله موسى عليه السلام بعينيه آثار هذا الزمان من بقايا البيوت المهدمة والحضارة المندثرة والموجودة حتى الآن؛ ليعلم أنه مهما علا فرعون في الأرض وظلم فإنه لابد له من نهاية مدوية كما في وصف القرآن الكريم لنهايات الظلمة:(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102) يا ظالمين، احذروا غضب الله العزيز، وإياكم أن تستهينوا، فنعم، الله هو الحليم، ولكن أيضًا أخذه أخذٌ أليمٌ شديدٌ. فكأن الله أراد عز وجل أن يُرِىَ نبي الله موسى عليه السلام بعينيه تجربة عملية، ليعلم أن الله مع الصابرين، ياالله على دروسك العملية التي تعلم بها البشر!
ما السبب الذى جعل نبي الله موسى عليه السلام يتجه إلى بئر مدين بمجرد دخوله إلى هذه الأرض الجديدة؟ كان للقدماء عادة وهى أن الغريب إذا دخل أرضًا جديدة عليه، وأراد أن يُضَيَفَهُ أحد ليأكل ويشرب فعليه أن يذهب إلى مكان السقاء؛ لأنه مكان اجتماع القوم مما يجعله مكانًا مناسبًا لإيجاد شخص يضيف الغريب، هذا بالإضافة إلى أنه أراد أن يشرب بعد رحلة الثمانية أيام في الصحراء. ما هو هدفك الآن يا نبي الله موسى؟ أن يستضيفنى أحد؟
اقرأ القرآن وتعايش معه: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23) والأُمة من الناس هى الجماعات الكثيرة من البشر، كلٌ له مأربهُ الخاص إما سقاية ماشيته أو سقاية أهله أو أن يشرب هو نفسه. ولنا أن نتخيل موقف نبي الله موسى عليه السلام الآن، فهو لابد فرح بوصوله إلى هذا المكان الذي يكثر فيه االناس، ولابد أن أحدهم سيلاحظ عليه مشقة السفر وجوعه فسيستضيفه عنده، ولكنه في هذه الأثناء لاحظ شيئًا غريبًا، وهو وقوف فتاتين على جانب هذه الساحة الكبيرة ومعهما أغنامهما، ولكنهما لا يقتربان من الماء. أريدك أن تلاحظ معي شيئًا لطيفًا في الآية الكريمة السابق ذكرها، وهو أن كلمة "وَجَدَ" قد تكررت مرتين، فمرة وجد أمة من الناس، ومرة أخرى وجد فتاتين تمنعان أغنامهما من أن يدخلوا إلى الماء متزاحمين مع أغنام الآخرين، لقد تعلم نبي الله موسى عليه السلام من التجربة، فأول مرة وجد شخصًا يضرب آخر، فوكزه فورًا فقضى عليه، بينما في المرة الثانية (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَّبْطِشَ ...) (القصص:19) أي أنه فكر قليلًا قبل أن يهم بأمر ما، أما الآن فهو يرقب المكان ويتفكر في الأمر من حوله ويعقله، فتكررت كلمة "وجد" لتعبر عن هذا التفكر في الأمر قبل إحداث فعل ما. هل لاحظت كم هو جميلٌ هذا التدريب الرباني المستمر؟! تدريب الله عز وجل لموسى عليه السلام اليوم هو: "شاهد وارقب حتى ولو كنت تفعل خيرًا"، هذه هى القاعدة عند عمل الخير، فما بالك لو كان لعمل شر، إياك أن يجرك صاحبك إلى شر، إياك أن تسلم عقلك وقلبك إلى شيطان أو إلى صاحب سوء، بل يجب عليك أن تشاهد وترقب.
شهامة ونصرة رغم التعب والجوع والعطش:
وما الذي شاهده وراقبه نبي الله موسى عليه السلام في ساحة ماء مدين؟ وجد الفتاتين تقفان على جانب الساحة، بينما يقف الناس في طابور على الماء الأقوى فالأقوى، أي أن الأقوى يصل إلى الماء أولًا، يسقى نفسه ثم أهله ثم ماشيته وينصرف، ليأتي الذي يليه في القوة، وهكذا من يأتي البئر مبكرًا يأخذ الماء الصافي، ومع الوقت يبدأ الطين والكدر الموجودان في قاع البئر يعكران الماء، فيأتي الضعيف ويأخذ الماء المكدر بالطين، وبالتالى فإن القوى هو من يحصل على الماء الصافي، بينما الضعيف يحصل على الماء الكدر، وأضعف الضعفاء هو من سيسقى في آخر الوقت بعد انصراف جميع السقاة، وبالطبع أضعف الضعفاء هما الفتاتان لأن والدهما رجل عجوز لا يستطيع أن يسقي بنفسه. استطاع نبي الله موسى عليه السلام بعد أن شاهد وراقب ساحة ماء مدين أن يتعرف على ماهية منطق الحكم عند أهل هذه المدينة، وهو منطق القوة وليس منطق الرحمة، كم من مواقف يحكمها منطق القوة في بلادنا! ومع أى منطق أنت؟ منطق القوة أم منطق الرحمة؟ منطق الأقوياء أم منطق موسى نصير الضعفاء؟ لم تُذكر هذه القصة فى القرآن هباءً بل لتتعلم وتعِىَ الأمور من حولك، وأنت عليك أن تحدد وتختار منطقك، أتريد أن تكون مثل الأقوياء الذين سقوا على البئر بالقوة على حساب الضعفاء؟ ولكنهم لم يُذكروا في التاريخ، أم تريد أن تكون مثل موسى عليه السلام كليم الله وحبيبه؟ لنرى ماذا سيفعل نبي الله موسى عليه السلام مع الفتاتين علمًا أنه ما ورد ماء مدين إلا ليجد من يستضيفه، وهو الغريب الجائع، ومن المؤكد أن الفتاتين لن يستضيفا رجلا، ولو أنه ساعدهما فهذا يعني أنه سيقدمهما بقوته على كثير من الرجال، وتقل فرص استضافته من أحد هؤلاء الرجال أو حتى تنعدم، فمع أي المنطقين سيكون نبي الله موسى عليه السلام؟ يا نبي الله موسى، ماذا أنت فاعل وأنت من سرت على رمال مصر إلى أن وصلت إلى حجر مدين، سائرًا على قدمين عاريتين بعد مسيرة ثمانية أيام؟ أنت الذي أُلصقت بطنك بظهرك من الجوع، وأنت المهدد بالقتل من قِبل فرعون، وأنت من لا تعرف هل نجوت أم لا، هل تفكر يا نبي الله موسى، في مساعدة الفتاتين وبك كل هذه الأحوال؟!
نعم، إن شهامته ستتغلب على تعبه وجوعه وعطشه، وسيساعد الفتاتين! ألم أقل لكم أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم سيقدم سيرته الذاتية الخاصة به ليصبح نبيًا؟ ويا الله، إنها نفس السيرة الذاتية لنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كليهما نصرة الضعيف هى سابقة الأعمال، ألم يستوقفك كلام السيدة خديجة رضى الله عنها للرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الوحى لِيُعلمه أنه أصبح نبيا؟ ألم تقل له: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتكرم الضيف، وتعين على نوائب الدهر، وتعين الضعيف وتقف مع المكروب"، إذن تلك هى المواصفات التي جعلت الأنبياء أنبياء، وأنت إن أردت أن تكون حبيب للأنبياء وعلى قدم الأنبياء، فعليك بنصرة الضعفاء التي جعلت نبي الله موسى عليه السلام كليم الله ونبي الله محمد صلى الله عليه وسلم سيد خاتم الأنبياء. هل لى أن أسالك ماذا كنت ستفعل لو كنت مكان نبي الله موسى عليه السلام في هذا الموقف؟ دعني أقل لك ماذا كنت ستفعل، كنت ستهرول إلى البئر مزيحًا كل من يقف أمامك بالقوة لترتمي في الماء، وتروي نفسك منها، أليس هذا بصحيح؟ أم كنت ستجلس على الأرض تداوي قدميك التي أدمت دمًا، أم كنت ستنام، وتنام لكي تستطيع أن تفيق، أم كنت ستذهب إلى أحد الأقوياء، وتطلب منه الاستضافة، وعلى كلٍ فإنك من المؤكد كنت ستتجاهل الفتاتين، لأنه ليس هذا الوقت المناسب لتفكر في أمرهما، ناهيك عن مساعدتهما. لم يفعل نبي الله موسى عليه السلام أيًا مما كنت أنت ستفعله؛ لأنه لا يتوقف عن نصرة الضعيف، ولا تتوقف شهامته، فماذا فعل نبي الله موسى عليه السلام؟
ذهب نبي الله موسى عليه السلام إلى الفتاتين يسألهما عن أمرهما، ويسرد القرآن الكريم الخطاب بينهما كالتالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23) (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص:24) ولاحظ أدب الفتاتين، فهما اعتذرا عن وجودهما في وسط هذا الحشد الكبير من الرجال بأن أباهما رجل عجوز، لا يستطيع أن يسقي بنفسه، ولذلك هما هنا من أجل هذه المهمة بدلًا منه، وهنا في هذه اللحظة ينصر نبي الله موسى عليه السلام الفتاتين الضعيفتين، فيسقي عنهما، وإن كان المنطق الذي يعرفه السقاة هو منطق القوة فنبي الله موسى صلى الله عليه وسلم هو لها، وبالفعل تزاحم مع الرجال، وسقى لهما، ونسى جوعه وعطشه حتى أنه لم يسق نفسه كما قال نبي الله ابن العباس: "لم يُدرِك أن يشرب".
هل عرفت الآن لم استحق نبي الله موسى عليه السلام أن يكون كليم الله عز وجل؟ ماذا عنك أنت؟ ما هو مقامك الذي تريد الله عز وجل أن يضعك فيه؟ أتريد أن تدخل الجنة؟ ولكن بأي عمل تريد أن تدخل الجنة، بأى ضعيف وقفت بجواره، بأى يتيم نصرته، بأى أرملة ساعدتها، بأي أطفال شوارع وقفت بجانبهم، بأي قرية فقيرة ذهبت إليها وساعدت فقراءها؟ قل لي بأي عمل؟
حب النبي صلى الله عليه وسلم لنبي الله موسى:
هناك رواية تقول أن الرعاة لما علموا أن نبي الله موسى عليه السلام ينتوي مساعدة الفتاتين أرادوا منعه، ولكنهم علموا بعدم مقدرتهم على هذا لِما ظهر منه من قوة البدن في زحامهم إياهم على الماء، فقرروا وضع صخرة عظيمة لا يستطيع حملها إلا عشرة رجال مجتمعين في طريقه ليعترضوه، فما كان منه إلا أنه رفعها بمفرده. ومن الجدير بالذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم وصف نبي الله موسى عليه السلام، وكان قد رآه صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج، وكان يحبه حبًا جمًا، وكان من أقرب الناس لقلبه صلى الله عليه وسلم بعد نبي الله إبراهيم عليه السلام؛ وذلك لأن ثلث القرآن الكريم أُنزل في نبي الله موسى عليه السلام، وبحب نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم كان حبه لنبي الله موسى عليه السلام، كما أنه كان أيضًا أكثر من عانى مثله مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك كان يقول النبى صلى الله عليه وسلم عندما يؤذى أو يؤذى أحد من أتباعه: "رحم الله أخي موسى". إياكم أن تكونوا غير محبين لنبي الله موسى عليه السلام، أحبوه مثل الرسول صلى الله عليه وسلم كما علمنا القرآن الكريم (... لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) (البقرة:285) يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الله موسى عليه السلام، فيقول: "رأيت موسى، فقال مرحبًا بالنبى الصالح والأخ الصالح"، يا الله على الحب بين كلا النبيين، يا ليت بني إسرائيل يتعلمون، يا ليتهم يعلمون مقام نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم عند نبينا موسى صلى الله عليه وسلم، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الله موسى عليه السلام، بقوله: "فرأيته طوالًا أجعد الشعر" وطوالًا هذه تشير إلى شدة الطول مع عضل مفتول، فقد كان سلام الله عليه قوة بدنية هائلة؛ ولذلك استطاع أن يحمل بمفرده صخرة لا يحملها إلا عشرة رجال مجتمعين، ومن أجل ذلك قالت الفتاة لأبيها فيما بعد: (... يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص:26)0 أريد هنا أن أوجه كلامي إلى الشباب الذى يداوم على الرياضة: إياكم أن تكون عضلاتكم هذه للشر أو للبنات أو للإعجاب، إياك أن تضع في جيبك سلاحًا أبيض، وإياك أن تستقوي على أحد بعضلاتك، تَعَلَم أن تكون عضلاتك وقوتك للضعفاء، تعلم من هذا الدين، أ طعام وشراب أم رجولة وشهامة؟ اختار نبي الله موسى عليه السلام الوقوف بجانب الضعفاء فأصبح كليم الله عز وجل.
قد تتساءل في نفسك أن ما فعله نبي الله موسى عليه السلام مع الفتاتين هو عمل خير، ولكنه فى النهاية عمل بسيط وصغير، يجب أن تعلم أن نصرة الضعيف ليس بعمل صغير، وأن من يعمل العمل الصغير يُهيؤه الله عز وجل للعمل الكبير، لأن الله عز وجل يُجرب عباده مرة تلو الأخرى، وإذا نجحوا يتفضل عليهم بالمنزلة الكبيرة، وهكذا أصبح نبي الله موسى عليه السلام هو السبب الذي يجعلنا نهتم بمدين وبماء مدين، فهو رمز نصرة الضعفاء، فهو الذي سيخوض أعظم تجربة لمواجهة الظلم في تاريخ البشرية.
وبعد أن سقى نبي الله موسى عليه السلام للفتاتين خسر كل من كان يقف على ماء مدين من الرجال الذين قد يُضيفونه، فرجع نبي الله موسى إلى الخلف وجلس في ظل شجرة ليس معه أحد إلا الله عز وجل.
الواجب العملى:
· وإليكم الواجب العملي بعد معرفة هذه القصة العظيمة، وهو أن تبحث عن فقير أو ضعيف وانصره كما نصره نبي الله موسى عليه السلام، فهذا هو الطريق إلى الجنة، وهذا هو طريق الأنبياء، وعليك أن تعلم أنك قد تجد ضالتك في بيتك، كأن يكون هذا الضعيف هو أمك أو زوجتك أو ابنتك وأنت من تستضعفها، وضع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم نصب عينيك، والذي يقول فيه: "لئن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا"، فيامن يعتكف في المسجد النبوي في العشر الأواخر من رمضان، اذهب إلى قريتك، وابحث عن أسرة فقيرة، ومُد لهم يَد العون، كأن تساعدهم على إقامة مشروع صغيرتُحيِيهُم به، ويا من يعاني من المشاكل، بالله عليك، اقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه: "من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة". "وكان الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، "ومن يسر عن معسر يسر الله عنه في الدنيا والآخرة". ابحث عن أرملة، صديق، أو جار ضعيف، وقف بجانبه، واعلم أن أحد الصحابة كان إذا لم يمر ببابه ضعيف أو فقير يطلب مساعدته يقول: "هذه مصيبة بذنب أذنبته"، وعليه إذا لم تستطع أن تجد فقيرًا أو ضعيفًا تساعده، فاعلم أنك محروم بذنوبك الكثيرة.
· والواجب الثاني هو أن تقرأ القرآن، وأن تستمتع بالآيات الكريمات التي تحكي قصة نبي الله موسى عليه السلام لعلك أن تَحيا بالقرآن.
كم نحتاج إلى نبي الله موسى عليه السلام في زماننا هذا، وكم هى حاجتنا لنتعلم منه نصرة الضعيف، وكم هى حاجتنا لنتعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان من صفاته التي أهلته ليصبح نبيًا وقوفه بجانب الضعفاء.
عل الله الرحمن الرحيم يجمعنا مع نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ونبي الله موسى عليه السلام في الفردوس الأعلى بنصرة الضعفاء والفقراء.
الحلقة الثامنة
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. نستكمل قصة موسى، خرج موسى من مصر في يوم وليلة، ووصل بعد ذلك إلى مَدين كما عرفنا سابقًا الذي قضاه في مَدين حتى سقى البنتين. والآن نكمل ما حدث بعدما سقى البنتين ونروي ما حدث طيلة العشر سنوات التي قضاها في مَدين. حيث يخرج موسى بعد أن سقى البنتين ويجلس تحت ظل شجرة كما قال الله تعالى {.. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ .. }القصص24.
حال موسى بعد أن سقى للفتاتين:
عاد موسى وحيدًا مرة أخرى في هذا المكان بعدما انفض الجميع من حوله، ولم يجد مكانًا يجلس فيه إلا تحت ظل الشجرة وهى أقرب شجرة للبئر، تخيل معي كيف هي حالته الآن؟! ولا تنس أنه حبيب الرحمن حيث يقول الله تعالى: {..وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي .. }طه39. فلا يمكن أن تراه إلا وتحبه، فإذا رأيته يوم القيامة وأحببته فهذا دليل على إيمانك؛ فلا يحبه إلا مؤمن، أما الظالمين لن يشعروا بأي شيء تجاهه؛ لأنه عدو الظالمين ونصير الضعفاء. فتخيل رغم أنه حبيب الرحمن وسيكون بعد ذلك كليمه إلا أنه جالس وحيد في هذه الصحراء التي لا يوجد بها الآن أنيس ولا بشر وغير مأهولة بالسكان، فما بالكم بشكلها منذ ثلاثة آلاف سنة!
دعاء موسى إلى الله:
جلس موسى تحت ظل الشجرة بجسده، وذهب إلى ظل رحمة ربنا بروحه وقلبه، وتخيل معي حالته وهو يقول هذا الدعاء {... فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }القصص24 . فممكن أن تشعر بهذا الدعاء وتكتبه وتقوله عندما تشعر بأي ضعف. هيا بنا نعيش مع هذا الدعاء، ونستشعر حال موسى عندما كان جالسًا بمفرده، تخيلوا ضعفه وحاله وهو تحت ظل الشجرة يدعو: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }القصص.16 {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ }القصص17. {... قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص21.{... قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ }القصص22. {... فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}القصص24
ففي كل خطوة دعاء، وكل الدعوات استجيبت، قال رب اغفر لي، فغفر له. قال رب نجني من القوم الظالمين، فنجاه ربه. قال عسى أن يهديني سواء السبيل، مشى حتى وصل إلى مدين. قال رب إني لما أنزلت إلىّ من خير فقير، ستستجاب أيضًا. يا شباب، يا نساء، يا رجال، ادعوا في كل خطوة وأزمة واحتياج في حياتكم. يقول النبي صلى الله عليه وسلام: (إن الله يستحي أن يرفع العبد يديه، يقول يا رب يا رب، ثم يردهما صفرًا خائبتين). يقولون لأحد العُبَّاد: كيف عرفت الله؟ فقال: عرفت الله بإجابته للدعاء، ما ردني أبدا. فإياك أن تقول أن الله يعلم بحالي فلماذا ادعو والله يعلم كل شيء؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم من لا يسأل الله يغضب عليه). الله سبحانه وتعالى يحب سماع صوتك، ويحب أن يرى يديك مرفوعة إليه تدعوه. وعندما أصبح موسى نبي قال بني إسرائيل له: لِمَ ندعو الله وهو أعلم بحالنا؟ فسأل موسى الله تعالى فأوحى إليه الله أن يا موسى إني أعلم بحالهم، ولكني أحب أن أسمع ضجيج عبادي في الدعاء، حتى إذا رفعوا أكفهم بين يديَّ وتوسلوا إليَّ كنت لهم أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ:
يقول موسى: {.. رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }القصص24 . تخيلوا وهو جالس تحت ظل الشجرة يقول: يا رب، أنا فقير، بلا مأوى، بلا أهل، ليس لي أحد، عُدت فقيرًا. فالأمير موسى ابن قصر الأمس يجلس تحت ظل شجرة في هذه الصحراء الواسعة أمام هذا البئر ويقول: يا رب أنا فقير! فتشعر أن موسى يلجأ إلى الله بضعفه وذله. وأحسن عبادة، عندما تلجأ إلى الله بضعف وذل، الجأ له بضعفك يمدك بقوته، الجأ له بفقرك يمدك بغناه، الجأ له بذُلك يمدك بعزته، قل له: يا قوي، من للضعيف إلا أنت؟ يا غني من للفقير إلا أنت؟ يا عزيز من للذليل إلا أنت؟ يقول أحد العلماء: طرقت الأبواب إلى الله فوجدتها ملأى، فطرقت باب الذل (من باب الضعف والمسكنة) فوجدته فارغًا فدخلت وقلت لكم هلموا. أحيانا تقول دعاء صغير بصدق، يُفتح لك عند الله من هذا الدعاء أبواب كثيرة، يقول موسى وهو مستشعر بالذل والضعف: يا رب أنا فقير. وهذا الدعاء جعل موسى كليم الله، كيف؟ فعندما كلم الله موسى وقال له: يا موسى، أتدري لِما اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي؟ فقال: لا يا رب. فقال الله له: يا موسى، إني قلبت عبادي في زمانك ظهرًا وبطنًا، فلم أجد نفسًا أذل لي منك، فأحببت أن أرفعك بين عبادي بِذُلك لي.
سرعة إجابة الدعاء:
لاحظ دعاء موسى، ذكر أولًا خير الله عليه، ثم قال له أنه فقير. فمن عادتنا عندما تكثُر المشاكل علينا أن ندعوا الله مباشرةً دون أن يذكروا نعمة الله عليهم، ولكن موسى ذكر أولاً خير ربنا عليه. من أنه الذي أنقذه من الموت وهو صغير، ورده إلى أمه، وغيرها من النعم الكثيرة، ورغم كل ذلك لازلت إلى ما انزلت إلىَّ من كل هذا الخير فقير، لاحظ كم أن نفسية موسى غير ساخطة بالرغم من أنه كان من ثمانية أيام الأمير موسى، واليوم لا يجد الطعام، ولكن كانت نتيجة الدعاء مع التذلل وذكر نِعَم الله قبل أن يقول شكواه {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا .. }القصص25. فإذا الفتاة تأتيه بسرعة بعد أن دعا الله {فَجَاءتْهُ } الفاء هنا للسرعة، وهذا يدل على سرعة إجابة الدعاء، تقول له: {... إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ...}القصص25. يدعوك على الطعام؛ لتأكل عندنا، أرأيتم كيف نصرة الضعيف؟ فإنه كان عند البئر، ثم أكرم الفتاتين، وبعد ذلك جلس تحت ظل الشجرة يدعو الله، ثم جاءته فورًا إحدهما؛ كي تدعوه إلى الطعام، ومنذ ذلك الوقت وهبه الله الاستقرار والطعام والمأوى والسكن والزواج فيما بعد.
قانون الارتداد:
هناك يا إخوتي ما يسمى بقانون الارتداد، ما هذا القانون؟ هو قانون علمه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له: يا محمد، اعمل ما شئت، فإنك مجزي ٍ به (فإذا فعلت الخير يرجع إليك)، فمثلا: إذا تصدقت بمبلغ من المال، فسوف يرجع إليك أضعاف مضاعفة، أو لعلك تكرم ضعيف، فيرد ذلك خير وبركة على بيتك وأهلك، أو لعلك تقف بجوار فتاتين كما فعل موسى فيأتوك كي تتفضل معهم إلى المأوى والسكن، جرب هذا القانون، إنه قانون في الحياة كلها وليس في الخير فقط، كيف ذلك؟ على سبيل المثال: الدورة الدموية تبدأ من القلب حيث يضخ الدم ثم يرجع له مرة أخرى، وأيضا دورة المياه، ينزل المطر من السماء على الأرض فتتبخر وترجع لها مرة أخرى، فالخير الذي تفعله لابد وأن يُرَد إليك، اعملوا يا جماعة وضعوا موسى -نصير الضعفاء- نصب أعينكم وقدوة لكم، افعلوا مثل ما كان يفعل، وقولوا لأنفسكم سننصر الضعفاء.
كيف جاءت الفتاة إلى موسى:
ونكمل القصة، كيف جاءت الفتاة إلى موسى؟ وماذا حدث؟ أخذت الفتاتان الغنم ورجعا إلى أبوهم الذي تعجب من رجوعهم من سقي الغنم بسرعة؛ أنهما في الغالب يتأخران ويرجعان بعد ساعات طويلة وذلك لأنهم يسقون آخر ناس بعد الأقوياء، فسألهم الأب (وهو الشيخ الكبير): ما الذي عاد بكم بسرعة؟ فقالوا له: شاب عجيب في الثلاثين من عمره، لا يرتدي ملابس أهل البلد، ولكنه يرتدي ملابس المصريين، وقوي قوة غير عادية، ولقد رفع الصخرة بمفرده، شهم ولم يطلب أجر ما سقى لنا، ولم يتحدث معنا فقط سألنا ثم تولى إلى الظل. وكان لدى الشيخ الكبير (الأب) فِراسة شعر من خلالها أن هذا الإنسان لن يعوض، هذا بالإضافة إلى أن الشيخ ذاته لم يكن أقل شهامة من موسى، فإذا كان موسى أكرم الفتاتين، فالشيخ بعث إحدى ابنتيه ليدعو موسى ويكرمه مثل ما أكرمه.
وصف حياء الفتاة:
{فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ }القصص25 . انظر إلى حلاوة القرآن وهو يصف حياء البنت، فكلمة الاستحياء مبالغة في الحياء، وهي من أجمل صفات المرأة، ولقد وصف الله تعالى الفتاة التي ستكون بعد ذلك زوجة موسى عليه السلام بأنها في منتهى الحياء، وتمشي على استحياء. فشبه الحياء بأنها سجادة مفروشة على الصحراء، وهي تمشي عليها، ومن الممكن أن يقول {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي...{ ثم يقف ويقول {...عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ... } فهي تمشي وتتحدث على استحياء والأرض مبسوطة حياء، ما هذا الجمال الذي في القرآن! فيا شباب، إياكم أن تتزوجوا بنت ليس عندها حياء، ولكن تزوجوا امرأة مثل التي تزوجها موسى، وإياكم! يا بنات أن تقولوا أريد أن أكون منفتحة وارتدي الملابس العارية حتى أسهل زواجي، إياكِ أن تفعلي هذا! أتعلمين ماذا يقولون الشباب بينهم وبين بعض؟ يقولون هذه البنت للعب، وهذه البنت للزواج، ويقولون هذه البنت مجرد تسلية، وهذه حيية تصلح للزواج. انظروا إلى حياء البنت، لم تقل له أدعوك على الطعام، ولكن بدأت حديثها بذكر أبيها:{... قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ...}القصص25.
تصرف موسى عندما جاءته الفتاة:
انظروا إلى تصرف النبي نحوها، كان من الممكن أن يقول لها بعنف: أنا آسف، لن آخذ أجرًا على شهامتي، ألا تعرفين من أنا؟ ولكن موسى ذهب معها، لأنه يتعامل مع وضعه الجديد بمرونة، فهو يعلم إنه لم يعد الأمير موسى، وفي الوقت نفسه راضِ بقضاء الله، فلما دخل موسى على الشيخ أخبره بكل شيء منذ كان طفلا {... فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ..}القصص25. وكيف تربى في قصر فرعون، وماذا فعل له فرعون، وكيف أنه أهان بني إسرائيل، وقصته مع الرجل الضعيف، وغيرها من القصص، فقال له الشيخ: {... قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص25. لم يكن موسى يحتاج فقط إلى السكن والطعام بل يحتاج أيضًا إلى الأمان؛ لأنه كان قلقًا، وعند خروجه من مصر لم يكن علم هل نجا أم لم ينج فدعا ربه أثناء خروجه {... رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص21. فاستجاب الله دعوته وطمأن قلبه وذلك عندما جلس مع الشيخ وحكى له كل شيء قال له الشيخ {.. لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص25. يا جماعة ادعوا وتذللوا إلى الله وانصروا المظلوم، فالدعاء مستجاب.
فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا:
لاحظ أيضًا أن بين اليسر والعسر دقائق، وبين الكرب والفرج شبر واحد، كيف هذا؟ كان موسى من دقائق بلا مأوى ولا طعام ولا شرب ولا عائلة ولا أمان، وبعدها مباشرةً جاءت الفتاة وقالت له أن أبيها يدعوه للطعام ليجازيه على ما فعل، ثم اطمئن قلبه عندما قال له الشيخ أنه نجا من القوم الظالمين.{ فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا }الشرح5-6. وكذلك بين نجاة موسى وبني إسرائيل وهم أمام البحر وفرعون ورائهم وبين أن ينفتح البحر رمية عصا، وأيضًا بين أم موسى التي كانت خائفة على ابنها من الذبح وبين أنه يعود لها في حضنها نصف يوم فقط. فاجعل حسن ظنك بالله بأن مع العسر يسرًا، هل عندك هذه الثقة في الله؟ فلو كان العسر والكرب والشدة في صخرة محشورة داخل الجبل، لجاء اليسر بفضل الله وأخرجها، ربنا كريم وعند حسن ظن عباده، ولكن اظهر لربنا من نفسك التذلل والخشوع والدعاء.
القوي الأمين:
وتبدأ حياة جديدة.. من الكرب والهم والألم والتذلل إلى الله والدعاء إلى الفرج واليسر وذلك بنصرة ضعيف، ويعيش موسى من سن الثلاثين إلى الأربعين في هذا المكان، وبدأ يتقرب من الشيخ والعائلة، وأصبح الشيخ أنيسًا له، وبدأت المودة تزيد بينهم، وإذا بالفتاة الحيية والقوية تطرح فكرة لم يفكر أحد فيها - ولاحظ أن قليل من البنات لن يستطيعوا أن يجمعوا بين الصفتين. فإما أن تكون حييه، ولكنها منكسرة، ولا تعرف كيف تتماشى مع الحياة، أو أن تكون قوية وليس عندها أي حنان، ولكن هذه البنت تجمع بين الحياء والقوة والنضج والعقل-{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ...}القصص26. أي اجعله يعمل ويرعي الغنم. وقالت له{.. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }القصص26 . فسألها الشيخ: كيف عرفتِ أنه القوي الأمين؟ فقالت: إنه قوي؛ لأنه رفع الصخرة بمفرده، ورأيت الأمانة في عينيه. يا جماعة، البنت تعرف أن هذا الرجل أمين عليها أو لا من عينيه. فهذه الفتاة تفهم الدنيا؛ لأنها جمعت صفات الموظف الكفء ( القوي الأمين). فعندما تبحث عن موظف لابد أن يكون لديه هذه الصفات، وهذه الصفات غالية جدا؛ فالقوي الأمين هو الذي ينصر ويعز الإسلام، يا ترى يا مسلمين هل لديكم هذه الصفات؟ للأسف إنهم قلّة... ترى هل من الممكن أن يقبل موسى ابن القصر بوظيفة رعي الغنم؟
هل يرعى موسى الغنم؟
الشيخ محرج أن يعرض على أمير مصر أن يعمل عندهم راعٍ للغنم بالأجرة، هل سيقبل العمل في هذه الصحراء الممتلئة بالعقارب والحيات؟ مذا تفعل لو كنت مكان موسى؟ هل ستقبل؟ فالشاب يقول الآن: أن أعيش في بطالة أفضل من أن أعمل في مثل هذه الوظيفة، فأنا متعلم تعليم عال ولن أقبل أي عمل إلا لو كان بمرتب عال. ولكن موسى تقبل هذا العمل، لماذا تقبله؟ قيمة العمل غالية جدًا، ولأنه شخصية مستعدة تتعامل مع الحياة في كل أوضاعها وحالاتها المرتفعة والمنخفضة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( آتاني جبريل وخيرني بين أن أكون ملكًا نبيا أم عبدًا نبيًا، فاخترت أن أكون عبدًا نبيًا، أجوع يومًا فأصبر، وأشبع يومًا فأشكر). فهذا هو حال الدنيا وجميع الأنبياء في هذه الحالة. فعندما تنقلب الدنيا عليك يظهر معدنك، ويظهر إذا كنت ساخط على ربنا أم أنك راضٍ وتصرفاتك تدل على ذلك، فما تصرفك يا موسى؟ إنه راضٍ بالذي كتبه الله، والدليل أنه قَبِلَ أن يكون راعي غنم.
وَلِتُصْنَعَ عَلَى عيني :
يقول تعالى:{.. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }طه39. يا جماعة، نحن ندعي طوال شهر رمضان أن يرضى الله عنا، وينظر إلينا بعين الرضا ولو ساعة واحدة، فتخيلوا عُمر موسى كله يُصنع على عين الله، فماذا حدث؟ أخذ موسى خبرات رهيبة، عاش في ثلاث بيئات، عاش أول حياته في القصور، ثم عاش مع بني إسرائيل الضعفاء والفقراء، ثم عاش في وسط البدو والصحراء، فلم يكن موسى عنصري بل منفتح يتعايش مع جميع الجنسيات، لماذا نسيتم يا بني إسرائيل نبيكم؟ وكيف أخذتم هذه العنصرية؟ موسى الآن لديه ثلاث لغات: العبرية "لغة بني إسرائيل"، والهيروغليفية " لغة المصرين القدماء"، والعربية " لغة أهل مَدين"؛ لأنه عاش واندمج في وسط العرب عشر سنوات. وجعله الله يعيش في الصحراء؛ لأنه سيعيش مع بني إسرائيل خمسة عشر سنة، و بني إسرائيل لابد أن يجدوا قائدًا غير متردد في معرفة الصحراء، فإذا شَكوا لحظة أنه غير قادر على أن يقودهم تركوه مباشرةً، فأنت الآن يا موسى أصبحت خبير في الصحراء أكثر منهم. وأراد الله له أيضًا أن يعيش مثل أي مواطن، يعيش مع الضعفاء والمساكين، فإذا استمر موسى ابن القصر لن يستطيع أن يقود بني إسرائيل، ولكن الله جعله يتعب ويشقى؛ لأن كل هذا يجعله خبير في الحياة.
شيء آخر: الصحراء، والسماء، والسكون، فالصحراء ساكنة ولا يوجد فيها غير حركة الماعز البطيئة، وهو كان يعيش مع فرعون في ضوضاء المدينة.
عبادة التفكر:
فيتجه موسى إلى نوع جديد من العبادة "عبادة التفكر"، وللأسف كثير من الناس محرومين من هذه العبادة، يا أهل الخليج ، اخرجوا إلى البر، يا أهل مصر اخرجوا بعيدًا عن ضوضاء المدينة، تفكروا في خلق الله، هذه العبادة أخذت عشر سنوات من موسى كي يكون نبيًا، وأخذت كذلك عشر سنوات من محمد في غار حراء كي يكون نبيا، أحيانا يا جماعة تفكر ساعة خيرٌمن عبادة سنة، فهذه العبادة تؤهل الأنبياء أن يكونوا أنبياء. فاعبدوا الله بهذه العبادة "عبادة التفكر والخشوع ". فماذا تعلم موسى في مصر؟ تعلم الحياة العملية، والعلم، وحياة القصور، وعدم الخوف من فرعون، والبروتوكولات. وماذا تعلم في الصحراء " مدين"؟ تعلم الذل، والتفكر، والهدوء النفسي. كل هذا يجسده الله في آية واحدة {... وأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }طه39. يا جماعة، أنا مشتاق لمقابلة موسى، ولقد شعرت به جدًا أثناء تحضيري لهذا البرنامج، وأحبه لأني أحب القرآن، ولقد كان الصحابة يحبونه ويستشهدون بكلامه في كثير من المواضيع، وعندما خاف محمد صلى الله عليه وسلم من أن يقول الناس أن محمد نبينا، وموسى ليس نبينا، فقال: (لا تفضلوني على موسى). وقال: (لا تفضلوني على موسى، فإن الناسَ يُصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق،فأجد موسى باطِشًا بساقِ العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى اللـه؟). ما أجمل مقام موسى، وما أحسن تواضعك يا رسول الله، عندما تقول لا تفضلوني عن موسى ونحن نعلم أنك خير خلق الله.
زواج موسى:
وعرض الأب" الشيخ الكبير" على موسى أن يعمل معه "راعي غنم" لمدة عشر سنوات، وكان الأب حساس وذكي، فرأى ابنته الحيي تتحدث عن موسى بالمدح " القوي الأمين"، إنه الأب الصديق الذي يشعر باحتياجات ابنته، والذي شعر بإعجاب ابنته نحو موسى عندما ظهرت له بعض الكلمات الرقيقة، المؤدبة، النظيفة بإعجابها بهذا الشاب، ففكر الأب في فكرة، لماذا لا يُزوج موسى ابنته؟ ما أجمل إحساس هذا الأب بابنته. يا آباء، هل تشعرون ببناتكم؟ ابنتك كبرت ولم تعد طفلة فاشعر بها، المهم أن الأب عرض على موسى فكرة الزواج {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ ... }القصص27. ويوافق موسى على الزواج، كم يبلغ الآن عمر موسى؟ ثلاثون عاما، هل ظل موسى بلا زواج حتى هذا السن؟ أتريد تقنعني أن أمير مصر ابن فرعون لم يتزوج حتى الآن؟! جميع أمراء مصر يتزوجون في سن السابعة عشر والثامنة عشر، وجميع بنات مصر تتمناه، فلماذا لم يتزوج حتى الآن؟! لأن التكافؤ مهم والبنت المصرية لن تتكافأ معه؛ لأنه من بني إسرائيل، خذوا بالكم يا بنات أهم شيء التكافؤ حتى لو كانت البنت المصرية مؤمنة، ولكن كان هناك فرق اجتماعي بين بني إسرائيل والمصريين. ولماذا لم يتزوج من بني إسرائيل؟ لأن فرعون سيقهره، فيتزوج موسى بنت عربية، وضع تحت كلمة عربية مائة خط، ف موسى لم يكن عنصري أبدًا.
الحكمة من رعي الغنم:
وبدأ موسى عمله في رعي الغنم، يقول محمد صلى الله عليه وسلم ما بعث الله عز وجل نبيا إلا راعي غنم قالوا ولا أنت يا رسول الله قال وأنا كنت أرعى لأهل مكة بالقراريط). لماذا اختار الله له أن يعمل " راعي غنم" ؟ لأن هذا كفيل بأن يعلمه الصبر، وهو لابد وأن يصبر على بني إسرائيل، ويتعلم الحلم وعدم العجلة، ف موسى إلى الآن في عجلة حتى يكون نبي الله، ومن أولي العزم من الرسل الصابرين، فيجب أن يرعي الغنم لتزول هذه العَجلة، وليتعلم الصبر والتفكر والحكمة. وبدأت العصا " عصا الغنم" تظهر في حياة موسى، وهو لا يدري أن هذه العصا سيصنع بها الله معجزات عظيمة، فعندما صبر على العصا من أجل الغنم، جعل الله له هذه العصا بصبره وإخلاصه سبب في عزّة ونصر كبيرة، فمن الذي أهدى ل موسى العصا؟ زوجته؛ لأنها هي الذي علمته رعي الغنم.
إذا عرضك الله سبحانه وتعالى لموضوع فيه صبر ومشقه ماذا تفعل؟ هل ستصبر أم لن تطيق وستمل؟ لو تعرضت لأي اختبار اصبر وسترى كيف يرفعك الله كما فعل مع موسى، ف موسى رعى الغنم عشرة أعوام، فأين هوالآن؟ منزلته في السماء السادسة. كان موسى عليه السلام يقول عن عصاه: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي... }طه18. وسبحان الله نبي يرعى الغنم عشر سنين يا له من تعب ويا لها من مشقة، كم تعب الأنبياء، كم شاهدوا وخبروا في هذه الدنيا حتى يستطيعوا أن يقودوا أممًا، إذا أردت أن تفعل شيئًا للإسلام تحمل المشقة والتعب، واحتك بالناس، وتعلم أشياء كثيرة لكي تكون رجل يستطيع أن يرفع ويعز الإسلام.
الرضا بقضاء الله:
ويعيش موسى في مدين في بيت صغير عبارة عن خيمة من الخيش "بيت الرعاة"، وهو بيت بسيط جدًا، يعيش في مثله الرعاة الحاليين، فالأمير موسى الذي كان يسكن في قصر فرعون بمصر والتي كانت أم الحضارة وتقود العالم يعيش الآن في خيمة الرعاة! ما الذي نتعلمه من هذا الموقف؟ نتعلم أن الدنيا ليست سهلة، ترتفع وتنخفض، فعندما تنخفض بك، ارض بقضاء الله، وعندما ترتفع بك اشكر الله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له). فإذا الدنيا انقلبت عليك إياك والسخط، وإياك وقول أنك راض وأنت في حقيقة أمرك غاضب وغير راضٍ، ارض وكن مرن مثل موسى الذي تعامل بقضاء الله بمنتهى الرضا، فبالأمس كان الأمير موسى واليوم أصبح موسى راعي الغنم، ما أجمل رضاك بالله ! بعد هذه الحلقة أنا راضٍ عن ربنا برضا موسى عليه السلام عن ربنا.
الحلقة التاسعة
مقدمــة:
الله سبحانه وتعالى يصطفي ويختار، اصطفى الأنبياء من البشر ثم اصطفى أولي العزم مـن الرسل من الأنبياء وهم خمسة:
1) موسى
2) و محمد
3) و إبراهيم
4) و عيسى
5) و ونوح
ثم اصطفى من أولي العزم من الرسل محمد _صلى الله عليـه وسلم_ وجعله خاتم الأنبياء والنبيين، ثم اصطفى له أمته، اصطفانا [... هُوَ اجْتَبَاكُمْ ...] {الحج:78} واصطفى السيدة مريم عليها السلام [إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ] {آل عمران:42} واصطفى موسى عليه السلام [وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ....] {طه:13} "[... إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ....] {الأعراف:144}. يصطفي من يشاء، لكنه لا يصطفي إلاّ من كان فيه خصلة خير، كمثل الذي يطمح في الحصول على عمل في مكان متميز لا بد أن يكون هناك مميزات في سيرته الذاتية تساعده في الحصول على هذا العمل، فهل ترغب أن يختارك الله في مهمة ما؟ قل لي ما هي مَيزاتك؟ ما هي صفات الخير فيك حتى يختارك لإصلاحٍ، أو لخيرٍ، أو لنصرة مظلوم؟ هل تحب أن يصطفيك الله في ليلة القدر فيغفر لك؟ إن كنت تود ذلك أصلح نقطة خير في قلبك أو قدم شيء لكي يختارك . ف موسى قــدّم الكثير، سنوات طويلة من عمره في نصرة الضعفاء، اليوم يوم الاختيار، اختيار الله سبحانه ل موسى للمهمة. وفي سكون ليل ذلك اليوم عند جبل الطور اختار الله عزّ وجل موسى، تعالوا لنعيش هذه الأحداث ونستشعر هذه الروحانيات داعين الله عزّ وجل أن يختارنا.
الاختيار والاصطفاء:
موسى الآن عائــدٌ ومعه امرأته وأهله في طريقه من مدين إلى مصر، الطريق طويل وسبق أن استغرق منه ثمانية أيام عندما سار به وحده من قبل، وقد اختار ليلة مقمرة لتساعده في هذا الطريق الطويل وكان خبيرًا في الصحراء، حتى وصل إلى حدود مصر واقترب من سيناء، حتى صار على بعد خطوات من جبل الطور، من اللحظات الحاسمة التي ستنقله إلى مقام أولي العزم من الرسـل، إلى كليم الله. وقد كان الطقس جميلًا، وهادئًا، وفجأةً تغير الجو، وبدأت السحب الكثيفة تحجب القمر حتى اختفى القمر تمامًا، وساد ظلام شديد، ورعد وبرق، ورياح شديدة البرودة وأمطار، كل هذا قبل التكليف بثوانٍ. وفجأة لمح موسى نارًا قوية وسط هذا الظلام تبعد عنه بضعة أمتار باتجاه الجبل والوادي الذي يقع أمام الجبل، انظر سورة طه [وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى] {طه:9- 10} هذه النار لم يرها غيره، فتحرك باتجاهها، وقد ذهب وهو خائفًا وعاد نبيًا مكلفًا، مشى حتى وصل ودخل الوادي، وهنا لابد من توضيح نقطة وهي أن المنطقة كلها اسمها الطور وليست مقتصرة على الجبل [إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى] {النَّازعات:16} وهناك آيات أخرى تذكر أن موسى كان على جبل الطور. فكما أن الحرم يشمل الكعبة والمنطقة المحيطة به كذلك هذه المنطقة المقدسة فيها الجبل والـوادي و موسى نودي من الوادي، والمكان الذي كانت تخرج منه النار داخل الـوادي .
دخل موسى في داخل الوادي مسافةَ بضعةُ أمتار، وقد سار قليلًا حتى وصل، فإذا بمفاجأة أعجب فالجو جميل، والسكون شديد، ولقد اختفت السحب والأمطار، وظهر القمر بعد أن كان مختفيًا، كأن الكـون خاشع للرسالة التي ستلقى على موسى الآن. الحجر، الشجر، الوادي كله في حالة خشوع، لماذا هذا الوادي مقدس؟ لأنه المكان الذي تجلى الله بكلامه ل موسى، مكان عظيم كلم الله فيه عبد من عباده بدون وحي، أراد الله بذلك أن يبين لنا أن "يا موسى ليس لك سواي"، هناك أمطار وظلام وخوف شديد، وهنا سكون ورحمة. كذلك رمضان.. قبله خوف ورعب وقلب بعيد عن الله، ثم يأتي هذا الشهر الكريم بالهدوء والسكينــة، الرسالة واضحة .. فالقلب لا يُذهب خوفه إلا بذكر الله، والقلب يتشتت ولا يلملم هذا التشتت إلا بذهابه إلى الله، فيستوحش من الدنيا ولا يؤنس هذه الوحشة إلا ذكر الله.
بداية شديدة:
لماذا دائمًا بداية الأنبياء شديدة؟ كانت بداية محمد _صلى الله عليه وسلم_: "زملوني زملوني" لماذا؟ رسول الله، محمد، خاتم النبيين، موسى، كليم الله، فالأمر عظيم: توحيد، وإصلاح أمة، وتحرير شعوب، وإنقاذٌ للمظلومين، فموسى سوف يعيد الناس إلى عبادة الله، ومحمد سوف يحيي الأرض، فلا بد من أن تكون البداية شديدة [خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ ...] {مريم:12} .
وأنا أقول لكم في رمضان خذوا الكتاب بقوة، ماذا فعلت لكي يختارك الله وأنت تسمع قصة موسى؟
وصل موسى فرأى أن النار الموقدة تخرج من شجرة خضراء، هذه النار لا تأكـل الشجرة ولا الشجرة تطفيء هذه النار بل على العكس هذه النار تزيد الشجرة الخضراء ضــياءً، فاقترب موسى أكثر وأكثر من النار فإذا بها ليست نارًا إنما نور يخرج من هذه الشجــرة، [فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الوَادِ الأَيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {القصص:30} وإذا به يسمع اسمه يملأ السماء ويملأ الكون. ما أحب أن أذكره هو أن الخروج من الوحشة والظلمة لا يتحقق إلا عند اللجوء إلى الله، وكانت هذه هي الرسالة .
[إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى] {طه:12إلى15}. هل تتخيل حالة موسى! يسمع النداء مرة أخرى [يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {القصص:30} هل عرفنا لماذا الكون كان خاشعًا في هذه اللحظة؟ هذا التكريم ليس فقط ل موسى بل لنا نحن البشر أيضًا، نحن مكرمون عند الله، وأن يختار الله تعالى واحد من بني البشر ليكلمه فهذا دليل على أن الإنسان مكرم عند الله ، أتدرون أن الله قال لموسى: "أتدري يا موسى لما اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فقال موسى: لما يارب فقال: إني قلَّبت قلوب عبادي ظاهرًا وباطنًا فلم أجد قلبًا أذل ولا أخلص لي منك يا موسى فرفعتك على عبادي في زمنك" .
اذكروني أذكركم:
في هذا الموقف العظيم يقف موسى بين يدي الله ويناديه الله باسمه، يا ترى هل نطمع في هذه المنزلة أن ينادي الله علينا بأسمائنا؟ في الجنة إن شاء الله ينادي الله عليك وتدنو منه ويخبرك أنه راض ٍعنك ويسألك هل أنت راض ٍعنه؟ لم يكن موسى وحده الذي نادى الله عليه في الدنيا، فلقد نزل جبريل عند موت السيدة خديجة وقال:"يا محمد أبلغ خديجة أن الله يقرئها السلام" وأنت عندما تقول لا إله إلا الله يذكرك الله [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ....] {البقرة:152} وفي كل مرة تقول لا إله إلاّ الله يذكرك الله في الملأ الأعلى "أنا مع عبدي ما تحركت بي شفتاه".
منزلة عظيمة أن يكون تكليم الله ليس مقصورًا على موسى فأنت كلما تقول الله أكبر تدخل في لقاء مع الله، كما . علمنا نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_: " إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال له الله حمدني عبدي وإذا قال العبد مالك يوم الدين قال الله مجدني عبدي فإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي فإذا قال إهدنا الصراط المستقيم قال الله هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل". وعندما كان يسكت عمر بن عبد العزيز في الصلاة عند قراءته قرأته فاتحة الكتاب عند كل آية وسألوه عن ذلك قال: لأستمتع لرد ربي.
تفاصيل اللقـــــاء:
هل عرفنا كم هو عظيم موسى عند الله، ولكن لابد وأنه في تلك اللحظة كان في حالة كبيرة من الارتباك والقلق ، فالله سبحانه بدأ معه بثلاثة أمور:
· الأمر الأول: التوحيد [إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي....] {طه:14}
· الأمر الثاني: الصلاة [.... وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي] {طه:14}
· الأمر الثالث: القيامة [إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ....] {طه:15}
وسنقوم بترتيب هذا اللقاء.. فالبداية كانت تعارف، ثم جاء بعدها التوحيد ثم العبادة. هل رأينا أهمية الصلاة مع موسى عليه السلام وفي الإسراء والمعراج مع محمد _صلى الله عليه وسلم_؟ ويفاجأ موسى بقول الله عزّ وجل "[وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى] {طه:17} هذا سؤال فيه مؤانسة من الله ل موسى في هذا الموقف الرهيب فالله الحنان المنان الذي يحب عبــاده حاوره ليخفف من عظمة هذا الموقف [قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى] {طه:18}.
يقف الآن موسى طائع لله فيقول له الله: [قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى] {طه:19} الطاعة دليل حب ودليل ثقة [فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى] {طه:20} هنا نلاحظ أن العصا في القرآن جاء وصفها في ثلاث أوضاع مختلفة، فمرة وصفها بأنها [فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى] {طه:20} حية تسعى، ومرة أخرى [فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ] {الشعراء:32} ومرة أخرى [... فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ .......] {القصص:31} وإذا بالله يناديه: [... يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآَمِنِينَ] {القصص:31}. [..خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى] {طه:21} أخذها موسى خائفًا، فعادت إلى حالتها الأولى، وهذه هي أول معجزة، وكان موسى في حيرة وعدم فَهمٍ لما يحدث، فكان الله سبحانه يمهد له ما سيطلبه منه بعد ذلك، وإذا بالمعجزة الثانية: [اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ....] {القصص:32} وكان موسى أسمر اللون، وهنا جاء أمر الله أن يضع يده في جيبه فتخرج بيضاء كأنها القمر من غير سوء، في حين أنه إذا ما كان هناك شخص أسمر ويوجد بقعة بيضاء في يده أو ذراعه فيكون ذلك نتيجة لمرض مثل البَرَص.
وقد شعر موسى بالخوف أكثر بعد هاتين المعجزتين، ولكن الله سبحانه الحنان المنان الكريم يقول له [وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ....] {القصص:32} أي ضع يدك على صدرك فتهدأ.
معجزتا العصا واليد:
لابد وأن هناك سؤال يدور في أذهانكم الآن ألا وهو ما علاقة المعجزتين بفرعون؟ وما الهدف من معجزة العصا؟ فالله سبحانه وتعالى لا يرسل معجزة إلا وأن تكون مناسبة للعصر الذي جاء فيه النبي، فلا يكفي أن يكون معك الحق ولكن لا بد أن تعرض هذا الحق بطريقة مؤثرة ومناسبة لمن حولك، فما علاقة هذه القصة بنا؟ أحيانا كثيرة يكون معنا الحق ولكن نفتقد القدرة في عرضه، فالأشرار يجيدون عرض الحق بشكل مزين لأنه باطل، لكن الأخيار لا يعرفون كيف يعرضون هذا الحق بشكل جذاب عصري مناسب لعصرهم. ففي عصر موسى كانوا يشتهرون بالسحر فبعث الله لهم معجزة ربانية تتحدى هذا السحر، ورسالة إلى فرعون لكي يفيق من طغيانه وضلاله ويعلم أن موسى عليه السلام نبي مرسل من الله.
أما العصا ففيها أمر آخر خطير، فكل دولة من الدول عندها رمز تضعه في العلم التابع لها، مثال على ذلك إنجلترا الأسد رمزها وتجده في علم بلادهم، أما فرعون فكان رمزه الثعبان وكان هذا الرمز موجود على قصر رمسيس الثاني، ليس هذا فقط بل إن الثعبان كان أحد الآلهة التي كان يعبدها فرعون، فرمز قوته هو الذي سيلتهمه، سر العصا ليس أنها انقلبت إلى ثعبان لكنها مناسبة لهذا العصر، فهي بذلك وسيلة مشوقة عصرية جذابة، وفيها منتهى التحدي لفرعون، فهي لا بد وأن تهز فرعون؛ فموسى جرى عندما رأى العصا تنقلب إلى حية فكيف بفرعون؟
المعجزة الثانية: اليد، لما ترمز؟ برع الفراعنة في التحنيط، حيث كانوا يعالجون جسد الميت كيميائيًا بطريقة تجعله في شكل مختلف ولمدة طويلة، وكان فرعون ينفق أموال طائلة على التحنيط، وكان علماء التحنيط من أغنى الناس في تلك الأيام، وهنا سيتحدى موسى فرعون بآية من الله ليد من جسد حي بدون معالجة كيميائية، ففرعون قَبِلَ التحدي في الآية الأولى آية العصا لكنه تجنب الثانية لأنه لا يقدر عليها فهي تتحدى التحنيط الذي كانوا يقومون به، لذلك لا بد أن نعرف قيمة الآية الثانية وهي أقوى من الأولى، وفرعون تجنبها لأنه لا يقدر عليها.
لابد أن نعلم أن معجزة اليد لها معنى آخر خطير، فاليد البيضاء في تاريخ البشرية رمز السلام: يا فرعون أنا لن ألجأ إلى العنف أريد أن أحرر بني إسرائيل وأرفع الظلم وأنشر التوحيد، لا أريد استخدام العنف والدليل يد بيضاء.. يالعظمة الله في رسائله القوية! ويالمعجزات الله الربانية العظيمة!
إني أحب موسى كثيرًا، ويكفينا أن الله اختاره، أَلَا نشعر بالغيرة ونتمنى أن يختارنا الله؟ ليس على قدره وقدر الأنبياء والصحابة فيستخدمنا عنده. فالخوف كل الخوف أن يستخدمك الله فتعصيه فيستبدلك، فأجمل شيء في الدنيا أن يحبك الله ويختارك ، ولا يكون ذلك إلا بخصال جميلة فيك، فادعه دائمًا أن لا يتركك و يحبك ويستخدمك.
طمأنة الله لعباده المخلصين:
ويوضح الله تعالى ل موسى الهدف من هاتين المعجزتين ويقول: [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى] {طه:24} [فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى] {النَّازعات: 18-19} وهذا يعني أن أمام موسى مهمتين:
· المهمة الأولى : أن يذهب إلى فرعون ويدعوه أنه لا إله إلاّ الله، وأن يوقف الظلم.
· والمهمة الثانية : أن يرسل معه بني إسرائيل، فقد جعل فرعون من مصر سجن كبير لبني إسرائيل.
فالأمر غاية في الصعوبة ، ففرعون حاول قتل موسى من قبل ثلاث مرات، وفرعون القائل: [... أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] {النَّازعات:24}. والأربعين سنة التي مرت من حياة موسى بكل ما فيها من أحداث كانت جميعها تحضير وتمهيد لهاتين المهمتين. فما هي مهمتنا نحن؟ نأكل ونشرب ونتزوج، وننجب، ثم نموت هل هذا هو الهدف من وجودنا؟ ابحث عن مهمة يكلفك بها الله، اطلبها منه. فلقد موسى تلقى التكليفين بمنتهى الوضوح وبلا أي التباس، تلقى الرسالة وهو يدرك المعوقات التي ستواجهه [قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ] {الشعراء:12إلى14}.
سبحان الله الذي سمح لعبده أن يعرض عليه مخاوفه ومقترحاته، سبحان الذي أعطى الحرية لعباده، فيا آباء، ويا معلمين، ويا حكام، لماذا لا نمنح أولادنا، وتلاميذنا، وشعوبنا، مساحة حرية وفرصة للتعبير عن آرائهم ومقترحاتهم ومشاكلهم، فإذا كان رب العالمين قد سمح لعبده بعرض مشاكله، فهو خائف من أن يذهب إلى فرعون ومن أن يكذبوه، كذلك أفصح أمام الله أنه إذا ضاق صدره أي عند شدة الانفعال فلن يستطيع أن يعبر عن نفسه أمام خصمه فيضيق صدره، ولا تصدقوا الروايات التي تقول أنه كان يعجز عن النطق بعد أن أجبره فرعون على أكل جمرة من النار فهذا كلام غير صحيح، ولهذا طلب موسى من الله أن يرسل معه أخاه هارون والذي كان أفصح منه خاصة أن موسى كان بعيدًا لفترة طويلة عن مصر، وهارون عاش في مصر ويعرف اللغة المصرية القديمة وأكثر فصاحة منه، كذلك وقد كان لهم عليه ذنب فهو بشر ومن حقه أن يخاف عندما يقف أمام فرعون.. فيأتي ردّ الله [قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى] {طه:46-47}.
طلب موسى طلب آخر من الله [قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى] {طه: 25 إلى 36}.
الختام لابد وأن تكون هناك جرعة اطمئنان وثقة من رب كريم لعبده الضعيف [وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى* أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] {طه:37 إلى 39}.
اسأل نفسك ماذا فعل الله معك، ألا تهتز لهذه الآيات؟ هل رأينا كيف يُطَمئِن الله عباده المخلصين يرسل لهم رؤية تطمئنهم، أو أم تخاف عليهم وتدعو لهم، أو أب يشجعهم، أو أخ يساندهم. اعملوا لله يا شباب، يا صناع الحياة، يا من لا تفعلون شيئًا للإسلام، فخسارة كبيرة أن يضيع عمركم دون أن تقوموا بأي عمل للإسلام، فليس هناك أجمل من أن يستخدمك الله.
[ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى] {طه:40} فالله عزّ وجل يخبر موسى أن كل الذي سبق جاء بترتيب منه، وكلٌ منا جاء على قَدَر من الله. افتح سورة طه واعش مع الآيات ومع حب الله لعباده ول موسى الذي اختاره لإخلاصه ولنصرته للضعفاء.
الحلقة 11
القيمة والهدف من القصة:
قوة الحق، حيث يعد أقوى من كل القوى المادية؛ فلو كان الحق معك فلا تخف؛ فأنت الأقوى، كل ما نذكره من أحداث ليست مجرد مشاهد تمثيلية، ولكنها عبرة يجب أن تتمسك بها، وإلا لم تناول الجزء الأكبر من سورة طه هذا اليوم الذي نحكي عنه؟ ففيها يقول موسى: ( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً) (طـه:59) انظر ماذا يقول في هذا الموقف العصيب، دالًا على قوة الحق؟! فإياك أن تخفي الحق خوفًا أو جبنًا، أو تتركه مفاضلًا بينه وبين مصلحتك فتنتصر لها، فالحق منتصر مهما حدث، وكما تقول الآية (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ...) (الأنبياء: 18) وأيضًا (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء:81) ترى من الذي يقذف بالحق؟ إنه الله، فالباطل سينتهي مهما طال ولكن عندما يأتي الحق، فإن لم يأت فسيأتي باطل آخر.
تفريغ الحلقة .. و الجهد لدار الترجمة جزاهم الله خير الجزاء ..
( الحلقة الحادية عشرة )
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاةوالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. توقفنا أمس عند مواجهة موسىلفرعون وحيدًا،
هذااللقاء الصعب الذي يتجلى فيه الحق والإيمان وعظمة موسى وشجاعته وقوته وثقتهفي الله، وتوكله عليه.
وكانا قد اتفقا على موعد محدد، وهذا هو محور حديثالليلة.
موسى والسحرة، كيف كانت المواجهة؟!:
أعد فرعون عشرة آلاف ساحر مصريٍ لمواجهة موسى،
وقد صورالقرآن هذه المواجهة في سورتي طه والشعراء، فترى كيفكانت؟!
لنقترب أكثر منالصورة ونتخيل سويًا، دعونا نبدأ بالمكان، ولكي نجعلك تتعايش أكثر مع القصة، سنرويلك القصة من خلال مكان تمثيلي يقرب لك الصورة،
والمكان الذي اخترناه عبارة عن مدرج (مسرح) روماني بناه الأنباط في القرن الأول قبل الميلاد، وقد اتخذه الرومان عندقدومهم إلى هذه المنطقة في الشام، وتحديدًا في الأردن، وجددوه على أنه مسرحروماني.
أما أبطال القصةفهم: موسى وهارون وفرعون وجنوده والعشرة آلاف ساحر والجماهير-فئة قليلة من بنيإسرائيل حضرت وهي خائفة- وآسيا زوجة فرعون ومؤمن آل فرعون الذي حتى هذه الأحداثالجارية لم يؤمن بعد.
القيمةوالهدف من القصة:
قوة الحق،
حيث يعد أقوى من كل القوى المادية؛ فلو كان الحق معك فلاتخف؛ فأنت الأقوى، كل ما نذكره من أحداث ليست مجرد مشاهد تمثيلية، ولكنها عبرة يجبأن تتمسك بها، وإلا لم تناول الجزء الأكبر من سورة طه هذا اليوم الذي نحكي عنه؟ففيها يقول موسى: (قَالَ مَوْعِدُكُمْيَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً) (طـه:59)
انظر ماذا يقول في هذا الموقف العصيب،دالاً على قوة الحق؟!
فإياك أن تخفي الحق خوفًا أو جبنًا، أو تتركه مفاضلاًبينه وبين مصلحتك فتنتصر لها، فالحق منتصر مهما حدث،
وكما تقول الآية (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَىالْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ...) (الأنبياء: 18) وأيضًا (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَكَانَ زَهُوقاً) (الإسراء:81) ترى من الذي يقذف بالحق؟ إنه الله، فالباطلسينتهي مهما طال ولكن عندما يأتي الحق، فإن لم يأت فسيأتي باطلآخر.
اليومالموعود:
جاء يوم الزينة الذي اختاره موسى، تحديدًا وقتالضحى،
وكان هذا اليوم احتفالًا قوميًالديهم،
فجاء اختياره ليندمج مع الناس ويقتربمنهم، فهو ليس ضد قوميتهم بل يحتفل به معهم، وبمنتهى الحماقة جمع فرعون الناس وحشدالجموع بنفسه، وهو لا يعلم أنه ساعد بهذا موسى ليعرض دعوته أمامالجميع.
إذن،دعونا نتخيل أن هذه المدرجات امتلأت بالحشود الهائلة، ترى ما سر هذاالتجمع؟
بالتأكيد شيء مثير جدًا، ففرعون وسحرته يتحداهم رجلٌ عاديمنفردًا من بني إسرائيل، كما أن الحضور مجاني، والدعوة عامة؛ فالحدث لن يكون في قصرفرعون بل في مكانٍ عام، ولكل من الحضور هدفه ودافعه، فهناك من جاء ليشاهد هذاالتحدي الرهيب، وآخر ليحضر مبارزة بين السحر والسحرة وبين رجل يقول أن معه معجزةإلهية.
بالحق أنتأقوى وإن لم تمتلك غيره:
هاهي الجماهير تجتمع حشودًا من وقت الضحى، وتخيل معي أن موسى سيدخل بعد قليل وحيدًا عليهم، بل يصحبهالحق،
فلو أن هناك طرفين مع أحدهما كل شيء، والآخر لا يملك إلاالحق، فالحق أثقل في الميزان وأقوى، لكن متى يأتي؟! فبالحق أنت أقوى وإن لم تمتلكغيره، فيجب ألا تتخاذل عن قوله، وتعش به سواء كان مع زوجتك أو في عملك أوفي المدينةالتي تسكنها أوفي الحي الذي تقطنه أو في بلدك، ولا تعشبالزور.
ها هو فرعون يدخل، ترى أين سيجلس؟! لعلهجلس في شرفة رئيسية من هذا المدرج، ومعه زوجته آسيا، ترى كيف كانت؟ خائفة تتسارعدقات قلبها خوفًا على ابنها؟ بالطبع كان هامان يجلس بجانب فرعون هوالآخر،
وكان قداتفق معه فرعون أنه بمجرد أن يغلب العشرة آلاف ساحر- كما جاء عددهم في أغلبالروايات وكذا حددهم ابن عباس- يُقتل موسى، وبالتأكيد هو الآخر تخيل هذا، أمافرعون فتتضارب مشاعره مابين ابتسامة الثقة بالنصر تعلو وجهه وبين اضطراب تذكرهلهجوم الحية عليه في القصر.
عش للحقينصرك الله الحق:
نعود للمدرجات المحتشدة، التي يجلس بها كبار رجال الدولةأيضًا، فهاهو ابن عم فرعون الذي سيسلم فيما بعد، ويدافع عن موسى، و ها همالسحرة العشرة آلاف يدخلون، والآن ينادي عليهم هامان كما في سورة طه (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَالْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) (طـه:64) وذلك ليكون الأمر أكثر رهبةً لموسى إذاوجدهم مجتمعين غير متناثرين، فشكلوا نصف دائرة بعددهم الضخم، ممسكين بعصيهموحبالهم- كما تقول الآية- أما جنود فرعون فيملئون المكان منتظرين هزيمة موسىليقتلوه كما أمروا، إذن موسى سيقف وحيدًا أمام كل هذا، لكن كل هذا لا يهزالحق، فهكذا يضرب الله مثل الحق والباطل (..فَأَمَّا الزَّبَدُفَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ..) (الرعد:17).
بدأتالحشود المصرية تشجيع السحرة بالتصفيق،
وبالطبعقد يكون حضر على استحياء عدد قليل من بني إسرائيل،
فهاهو الحق يقف أمام كل تلك القوىالزائفة، لكنه سينتصر، فإياكِ
أن تخجلي من حجابك،
أو أن تخجل منإيمانك،
أو أن تستسلم للزور، فستدور الأيام ولن ينتصر إلا الحق، فقد يتم خداع الناسلفترة، لكن لا يمكن أن يستمر الخداع للأبد، فعلى الحق قامت السماواتوالأرض.
أما فرعون فربما توقع هرب موسى وعدم حضوره، ترى لوكنت مكان موسى كيف ستكون دقات قلبك؟ وهل ستذهب أم لا؟! فيجب أن تعرف أنه لابدأن يدافع عن الحق إنسان، وقد يؤدي ذلك إلى موته! فماذا كنت ستفعل لو كنت مكانه؟!
هلاستشعرت حبًا عميقًا ل موسى كما أشعر الآن؟!
انظر لعظمته، إنه كليم الله، ويكفي بهذا الموقف أن يكونفي السماء السادسة قبل سدرة المنتهى ليس فوقه إلا إبراهيم، كما قابله النبيصلى الله عليه وسلم في المعراج، فكم هو غالٍ عند ربنا وقد قال جل وعلا عنه (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طـه:41) فها هو يدخل ممسكًا عصاهومعه أخوه هارون، وتخيل الصمت الرهيب الذي خيم على الأجواء؛ حيث يقف أمام عشرة آلافساحر.
وتبدأ المباراةالتي يعلق عليها السحرة آمالًا من رزقٍ وغنيمة كما قالوا (..إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَنَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (لأعراف:113-114)
فلن يكون أجر فقط بل وقربة من وظائف في قصر فرعون، وبدأالسحرة هاتفين
(.. بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) (الشعراء: 44)
ولك أنتتوقع ما لهذا الهتاف من أثر في نفوس الجماهير، وما بثته من ثقة في نفس فرعون، لكنترى كيف كان وقعها على موسى؟ هل اهتزت نفسه؟!! هل ندم على القدوم؟! على العكستمامًا بل نادى بصوته عاليًا ثابتًا (...وَيْلَكُمْ لاتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِافْتَرَى) (طـه:61)
فالنتيجة ستكون خسارة في الآخرة، وخيبة في الدنيا لمنيفتري الكذب على الله، وعندما سمع السحرة هذهالكلمات
(فَتَنَازَعُواأَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ..) (طـه:62)-
أيبدءوا يهمهمون فيما بينهم عما يقومون به من خطأ وخوفهم من فرعون وجنودهواختلفوا-
(...وَأَسَرُّواالنَّجْوَى...) (طـه:62)
وانظروا هنا لروعة ودقة الوصف القرآني، كما أن موسىآثر أن يبدأ بالنصيحة عله يؤتي ثمارها معهم، وبالفعل جاءت بنتيجة ألا وهي اختلافهمفي الأمر فيما بينهم.
سبب آخر كان سببًا لتنازعهم وهو أن موسى لا تظهرعليه علامات السحر واستخدامه له، كذلك ما قاله من كلمات، فهي ليست بكلام السحرة؛فهو يتحدث عن الله، فالحق تظهر على صاحبه أماراته، تمامًا كما حدث مع يهودي المدينةالذي علم بقدوم النبي إلى المدينة، فجهز عشرين سؤالًا ليتحقق من صدق نبوة النبي،وقد أخذ معه ابنه، وبمجرد دخوله ووقوع عينيه على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذا رسول الله"، فاندهش ابنه قائلًا: "لم يا أبي؟" قال: "هذا الوجه ليس بكاذب"،فصلى الله وسلم على محمد.
كأن فرعون وهامان شعرا باضطراب السحرةوتنازعهم، فناديا قائلان( قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِيُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَابِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) (طـه:63)
فادعيا أن موسى وهامان جاءا ليثيرا فتنةطائفية بينهم، ويعملا بدلًا منهم في السحر؛ فيأخذونرزقهم،
كما أن هذه الكلمات تحمل من التهديد والوعيد
للسحرة بإخراجهم من الأرض، ثم يعاودهامان النداء ( أَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاًوَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) (طـه:64)
فقرر السحرة أنيبدءوا المعركة (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَوَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى) (طـه:65)
وكان موسى مبادرًا في باديء الأمر عندما حذرهم قائلًا (ويلكم...) أما هذه المرة (قَالَ بَلْأَلْقُوا..) (طـه:66)؛ ليعرضوا ما لديهم من أفكارٍ وأساليب، وينهوا ما لديهممن حيل؛ فيتمكن من التعامل معهم، وهذا يدل على شخصيته القيادية العظيمة الخبيرةالتي تعرف متى تبادر، ومتى تترك الأمر للمنافس؛ فيعلم أدواته، ولعل هذا حصاد تدريبهفي مدين، كما أنه لا يهاب تلك الحشود؛ لثقته في الله ويقينه به وتوكله عليه، وهذهكانت دوافعه في قول الحق. وشهر رمضان فرصة لنا أيضًا لتقوية الإرادة التي هي أيضًامن أهداف الصوم.
تابع موسى (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْيُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (طـه:66) فحتى هو خيلإليه أنها تحولت إلى ثعابين، لكنها بالفعل لم تتحول؛ كما جاء في آية أخرى (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُواأَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (لأعراف:116) –
أي شهقت الناس من اندهاشها بما سحروا أعينهم به، ولاحظ أن القرآن شهد لهمبما جاءوا به من عظمة السحر والخيال الذي صوروه للناس، فكيف كان حال موسىهنا؟
ولاتنسوا أنه بشرٌ مثلنا ( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) (طـه:67)،
وهنا أيضًا دليل على عظمة القرآن؛ فلو لم يخف موسى،علنا قلنا لأنه نبي، معه معجزة قادر على التحمل،
أما نحن فبشر لا نتحمل، لكنه نفسٌ بشرية، وقد يكون ذلكليجعله الله قدوةً لنا؛ لما فيه من صفات البشر، ولذا تقول الآية (...فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ...) (الأنعام:90)،
فرغم أنه مؤيد بمعجزة فقد خاف لما رأى كباقي البشر، وأنتأيضًا مؤيد بمعجزة، ألا وهي الحق: القرآن الكريم، المعجزة التي جاءت للأمة جمعاء،وهي من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما عصا موسى كانت معجزة له وحده،فالقرآن ليس معجزة نبيٍ وحده.
رغم أن بني إسرائيل جالسون متابعون، إلا أنهم يتعلمون درسًا قاسيًا في الذلوالجبن، فها هو جاء بإرادته وحيدًا ليدافع عن الحق، وترى نحن مثل من؟ موسى أمبني إسرائيل،
وهلنملك معجزة أكبر من العصا؟!
القرآن
مازال موسىوهارون أمام الحشود وكان السحرة(.. أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْوَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)،
ولتعلموا أن أولئك السحرة كانوا نوعين، منهم من يصنعونخيالًا أمام أعين الناس، ومنهم علماء كيمياء، وتقول الروايات بأن السحرة الذينيصنعون الخيال جاؤوا بحبال، أما الكيميائيون جاؤوا بأنابيب على شكلعصي؛
لذا جاءفي القرآن (حبالهم وعصيهم) لكي يظهر الفرق ولم يكتف بواحدة، وكانوا ذا علمٍ واسعحيث أنهم كانوا يعملون في التحنيط أيضًا، وتلك الأنابيب كانت تحوي الزئبق، الذييتمدد بالحرارة، أو إذا وضع على أرض ساخنة يتطاول، فتبدأ الأنابيب في التحركوالالتواء، ومع العدد الضخم خيل للحشود أنها أفاعي (فَأَوْجَسَفِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)، وانظر للتأييد الرباني الذي يساند من كان علىالحق (قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى) (طـه:68)،
فكيفكانت مشاعره؟ هل مغتاظًا من أولئك العشرة آلاف؟! هؤلاء السحرة الذين سيؤمنون بعدقليل؟ وهناك أثر جميل يقال عندما قال موسى لهم (وَيْلَكُمْلا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) جاءه جبريل، وقال له ( يا موسىترفق بأولياء الله)، ولأن موسى لا يتخيل ما سيحدث فرد قائلًا: (هؤلاء أعداءالله!)، فقال: (يا موسى ترفق بأولياء الله)،
فأعادها(هؤلاء أعداء الله!)، فكرر جبريل: (يا موسى ترفق بأولياء الله،هم عندكم الآن من الضحى إلى العصر، ثم بعد ذلك في الجنة)!! أيصدق عقل هذا؟! أهؤلاءمن جاءوا ليحصلوا على المال بعد قليل سيصبحون من أهل الجنة؟! كم أنت رحيم يا رب،فكم زاد أملنا في الجنة بعد هذه الكلمات، نعم ذنوبنا كثيرة، لكن أملنا فيك أكبر،وأملنا في العتق والرحمة والمغفرة في رمضان هذا العام أيضًا كبير، فأنت الكريمالغفور، سنعلم أخطاءنا، وسنسجد تائبين، تمامًا كمافعلوا.
غلبة الحقوسيطرته:
عودة للأحداث جاء الرد الإلهي عند خوف موسى ( قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى) (وَأَلْقِمَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا.. ) (طـه:69)،فستبتلع ما سيلقيهامن عصاه الذي يحملها في يمينه ما صنعوه من سحرٍ أمام أعين الناس، ويبهت الظالمون،وسيعلم الناس الحقيقة بعدما هاجوا وماجوا مسرورين بما فعله السحرة، ويُفحم فرعونبعدما اطمأن لسحرته، بل وربما أشار لجنوده بالاستعداد لقتل موسى، لكن الله أيدهبكلماته ووعده النصر، وفي آيةٍ رائعةٍ أخرى ( فَوَقَعَ الْحَقُّوَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:118)،
ولم يقل: فوقعت العصا، بل وقع الحق وسيطر، وهذه هي قيمةحلقة اليوم، فها هي العصا بدأت تبتلع ما افتروه من سحر كأنها أفاعي، أما السحرة ففيالاندهاش غارقون، فما يرونه سحرًا بل معجزة! فعصا موسى تحولت إلى ثعبانٍحقيقي! وتأتي المعجزة في ابتلاع الثعبان لسحر السحرة، فلو أنه ما ابتلع الأفاعيالزائفة لكان مجرد ثعبان أمام باقي الثعابين، وقد لا يلاحظ الجمهور الفرق بينالمتحول حقيقة ومجرد الخيال، أما بهذه الخطوة قضى موسى على أدواتهم، وأنهىالمباراة!
مكاسب الحق وإيمان الكثيرين:
أ متخيل حالة فرعون؟! أما السحرة فلميستطيعوا أن يفعلوا شيئًا أمام قوة الحق، وهم علماء (..إِنَّمَايَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.. ) (فاطر: 28)،وكانت النتيجة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّهَارُونَ وَمُوسَى) (طـه:70)،وبراعة التصوير القرآني تظهر في كلمة (أُلْقِيَ)،فكأن مغناطيس الحق جذبهم للسجود! جذب العشرة آلافوملأ صوتهم الأجواء، ترى ماذا كان رد فعل موسى، بالطبع كان شاكرًا لله، وكأنلسان حاله يقول: اللهم لك الحمد والشكر؛ فلم تضيعني يا كريم يا عظيم يا حق،فبالتأكيد أنت معي، فقد وقفت مع الحق.
قد تكون علتأصوات بني إسرائيل في هذه اللحظات مرددةً: لا إله إلا الله، وتخيل صمت الحشود،ونظرات الترقب الملقاة على فرعون؛ وكأنها تقول له: أنت لست بإله، لقد كذبت علينا،وهل متصور حال فرعون وما حل عليه من كربٍ ومصيبة؟! وآسيا ترى ما حالها؟ هل تدمععيناها فرحًا، أم تخفيها خوفًا من فرعون؟ وقد تكون أسرت قائلةً لأول مرة: لا إلهإلا الله، آمنت برب موسى.
أما ابن عم فرعون وكاتم سره وصديقهالمقرب الذي يودعه ثقته، فهو مؤمن آل فرعون؛ ذلك المصري الأصيل الذي يقول بداخله: لا إله إلا الله، من ناحيةٍ أخرى قد يكون هامان اختفى هاربًا، خائفًا من بطش فرعون،أما أولئك العشرة آلاف مصري فهم أصلاء، فاضلوا بين الحق ومخاوفهم الشخصية ورجحواالحق، وأنت في أي كفةٍ ترجح؟ كفة سورة طه؟ أم الدنيا التي لن تنفعك؟! فالسحرةاختاروا الحق وسجدوا، تمامًا كما فعل عمر بن الخطاب الذي أسلم بعدما سمع سورةطه من أخته، فبكى، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم معلنًا إسلامه، ناطقًا بالشهادة؛لأنه يعشق الحق. ففي القلب ما يكفي ليشعل شرارة الإيمان، ف عمر والسحرة نفسيةٌواحدةٌ محبة للحق، ولعلها حقيقةُ أخرى، فنفس السورة التي تروي أحداثهم يسلم عمر بنالخطاب عندما يسمعها، وهذا المشهد الرائع الذي استسلم فيه السحرة لربهم (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوايَعْمَلُونَ).
الداهيةفرعون:
عقلية فرعون ليست بالبسيطة؛ فقد فكر جيدًا، وتوصل أنه لو استمر في صمته قدتؤمن باقي الحشود، فوقف في حزمٍ بسرعة، ونادى في السحرة: ( ...آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ...) (طـه:71)،فيرد السحرة: وهلالإيمان يحتاج إلى إذن؟! وهنا أتذكر أبياتًا شعرية جميلة للدكتور يوسف القرضاوي حيثيقول:
تالله مـاالإيمان يهـزم بـالأذى
أبـدًا وفي التاريـخ بـرُّ يمينـي
ضع في يدي القيد ألهبأضلعي
بالسوط ضع عنقي علىالسكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة
أو كبح إيماني ورديقيني
فالنور في قلبي وقلبي في
يدي ربي وربي حافظيومعيني
سأعيش معتصمًا بفضل عقيدتي
وأموت مبتسمًا ليحيىديني
أما فرعونفبدهائه رد على السحرة قائلًا إنها مؤامرة بين السحرة وموسى، ويستطرد قائلاً: (...إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَفَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْفِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى) (طـه:71)،ما هذا العقاب الشنيع؟! فقد توعدهم بقطع اليد اليمنى مع الرجلاليسرى، ويأتي الآخر فيقطع اليد اليسرى مع الرجل اليمنى؛ ليفقدهم القدرة على الحركةوالعمل، وسيصلبهم أيضًا بعد هذه الفعلة! أما التحدي الذي ساقه فهو تحدٍ بينه وبينرب موسى عمن سيبقى!! فهل لو كنت ضمن السحرة كنت ترددت وتراجعت؟! أم أنت من أصحابالحق الثابتين عليه؟!
ظل موسىصامتًا؛ فقد انتهى الأمر وظهر الحق، وشهد عليه الملايين، ولم يجرؤ فرعون أن يقتربمنه أو أن يتحدث معه، فسيعلم الناس كلهم أنه البطل الذي هزمه، وهو من أشاع هزيمتهأمام تلك الجموع، فسبحان من حمى موسى بالسحرة الذين جاءوا متفقين مع فرعون لينالوامن عطاياه، كما حماه بعد ولادته بآسيا التي طلبت أن يرضع ويربى في القصر، كما حماهفي مدين بواحدٍ من القصر، وجاء في الآية (... إِنَّ الْمَلَأَيَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ...) (القصص:20)، فمن الحي الذي يملككوأجلك ورزقك بين يديه؟ أما آن لك أن تعش للحق، وتربي النساء أولادهن على أن الحقغالٍ؟! وأن الحق هو الله؟!
جنات عدنٍلمن تزكى:
جاء ردالسحرة على اتهام فرعون لهم بتآمرهم مع موسى كما تصورها الآيات الجميلة ( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِوَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَالدُّنْيَا) (طـه:72)،فقد رأوا بأعينهم، فلنيفضلوه على ما وصلوا إليه من حق، فمهما كان العقاب فإنه عقاب دنيوي، وفي النهايةسيموت الناس جميعًا، فربما يملك أجسادهم فيقتلهم ولكنه لن يملك أرواحهم؛ فالروحملكٌ لخالقها، ويتابعون قائلين (إِنَّاآمَنَّا بِرَبِّنَالِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِوَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى*إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُجَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى*وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَالصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى *جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِيمِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (طـه:73-76)،فما قيمة الدنياأمام هذا الثواب الذي وعده الله للمتزكين-المتطهرين-منذنوبهم
كبرٌ وعناد:
بدأ فرعون يأمر جنوده بالتحرك وتقييد السحرة، أن يحلعليهم العقاب؛ بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبوا في جذوع النخل، ويقتلوا أمامالناس، قد تكون آسيا تبكي أمام ما تشاهد، و وقد يكون ما حل عليهم من عقاب سببًا فيزيادة إيمان الحضور، ولعل جبريل جاء الآن إلى موسى قائلًا له: ألم أقل لك يا موسى،هم عندكم من الضحى إلى العصر وفي الجنة بعد العصر!.
يا له من مجرمٍ! يقتل عشرة آلافٍ من أعوانه في يوم، خلال لحظات! ويهدد كل الحاضرين بأن من سيؤمنسيناله ذات العقاب، ومات السحرة، وقد يتساءل البعض: لم لم يحم الله السحرة كما حمىموسى؟ والإجابة: بأن موسى رمز، سيكمل الرسالة، ولابد من موت السحرة؛ ليعلم الناس أنالحق غالٍ لا يقبل المساومة، وإن كان ذلك على حساب رزقك، أو حتى حياتك، فلابد وأنيضحي أحد من أجله.
من وجهة نظرك منانتصر؟ فرعون أم السحرة؟ أنا أقول السحرة؛ لأنهم هم الذين فرضوا فكرتهم وانتصروالها، وأخضعوا الآخر لإرادتهم، وهزوا الناس، وماتوا، لكن فكرتهمانتصرت،
أما فرعون فقدغرق في نهاية الأمر، وبقيت فكرة السحرة، من صاحب الجنة ومن صاحب النار؟ الحق أمالباطل؟ إن السحرة هم المنتصرون.
عشرة آلاف مصري استشهدوا؛ دفاعًا عنالحق، وسجل القرآن هذا المشهد الرهيب، موضحًا عظمة المصريين عندما عاشوا للحق، فقدانتصروا في الدنيا؛ فلم يجبروا على فكرته، وانتصروا في الآخرة؛ لأنهم من سيخلدون فيالجنة. اقرأ سورتي طه والشعراء، وعش مع الأحداث، واحيا بالقرآن.
سيف الدولة
04-09-2009, 10:27
أخي الضااري
شكررا على هذه الحلقات اقيمه والبحوث الطيبه
جزاك الله خيرا على هذا ألإيراااد القيم
الحلقة 12
كنا قد انتهينا عند موقف موسى مع السحرة، الموقف الآن سيكون أشد صعوبة حيث سيتعرض موسى للخطر. أصبح الوضع شديد الصعوبة، أصبح الموقف يحتاج لشخص آخر غير موسى لتهدئة الموقف. أتتخيلون غضب فرعون؟ لقد قتل عشرة الآف شخص في يوم واحد! شخصية اليوم هي شخصية مصرية جميلة خلَّد القرآن ذكراها، هل لاحظتم أن طوال القصة وقف المصريون موقف المتفرج السلبي حتى ظهر السحرة، والآن يظهر شخص آخر. وبدأنا نتعرف على المعدن المصري الأصيل الذي عندما يؤمن بالحق يعيش من أجله، هذا الرجل سماه القرآن "رَجُلٌ مُؤْمِنٌ"، تخيلوا عندما يصف كلام الله الخالد شخصًا بالرجولة وبالإيمان، ما أعظم هذا الرجل!</SPAN>
حلمي للشباب:
إني أحلم بجيل من الشباب يتسم بهذه الصفات المصرية الأصيلة، أحلم بجيل به صفات هذا الرجل، بجيل يفهم معنى الدين الكامل وليس العبادات الظاهرية فقط، أحلم بجيل يفهم الدنيا ويفهم الناس و"مصحصح"ليس بساذج، أحلم أن يكون هذا الجيل مثقفًاواسع الأفق، أحلم بأن يكون دارس تاريخ بلده، ومستفيدًا من دروس التاريخ ويطبقها على حياته، أحلم به ذكيًا وحكيمًا متى يتكلم ومتى يسكت، جيل متوازن، جيل إيجابي وطني يحب بلده جدًا، أحلم بأنه قادر على التعبير عن فكرته وعرضها بصورة شيقة، أحلم به شجاعًا في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم، ولكن بحكمة وذكاء، أحلم به عادلًا مؤمنًا موصولًا بالله، قلبه حاضر مع الله.
كان من نتائج يوم السحرة إيمان الكثير من المصريين ب موسى مع كتمانهم هذا الإيمان، ومنهم ماشطة ابنة فرعون التي تصفف لابنة فرعون شعرها. حدث هذا الموقف في قصر فرعون حيث ستقع أحداث اليوم، هذه السيدة لها أربعة أولاد، شهدت أحداث يوم السحرة، وآمنت ب موسى، وكتمت إيمانها، يحكي لنا قصتها محمد عليه الصلاة والسلام. حكى النبي هذه القصة للصحابة في مكة عندما اشتد الإيذاء بالصحابة، في يوم من الأيام بعد إيمان هذه المرأة كانت تمشط شعر بنت فرعون، فسقط المشط من يدها، فقالت وهي تلتقطه من الأرض: "بسم الله"! فقالت لها ابنة فرعون: "الله الذي هو أبي؟"، يبدو أن هذه المرأة لم تستطع تحمل كتمان الإيمان أكثر من هذا، فقالت لها: "ربي وربك الله"، فقالت لها البنت: "أو لكِ رب غير أبي؟!"، فخرج منها الإيمان بكل شجاعة، ويبدو أن نموذج موسى حرك في الناس الشجاعة والإيمان، فقالت لها: "ربي وربك ورب أبيك الله!"، فقالت البنت: "لأخبرنَّ أبي!"، وبالفعل أخبرته، فاشتد غضب فرعون أن يكون في بيته من لا يؤمن به، وسألها: "أوَ لكِ رب سواي؟"، فقالت: "ربي وربك الله". فقال فرعون: "ألها أولاد؟!"، فقالوا: نعم لها أربعة، فقال: "ائتوني بهم، وائتوني ببقرة من نحاس. وبالفعل أحضروا قطعة نحاس ضخمة على شكل بقرة فارغة الوسط، وأوقدوا تحتها النيران الشديدة، وجاء فرعون بابنها الأكبر، وسألها: "أوَ لكِ رب سواي؟" فقالت: "ربي وربك الله"! فألقى ابنها داخل البقرة المشتعلة، واختفى بعد دقائق من الصراخ! ويأتي بالابن الثاني، ويسألها: "أوَ لك رب سواي؟" فتقول: "ربي وربك الله"! ويقتل الثاني والثالث!
حتى لم يتبق من أولادها سوى الابن الأصغر، وهو رضيع تحمله في يديها، فيبدو أنها لم تقو على إعطائه لفرعون وكادت أن تتقاعس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الطفل أنه ممن نطقوا في المهد، فقال: يا أمي، اصبري إنكِ على الحق. فألقاهما فرعون في النار. يقول النبي: "مررت ليلة أسري بي برائحة طيبة فقلت ما هذه الرائحة يا جبريل؟ قال: هذه ماشطة بنت فرعون..."
ونتعرض لنموذج آخر لسيدة آمنت ولم تستطع كتمان إيمانها، وهى آسيا امرأة فرعون! آسيا التي أنقذت موسى، آسيا التي كانت تربيه وتحميه في نشأته. آمنت وأعلنت إيمانها وشهدت أن لا إله إلا الله، وكانت هذه بمثابة كارثة لفرعون، زوجته تؤمن بالله؟! ويبدو أن فرعون بدأ يؤذيها فكان دعاؤها " ... إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (التحريم: 11)، " كان دعاؤها ببيت عند الله في الجنة، لأنها كانت مؤمنة بأن بيت عند الله في الجنة خير من قصور الدنيا! فأصبحت من سيدات نساء أهل الجنة! ما أعظم هذه المرأة! كانت تملك مصر واختارت الله. قد تحتار بعض النساء وترفض الدين بسبب الالتفات لشهوات الدنيا من مظهر وغيره، ولكن هذه المرأة لم يختلط عليها الأمر، واختارت الإيمان رغم شر فرعون أقرب الناس إليها! وتأملوا كلمة "عِنْدَكَ" فهي لم تطلب الجنة فقط، بل طلبت أن تكون بجوار عرش الرحمن في الفردوس الأعلى!
ولأول مرة بعد وفاة المرأتين يعلن فرعون عن رغبته في قتل موسى، ويبدو أنه يحتاج لدعم، لأنه تسنت له أكثر من فرصة لقتل موسى..."وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" (غافر: 26)... وهنا تظهر الشخصية التي أحلم بها..." وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ..." (غافر: 28)، لماذا كان يكتم إيمانه؟ ولماذا أعلن الآن؟
بطاقة تعارف على الـ" رَجُلٌ مُؤْمِنٌ":
هو ابن عم فرعون، في مكانة أعلى من مكانة هامان، فهامان مجرد موظف عند فرعون، ولكن هذا الرجل من الأسرة الحاكمة، فهو غني، وهو مستشار فرعون الخاص، وكونه من الأسرة الحاكمة يعطي له حصانة إجتماعية تصعب قتله أو إيذاءه، وهو مصري ليس من بني إسرائيل، فليس هناك شك في ولائه. والقرآن لم يذكر اسمه بل ذكره بلقبه " رَجُلٌ مُؤْمِنٌ" لنتذكره بهذا اللقب، فالناس في الدنيا يعملون ويبذلون من أجل الحصول على ألقاب مثل الدكتور فلان حاصل على شهادة الدكتوراة من الجامعة الفلانية في أوروبا، ولكن أي الألقاب أغلى؟ أتعرف عظم قدر أن يلقبك الله بالرجل المؤمن؟ أليس هذا اللقب يستحق العمل والبذل عشرات السنين؟
جمع فرعون جنوده وحاشيته ليقتل موسى، فقال موسى: " وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ" (غافر:27). ويبدو أن فرعون جمع حاشيته لاتخاذ القرار، واستقروا على قتل موسى، فظهر هذا الرجل، وقال: "وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ" (غافر: 28)، ابتدأ بالمنهج العقلي، وحواره الأول علمي، فهو لم يعلن إيمانه بعد! بل قام بتوصيل معلومة لفرعون أن أمامهم حلًا من اثنين، لو كان كاذبًا فلن يضر أحدًا بكذبه، وإن كان صادقًا فيما ينذرهم وفي الوقت نفسه لم يسلموه بني إسرائيل فسيقع العذاب الذي ينذركم به، ثم قال إن الله لن يوفقه إن كان كاذبًا، ومن الذكاء بدئه بقوله " وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا"... ثم قال لهم: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ"، أي إن كان كاذبًا فسيعذبه الله، فلم تقتلوه أنتم؟ وبهذا أيضًا كان وكأنه يجرح فرعون بالكلام!
ثم انتقل إلى الحوار الوطني..." يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا..." (غافر:29)، تخيل فرعون وهو يستمع لهذا الكلام والرجل المؤمن يعرض فكرته، وهذا الرجل مثال مصري عظيم، لقد رأينا السحرة والماشطة وآسيا، والآن نرى هذا الرجل المثقف المتدين الوطني، يفهم بعض الناس أن التدين عكس الوطنية، وهذا المفهوم غير صحيح؛ فالإيمان يُعزز حب الوطن، ويشجع على تنمية البلاد، يقول لهم إنه خائف على مستقبل مصر- وهي قائدة العالم في هذا الوقت- من أن تنهار حضارتها بسبب قتل الأبرياء! فيتدخل فرعون لتغيير كلام المؤمن، ويقول: "... قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غافر: 29)، قال في أول الأمر: " ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ"، وكأنه يأخذ برأي الحاشية، ثم عندما وجد أن كلام المؤمن مؤثر وعميق اشتد غضبه؛ وأمر بأن يُطاع بلا نقاش.
ورغم غضب فرعون أكمل المؤمن الكلام، فقال: " وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ" (غافر: 30). وانتقل بهم إلى الحوار العاطفي لينقل لهم مشاعر الخوف عليهم، "مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ" (غافر: 31). ثم ينتقل بالحديث إلى الإيمان، فيقول: "وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (غافر: 32). فالمصريون كانوا يؤمنون باليوم الآخر، وأسماه بيوم التناد، حيث سينادي الناس على من ضلهم وسيتبرأ منهم، سيتبرأ منهم فرعون رغم أنه أضلهم في الدنيا... "يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" (غافر: 33).
ثم انتقل إلى الحوار التاريخي، وذكرهم بأن جد موسى هو يوسف الذي تحبونه: "وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ" (غافر: 34)
فقاطعه فرعون حتى لا يزداد تأثر الجمع به، " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ..."(غافر 36-37). فأمر فرعون هامان بأن يبني له برجًا عاليًا لكي يصعد عليه فرعون لينظر إلى إله موسى!
وهنا انتقل المؤمن إلى حوار دعوي صريح؛ حيث أعلن عن نفسه وعن إيمانه، فقال: " وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)...وكأنه استراح بأن أعلن عن إيمانه، ثم ختم كلامه بتوكله على الله: " فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (غافر:44). فعقب القرآن بأن الله نجاه من مكر فرعون وجنوده؛ ولم يقدروا على إيذائه أو قتله مثلما فعلوا مع الماشطة وآسيا، وكأن الله يقول لنا اعلوا شأن الحق وتوكلوا عليَّ. يقول الله تبارك وتعالى: "فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (غافر: 45).
إذا حللنا ما فعله هذا الرجل نجد أنه:
- نجى موسى من القتل: نجح 100%
- أثر في الجمع الذي حضر خطبته: نجح!
فما كانت خسارته؟ فقد منزلته عند فرعون، ولكنه لم يُقتل لذكائه ولرحمة الله به. دفع ثمن إيمانه بالحق، ولكن ليس كل الناس عندهم هذا الاستعداد للتضحية؟ هل تملكه أنت؟!
( الحلقة الثالثة عشر
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله _صلى الله عليه وسلم.
قــارون:
تحدثنا سابقًا عما حدث للسحرة ومررنا بإيمانهم ثم استشهادهم، ثم قرار فرعون بقتل موسى وخروج مؤمن آل فرعون ليقول: [... أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ...] {غافر:28}. إن موقف فرعون الآن في ضعف واهتزاز، ولم يعد على نفس القدر من القوة التي كان يتميز بها. وسوف نتحدث اليوم في البداية عما هو أشد وأشد وهو الخسف بقارون.
إن قارون كان من قوم موسى.. الذي باع أهله وعشيرته [إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ...] {القصص:76} كان! في الماضي.. قبل أن يبيع قومه من أجل المال، باع رصيد القيم من أجل المال، ولكي يرضى عنه فرعون بدأ يتجسس على بني إسرائيل ويساعده ضد موسى وبني إسرائيل فإذا بالمفاجأة [فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ...] {القصص:81} ومعنى أن يخسف بقارون أن يخسر فرعون قوة مالية واقتصادية شديدة؛ لأن كنوز قارون كان تدعم فرعون ضد موسى.
كم سنة استغرقتها هذه الأحداث تقريبًا؟ وقد عاد موسى من مدين وكلف بالرسالة وهو في الأربعين من عمره، وكم الفترة التي مكثها في مصر مرورًا بأحداث مواجهة السحرة، وفرعون، ومؤمن آل فرعون، وقصة الخسف بقارون؟ فهي تقريبًا خمس عشرة سنة أي أنه ما بين بداية مواجهة موسى لفرعون، وخروجه من مصر عن طريق البحر أي أنه سيكون في الخامسة والخمسين من عمره تقريباً كما كان عمر النبي _صلى الله عليه وسلم_ في غزوة بدر، فقد بُعث النبي في الأربعين من عمره ثم تقع غزوة بدر بعدها بـ 13 أو 15 سنة، فالأحداث قريبة الشبه وطوال بعثته النبي _صلى الله عليه وسلم_ تتنزل الآيات بقصة موسى وكأنها جاءت للتثبيت . قال تعالى [... نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ...] {هود:120}؟ لأن الأحداث متشابهة.
التجريد التدريجي:
إن الله سبحانه وتعالى أعطى فرعون فرصاً كثيرة، فهل تدركون ماذا كانت مشكلة فرعون؟ لقد كانت مشكلته الكِبر والغرور! تقول الآية: [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ...] {النمل:14} " أي يعلمون أنه الحق فما المشكلة إذن" ؟! [... ظُلْمًا وَعُلُوًّا...] {النمل:14} وكانت هذه هي مشكلة فرعون وسوف أخبركم كيف جرد الله فرعون من قوته تدريجيًا.
أولا الحجة العقلية والمنطق العقلي فقد جرده الله منها في أول مواجهة بينه وبين موسى، ثم تأتي العصا واليد البيضاء التي جرده الله بها من قدراته وإمكانياته، ثم إسلام آسيا الذي غلب به أسريًا، ثم مؤمن آل فرعون فغُلب في مستشارِيه ومعاونِيه، ثم غُلب إعلامياً في جنوده عندما قتل السحرة بيده، ثم الخسف بقارون الذي جرده من قوته الاقتصادية. وانتبه.. فأحياناً يمهلك الله ويأخذ منك شيئاً دون أن تشعر ثم يأخذ شيئًا آخر حتى إذا أخذك فلن يفلتك، فإياك من غضب الله وإياك أن تعتقد أن إمهال الله لك يدل على صحة ما تعتقد فهذا ما حدث مع فرعون، فإن ما حدث مع فرعون رسالة لكل شخص يرى أن اعتقاداته صحيحة وأن الأمور تسير طبيعية! فهناك قانون: أن الله يمهل فإذا أخذ الظالم لم يفلته.
جبهتــان:
سنتحدث الآن عن تسع آيات تحذيرية لفرعون، وسنتحدث عن نقطتين متوازيتين: ماذا يفعل موسى مع بني إسرائيل، ونرى فرعون وقد جرده الله سبحانه وتعالى وأرسل له الرسائل التحذيرية المتتالية فهل سيفيق أم سيضيع بسبب التكبر والظلم.
سنبدأ ب موسى وهو في وسط بيوت بني إسرائيل وشبابها، وقد تعمدت استخدام كلمة الشباب لأول مرة لأن موسى وجد في وسط كل الظروف المحيطة واضطهاد فرعون والإيذاء أن الذل قد قضى على بني إسرائيل والدليل على ذلك قوله تعالى: [قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا...] {الأعراف:129} أي أن وجودك يا موسى لم يغير من الأمر شيء بل إن فرعون بسببك زاد إيذاءه لنا.
تخيل الشدائد التي يواجهها موسى، ضغوط من فرعون ومحاولة قتله، وكذلك عندما انتصر موسى على السحرة ازداد إيذاؤه لبني إسرائيل فهو يقتل أولادهم ويستحيي نساءهم، وضغوط في إصلاح بني إسرائيل فهو يبذل وجهده وتضحيته وكل حياته من أجل أن يأخذ بيد بني إسرائيل وهم لا يريدون أن يتحركوا ولا توجد لديهم نخوة بل ويقولون له أن مجيئه زاد من تعبهم! فيالها من ضغوط! لقد كان النبي كلما آذاه أحد قال: (رحم الله أخي موسى لقد ابتلي بأكثر من ذلك فصبر)، لقد كان صبره عجيباً من أجل رسالته وإخلاصه ومن أجل الله والحق، فهل لديك قوة صبر ك موسى؟
تخيل كل هذه الضغوط و موسى يحارب في جبهتين، جبهة مواجهة فرعون، وجبهة إصلاح بني إسرائيل وهو بمفرده مع هارون فحاول أمام كل هذا الظلم أن يعظ وأن يدعوا بني إسرائيل [قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ...] {الأعراف:129} يريد إخبارهم أن حال الدنيا يتغير فيبدوا أن موسى قد علم أن نهاية فرعون قد اقتربت [...قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] {الأعراف:129} فالعالم سيتغير وستدور الأيام فأروني ماذا ستفعلون إذا زال ملك فرعون، وكأنه يقول لهم بدلاً من قول نحن سنؤذى في كل الأحوال ثقوا في وعد الله وجهزوا أنفسكم حتى إذا جعلكم الله مسئولون عن الأرض كنتم أهلا لهذه المسئولية.
يا أيها المسلمون إن كنتم في مثل هذا الوضع الذي لا يخفى على أحد فلا داعي للوم القدر والتعجب مما يحدث لنا بل أعدوا أولادكم وأعدوا أنفسكم حتى إذا أذن الله للمسلمين ليكونوا في حال أفضل فتكونَ أنت مماً يقدمون شيئاً كبيراً للإسلام، وإياكم وفعل ما فعله بنو إسرئيل. واسمحوا لي أن أقدم لكم نصحية: عندما تحل بك الشدائد فانظر لنفسك فأنت دائرة صغيرة وسط دائرة الظروف الكبيرة فابدأ بتوسيع دائرتك الصغيرة كي تدفع الدائرة الكبيرة وهذا هو منهج موسى وهو منهج علمي جميل.
الشبــاب..
إن الذل أمر صعب جدًا، وإن الظلم يجلب الذل، والذل يسبب الانهيار النفسي فتكون النفوس مشوهة ويصبح العقل معتلا، أتعلمون ماتفعله المخدرات من إعاقة في العقل؟ كذلك الذل فلا يساعد على التفكير أو الإنتاج. لقد بدأ موسى يهتم بدعوة بني إسرائيل فهو لا يتوقف عن الجهد فمن أحب الإسلام ك موسى فسيعمل لأجله ليل نهار؟ على الشباب.. تقول الآية: [فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ...] {يونس:83} وهذا يعني أن كلهم تخلوا عنه إلا شباب صغير تبقوا معه ولكنهم خائفون، وكأن موسى وجد أن الشباب هو الحل، ويبدو أن الشباب هو الحل في كل زمان ومكان، وأن العالم العربي لا ينتبه إلى أن أعظم كنز موجود عندنا هو الشباب، فهم يرون أنهم مستهترون ولديهم أوقات فراغ أما موسى فقد بحث عن الشباب، وكذلك فقد قال محمد _صلى الله عليه وسلم_: (بعثني الله فصدقني الشباب وكذبني الشيوخ)، و إبراهيم عندما كسَّرَ الأصنام كان شاباً [قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ] {الأنبياء:60}، وكذلك يحيى [... وَآَتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا] {مريم:12} شاب صغير، ومريم أيضاً كانت فتاة صغيرة، وكذلك مريم أخت موسى التي أنقذته كانت فتاة صغيرة [إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ...] {طه:40}.
إن الشباب هو الأمل .. فيا أيها الآباء ويا أيتها الأمهات.. ويا أيها المعلمون.. ويا أيها الرياضيون.. إن الشباب هم الأمل، وياأيها شباب ثقوا بأنفسكم فإن الشباب هم من وقفوا بجوار موسى، وكذلك كان من وقف مع محمد _صلى الله عليه وسلم_ هم الشباب.
وظل موسى يحاول [وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ] {يونس:84}، فالإيمان ليس كلاماً بل بالتوكل على الله، إن موسى يقول لهم توكلوا على الله لأنه يعلم أن نهاية فرعون قد اقتربت، فسوف تبدأ تسع آيات تحذيرية من الله لفرعون، مع كل ما فعله فرعون فسوف يعطيه الله سبحانه وتعالى هذه الآيات! سبحانه فهو الحليم يمهل عباده فإذا أخذهم لم يفلتهم.
الفرصة الأخيرة:
رأينا الجبهة الأولى التي كانت بين موسى وقومه، والآن لننتقل إلى الجبهة الثانية مع فرعون، إن قيمة اليوم تقول: احذر عندما يرسل الله لك إنذاراً فإياك والعناد والمكابرة لأنه بعد الإنذار ربما كان هناك إنذار آخر وتكون بينهما مدة وتعتقد أن الله قد تركك لكن إذا أخذك الله سيكون الانتقام شديداً. إياك أن تظلم أحداً فيرسل لك إنذاراً فيؤلمك فتصر على الظلم والعناد والكبر، إياك أن تظلم زوجتك، إياك أن تصر على ذنب كبير أو على مال حرام.
سوف نرى اليوم سبعة إنذارات [وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ...] {الإسراء:101} تسعة أم سبعة؟! إنهم سبعة والاثنتين الباقيتين هما اليد والعصا وقد تعرضنا لهما مسبقًا. وبالمناسبة فكثير من الناس يقرأون في القرآن وهم لايستطيعون فهم التسع آيات التي جاءت ل موسى لذا فسنذكرهن اليوم ولكن ليس فقط من أجل المعلومة ولكن من أجل ما هو أكبر من ذلك وهو أنني أطلب منك أن تجلس اليوم مع نفسك وتنظر في حال نفسك وما هو آخر إنذار تحذيري جاءك من الله .. وتقول: هل جاءني إنذار ولم انتبه؟ راجع نفسك وانتبه وانظر للإنذارات التي حدثت لفرعون وانسَ فرعون وانسَ هذه النوعية من الإنذارات وقس واعش مع نفسك.
إن موسى سوف يتردد على فرعون سبع مرات فمع كل إنذار سيتردد عليه يطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل، فقد رفض فرعون الإيمان وهذا هو المعنى الأول الذي جاءه به موسى إذن فليرسل معه بني إسرائيل فقد كان فرعون يرفض خروجهم من هذا السجن الكبير وتلك هي القصة أنه يرفض خروجهم، ولكن ما السبب؟ هناك ثلاثة أسباب: سبب عسكري، وسبب سياسي، وسبب شخصي.
· أما السبب العسكري: هو أنه اضطهدهم لسنوات طويلة فهو يخشى أن يخرجوا وهم ستمائة ألف فيكونوا دولة قوية تكون سببًا في المشكلات، أو أن يقوموا بغزوه أو بعمل قلاقل وهذا هو نفس السبب الذي بسببه رفضت قريش أن يخرج النبي _صلى الله عليه وسلم_ من مكة إلى المدينة وهذا سبب بديهي من فرعون.
· وأما السبب السياسي: أنه لو تركهم يخرجون سوف تسقط هيبة الدولة وهيبة فرعون ويصبح الخروج هو رغبة كل المستضعفين وينفرط العقد، وهذا السبب أيضًا سبب بديهي ومن الممكن أن يكون مبررًا لفرعون. انتبه! فإياك أن تظلم فيضيق الله عليك الدنيا حتى يكون هناك بالفعل أسباب حقيقية تجعلك مضطراً لأن تستمر في الظلم! أتفهمون هذا المعنى؟ تستمر في الظلم حتى تعقد الأمور على نفسك فتأتي كي تحلها فلا تستطيع، وفرعون تنسحب الدنيا من تحت قدميه وهو يشعر بهذا ولكن لا يستطيع أن يرجع عما هو فيه وله مبرراته ولكنه هو الذي ظلم في الأصل فضيق الله عليه. إياك أن تظلم أحداً فيضيق الله عليك إلى أن يكون هلاكك في أنك لا تعرف كيف تحل المشكلة لأنك أنت من فعلها.
· وأما السبب الشخصي: وهو العناد والكبر فقد رفض خروجهم فكيف يأتي موسى ويخرجهم وهو بمفرده أمام فرعون بكل قوته .
تلك كانت أسباب فرعون التي كانت تجعله يرفض طلب موسى فبدأت الإنذارات، سبع آيات تحذيرية وهيا بنا لنعيشهم واحدة تلو الأخرى .
الإنذار الأول: نقص من الثمرات
حدث جفاف شديد في مصر وهلك الزرع فحدثت مجاعة شديدة عدة أشهر ذكرتهم ب يوسف فهو الذي حل مشكلة المجاعة الأخيرة، وكأن الله يقول لهم هذا حفيد يوسف لو ذهبتم إليه وسمعتم كلامه سوف يحل لكم المشكلة فهو على خطاه وكلاهما من بني إسرائيل .
إن الله سبحانه وتعالى سيبدأ انتقامه من فرعون عن طريق أزمة اقتصادية شديدة، فلقد بدأ الناس يعانون من المجاعة ، ولكن الغريب أن فرعون عندما أراد أن يبرر ما حدث قال أن موسى هو السبب ولم يقل تعالوا لنراجع أنفسنا! فانتبه فأحياناً وأنت ظالم يرسل لك الله آيات إنذارية وتحذيرية فتظل تبحث عن أي سبب آخر إلا الرجوع إلى الله وهذا من الظلم والكبر، وبالطبع ستكون هناك أسباب دنيوية لما حدث ولكن راجع علاقتك بالله واستغفره، ولو كنت ظالمًا فأوقف هذا الظلم. أريد منكم اليوم أن تنسوا فرعون وأن تنسوا الآيات الإنذارية وليلتفت كلٌ منكم لنفسه، فالقرآن لا يحكي لك قصة تاريخية بل يريدك أن تلتفت لنفسك.
ذهب موسى إلى فرعون وقال له أن هذه آية من الله فأرسل معي بني إسرائيل، فكان جوابه ومن معه: [وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ] {الأعراف:132}، باتهامه بالسحر فياله من كبر!
الإنذارالثاني:الطوفان
ذهب الجفاف وجاء الماء ففرحوا وظنوا أن المشكلة قد انتهت ولكن الماء جاء بطريقة عكسية! فعكس الجفاف الطوفان، ماء لا يُمكِّن الزرع من النمو أبداً بل ويهلك الأرض ويغطيها، فانتقلت مصر من الشيء لنقيضه فمن الجفاف الشديد إلى الطوفان الشديد، ففي كلتا الحالتين لا يستطيعون الزراعة، مجاعة ولكن بشكل عكسي كي يوقنوا من الذي يمسك الماء ومن الذي يدفعه.. إنه الله.. فأفيقوا! وهكذا كلما جاء إنذار ذهب موسى إلى فرعون وطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل ولكن فرعون مصراً على موقفه.
الإنذارالثالث: الجراد
توقف الطوفان واستقرت الأرض وأصبحت صالحة للزراعة وبدأ الزرع ينبت وإذا بأسراب من الجراد استوطنت مصر وقضت على المحاصيل، ولاحظوا أن مصر كانت بيئة زراعية وكل الآيات المرسلة تخص الزراعة أي الاقتصاد الذي كانت تقوم عليه في ذلك الوقت، وكأن الله يقول لهم لقد عصيتموني كي تأكلوا وتشربوا والطعام والشراب بيد الله . لقد كان الجفاف والطوفان والجراد هم جنود الله وها هو موسى يتجه للمرة الثالثة إلى فرعون كي يرسل معه بني إسرائيل، وإن موسى لن يأتي ليخبرك بذلك ولكن أنت من ستجلس اليوم مع نفسك وتسأل كم إنذار أرسل إليك.
الإنذارالرابع: القُمَّل
القُمل ليس هو القَمل الذي يصيب الرأس بل هو حشرة تصيب المحاصيل الزراعية، وهذه الحشرة تقضي على المحصول قبل أن ينمو. فبعد أن زال الجراد فرحوا واعتقدوا أنهم سينتعشون وتنتهي المجاعة التي ظلت شهورًا، ولكن لا فائدة فبعد أن ذهب الجراد وبدأت المحاصيل في النمو جاء القُمل وقضت على المحاصيل ولم يجدوا إلا بالكاد ما يأكلونه.
ولكن انتبه فكما أقول لك أنها إنذارات تحذيرية فمن الممكن أن تراها أنت على أنها حِلم الله عز وجل، إنه الحليم الذي يعطي عباده فرصة تتلوها الأخرى، يا من اقترفتم ذنوبًا كبيرة أو أكلتم مالا حراما، يا من تظلم زوجتك، يا من تظلمين أحد يعمل عندك، يا من تظلم شريكك أو تظلم أي أحد انتبه فحلم الله عظيم يجعلك تذوب من الخجل لكن إذا أعطاك فرصًا كثيرة ولم تلتفت سينتقم منك في النهاية.
الإنذارالخامس: الضفادع
وإذا بكميات من الضفادع تملأ الحقول والنيل، حتى سرير فرعون، فإذا استقيظ من نومه وجد الضفادع في كل مكان، شيء مفزع فهذا الإنذار ليس اقتصادياً بل نفسياً فالضفادع وأصواتها في كل مكان. أترون كيف هي إنذارات الله .. فأفيقوا.
يا جماعة إن هذا قرآن يحكي أن هذه الأمور كانت من إنذارات الله فانتبهوا فنحن في حياتنا أمراض جديدة تنتشر وتظهر وهي إنذارات من الله، وكذلك في حياتنا أزمات اقتصادية عالمية، ولكن انتبهوا فأنا لا أقول أنه لا شيء غير ذلك وأن علينا أن نترك العمل والإنتاج والإصلاح، لا بل لابد من أن ننتج ونصلح وهذا ما أمرنا به الله ورسوله (ما جعل الله داء إلا وجعل له دواء)، ولكن هناك جزء لابد أن ترجع فيه لنفسك فلابد أن تتوازان بين العمل والإنتاج والمادية الإصلاحية وبين مالك الملك وتسأله هل أنت غاضب علي، إن النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو عائد من الطائف وبعد أن ضرب بالحجارة وهو النبي دعا إلى الله: (إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي) هل هذا إنذار تحذيري أم أنك راضٍ عني وتختبرني يا رب، عندما تقع بك مشكلة أو مصيبة افعل كما فعل النبي _صلى الله عليه وسلم_ فاسأل نفسك: أهذا إنذار أم هو ابتلاء لرفع الدرجات فليس كل من أصيب بشيءٍ كان إنذاراً تحذيرياً ولكن كل ما أعنيه هو أن تراجع نفسك فلربما كان رفع للدرجات وكان هذا الابتلاء رحمة من الله عليك ولكي تفرق بين الأمرين راجع نفسك.
ويذهب موسى إلى فرعون ويطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل، وفرعون مازال مُصرًا على موقفه..! ما كل هذا العناد وهذا الكبر؟ إياك أن تكون ظالمًا لأحدٍ وكلما طلب منك أن ترد له حقه ترفض، وليس لأنك قوي ولأن الأمور بيديك تقولها بكل قوتك،حتى إن دعتك قوتك أن تظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك وتذكر أن الدنيا تدور [... وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...] {آل عمران:140}.
الإنذار السادس: الدم
ذهبت الضفادع فإذا بالإنذار السادس: الدم [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ...] {الأعراف:133}، كثير من الناس لا يفهمون ما المقصود بالدم، ألم أقل لكم بأننا سنحيا بالقرآن ونفهم الكثير من آياته من خلال قصة موسى، فما هو الدم الذي أرسله الله على فرعون وعلى نهر النيل في ذلك الوقت؟ لقد تحول النيل للون الدم عدة أيام، فكل ما فات كان يستمر لعدة شهور أما هذا الإنذار فاستمر أيامًا فقط حتى لا يموتوا والله سبحانه وتعالى يعيطهم فرصة فلن يموتوا، تخيل أنهم إذا أخذوا من النيل ماء يخرج لون الدم! ألم يعملوا في التحنيط والمعادلات الكيميائية فهي إذن حرب كيميائية وتغيير كيميائي للماء، فلما وجدوا النيل هكذا ذهبوا للآبار فوجدوا نفس الشيء . ومع ذلك كانوا يطلقون عليه :يا أيها الساحر [وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ...] {الزُّخرف:49}، ومازال فرعون مُصرًا ومستكبرًا.
الإنذار السابع: الرجز
كل الإنذارات التي مضت كانت في البيئة المحيطة بهم ولكن هذه المرة ستكون في أجسادهم، وهو الطاعون حيث سينتشر في مصر [وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ] {الأعراف:134}، إنهما المهمتان اللتان جاء من أجلهما موسى، ومن الواضح أن الهدف عند موسى واضح جدًا لدرجة أنهم عرفوا هذا الهدف، فقد شرح موسى رسالته بشكل صحيح تمامًا إلى حد أن فرعون قال له اذهِب عنا المرض وأنا أعطيك ما تريد [لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ]، وبالفعل سوف يدعو لهم موسى، لأنه شديد الإخلاص فكان من الممكن أن ينتهز الفرصة لينتقم منهم، أتذكرون النبي _صلى الله عليه وسلم_ عندما قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) وهنا نقطة هامة جدًا.. فالمؤمن الحق لا يحمل حقيبة الذكريات السيئة، فهناك أناس يملؤها الحقد ولا تستطيع النسيان، أناس لديها ذكريات المؤلمة تجعل الثأر يملؤها، وهناك أناس أنفسهم كريمة ترمي حقيبة الذكريات وترمي الشوك وتتعامل مع الناس بنفس حلوة سليمة فأيهما أنت؟ إن النبي _صلى الله عليه وسلم_ بعد عشرين عامًا من الإيذاء ومن قتل أصحابه يقول: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). فالنفوس الصغيرة لا تستطيع النسيان فكيف هي نفسك؟ صغيرة أم كبيرة فصاحب النفس الصغيرة يحمل الغل سنوات طويلة ويذكر ما حدث، أما النفوس الكبيرة مثل يوسف [قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ...] {يوسف:92}، فهذا هو سلوك العظماء الذين تظل ذكراهم خالدة.
[فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ] {الأعراف:135} فبمجرد أن زال عنهم المرض فإذا بفرعون لا يؤمن به ويقول له أنت ساحر ولن أرسل معك بني إسرائيل، [فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ] {الأعراف:136}، لقد جاءته سبع آيات وهو غير منتبه.
اللقاء الأخير:
حان وقت اللقاء الأخير، ف موسى سيذهب لفرعون ويطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل [وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا] {الإسراء:101} فأنت لست ساحر بل أنت مسحور، فيقول له موسى آخر كلمة: [قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا] {الإسراء:102} أي أنك ستهلك! وهي المرة الأولى التي يقولها له ويبدو أن موسى ومع كل ما مر لم يكن يعلم أن فرعون سيهلك وأن الله قد أوحى له بذلك، فقد ظلم وقتل وذبح فلم تعد هناك أي فرص أخرى وقد استنفذ كل الفرص.
لقد انتهى الاجتماع وقال فرعون آخر ما عنده، وكذلك موسى عليه السلام ، وبدأ كلٌ منهما يعد نفسه بسرعة، ولقد أوحي إلى موسى بأنه سيخرج ليلا هو وبني إسرائيل، وفرعون يجهز ويخطب آخر خطاب له قبل أن يهلك: [وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ] {الزُّخرف:51 إلى53}.
موسى هو الذي سيبادر ويسبق أولا فقد أخذ القرار بالخروج فورًا وسيقوم بتجهيز بني إسرائيل قبل أن يجهز فرعون جيوشه للقضاء على بني إسرائيل. كلاهما أخذ قرارًا فموسى أخذ القرار بالخروج فوراً وفرعون أخذ قرارًا بقتلهم جميعًا وإبادتهم فهو لم يكن يريد أن يأخذ هذا القرار من البداية ولكنه أخذه في هذا اليوم لأنه شعر أنه خسر كل شيء وفضح أمره حتى زوجته آسيا قتلها، ومستشاره، ومؤمن آل فرعون، وحتى السحرة بالإضافة إلى مشكلة اقتصادية كبيرة وأن موسى قد قهره عقلياً وفكريًا وانتصر عليه بكل المقاييس.
قيمة اليوم: احذر إنذارات الله:
بقي شيء واحد وهو أن تحذر إمهال الله، فإذا حدثت لك مشكلة أو مصيبة أو مرض أو نقص في الرزق لا داعي لأن تكتئب، ولكن ما أقصده هو أن تراجع نفسك وتجلس مع نفسك وتنظر أهو رحمة من الله ورفع للدرجات أم هو إنذار، فإذا وجدت نفسك ظالمًا أو أكالا للمال الحرام أو آذيت أو آلمت إنسانًا أو أحزنت إنسانًا، فالإنذارات تأتي على قدر كلٍ منا .. فلا للظلم.. قيمة اليوم: احذر إنذارات الله واستيقظ لها ولا تغفل عنها.. إن ظلمت فستخسر رمضان ولن تكسب شيئًا، وإن تبت اليوم فمن يدري فلعلك تقبل عند الله ويرحمك ويرضى عنك ويغفر لك، توبوا الليلة أيها الناس وأعيدوا الحقوق لأصحابها واستغفروا الله ورضوا من ظلمتم، غفر الله لنا جميعًا.
(الحلقة الرابعة عشر )
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الموضوع الذى نتناوله اليوم من قصة موسى في غاية الأهمية، نرى فيه كيف تتحقق وعود الله لعباده، تستشعر فيه قوة وعظمة الله لك إذا كنت مظلوم، وتستشعر فيه قوة وعظمة الله عليك إذا كنت ظالم. موضوع اليوم هو خروج موسى من مصر وانشقاق البحر له وانتقام الله من فرعون وهامان وإغراقهم في البحر. هذه القصة سمعناها مرارًا ويعرفها الصغير منا والكبير، بل وتعلمها كل ثقافات العالم، ولتكرار سماعنا لهذه القصة، فقدنا إحساسنا بالمعجزة ولم نعد نستشعر قدرة الله، لذا فتخيل أن هذه هى المرة الأولى التي تسمع فيها هذه القصة، واستشعر أن الله قوي عزيز، وعندما تردد في ركوعك " سبحان ربىَّ العظيم" فاملأ قلبك باسمه "العظيم".
في قصة موسى نجد الخطر محدق به منذ يوم ولادته وحتى اليوم الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن، وكان عمره فيه خمسًا وخمسين عامًا، وهو يوم يشبه يوم بدر. ولنبدأ بعرض سريع مختصرللطريق الذي سلكه موسى وقومه أثناء خروجهم من مصر، خرجوا من العاصمة فى ذلك الوقت برعمسيس ومكانها الآن بالشرقية، واتجهوا للأسفل لعبور البحر الأحمر عند أضيق نقطة فيه وهى التي انشق عندها البحر، ويرجح الكثيرون أنها مكان خليج السويس الحالي، ثم مروا بسيناء واستمروا في الصعود لأعلى لدخول فلسطين فكتب الله سبحانه وتعالى عليهم ألا يدخلوها، وكُتبت لأمة محمد كما سيرد الحديث فيما بعد، وانطلقوا إلى المكان الذي عاش فيه بنو إسرائيل حتى وفاة موسى وأغلبه في دولة الأردن، لذا فهم لم يمكثوا بسيناء إلا فترات قليلة، مجرد عبور يريدون الذهاب للمنطقة التي بالأعلى في فلسطين، وقضوا فترة التيه في الأردن. وستجد أن حياتهم كلها ترحال وانتقال من مكان لآخر في فترة التيه حينما جبنوا ورفضوا دخول الأرض المقدسة، يذكرونني في كثرة التنقل بالإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل، فحياتهما كلها كانت ترحال.
خروج اضطرار وآخر اختيار:
لنبدأ القصة: أوحى الله سبحانه وتعالى إلى موسى كما يقول في كتابه العزيز " فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ" (الدخان:23) وكلمة أسر إشارة لسرعة التحرك قبل أن يعلم فرعون بخروجهم فيهاجمهم، فتحركوا من بيوتهم ليلًا مع موسى وعندما علم فرعون بخروجهم أخذ في تجميع الجنود، يقول سبحانه وتعالى: " فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ " (الشعراء:53) واستغرق ذلك عدة أيام وهذا من ترتيب الله عز وجل حتى يكون موسى وقومه قد قاربوا وصول البحر، فالله سبحانه وتعالى يريد أن تكون نهاية فرعون في البحر كما ذبح وأغرق الكثيرين من أطفال وأهل هذا البلد، فالجزاء من جنس العمل، أمهله الله كثيرًا، سنوات وسنوات، لكن من عظمة وقدرة الله أن الانتقام سيكون بنفس الطريقة. خرج بنو إسرائيل مع موسى وخرج هارون وخرجت أم موسى وأخته مريم ليلًا من السجن الكبير الذي احتجزهم فيه فرعون، خرج كل بنى إسرائيل حتى غير المؤمنين هربوا هروب المضطر فالعجز والذل اللذان تعودوا عليهما جعلهم يخشون البقاء وحدهم في مصر خوفًا من أن يعذبهم فرعون، فهربوا مع الهاربين المؤمنين. وفارق كبير بين خروج بني إسرائيل وهجرة الصحابة من مكة للمدينة، حقًا خروج بنى إسرائيل كان خروج مؤمنين كالصحابة، لكن بينهم كثيرين خرجوا خروج المضطرين وليس المختارين، بينما الصحابة خرجوا باختيارهم لله ولرسوله من أجل الرسالة والدعوة.
موقفنا الثابت مع الحق
وهكذا كان خروج بني إسرائيل من مصر، بعد أن دخلوها مع الهكسوس منذ أربعمائة عام في عهد يوسف وكان عددهم ستين، خرجوا منها ستمائة ألف في عهد الفرعون رمسيس الثاني. وهنا نقطة يجب الإشارة إليها، وهى أن الفارق كبير بين خروج بني اسرائيل عام ثلاثة آلاف قبل الميلاد، وبين ما حدث في القرن العشرين، فقد خرجوا مظلومين، وعادوا ظالمين، خرجوا بالحق، وعادوا بالباطل، خرجوا هروبًا من الاستضعاف، وعادوا ليستضعفوا الناس، خرجوا هروبًا من العنصرية، وعادوا بالعنصرية، فالفارق كبير بين اللقطتين، بين من ظُلم بالأمس، فعاد يظلم اليوم. ونحن موقفنا ثابت، وهو: نحن مع الحق، نحن مع من ظُلم بالأمس، لكننا ضد الظالم اليوم حتى يأخذ المظلوم حقه. ولننظر للأمور بميزان العدل فلاحظوا أن القلة المؤمنة مع موسى هى التي جرت القاطرة كلها بالناس المذلولين الهاربين لعدم وجود حل آخر، فلو لدينا أناس مؤمنين في كل زمان ومكان، وكلهم إيجابية وعقل وحكمة وحب للإيمان، فهؤلاء هم الذين سيجرون قاطرة الخاملين والسلبيين والصامتين، أين هم المؤمنون الذين يشدون القاطرة؟ ف موسى لم يكن باستطاعته إخراج ستمائة ألف عانوا هذا القدر من الذل بدون وجود مؤمنين أقوياء معه.
مع أي الفريقين كنت ستكون؟
خرج بنو إسرائيل ليلًا بمنتهى الحذر والهدوء يحملون معهم طعام بالكاد يكفيهم لحين عبورهم البحر ولم يكونوا يعلمون أنهم سيواجهون فرعون لكن كانوا متبعين لأوامر موسى وكان منهم مؤمنون مطيعون، واسأل نفسك لو أنت مكان بني إسرائيل ففي أي الفريقين ستكون؟ أفي الفريق الخارج فقط هربًا من الذل والهوان أم في الفريق المحب للحق الرافض للهوان؟ هل أنت من المؤمنين الرافعين رؤوسهم الأعزاء أم من التابعين لغيرهم أينما ذهب الناس فهو معهم، إن تحركوا تحرك، وإن سكنوا سكن، إن تكلموا تكلم، وإن سكتوا سكت؟ ويبدو أن القلة المؤمنة غالية حقًا عند الله، لأن لأجلهم تحقق نصر الله وأغرق فرعون. ولنتخيل معًا خروج بني إسرائيل هربًا شباب، وشيوخ، ونساء، وأطفال، خارجين في رهبة وقلق وخوف، يتوكل المؤمنون منهم على الله، لم يكونوا يعلمون أن فرعون قد خرج خلفهم، وحده موسى كان يعلم فقد أخبره ربه في قوله "فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ" (الدخان:23) وفرعون يحمس جنوده ضد بني إسرائيل يخبرهم بقلة عدد الهاربين ورغم ذلك يصرح بقلقه منهم في قول الله تعالى: " إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُون (الشعراء، 56:54). وتخيل بكم من الجنود تحرك فرعون بعد أن نادى في البلاد لتجميع الجنود، تخيل الفرسان، تخيل المركبات الهائلة، تخيل فرعون وهو يقود عربته الحربية وتخيل الغل والتحدى، اقترب هؤلاء وهؤلاء من البحر كلٌ في طريقه، والله يرتب ويختار الميعاد. "... وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ... " (الأنفال:42)، هذه الآيات قيلت في غزوة بدر، لكن هذا هو فعل الله تبارك وتعالى في كل زمان ومكان مع المؤمنين وضد الظالمين.
إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ:
واقترب الفريقان، تقول الآية: " فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ " (الشعراء:61 ) تراءى الجمعان تعني أنهم لم يسمعوا أصوات بعضهم البعض في البداية أو يستشعروا قرب أحد بل فجأة رأوا بعضهم البعض، تخيل هؤلاء عُزَّل من السلاح، معهم أطفالهم ونسائهم، سيبادون ويقتلون جميعًا، فقال أصحاب موسى "إِنَّا لَمُدْرَكُونَ " فليس أمامهم سوى البحر من جهة وفرعون وجنوده من الجهة الأخرى، فتخيل يأسهم في هذه اللحظة، وتخيل ضعفاء النفوس منهم وهم يلومون موسى وإلى ماذا أوصلهم، فيرد موسى بكلمة كلها استشعار لعظمة وقوة الله سبحانه وتعالى: " قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ " (الشعراء:62 ) كلمة وأنت تقرأها تحب جدًا موسى، قوي جدًا، عظيم جدًا، شجاع جدًا، وما هذه الثقة في الله، والتوكل على الله، ومدى شعوره بقوة ربنا، ما فرعون، وما الجنود، وما السيوف، وما الرماح، وما الفرسان، إن معي ربي، يقولها بمنتهى الثقة وهو لا يعلم كيف سينجو، ولا يعلم أن العصى ستشق البحر، فقط عرف أنها تتحول لأفعى بأمر الله، ولم يكن يعلم أنها ستلتقط حبال السحرة إلا عندما أخبره الله، أما ما يراه أمامه في هذه اللحظة فهو الواقع المادي الحقيقي أمام عينيه هو وبنى إسرائيل أن البحر أمامهم، وأن فرعون آخذ في الاقتراب منهم، وهو لا يعلم كيف النجاة، الشيء الوحيد الذي هو متأكد منه هو أن ربنا قوي، " إِنَّ مَعِيَ رَبِّي" أتستطيع أن تقولها بهذا الإحساس؟ أتستطيع أن تحيا بها مهما كانت الدنيا صعبة، وليس فقط مع من ظلمك، ولكن في حياتك كلها تكون مع الله لا تخشى شيئًا، وتحيا بإحساس "ربي لن يضيعني".
ثقة بقدرة وعظمة الله:
ويشرح القرآن كيف جاء نصر الله:" فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم"ِ (الشعراء:63 ). تخيل عظمة وقدرة الله في كلمة " فَانفَلَقَ "، والطود تعني الجبل، أى أن البحر انقسم فأصبح كوادي بين جبلين، من منا يتخيل أن يتحول بحر إلى وادي بين جبال في لحظة واحدة. " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون"ُ (يس:82) فأمر الله بين الكاف والنون، والبحر جندي من جنود الله، فلنعدد معًا جنود الله في قصة موسى منذ بدايتها وحتى هذه اللحظة:
· البحر جندي.
· النيل الذي حمل صندوق الرضيع موسى فحفظه جندي.
· المحبة التي قذفها الله في قلوب من يقابل موسى فمن لقيه يحبه جندي، يقول تعالى: " ... وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ... "(طه:39 ).
· تيار النيل الذي حمل صندوق موسى إلى بيت فرعون جندي.
· شفاه موسى التي لم تقبل المرضعات جندي.
· قاع البحر الذي سيسيرون عليه ومشيهم بين الشعب المرجانية.
كل هذا من جنود الله، فالله سبحانه وتعالى لم يفتح لهم البحر ليعبروا عليه تاركه بحالته المائية وإلا لخافوا العبور بين جنبيه، ولكنه برحمته بهم سبحانه حول البحر من ماء إلى جبل، فمن الملك؟ من العظيم؟ من مالك الملك؟ نحن لدينا فيما يخص ديننا أفكار نظرية، الله سبحانه وتعالى يحولها لنا إلى تطبيقات عملية، من هذه الأفكار النظرية معرفتك بأن الله قوي عزيز عظيم، لكن هذا المشهد العظيم الذي أنقذ الله به موسى يجعلك تردد: يا رب أنت الملك.
وانظر لتدرج موسى مع الشعور بعظمة الله، أول مرة رمى فيها عصاه جرى من شدة الخوف، وثاني مرة أوجس في نفسه خيفة، وفي ثالث مرة والتي هى أصعب المرات؛ فمن خلفه فرعون وجيشه، لم يخف بالمرة، بل كان كله ثقة بقدرة وعظمة الله " قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" (الشعراء:62 )، فالشعور بعظمة الله لا يأتي دفعة واحدة أو من أول موقف، ولكن تأتي بالحياة مع الله، تأتى بالترقي بالقرآن، والحياة بالقرآن لتفهم ما به من آيات نظرية وتطبيقها العملي، وإلى هذا تهدف حملتنا لنحيا بالقرآن.
وتخيلوا معي شعور بني إسرائيل لحظة العبور في وسط البحر، وتخيل ماذا كانوا يقولون في هذه اللحظات، أنا أعتقد أنها كلمة واحدة: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، أنا لو مكانهم لكنت رددت هذه الكلمة وحسب، وأبكي وأنا أرى هذه المعجزة، تخيل شق البحر، وتفريق الأسماك على الجانبين وتمهيد قاع البحر ليسيروا عليه، وتخيل فرعون وهو يرى هذا المشهد، كيف لا يؤمن، ألهذا الحد يمكن أن يصل الكبر والعناد؟ وجنوده كيف لم يؤمنوا؟ أيعقل أن تكون قلوبهم قد عميت لهذه الدرجة؟ أيعقل أن هناك أناس لا يشعرون بعظمة الله أبدًا؟ وأنت أيضًا، أيعقل أن قلبك سيظل قاس ٍ بعد سماعك لهذه القصة؟
غرق فرعون وجنوده:
أصر فرعون على العبور خلف موسى حينما رأى البحر ينشق، نظر إلى جنده وقال أرأيتم سحر موسى، وكأنه صدق كذبه، فكان كذبه سبب هلاكه، ويموت بنفس الطريقة التي كان يقتل بها الأطفال الرضع ويلقيهم في البحر، ففور عبور موسى وقومه أراد موسى إغلاق البحر خلفه حتى لا يتمكن فرعون من العبور ورائهم، فضرب البحر بعصاه فأوحى الله إليه أن يترك البحر كما هو: "وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُون"َ (الدخان:24 )، ف موسى فكرته أن يغلق البحر بعده حتى لا يعبر فرعون وجنده، بينما الله سبحانه وتعالى يريد أن تكون هذه هى نهاية فرعون وغرقه، أراد فرعون العبور خلف موسى فأغرقه الله، يقول الله تبارك وتعالى: " ... حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " (يونس:90 )، وانظر لشدة الموقف في كلمة" أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ" حتى أنه لم يستطع نطق لا إله إلا الله، بل قال الذي آمنت به بنو إسرائيل. ويرجح العلماء أن فرعون هو رمسيس الثانى الذي وجدوا يده في موميائه مرفوعة لأعلى لا تستقيم بجوار جسده، وتختلف في ذلك عن سائر المومياوات، ويعتقد البعض أن رفعه ليده هذا وكأنه كان يدفع شيئًا عنه أثناء مماته، انظروا رد القرآن عليه: " ...آلآنَ .. " (يونس:91 ) أتريد أن تؤمن الآن؟ ألم تأتك تسع آيات تحذيرية في السابق؟ مات فرعون غرقًا فقد فات الأوان، أدرك نفسك يا من عصيت، يا من ارتشيت، يا من كذبت، يا من أكلت مال حرام، يا من ظلمت، أدرك نفسك فباب التوبة مفتوح حتى لحظة الموت، ففي لحظة الغرغرة يغلق باب التوبة فلا تقبل، فأدرك نفسك الليلة بالتوبة للقوي العزيز، استشعر عظمته، وتخلص من ظلمك للآخرين، أو من مال حرام، أو من معصية كبيرة؛ فغضب الله شديد.
احذر إعانة الظالم على ظلمه:
ويطبق البحر على فرعون، لكن ليس وحده، بل بكل جنوده، وقد يتسائل أحد، وما ذنب جنوده؟ نردعليه بأن أعوان الظلمة ظلمة مثلهم. يقول تعالى: " فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ" (القصص:40 ) والسؤال: أكلهم ظالمون؟ ليسوا كلهم لكن ينطبق عليهم مايردده البعض دومًا: أنا عبد المأمور، أنا ليس فى يدي شىء، أنا فقط أنفذ ما أؤمر به، فلنتذكر أن أعوان الظلمة ظلمة. وفي هذا الأمر هناك قصة تخص سعيد بن الجبير، وكان من علماء المسلمين، أخذه الحجاج، وكلنا نعرف ظلمه، فسجنه وعذبه، وسجان ابن الجبير كان رجل لديه قليل من الإيمان، ويؤدي الصلوات، ورغم ذلك يعذب ابن الجبير، فسأله يومًا: "يا إمام، هل تراني من أعوان الظلمة؟" فقال له ابن الجبير: "لا، أعوان الظلمة من يغسلون لهم ملابسهم، ويحضرون لهمم طعامهم، وهكذا" ، فسأله السجان: " هؤلاء أعوان الظلمة، فمن أنا" فرد عليه ابن الجبير: " أنت من الظلمة أنفسهم". لذا احذر أن تكون ممن يعين الظالمين دون أن تدري.
يوم حاسم في قضية الدعوة:
مات فرعون، لكن هناك آية خطيرة للغاية تقول: " فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ "(يونس:92 ) أي أن الله سبحانه وتعالى جعل جثته بعد موته تطفو على البحر ولا تغرق، وذلك حتى لا يعتقد أحد أنه إله كما نسب إلى نفسه أنه كذلك، فقد كان يقول: أنا ربكم الأعلى، فحتى لا يظن أحد من ضعاف الإيمان من بني إسرائيل أو من غيرهم أنه ذهب في موكب إلهي، تطفو جثته، ويراها الجميع جثة بشر، وتؤخذ وتحنط كما كان يفعل المصريون، وتظل في المتاحف ليرى الجميع من تجرأ على القوي العزيز وقال أنا ربكم الأعلى، وينظروا ماذا حدث له. وبهذا تنتهي المرحلة الثالثة في قصة حياة موسى التي هى أربع مراحل، مرحلتان إعداد، ومرحلتان تنفيذ، وعمره هنا حوالي خمس وخمسون عامًا، أي تقريبًا نفس عمر النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، واليومان كانوا حاسمين في قضية الدعوة لكل منهما. وبنهاية هذه المرحلة، ترى ما الذي نجح فيه موسى حتى الآن؟ نجح في المهمة الأولى التي كلفه الله بها وهى إنقاذ بني اسرائيل معه وإخراجهم من مصر، كما جاء في القرآن الكريم: "... فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ" (الأعراف:105) فبعد خمس وخمسين سنة جهاد حقق هدفه، من منا يحقق هدفه لله في هذه الدنيا؟ خرج موسى بقومه وفور عبورهم البحر وجدوا قومًا يعبدون أصنامًا لهم فقال البعض منهم ل موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، يا لتعبك يا موسى ويا لعنائك مع بني إسرائيل، ما زال الكفاح معهم مستمرًا.
تبقى في هذه الجزئية نقطتان هامتان:
· النقطة الأولى: لماذا يصوم المسلمون يوم عاشوراء؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ذلك يوم نجى الله فيه موسى"، وأمرنا أن نصوم هذا اليوم صيام تطوع، كتقدير واستشعار لقوة وعظمة ربنا كل عام، فنتذكر أنه في هذا اليوم أحدث الله هذه المعجزة العظيمة، والسبب الآخر هو انتماء وحب ل موسى، يقول محمد: " نحن أولى بموسى منهم".
· النقطة الثانية: نريد مقارنة فرعون قبل وبعد، في صور الفراعنة، نجد صورة فرعون في عنفوانه وقوته، صورته في معركة قادش منتهى العزة والقوة، وفي المقابل نجد صورته بعد وفاته صورة ممياء يقول الدكتور موريس بوكاى الذي حلل هذه المومياء، إنها لشخص مات غرقًا وتم انتشاله من الماء فور غرقه، فأخبروه أن هناك آية في القرآن تقول: "... فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً... "(يونس:92 ) فتعجب جدًا واندهش كيف عرف محمد نبي المسلمين هذا رغم حداثة الطريقة المستخدمة لمعرفة سبب وفاة صاحب المومياء ولقد أسلم الدكتور موريس عام 1982.
فرعون يوم القيامة:
نختم حديثنا بالآيات التي تتحدث عن فرعون يوم القيامة: "فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّار، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ، قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ" (غافر50:45) تخيل عندما يعلم فرعون أن قرآنًا ذكر فيه، وأن قصته تعلمها الملايين، وحينما يأتي يوم القيامة يشير الناس إليه، هذا هو فرعون، هذا هو الظالم، فإياك والظلم، إياك والظلم، وتشير الآية بالضعفاء إلى جنود فرعون وكل من يعتذر أنه عبد المأمور، أو من لم يكن بيده شىء، وتتحدث الآيات عن نصر الله ليس لرسله فقط بل لكل المؤمنين، نسمع القرآن فكأنه يتحدث لكل منا، في قوله تعالى: " إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (غافر53:51) وتختتم الآيات بحديث النبى صلى الله عليه وسلم فعلاقة قصة موسى بالنبى قوية جدًا، يقول تعالى: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَار" (غافر:55) يأمرنا الله باستشعار قوته وعظمته، وبالاستغفار من أخطائنا.
( الحلقة الخامسة عشر )
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مقدمة:
ها قد وصلنا لنصف رمضان، فقد مرت الأيام سريعًا وصدق الله العظيم إذ يقول ((أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ...)) (البقرة: ١٨٤) وسرعان ما ينتهي الشهر الكريم. تُرى ماذا فعلت فيما مضى من رمضان؟ وماذا سيكتب لك فيما تبقى؟ أما زلت محتفظا بنية كبيرة وتتمنى أن ينتهي رمضان وقد أعتقت رقبتك من النار وغفر لك ما تقدم؟ يا من قصرت في النصف الأول من الشهر مازالت الفرصة كبيرة في النصف الثاني، ويا من بذلت كل جهدك في النصف الأول تيقن أن العبرة بالخواتيم وبنهاية رمضان وبليلة القدر وآخر أيام رمضان. فتح الله علينا ويجعل من رمضان هذا العام نقلة في حياتنا. من يدري؟ فقد يسمعنا الآن شخص بدأ قلبه يتحرك ليأخذ نية ويتوب إلى الله ويفتح صفحة جديدة مع الله قد يغير رمضان مسار حياته إلى رضا ورحمة ومغفرة وجنة وعتق. فابقَ مع الله وابذل جهدك في الأيام الباقية.
رمضان شهر القرآن:
النقطة الثانية التي أود أن أتطرق إليها هي القرآن في رمضان. كم ختمة للقرآن انتهيت منها حتى الآن؟ فالنبي يقول: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة) هل تريد أن يشفع لك القرآن يوم القيامة؟ هل تتمنى أن تأتي سورة البقرة وسورة آل عمران يوم القيامة وتظللان عليك في حر يوم القيامة وتدافعان عنك؟ فقد سأل عبد الله بن عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم: "في كم أختم القرآن؟ فقال له النبي: "اختمه في شهر" فقال: "يا رسول الله إني شاب أطيق أكثر من ذلك" فقال: "اختمه في عشرين" فقال له: "يا رسول الله إني شاب وأطيق أكثر من ذلك" فقال له الرسول: "اختمه في خمسة عشر" قال: "يا رسول الله والله أطيق أكثر من ذلك" قال: "اختمه في عشر" فقال: "يا رسول الله إني شاب ذو طاقة" فقال له النبي: "اختمه في ثلاثة أيام ولا أقل من ذلك". لماذا لا تَغيرون من عبد الله بن عمر؟ هل هناك من ختم أو من شارفعلى الانتهاء من ختم القرآن؟ فالعبادة منازل وجبال من الحسنات وكلُّ حسب اختياره.
كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقضي يومها كله في قراءة القرآن في رمضان، ثم في التراويح وقيام الليل، فسألوها أليس ذلك بالكثير؟ فقالت: "وهل رمضان إلا للقرآن؟" كان النبي يسميه شهر القرآن. ولذلك قمنا بتنظيم حملة "سنحيا بالقرآن" هدفها الوصول إلى عشرة ملايين ختمة في رمضان هذا العام. لكن ما الهدف من التسجيل ما دمت قد أخذت ثوابها؟ حتى نقوي بعضنا البعض ونفرح ونقول لله سبحانه وتعالى: يا رب قد جئناك هذا العام في رمضان ۲۰۰۹ ومعنا عشرة ملايين ختمة حفظنا فيها وتقربنا بها إليك وأحببنا فيها القرآن ورفعنا فيها شعار سنحيا بالقرآن.
الشوق إلى الله:
محور حديثنا اليوم إيماني ورقيق جدَّا وهو الشوق إلى الله. هل تشتاق إلى الله؟ هل تشتاق إلى رضاه؟ هل تحن إلى الليل فتقوم وتصلي بين يديه؟ فتلك منزلة رفيعة. العبادة منازل: فهناك من يتجنب المحرمات وهذه منزلة، وهناك من يتقي الله، وهناك منزلة اسمها الشوق إلى الله. هل مررت بتجربة شوق لأحد ووصلت إلى درجة أنك لا تستطيع أن تتحكم في مشاعرك؟ فقد وصل موسى إلى هذه المنزلة. انظر إلي موسى تجده عظيما في كل شيء: في قيادته لأمته وفي شجاعته أمام فرعون وقيادته لبني إسرائيل، كذلك في عبادته تراه عابدا خاشعًا متوكلا على الله، فهو نبي عظيم وهو من أولي العزم من الرسل وكليم الله وهي منزلة اختص بها الله سبحانه وتعالى موسى، ولم يقترب من هذه المنزلة أو يرتقي إليها إلا الرسول صلى الله عليه وسلم في المعراج.
اليوم موسى يشتاق إلى الله. أريد أن أسألك هل يأتي عليك لحظات تشتاق فيها لقراءة القرآن ولختمه؟ انظر إلي عبد الله بن حذافة قبل قتله على يد ملك الروم بكى فظن الملك أنه تراجع وخاف فأتى به فقال له عبد الله بن حذافة: " يا ليت عندي بعدد شعر جسدي أنفس تخرج الواحدة تلو الأخرى حبا لله وفي سبيل الله". من الممكن أن يكون هذا الكلام نظريا أو إنشائيا لو أن الذي قاله ليس مشرفًا على الموت، لكن من يقول هذا الكلام في لحظات الموت يكون شاعرًا به ومؤمنًا به. لا أطلب منك أن تكون مثله فهو صحابي لكن أين نحن؟!
استشهد عبد الله بن حرام في غزوة أحد فبكى ابنه جابر بن عبد الله فقال له النبي: "أتبكي يا جابر؟ يا جابر ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحًا. فقال له: "يا عبدي تمنى علي" فقال: "يا رب أتمنى أن أعود إلى الدنيا فأقتل مرة أخرى في سبيلك لِما وجدت من حلاوة الشهادة والقرب منك" فقال الله: "إني كتبت عليهم أنهم إليها لا يرجعون فتمنى أمنية أخرى يا عبدي" فقال: "يا رب بلغ عني أهل الأرض ما أنا فيه من السعادة". أرأيت الشوق إلى الله؟ الآن وأنت في نصف رمضان هل أنت مشتاق لله؟ متى آخر مرة بكيت من خشية الله، وحبًا له، وشكرًا على نعمه وليس لأجل مشكلة عندك؟ هل تحن للقرآن أو للعمرة أو للقيام؟ تلك منزلة قلبية عالية فهنيئًا لمن مر بها، ومسكين يا من غرق في المادية الطاغية ولم يتذوقها.
الميقات:
وعد الله موسى بالذهاب إلى ميقاته، الميقات أي لقاء الله، ومتى كانت آخر مرة؟ كانت قبل ذلك بخمس عشرة سنة في جبل الطور. اليوم وبعد هذه المدة وبعد غرق فرعون ونصر موسى وتحقق وعد الله لموسى دعاه مرة أخرى للقائه في المكان نفسه، انظر إلى الآية: ((وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً... )) (الأعراف: ١٤۲) فقال الله سبحانه وتعالى لموسى لو صمت لي وعبدتني حق العبادة ثلاثين ليلة سأعطيك مكافأة وقربا، وسأعطيك التوراة، كتابي نورا وهدى وسأقربك مني قربًا شديدًا. فصام موسى الثلاثين ليلة وبعدما أتمها حيث أمره الله أن يتممها بعشر ليزيد قوة وإيمانًا ليستعد للقاء الله.
وماذا عن بقية بني إسرائيل؟ فلقد استخلف موسى هارون على بني إسرائيل لأنه ذاهب للقاء الله وحده لمدة ثلاثين ليلة وليبقى هو مع بني إسرائيل ولا يتركهم. انظر إلى حظ أمة محمد، فالميقات كان لموسى وحده وحرمت بني إسرائيل منه، فقد منّ الله سبحانه وتعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بشهر رمضان، ثلاثين ليلة عبادةً وصومًا ليهيئكم لتكن لكم منزلة كبيرة (من صام رمضان غفر له ما تقدم من ذنبه) و(إن الجنة لتتزين من السنة إلى السنة لشهر رمضان) انظر إلى جوائز رمضان وتيقن كيف نحن (غاليين) على الله! يقول لنا النبي: (من أتبع رمضان بست من شوال كمن صام الدهر) و موسى صام ثلاثين ليلة وأتبعهم بعشر. انظر كيف أن أمة محمد هي خير أمة أخرجت للناس!
يذهب موسى للقاء ربه عند جبل الطور، وكان اللقاء في الليل، لقاء طويل وجميل يسأل فيه موسى الله ويستفيض، والله يجيب ويمن عليه ويعطيه التوراة كما طلب موسى النظر إلى الله.
كلمة ميقات تعني موعد محدد دقيق يلتقي فيه كليم الله بالله سبحانه وتعالى ويتلقى التوراة. وكلمة توراة جاءت من " الطور" حيث تلقاها فسميت نسبة إلى المكان، فكانت المكافأة والهبة أن زاده الله تشريفًا وتكريمًا فأعطاه الكتاب. فماذا ينال من يصوم الثلاثين يومًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ عاد موسى للمكان نفسه، لجبل الطور الذي كلف فيه بالرسالة منذ خمس عشرة سنة، لماذا؟ حتى نعلم أن وعد الله حق وأن الله لا يخلف الميعاد ألم يقل له: ((اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)) (طه: ۲٤) و ((قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ)) (الشعراء: ١۲) و ((قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)) (طه: ٤٦) وقال ))وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ(() القصص:۳٥( في جبل الطور منذ خمسة عشر عامًا، فكان لابد بعد الانتصار وبعدما عبر البحر وشاهد معجزة الله وكيف نجاه ونصره؟! من الممكن أن يكلفك الله بعمل فتدور الأيام، ويذكرك بوقفته معك في مكان وقف فيه معك قبل ذلك. هذا ما حدث مع موسى، ذهب إلى ميقات ربه كما تذهب أمة محمد إلى ربها كل عام في رمضان لتعبده وتتقرب إليه، وبينما هو ذاهب إلى الميقات يقول له ربه: ((وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه: ٨۳-٨٤) أي أنه كان متعجلاً من الشوق إلى الله.
أسئلة سألها موسى لله:
ولقد سأل موسى الله أسئلة ذكرها النبي وأخرى ذكرها اليهود الذين أسلموا في المدينة مثل عبد الله بن سلام. على الرغم من أنها آثار إلا أني سوف أذكرها لأنها مؤيدة لسيرة النبي وذكرها النبي بأحاديث مماثلة، هيا نعيش مع هذه المعاني الرقيقة: فالحوار مع الله سبحانه وتعالى خاصية أعطاها الله لموسى عليه السلام في الدنيا، وستكون لنا إن شاء الله في الآخرة، في الجنة، حيث نسأل الله كيفما نشاء ونقول له أعطنا كذا ونتمنى كذا.
قال موسى: "يا رب من أدنى أهل الجنة منزلة؟" فقال: "ذلك آخر رجل يخرج من النار حبوًا يريد أن يدخل الجنة، كلما أراد أن يخرج منها أُعيد فيها حتى يخرج منها ويقول الحمد لله الذي نجاني منكِ" فيقول الله تبارك وتعالى:" اذهب فادخل الجنة"، فيذهب فينظر فيخيل إليه أنها ملأى فيقول: "يارب وجدتها ملأى" فيقول له الله: "أما ترضى أن يكون لك مثل مُلك أعظم ملك من ملوك الدنيا" فيقول الرجل: "يا رب أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟" فيقول له الله تبارك وتعالى: "لك مثل مُلك أعظم ملك من ملوك الدنيا ومثله ومثله ومثله ومثله ومثله" فيقول العبد: "رضيت يا رب" فيقول له الله تبارك وتعالى: "لك مثل مُلك أعظم ملك من ملوك الدنيا وعشرة أمثاله ولك فيها ما اشتهت نفسك وتمنت عينك وأنت فيها خالد".هذا أدنى شخص منزلة، فقال موسى: "يا رب أذلك أدناه منزلة؟" فقال الله: "نعم يا موسى" قال: "فمن أعلاهم منزلة؟" فقال له الله: "أولئك الذين أردت زرعت كرامتهم بيدي فلا تدري عين ولا تسمع أذن ولا يخطر على قلب بشر ماذا أريد أن أعطيهم" ومعنى كرامتهم أي سعادتهم.
قال موسى لله: "يا رب كيف لا تأخذك سِنة ولا نوم؟" فقال له الله: "يا موسى ابق الليلة وأنت تمسك بزجاجتين في يدك فبقى موسى وهو ممسك بالزجاجتين فغفل فنام فسقطت منه الزجاجتين فانكسرتا. فأوحى الله إليه: "يا موسى لو تأخذني سِنة أو نوم لسقطت السماء على الأرض". فقال موسى وهو يشعر بالحياء من الله وأن الله عظيم يستحق الشكر على هذه النعمة ألا تنطبق السموات على الأرض: "كيف أشكرك وشكري لك نعمة تستحق الشكر؟"، فهذا من توفيقك لي أنك أعنتني على الشكر، فأوحى الله إليه: "يا موسى إذا عرفت ذلك فقد شكرتني". ما هذا اللقاء والميقات الذي حدثنا عنه الله في القرآن! و الله يا قائمين ويا صائمين لو صمتم بحق ستتذوقون حلاوة القرب من الله مثل موسى. حاول بعد هذه الحلقة أن تدخل إلى غرفتك وتناجي الله.. قل له يا رب ليس لي سواك، قربني منك، سامحني واعف عني، حتى وإن كنت مليئا بالذنوب وهذا.
قيمة "لا إله إلا الله":
تطرق موسى لموضوع آخر، فقال له: يا رب دلني على كلمة أو دعاء أو ذكر أذكرك به كثيرًا، فقال له الله: "يا موسى أكثر من قول لا إله إلا الله" ، فقال له موسى: "يا رب كل عبادك يذكرونك بلا إله إلا الله، خصني بذكر أذكرك به لك وحدك"، فقال له الله: "يا موسى لو أن السموات السبع والأراضين السبع وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت كفة لا إله إلا الله".
من الملاحظ أن كل قصة لها مع رسول الله حديث أو دعاء أو ذكر مماثل؛ فقد روى النبي قصة الرجل الذي جاء يوم القيامة فقال الله للملائكة: "ابسطوا له سيئاته" فبسطت له سيئاته فإذا هي تسعة وتسعون سجلا من السيئات مدها مد البصر، فوضعت في الميزان فرجحت، فظن أنه هالك، فقال له الله: "هل بقي لك شيئا؟" فقال :"لا يا رب" فقال له الله: "أظلمتك الملائكة؟" قال: "لا يا رب" قال الله: "ألك عذر؟" قال: "لا يا رب" قال الله: "بلى يا عبدي بقي لك شيء" قال: "وما هو يا رب" قال الله: "لك عندي بطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله" فقال: "يا رب وماذا تفعل البطاقة؟!" فقال الله: "إني لا يظلم عندي أحد، يا ملائكتي ضعوا البطاقة في كفة الحسنات"، فوضعت في كافة الحسنات فطاشت السجلات فقال النبي: "و لا يثقل مع اسم الله شيء". يجب أن نقول لا إله إلا الله بحق، فلا يجب أن يُعبد مثله ولا أن نخضع لغيره، ولا نذل لأحد إلا الله.
كرم الله ورحمته:
من ضمن الأشياء التي سأل عنها موسي قال: "يا رب إن هناك رجلين من بني إسرائيل أحدهما صالح والآخر عاصٍ، وقبل أن آتي إلى الميقات وجدت الاثنين يدعونك قائلين: يا رب، فماذا فعلت بهما يا رب؟" فقال له الله تبارك وتعالى: "قلت للصالح لبيك عبدي، وقلت للعاصي لبيك عبدي.. لبيك عبدي.. لبيك عبدي" فقال موسى: "أتقول للصالح ذلك وتقول للعاصي ذلك؟". فقال له الله: "يا موسى أما الصالح عندما قال يا رب فكان يعتمد على عمله، وأما العاصي حين قال يا رب فكان يعتمد على رحمتي". يا عصاة، يا من ملئتكم الذنوب، لو ذهبتم إلى الله وعرفتم أنه سيرحمكم سيقول لكم لبيك عبدي.. لبيك عبدي.. لبيك عبدي.
مازلنا مع لقاء موسى مع ربه، ونحن نقتطف من ثمار هذا اللقاء: قال الله : "يا موسى إن من عبادي من أدخلهم جنتي وأخيرهم فيها بين قصورها وثمارها وأنهارها ما شاءوا" فقال له موسى: "من هؤلاء يا رب؟" فقال الله: "من يدخل السرور على المؤمنين وعلى أهل بيت من المسلمين" ما أحلى أن تدور على بيت فقير أو أسرة فقيرة فتقيم لهم مشروعًا تساعدهم به فيعود الأولاد إلى المدارس مرة أخرى! هيا نبدأ بها اليوم.
الحب في الله:
وأوحى الله إلى موسى: "هل عملت لي عملا قط؟" فقال موسى: "يا رب صليت لك وذكرتك وقمت بين يديك وصمت لك"، فقال له الله: " يا موسى أما الصلاة فلك نور، وأما الصدقة فلك برهان ولكن هل عملت لي عملا قط؟" فقال موسى: "وما العمل؟" فقال له الله: "هل أحببت فيّ أحدًا قط؟ هل واليت لي وليًّا قط؟" فعلم موسى أن أعلى درجات القرب من الله أن تحب في الله وأن تآخي في الله.
التذلل إلى الله:
قال له الله: "يا موسى أتدري لماذا اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي؟" فقال: "لما يا رب؟" فقال الله تبارك وتعالى: "يا موسى إني قلبت قلوب عبادي ظهرًا وبطنًا في زمانك فلم أجد قلبًا أذل لي من قلبك يا موسى، فأردت أن أرفعك على عبادي". كل هذه الآثار تعرض لك أفكارًا للدخول إلى الله، كالأخوة في الله، أو الإكثار من قول لا إله إلا الله، حتى تختار بابًا يكون طريقك إلى الله. أحد هذه الأبواب هو التذلل لله؛ فمن تواضع لله رفعه. كلنا نعبد في رمضان، لكن من يقرب؟ من الذي يتذلل إلى الله ويسجد ويضع رأسه على الأرض ويقول له أنا فقير إليك. أحد العلماء يقول: "طرقت الأبواب إلى الله فوجدتها ملئى، فطرقت باب الذل فوجدته فارغًا وقلت هلموا هذا هو الباب".
أمنيات موسى:
تمنى موسى في هذا اللقاء الجميل وبعد هذه الأسئلة، وبعدما أوحى الله إليه ما أوحى أمنيتين: الأولى عندما قال: "يا رب إني قد وجدت في الألواح مكتوبًا أن لك أمة من الأمم الحسنة عندهم إذا هموا بها فلم يعملوها كتبت لهم حسنة فإذا عملوها كتبت لهم عشرة فاجعلها أمتي" فقال له الله: "يا موسى هذه أمة محمد" فقال: "يا رب إني قد وجدت في الألواح مكتوبًا أن أمة تأتي يوم القيامة يكونون هم الشافعون المشفعون فاجعلهم أمتي" فقال له الله: "يا موسى هذه أمة محمد" فقال: "إني قد وجدت في الألواح مكتوبًا أن هناك أمة هي خير أمة أُخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلها أمتي" فقال له الله: "يا موسى هذه أمة محمد" فقال: "إني قد وجدت في الألواح مكتوبًا أن هناك قومًا هم أكثر أهل الجنة فاجعلها أمتي" فقال له الله: "يا موسى هذه أمة محمد". أمة محمد غالية على الله، لماذا رخصنا أنفسنا؟ لماذا عصينا ونسينا وبعدنا؟ تستطيع اليوم أن تصلي ركعتين في لقاء مع الله وتصلي التراويح وتقرأ القرآن وتسمع كلام الله إليك وتذكر الله فيذكرك هذا هو الهدف من هذه الحلقة المليئة بالروحانيات.
في النهاية طمع موسى في شيء ((...قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ...)) (الأعراف: ١٤۳)انظر لأي درجة ملأ الشوق قلبه. فقال له الله: ((...قالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا...)) (الأعراف: ١٤۳)ولماذا الجبل؟ لأن الجبل قوي وضخم فإذا تجلى الله على الجبل جعله دكا فما بال الإنسان. ثم انظر إلى كلمة " دكا " أي سواه بالأرض ولذلك خر موسى صعقًا على الأرض. تأمل في كلمة تجلى واسم الله الجليل ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)) (الرحمن: ۲٧) تستشعر هذا الاسم عندما تقف أمام منظر طبيعي جميل فتعجب به حتى إنك لا تستطيع أن تتركه، أتذكرون أول مرة رأيت فيها الكعبة؟ والهيبة التي شعرت بها؟ هذا في الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة فما بالك في الجنة ورؤية الله؟
خاتمة:
لقد أكرمني الله أن دخلت الكعبة من الداخل يوم غسلها فلم أستطع أن أدعو من الهيبة والجلال لبيت الله فما بالك برؤية الله عز وجل. لذلك يعلمنا النبي فيقول: " لا تفضلوني على موسى، فإن الناسَ يُصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق،فأجد موسى باطِشًا بساقِ العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى اللـه؟" أي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري أفاق قبله أم جوزي بثواب صعقة يوم الميقات. ما أعظم عدل الله! وما أجمل تواضع محمد صلى الله عليه وسلم! ((...فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ...)) (الأعراف: ١٤۳).
( الحلقة السادسة عشر )
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيمة قراءة القرآن الحقيقية:
أحب أن أذكركم بشعارنا هذا العام في رمضان: "سنحيا بالقرآن"؛ فمن المهم أن ندرك جميعًا أننا لا نقرأ القرآن لنتزود إيمانيًا أو لنأخذ حسنات فقط، فإلى جانب ذلك نحن نقرأ القرآن لسبب غاية في الأهمية؛ فالقرآن منظومة قيم لإصلاح أخلاق الإنسان وقيمه ونظرته للحياة، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24) يؤكد أن القرآن يحينا لأنه منظومة قيم وأخلاق. فنحن نتعبد بقراءة القرآن – في رمضان وفي غير رمضان-، ولكن يجب ألا تتوقف قراءة القرآن عند التلاوة فقط، ولذلك فقد قررنا في هذا الجزء من قصص القرآن أن نستخلص قيمة من القيم في كل حلقة؛ لأن هذه القيم هي رسالة القرآن في الأصل. إذا نظرنا للقرآن بمعناه الشامل الكامل الحقيقي، فإننا سنستخلص كل قيمة من هذه القيم وندرك أن الله أنزل هذه القصة في سورة طه ليصحح هذه القيمة في كلٍّ منا، وهكذا نستطيع أن نفهم الإسلام بمعناه الصحيح الكامل.
اسم الله العزيز:
من أسماء الله الحسنى "العزيز"، فاسم الله "العزيز" وهو ذو علاقة وثيقة بحلقة اليوم، فما معنى اسم الله "العزيز"؟ "العزيز" هو الذي يأبى الذل لعباده، فيأبى أن ينكسر عبده لأي إنسان أو شهوة أو معصية أو مال...إلخ، فهل تعد نفسك عبدًا للعزيز؟ هل أنت مكسور ذليل أمام شهوة أو إنسان أو معصية أو شيطان أو حتى أمام نفسك؟ أم أنك عزيز مرفوع الرأس لأنك عبد لله العزيز؟
لقد ترك بنو إسرائيل مصر مع موسى عليه السلام، وشهدوا معجزة انشقاق البحر غير أن الذل قد ملأ قلوبهم حيث شوه الذل نفوسهم. إن الذل يقضي على النفوس ويشوهها بعمق ويترك أثرًا أشد وأسوأ من تشويه مادة كاوية لوجه إنسان، فلك أن تتخيل!
فلو أُسر أسد متقدم في السن ليوضع في حديقة للحيوان سيأبى أن يأكل لأنه حرّ فيفضل الموت على أن يبقى أسيرًا في قفص، فإن أرادوا أن يعتاد الأسد على حياة الأسر، يجب أن يكون شبلا صغيرًا ليعتاد على تلك الحياة؛ لذا فاحذر لأنك من الوارد أن تكون ذليلا لنفسك أو للشيطان، فالشيطان يقول لله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:62)، فما معنى "أحتنكن"؟ أصل هذه الكلمة يأتي من كلمة "الحنك"، أي الفم، فمعناها نية الشيطان في أن يسوق الإنسان كالبهائم. فقيمة اليوم هي ألا تذل نفسك لأحد أبدًا، فإن أردنا أن "نحيا بالقرآن" وأن نصل إلى العشرة ملايين خاتمة للقرآن، فيجب أن نطبق ما فيه من قيم وهذا هو الهدف من أن "نحيا بالقرآن".
وصية موسى لأخيه هارون في غيابه:
ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه، ووصى هارون أن يخلفه في قومه، يقول الله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: 142)، فوصية موسى عليه السلام ل هارون كانت لمعرفة منه أنه لا يستطيع أن يترك قومه بمفردهم، ف موسى عليه السلام يعلم أنه لو تركهم لأنفسهم فسيرجع ليلقى مشكلات وخيمة وكوارث، وقد أمره أن يصلح بينهم كي لا تصل الأمور بينهم لأي خلافات. ورغم علم موسى عليه السلام بوجود مفسدين بين قومه فإنه تاركهم. فسكوت موسى عليه السلام على المفسدين بين قومه كسكوت محمد صلى الله عليه وسلم على وجود المنافقين في المدينة، فإن هذا هو أسلوب القادة العظام للتعامل مع الفتن الداخلية بصبر وحكمة حتى القضاء عليها حتى تموت مع الزمن غير أن هذا ليس في مقدرة جميع الزعماء، فمن الزعماء من يسارع إلى القضاء على المفسدين، وهذا ليس بأسلوب العقلاء الحكماء.
إذًا فلقد ذهب موسى عليه السلام للقاء ربه ثلاثين يومًا كما قال لقومه، ولكن الله أمره أن يمد فترة الاستعداد للقاء الله عشرة أيام أُخر فغاب أربعين يوما.
أثر الذل في نفوس بني إسرائيل:
لم ترسخ فكرة الإيمان في نفوس بني إسرائيل بعد، فلقد شوه الذل كيانهم حيث إن أيّ غياب ل موسى عليه السلام يحدث انهيارًا وسقوطًا لبني إسرائيل، ثمة سؤال يطرح نفسه: هل يُفتن أو ينهار بنو إسرائيل رغم وجود هارون عليه السلام؟ فلا يزال لدى بني إسرائيل مشكلة عظيمة فمن يسيطر عليهم هو موسى عليه السلام؛ فهو من شق البحر بعصاه، وهو الذي واجه فرعون، ولذا يأتي بعده هارون كقائد ثانٍ، فهم لا يقبلون إلا القائد الأول، ورغم حبهم ل هارون لكنهم لا يطيعون إلا موسى، هذا لعدم صلابة إيمانهم وعدم رسوخ فكرة الإيمان في نفوسهم، صحيح أن منهم المؤمنون كما أن منهم أيضًا من لم يرسخ إيمانه بعد. ويبدو أنهم كانوا متأثرين بالمصريين في ذلك الوقت، حيث كانوا يعبدون العجل (أبيس) والذل هو سبب هذا التأثر، فهم يرون أن المصريين وفرعون أفضل منهم، رغم أنهم من المؤمنين الموحدين غير أن الذل قد شوه عقولهم وأنفسهم.
السامري وموهبته المكبوتة:
ومع تأخر موسى عليه السلام في العودة انبثقت بين بني إسرائيل فتنة شديدة، وهي فتنة السامري؛ السامري ليس من المصريين ولا من بني إسرائيل إنه من الأقليات التي كانت في مصر وهو من سامراء بالعراق، وكان شابًّا عندما ظهر موسى عليه السلام في ذلك الوقت الذي كان فيه فرعون في كامل جاهه، وهو محارب بارع وموهوب لكنه كان من أحد المستضعفين في عهد فرعون {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:4)، ورغم موهبته وإمكاناته لم تكن أمامه فرصة للتقدم لأنه من طائفة أخرى غير المصريين، لذا فقد كان من المنبوذين المضطهدين، وظلت موهبته مكبوتة وعنده شعور بالإهانة ونما بداخله تشوهات نفسية.
لدى عالمنا العربي الكثير من الشباب الموهوب ذي الطاقة غير أن المحسوبية تحول بينه وبين أن يعلو شأنه، فتذل نفسه وتتكون عنده طاقة للتدمير، وهذا ليس مقبولا كفعل، لكن المجتمع له يد فيما فعل أيضًا، كثيرون هم من أمثال السامري في العالم العربي! فقصة موسى عليه السلام لا تنطبق لعام ۲۰۰۹ق.م ولكنها تنطبق أيضًا على حاضرنا اليوم في عام ۲۰۰۹ميلادية. عندما وجد السامري موسى عليه السلام وأتباعه انضم إليهم على الفور بغير إيمان منه.
خطة السامري:
وبعد انتهاء الثلاثين يوما بدأ بنو إسرائيل في السؤال عن موسى عليه السلام وسبب تأخره، وفي هذه الأثناء بدأ السامري في تكوين فكرة للانتقام بدلا من أن ينتقم من فرعون الذي ظلمه في الأصل، فسينتقم من بني إسرائيل الذين ظلموا كما ظُلِم، وهكذا تكون الطاقة المدمرة عندما تكبت طاقات الموهوبين والمبدعين في بلادنا، فالانتقام يكون من المجتمع ككل الذي قد يكون فيه من المظلومين أيضًا، وهكذا أصر السامري على أن يرى بنو إسرائيل موهبته وأن يثبت لهم عبقريته، وهنا قرر السامري أن يبدأ مع بني إسرائيل بمدخل التدين، لما تبقى في بني إسرائيل من دين ومتدينين، إلى جانب من فيهم ممن لم يرسخ إيمانه بعد، ففي هذا يقول تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف:159).
حُلي نساء مصر:
قبل أن يخرج بنو إسرائيل من مصر كان لديهم عيد؛ لذا فقد استعارت نساؤهم حليًّا من نساء المصريين، وعندما جاء الأمر من موسى عليه السلام بالخروج من مصر {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} (الدخان: 23) أخذ النساء الحلي معهم حيث ولم يعيدوا هذا الحلي لذا أقنعهم السامري بأن موسى عليه السلام لن يعود إلا إذا تخلصوا من تلك الحلي بإلقائه في البحر حيث إنه ليس ملكًا لهم ومن ثم يعتبر مالا حراما فرموه، وهكذا دخل إليهم من باب التدين، لما تبقى فيهم من إيمان، لكن ما قيمة التدين في إنسان ذليل؟ {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} (طه: 87).
السامري ينفذ خطته:
أخذ السامري هذا الحلي، ليس بغرض السرقة لكن ليصنع منه عجلا من ذهب ليري بنو إسرائيل براعته، فصنع عجلا من الذهب يشبه العجل (أبيس)، العجل الذي عبده المصريون القدماء؛ لأنه يعلم أن بداخلهم فتنة العجل (أبيس). كان تصميم هذا العجل كتصميم العجل (أبيس) الذي يوجد في معابد قدماء المصريين. لذا سيأمرهم موسى عليه السلام بعد ذلك، كما ذكر في سورة البقرة بذبح بقرة صفراء، لتأثرهم بالعجل أبيس، وجعل في فم ومؤخرة التمثال ثقبا ووجهه في اتجاه الريح، ليصدر صوتا عندما تهب الريح.
بنو إسرائيل يعبدون عجل السامري:
أخبر السامري بني إسرائيل أن هذا العجل إلههم وإله موسى، وعندما سألوه عن مكان موسى عليه السلام قال لهم إن موسى عليه السلام قد نسي إلهه عندهم وذهب إلى المكان الخطأ، وعندما يجد إلهه عندهم سيرجع إليهم، فعليهم إذًا أن يعبدوا هذا العجل فعبدوه، يقول الله تعالي: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (طه: 88)، وهل صدق بنو إسرائيل هذا الحديث؟ نعم، صدقوه، وعبد كثير منهم العجل، فقد صدقوا ما قال السامري، لما هم فيه من ذل جعلهم منقادين، فالذل يجعل الإنسان سهل الانقياد إلى أي معصية كانت، وهنا يكمن الفرق بين بني إسرائيل وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والسبب في أنها خير أمة أخرجت للناس {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه...} (آل عمران: 110) فأمة محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا من الأحرار لذا اختار الله الجزيرة العربية لبدء رسالة النبي صلى الله عليه وسلم. لكنْ بنو إسرائيل كانوا أذلاء، تُرى أمة محمد صلى الله عليه وسلم اليوم أقرب إلى من؟ تخيل أن الذل جعل بني إسرائيل يعبدون العجل (أبيس) ويسجدون له حيث شعر السامري بالنصر والسعادة، لأنه جعل بني إسرائيل يسجدون لما صنعته يداه، فهو مريض وما دفعه إلى هذا هو كبت موهبته.
تعامل هارون مع الفتنة:
أدرك هارون عليه السلام ما هو فيه من مشكلة، فقد بدأ بنو إسرائيل في عبادة هذا العجل، فنصحهم وحاول أن يمنعهم، يقول تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} (طه:90)، وإذا بردهم في قوله تعالى: {قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (طه: 91)، فهم منقادون إما ل موسى عليه السلام أو للسامري بلا رأي ولا انتماء لأي فكرة، يتبعون من يقودهم، فلم يسمعوا ل هارون عليه السلام، هذه قيمة اليوم وفيها رسالة للآباء، بالله عليكم لا تجعلوا أبناءكم أذلاء لأيٍّ من كان، واحذروا من سيطرة المعصية وارتكابها، ليس فقط لما فيها من (حرمانية) بل أيضًا لما تتركه في النفس من أثر الذل وتشويهه، فابقوا عبادًا لله العزيز سبحانه وتعالى. ظل هارون عليه السلام محاولا هدايتهم مرارًا وتكرارًا، ولكنه وصل إلى مرحلة أنه وجد بوادر صراع، فهناك من بني إسرائيل من اتبع السامري، وهناك من اتبع ما نصحهم به هارون عليه السلام.
جنوح هارون إلى الانتظار:
وجد هارون عليه السلام نفسه أمام خيارين، وهنا نرى الأسلوب الصحيح في التعامل مع الفتن والمشاكل الداخلية: هل يدخل في هذا الصراع؟ أم يتركهم إلى حين يرجع موسى عليه السلام؟ فاختار هارون أن ينتظر رجوع موسى، فهو وحده من يستطيع حسم هذا الخلاف بكلمة منه، فهو لبني إسرائيل القائد الأول فقد قارن هارون عليه السلام بين الأمرين. تخيلوا لو أن هارون عليه السلام قد دخل في صراع ونجم عن هذا الصراع حرب في بني إسرائيل! رجع موسى عليه السلام ليجد بني إسرائيل وقد قتلوا في حربٍ بينهم، وهذا ما يسمى بفقه الموازنات، عندما تكون في اختيار بين أمرين: كيف تختار الأقل ضررًا بينهما؟ فقه الموازنات يجهله كثير من المتحمسين.
عودة موسى عليه السلام:
عاد موسى عليه السلام من لقاء ربه، بعد أن كلم ربه، فكان لقاءً مليئا بروحانيات وعبادة، وقد تلقى التوراة هدى ونورا ومعه الألواح، وينوي أن يرتقي ببني إسرائيل ليعلمهم وليكون لهم منهج وإذا بالمفاجأة: فقد عبد بعض من بني إسرائيل العجل. تخيل أن موسى عليه السلام في لقاء ربه، وقومه يعبدون العجل! وهنا يتساءل الكثيرون، لماذا ترك الله موسى عليه السلام في هذه المصيبة بعدما كان فيه من روحانيات وعبادة؟ هكذا الحياة، خير وشر، إيمانيات ومواجهات، وغير ذلك فقد تلقى موسى عليه السلام كل هذه الروحانيات ليصلح بني إسرائيل، وليصلح في الأرض، ما حدث ل موسى عليه السلام مثال لما يحدث لنا بعد الصيام والقيام والعبادة في رمضان فتخرج من رمضان لتجد مشكلة كبيرة في العائلة، أو تجد أن أحد أبنائك وقد ارتكب ذبنًا كبيرًا، فهذا لا يعني أن الله لم يتقبل منك عبادتك في رمضان، فما اكتسبته من قوة إيمانية في رمضان هي لمواجهة مشاكل الحياة، بل على العكس، هذا من دلائل قبول الله سبحانه وتعالى لعبادتك، فالله سبحانه وتعالى يبعث رسالة إلى موسى، أنه طالما أنه مع قومه، فهم ملتزمون بما يقول، ولكن إذا تركهم تركوا هم ما آتاهم. فهم ليسوا أصحاب فكرة، إنما هم تابعون لشخص، فإنهم ليسوا ك أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما قال: "من كان يعبد محمدا فإن محمدًا قد مات ومن يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت"، فبنو إسرائيل ليسوا كأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
علم موسى بفتنة قومه:
ومن رحمة الله ب موسى، أن أنبأه بالخبر قبل أن يصل إلى قومه ليستعد لهم، فيقول تعالى:{وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى* قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} (طه: 83-85)، و"فتنا" هنا معناها اختبرنا، فقد اختبر الله بني إسرائيل إن كانوا سيتبعون موسى، حتى وإن لم يكن معهم، فلم ينجحوا في هذا الاختبار، ولكن عند اختبار قوم محمد يوم وفاته نجحوا في الاختبار وثبتهم أبو بكر الصديق، فشخصية أبو بكر تشبه كثيرًا شخصية هارون في صبره وحلمه وفي ارتباطه بالفكرة وليس فقط بالأشخاص. فهذه القصة تدل على أن بني إسرائيل كانوا مرتبطين بشخص وهو موسى أكثر من الفكرة؛ لذا فهذا ما سيعمل موسى على إصلاحه بسبب هذه الحادثة، فهذه دعوة لقراءة القرآن قراءة صحيحة، فمعاني القرآن أعمق بكثير من مجرد قراءتها، فالقرآن مليء بالقيم.
وقد أخبر الله موسى بأن السامري هو رأس الفتنة، ليكون مستعدا للموقف. يقول الله تعالى: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا...} (طه: 86)، تخيل المشهد حيث يذهب موسى إلى قومه آتيا من الجبل، وإذا بأغلبهم يعبدون العجل ساجدين له، تخيل كيف سيتعامل موسى مع هذا الموقف؟
استراتيجية موسى عليه السلام:
هنا نرى أسلوب تعامل القائد مع فتنة وكارثة داخلية، فأي قرار خاطئ يمكن أن يسبب حربا أهلية أو يجعلهم يصرون على عبادة العجل، غير أن عليه أن يكون حاسمًا مع السامري ومع بني إسرائيل، فهذه ليست المرة الأولى فقد قالوا له من قبل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138) لذا يجب أن يأتيهم موسى بعقوبة حاسمة، فهو لديه الآن ثلاثة أطراف ليتعامل معهم: السامري، وبنو إسرائيل، و هارون، وغير ذلك يجب على موسى عليه السلام مواجهة الأطراف الثلاثة معا لأنه سيقابلهم جميعا عندما يرجع، فلا يستطيع مثلا أن يستمع إلى ما حدث من هارون على انفراد، فل موسى هنا طريقة وخطة استراتيجية؛ فهو ينوي أن يتخذ معهم موقفًا حازمًا فيه شدة تجاه الجميع، ولكن إذا بدأ بالشدة فيمكن أن يخلق صراعا لذا فلسوف يبدأ باللين ثم الرحمة وبعدها الشدة والحزم.
إذًا بمن سيبدأ؟ هل يبدأ بالسامري؟ لا، فإنه إن بدأ بالسامري وبني إسرائيل فلربما مازالوا متأثرين به، وقد يُحدث هذا فتنة أكبر، وقد يجعل هذا من السامري بطلا. هل يبدأ ب هارون؟ لا، لم يبدأ به، لأنه ليس أصل الفتنة. سيبدأ موسى ببني إسرائيل أنفسهم.
موقف موسى مع بني إسرائيل:
بدأ موسى بكلام رقيق ليذكرهم، يقول الله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي} (طه: 86)، وأنا أقول هذه الكلمات اليوم لأي عاصٍ: ألم يعطك الله من الخير الكثير؟ ألا تستطيع أن تصبر؟ لا ترتكب المعصية؟ فردوا عليه بعدما أثر فيهم كلامه: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ* فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (طه: 87-88)، عندما وجد موسى أنهم قد تأثروا بالموعظة، وبدأوا التبرأ من السامري تركهم على ذلك.
موقف موسى مع أخيه هارون:
وكما بدأ موسى باللين ذهب إلى هارون متخذا معه الشدة، وهو يعرف أن هارون يحتمل هذا، وأنه سوف يتقبل كلامه لأنه أخوه، فعندما يتعامل بالشدة مع هارون سيحذر بنو إسرائيل ويخافون، يقول تعالى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (طه: 92-93)، وأخذ لحية هارون وشدها، كان المشهد أمام الجميع، فقال له هارون: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (طه: 94)، ويذكر هارون موسى بما ربتهم عليه أمهم من أخوة، فلن يختلف هارون مع أخيه موسى أبدًا حيث ذكره بما وصاه عليه قبل أن يذهب بألا يجعل فتنة أو صراعًا بين بني إسرائيل لذا فقد انتظر عودته. يقول الله تعالى في سورة أخرى عما قاله هارون ل موسى: {... قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأعراف: 150)، فهدأ موسى، بعدما وضح لبني إسرائيل أنه ينوي معاملتهم بالشدة، فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأعراف: 151).
موقف موسى مع السامري:
وجاء دور السامري، فالتفت موسى إليه ليبدأ معه بحزم وشدة ولكن سأله قبلها لما فعل هذا؟ يقول تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} (طه: 95)، ينبغي أن يتعلم الآباء من هذا الموقف كيف يمكنهم معاقبة أبناءهم؟ فقبل التوبيخ والمعاقبة، يجب أن يقولوا لأبنائهم ويشرحوا لهم لماذا يعاتبونهم أو يعاقبونهم؟ وهنا يكمن صبر موسى لذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يتأسى به عندما يغضبه أحد، ويقول: (رحم الله أخي موسى، لقد ابتلي بأكثر من ذلك فصبر)، فكذب السامري لأنه جبان، ولم يخبره عن السبب الحقيقي لما فعل وعن موهبته المكبوتة، فقال: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } (طه: 96)، وادعى أنه رأى جبريل عليه السلام، يوم أغرق الله فرعون يمر بفرسه في البحر فأخذ من طينة كانت من أثر قدم جبريل، ووضعها في العجل الذي صنعه، ليبقى به جزء من الملائكة ليصبر به بنى إسرائيل حتى يأتي موسى، فلم يناقشه موسى فيما كذب.
حسم موسى عليه السلام:
انتقل موسى إلى مرحلة الحسم والعقوبات، ففرض أربع عقوبات: كانت أول عقوبة للسامري بنفيه فأمره أن يذهب، يقول تعالى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ...} (طه: 97)، أما العقوبة الثانية والثالثة: {... وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} (طه: 97)، فيُنفذ الأمر فورًا ويحرق العجل ويرمى في اليم، ويقال إن السامري قد أصابه مرض جلدي فما عاد أحد يقربه. هذه رسالة لكل المبدعين؛ إياك أن تسلك درب السامري حتى وإن ظُلمت فتدمر المجتمع فيفعل بك الله كما فعل بالسامري. نُفى السامري وتوفي في منفاه وحيدا، وحرق العجل ونسف في اليم ثم يلتفت موسى لعقوبة بني إسرائيل ليكمل موقفه الحاسم مع الأطراف الثلاثة بموقف في منتهى الحكمة والحسم.
( الحلقة السابعة عشرة )
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهلا بكم، هيا بنا نستكمل لقاءنا مع قصة موسى، وشعارنا سنحيا بالقرآن.
ترى كم عدد الختمات التي قمتم بها؟ ماذا عن الهمة والعزيمة؟ وها قد مرت نصف أيام رمضان، ونود الاقتراب أكثر من الله، وليلة القدر على الأبواب، نريد ختمات وختمات أكثر في رمضان، تحلوا بالهمة والعزيمة، ونود أن نتشارك جميعًا في حملتنا سنحيا بالقرآن، ونتمنى الحصول على عشرة ملايين ختمة، الهدف ليس صعب المنال، وعندما ينتهي كل شخص من إتمام ختمة فليرسل لنا، لنضع الرقم بالعداد الخاص بالموقع.
حزم موسى:
توقفنا عند الكارثة التي كان يعمل موسى كقائد عظيم على معالجتها، وهي أن بني إسرائيل عبدوا العجل بعد أن فتنهم السامري، تدرج موسى في معالجته للموقف من اللين إلى الشدة ثم إلى الحزم، وحسم موسى الأمور مع السامري؛ حيث قام بطرده ونبذه بعيدًا [قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ...] {طه:97} كما قام بحسم أمر العجل [... لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفًا] {طه:97} ثم التفت موسى إلى الفئة التي عبدت العجل من بني اسرائيل، يا ترى كيف سيكون تصرفه تجاههم؟
لقد شعر موسى أنهم نادمون على ما دفعهم السامري إليه، بل ويودون حقًا التخلص من هذه الكارثة، لكن لابد وأن يحسم الأمر معهم لأنها ليست المرة الأولى، ففي المرة السابقة قالوا: [... اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ...] {الأعراف:138} واليوم عبدوا العجل، فلابد من إنزال عقوبة شديدة بهم، وعاود موسى طريقته المعتادة وصبره الكبير في معالجة الأمر: بدأ باللين ثم الحسم، بدأ بشرح الأمر لهم ثم الحسم، وقال كلمته الشهيرة لهم:[إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا] {طه:98}، [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ...] {البقرة:54}، ولننتبه أنها المرة الأولى التي نسمع كلمة "توبوا" في قصة بني اسرائيل، وهي كلمة مازالت غير مفهومة بالنسبة لهم، فالتوبة عند المسلمين هي: أستغفرك يا ربي وأتوب إليك، أشعر بالندم، ولن أفعل هذا الشيء مرة أخرى، وأعتزم التوقف عنه مستقبلًا، وهو شعور نفسي بينك وبين الله، علاقة غير ملموسة، لا نستطيع أن نلمسها بأيدينا، أمة محمد تفهم هذا المعني بسهولة، أما بنو اسرائيل فلابد أن تكون التوبة شيئًا ملموسًا لديهم، أي أن تكون حسية يراها بعينيه، والإيمان بالغيب بالنسبة له مازال ضعيفًا، لماذا؟ لأن هناك فارق كبير في مستوى النضج بينهم وبين أمة محمد، فأول آية في القرآن نزلت على أمة محمد في سورة البقرة هي: [الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] {البقرة:1-2}، من هم المتقون وما هي أول صفاتهم؟ [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ...] {البقرة:3}، وأنا دائمًا أضرب المثل على ذلك بتشبيههم بالطفل الذي إن أبلغته أنك قد وضعت في حسابه بالبنك مبلغ مليون جنيه لن يمثل له الأمر شيئًا، بينما لو قدمت له لعبة ثمنها خمسة جنيهات سيفرح بها فرحًا كبيرًا، وهذا هو النضج فهو لن يشعر بما لا يراه، يجب أن يكون بين يديه، احذروا يا إخوتي أن نكون أصبحنا كذلك نتسم بالمادية، فأجمل لذة لدينا هي"يؤمنون بالغيب"، وهم مازالوا في حرمان منها، موسى يريدهم أن يتوبوا والله يريدهم أن يتوبوا، ولكن لن يتم ذلك بالمعنى الإيماني، فلابد أن يحدث ذلك بشيء حسي في البداية.
توبة بني إسرائيل:
انظر إلى الآية التي تقول: [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ...] كيف يحدث ذلك؟ [... فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ...] ليأخذ كل منكم سكينًا، ويقتل نفسه، أو يقتل شخصًا آخر من بني اسرائيل، وهل يعقل أن يحدث ذلك؟ لن يحدث بالطبع، ولكن ليتخيلوا موقفًا حسيًا، لقد ارتكبت خطأ جسيمًا للدرجة التي ستفقد فيها حياتك، ولقد سمعوا ونفذوا الأمر لأنه لا يزال بهم شيء من الإيمان، وكل منهم سيحمل سكينًا، وتقول كتب اليهود الآن أنهم قتلوا أنفسهم بالفعل، ولكن القرآن يقول شيئًا آخر، فما إن حملوا السكين وأصبحوا على استعداد لتنفيذ القتل حتى قال لهم موسى -واسمع الآية مرة أخرى-: [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ...] {البقرة:54} أي أنهم لما هموا بالتنفيذ قال: [...ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ...] عفا الله تبارك وتعالى عنهم، إذن لماذا كل هذه القصة؟ حتى يشعروا بشيء حسي يفهموا به معنى التوبة.
ما هي شروط التوبة لدينا؟
· الشعور بالندم.
· إيقاف الذنب.
· العزم على عدم الرجوع إلى الذنب مرة أخرى.
هل علمتم الآن الفارق بين الماديين وبين من جمعوا بين المادة والروح (أمة محمد صلى الله عليه وسلم )؟ هل عرفتم الآن لماذا هي خير أمة أُخرجَت للناس؟ يا تُرى هل تشعر بالتوبة سريعًا أم لابد وأن تمر بإحدى المصائب لتفهم معنى التوبة؟ من أي الأنواع أنت؟
أسباب سوء الخاتمة:
خرج موسى من مصر وعبر البحر، ثم ذهب لميقات ربه وتلقى التوراة، ونزل من الطور، وذهب لمقابلة بني اسرائيل، وفوجئ بأنهم قد عبدوا العجل، ثم نُفي السامري، ونُسف العجل في البحر. وبدأ بنو إسرائيل يتعلمون معنى التوبة، ثم أخذهم موسى إلى القدس. ونحن نروي قصة موسى نتذكر قيمة هامة، سأروي لكم قصة لها علاقة بقصتنا، في إحدى الغزوات مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كان من بين الصحابة رجل يقاتل بشدة، فقال الصحابة: هنيئًا له الجنة فقد مات شهيدًا، فأخبرهم النبي أنه في النار، فسألوه لم يا رسول الله؟ قال" كثُرَت عليه الجراح في جسده، فوضع سيفه، فاتكأ عليه فقتل نفسه"، أي أنه لم يستطع الصمود في القتال، هل هذه هي خاتمته؟ نريد أن نفهم لماذا كانت الخاتمة هكذا؟ يقول النبي:" إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها". هناك سر في الأمر نريد أن نفهمه.
مثال آخر: صحابي من العُباد، وهو علقمة، طلبوا منه لحظة وفاته أن ينطق بالشهادة، ولكنه لم يقدر، كأنه يحمل جبلًا على لسانه، فذهب الصحابة للنبي يروون له قصة علقمة، فقال النبي:" أله أم؟" قالوا: نعم، يا رسول الله، قال:" ائتوا بها"، قال:"هل في قلبك وصدرك شيء من علقمة؟"، قالت: نعم، يا رسول الله، كان يأتي إلى زوجته وأولاده بأجمل الفاكهة، ويأتيني بما يتبقى منها، وأنا أمه يا رسول الله، نعم في قلبي شيء منه. فقال النبي: "احفروا له حفرة، وأوقدوا فيها النار"، إذا لم ترض عنه هذا هو مصيره سنحدده له في الدنيا، وفعل الرسول ذلك حتى يرقق قلبها على ابنها، فما لبثت أن قالت: عفوت عنه يا رسول الله، فإذا بعلقمة يحرك لسانه،ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. يا جماعة، احذروا، هذا كان ألم قلب أم فعل ذلك بعلقمة، فليساعدنا الله لو كان أحد الوالدين يشعر بالغضب تجاهنا، أصل الموضوع هو حسن الخاتمة، ولذلك كان النبي كثيرًا ما يدعو بهذا الدعاء :" اللهم إني أسألك حسن الخاتمة"، "اللهم اجعل خير أعمالي خواتيمها"، ويقول لنا النبي:"سلوا الله حسن الخاتمة"، ما هو حسن الخاتمة؟ حسن الخاتمة وسوء الخاتمة كلاهما مرتبط بقلبك: هل كان نقيًا أم به مرض، مثل: الريبة، الحقد، الحسد، الغل، الكراهية، الأنانية، الكِبر، العُجب، إذا كان في قلبك قدر من أي من هؤلاء عليك أن تخاف من سوء الخاتمة، وإذا كانت لديك ذنوب وقلبك خالٍ من هذه الأمراض الشديدة، فاطمئن سيتوب عليك الله ويغفر لك إن شاء الله.
انظر داخل قلبك:
عندما قرر أبو بكر أن يتولى عمر بن الخطاب الخلافة، سأله الناس: أتوليه علينا وهو شديد؟ فأجابهم برد عجيب قائلًا: ذلك رجل أعلم أن سره أفضل من علانيته. هل تعرف جبل الجليد؟ عشرون بالمائة منه فقط يكون فوق سطح البحر، وثمانون في المائة منه تحت سطح البحر، هذا الجزء هو ما يجعله ثابتًا، كلنا يعمل بالعشرين في المائة الظاهرة للناس من حسن الهندام والملبس، ولكن من يهتم بأمر الثمانين في المائة الموجودة بداخلنا؟ ومن يعمل على تنقيتها؟ ولذلك كان النبي عندما ينظر في المرآة يقول: "اللهم كما حسنت خَلقي فحسِن خُلُقي"، كلنا ينظر في المرآة لنتأكد من حسن الطلعة، والنبي يعلمك عندما تنظر ابحث عما بداخلك لأنه الأهم، فالجميع يهتم بالمظهر، اهتم أنت بالداخل.
كلما توغلنا في قصة موسى -نحن لا نقوم بسرد رواية_ نربط الأحداث بالقيم، فسيمر اليوم موسى برجل تبدو عليه مظاهر الإيمان الشديد والعِِلم، ولكنه مريض من الداخل بمرض الأنا، قبل حسن الخاتمة ابحث عن قلبك، هل هو نقي أم به أحد الأمراض؟ عندما يمرض أي منا يذهب إلى الطبيب، ويبدأ في علاج جسده مما ألم به، جميعنا يهتم بأمراض جسده، ولكن من يكترث لأمراض قلبه؟ إن مرض الجسد ينتهي بالموت، بينما مرض القلب يلازمك حتى يوم القيامة، من الجائز أن يعيق مرض الجسد حركتك في الدنيا، بينما يتسبب مرض القلب في أن تخسر الدنيا والآخرة. هل تستطيع استكشاف قلبك؟ أن تكشف عليه، ولكن ليس الكشف الطبي.
بلعام باعوراء:
لنكمل مع موسى، ونراه وهو يستكمل سيره إلى الأرض المقدسة كما يصفها القرآن [يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ...] {المائدة:21}، ستبدأ الأحداث القادمة من الأردن، وهذا المكان عبارة عن وادٍ يُشرف عليها من أعلى جبل ممتد، والجبل الذي سيذهب إليه موسى اسمه نيبو، وهو غاية في الأهمية ومن أهم المعالم السياحية بالأردن الآن، ومن أهم الجبال، وجاء ذكره بالتوراة والإنجيل، وهذا الجبل هو أقرب الطرق التي تطل على المسجد الأقصى وفلسطين. سيمر موسى بهذا الوادي الذي يعيش فيه قوم بني كنعان، يود موسى المرور من على قمة جبل نيبو من خلال الوادي، وعندما يتم له ذلك يستطيع رؤية القدس، وقد دُفن موسى بهذا الجبل، وأثناء رحلة النبي في الإسراء والمعراج ذكر أنه رآه عند الكثيب الأحمر عند جبل نيبو، وأؤكد لكم أننا نسير وفق الاتجاه الصحيح طبقًا للخريطة، ومرور موسى إلى هذا الوادي للذهاب لجبل نيبو لتقع هذه الحادثة الإنسانية الهامة، قصة قصيرة، أليست قصة موسى قصة طويلة في القرآن، ومتواجدة في مشاهد كثيرة، ولكن هناك قصص قصيرة [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ...] {يوسف:3}، سيقابل رجلًا أثناء سيره، هذا الرجل به مرض من أمراض القلب على الرغم من حسن المظهر الذي يبدو عليه، هو عالِم مؤمن، ولكنه مريض من الداخل، سيقابل رجلًا يُدعى: بلعام بن باعوراء، ويتجسد فيه حسن وسوء الخاتمة، وبلعام من العلماء- ليس من بني اسرائيل- ولكنه مؤمن بالله، ويعي جيدًا أن موسى حق، وأنه نبي، هو يملك العلم الغزير، [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا...] {الأعراف:175}، وتقصد الآية بلعام بن باعوراء، الذي كان يبحث عن الشهرة وعلى استعداد للتضحية من أجلها بكل شيء. هناك نقطة تسببت في إفساد نقاء الرجل، هناك كارثة تستقر بقعر القلب، الشهرة لديه أهم من العلم ومن الإيمان ومن الدين، فهو يريد المكانة الرفيعة والزعامة. كان هذا الرجل يسكن عند قبيلة تُدعى بنو سمعان، وسيمر موسى، ويقيم خيمته وقت الغروب ليذهب في الصباح إلى جبل نيبو ثم المسجد الأقصى والقدس، إذن سيبيت ليلته هنا، ومن الجائز أن تكون هناك أكثر من ليلة واحدة، لا تهتم بنو كنعان ببلعام لأنه متدين وعالِم، وهو يريد أن يشعر بذاته ويُشار إليه بالبنان، فعندما مر موسى خاف بنو كنعان من الأعداد الضخمة لبني اسرائيل، وهم يشعرون بالقلق والخوف حيالهم، ولا يدرون ما الذي يجب عليهم القيام به. وكان لدى البعض من بني كنعان علاقة قوية بفرعون وأصدقاء له، والعلاقة بين فرعون وموسى ليست على ما يرام، وهم لا يريدون ل موسى المرور بأرضهم، وهم لم يستطيعوا التصرف إزاء ذلك، فاتجهوا إلى بلعام وسألوه: ألم تخبرنا أنك متدين وعالِم وأن موسى نبي وأنت تؤمن به، ادع عليه، وجاء رده: ماذا تقولون؟ أأدعو على نبي الأمة؟ لا أستطيع القيام بذلك، فقالوا له: لو فعلت ذلك واستُجيب دعاؤك سنصدقك القول أنك عالِم، سنضعك في منزلة كبيرة. وهم الآن يلتمسون المشكلة التي يعاني منها، هل نحن على استعداد للتضحية بالعلم، الإيمان ، الدين من أجل مكانة ما؟ هل تضحي بالحق من أجل السلطة، أو من يقبل الرشوة، لا يوجد فارق بينك وبين بلعام بن باعوراء، وعندما ألحوا على بلعام والمكانة التي وعدوه إياها دعا على موسى وبني إسرائيل، ولكن كيف يُستجاب دعاؤه؟ ثم قالوا له: أنت لست بعالم، دعوت على موسى، ولم يُستجَب لك. فغضب بلعام لما أصابه، وأكد أنه سيثبت أنه قادر على ذلك.
حيلة بلعام باعوراء:
أما وأن بلعام قد خسر آخرته، فلقد قرر أنه لن يخسر دنياه؛ فأشار على قومه بحيلة ماكرة للقضاء على بني إسرائيل، حيث قال لقومه: زينوا نساءكم وعطروهن، وأرسلوهن بالبضائع ليبعن لبني اسرائيل، وقولوا للنساء لا تمنع أي امرأة منهن نفسها عن أي رجل من بني إسرائيل يريدها، هل سيقدم عالِم على فعل ذلك؟ تلك أحد أسباب سوء الخاتمة، هناك مرض بالقلب. أطاعوا بلعام بن باعوراء، وبدأ التنفيذ، وأرسلوا النساء من بني كنعان تبيع لبني إسرائيل، ويذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أول فتنة لبني اسرائيل كانت بسبب هذه الحادثة. وعلم موسى بالأمر، وأن بلعام هو السبب وراء ذلك فدعا عليه، عندما تنسلخ من آيات الله لا يُستجاب دعاؤك، لكن موسى الموصول بالله استجيب دعاؤه، هل تستطيع أن تنزع دينك؟ من يفعل ذلك كأنه انتزع جلده، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في غزوة أحد:" دينك دينك لحمك دمك"، يا من نزعِت الحجاب، احذري، ويا من كنت تصلي واتسمت أفعالك بالفجور، ويا من كنت موصولًا بالله ثم وقعت في شرك المعصية، احذر سوء الخاتمة، بإمكانك العودة والإصلاح، [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ...] {الأعراف:175-176}، هذا ليس سبابًا لل***، فقد أثني على الكلـــب في القرآن في آيات أخرى [... رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ...] {الكهف:22}، لماذا إذن الالكلـــب ؟ لأن من طبيعته أن يلهث سواء عند جريه أو وقوفه، والآية توضح أن بلعام كان يلهث وراء الدنيا وأنه كان غير قادر على الوصول إليها، هذا هو عقابه، يريد أن يأخذ ولا يعرف كيف يقوم بذلك فأصبح مثل ال***، الهث وراء الدنيا يا بلعام [... ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {الأعراف:176}، هذه هي قصة بلعام بن باعوراء وسوء الخاتمة وهي غنية بالمعاني.
فُتن بلعام وأخلد إلى الأرض، يا بلعام بن باعوراء عام 2009 اتق الله، وإلى النساء اللاتي أصابهن النسيان أو أخطأن أو تركن حجابهن، احذروا نتيجة بلعام بن باعوراء، بلعام بن باعوراء هو مرآة مخيفة للجميع، يا تُرى ما هي خاتمتنا؟ أنا أيضًا أشعر بالخوف، يا رب، ارزقنا الإخلاص، لأنه ينقي القلب من مصائب كثيرة، ادعوا لنا بالإخلاص، وادع لنفسك بحسن الخاتمة.
أمثلة لحسن وسوء الخاتمة:
أود أن أختم بقصص لحسن وسوء الخاتمة، وكل منا يختار ما يريد، بلال وهو يموت تقول زوجته: وامصيبتاه، فيرد عليها قائلًا: "لا تقولي: وامصيبتاه، ولكن قولي: وافرحتاه؛ غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه".
معاذ بن جبل وهو يموت يسأل: "أي وقت هذا؟"، فيقولون: وقت السحر، فيقول: اللهم إني أسألك موتةً في ليلة يكون صبحها في الجنة، ثم تدمع عيناه، فيسألوه:علام تبكي؟ فيقول: والله ما أبكي على ثواب الدنيا، ولكن أبكي على ثواب قيام الليل وقراءة القرآن.
وهذه موتة معاصرة: الشيخ كشك عليه رحمة الله يموت وهو ساجد، والشيخ محمد الغزالي يموت وهو يدافع عن الإسلام في مناظرة وتصيبه ذبحة ويموت، ويُدفن بالمدينة المنورة في مكان لم يجد من دفنه أفضل منه؛ بين الإمام مالك وإبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهناك موتة عكس ما سبق، موتة معاصرة أخبرني بها أحد أصدقائي، الذي يحكي ويقول إنه كان مسافرًا بالطائرة، وبجواره رجل يرتدي أفخر الثياب ومعه زجاجة خمر يحملها، وأنت تعلم أن ملك الموت لا يستوقفه مكان، فجاءه ملك الموت وأخذ الرجل يتصبب عرقًا وأصابه التشنج، فقلت له: قل لا إله إلا الله، فصار يقول لي: اعطني الحقيبة، بها عقود شركاتي، ويقسم صديقي أن هذا ما حدث، فعاود صديقي الكرة لينطق بالشهادة، فقال له الرجل: كلما حاولت لا أستطيع النطق بها، ثم مات، تقول الآية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102}.
قيمة اليوم.. اكتشف قلبك وعالجه:
هل تريد حسن الخاتمة؟ قيمة اليوم هي.. اكتشف قلبك، وعالجه مما به من أمراض، بلعام بن باعوراء كانت لديه الأنا، وهي التي قتلته وأضاعت دنياه وآخرته.
( الحلقة الثامنة عشر )
المسجد الأقصى
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حب المسجد الأقصى:
بعد أن خرج موسى من مصر وأنجاه الله سبحانه وتعالى هو وبني إسرائيل من بطش فرعون، نزلت التوراة وحدثت حادثة السامري، واتجه موسى إلى الأرض المقدسة، دعونا نبدأ بسؤال، هل أنت مشتاقٌ للقدس؟ هل تحب المسجد الأقصى؟ هل أنت مشتاقٌ للمسجد الأقصى؟ لأن هذه هي قيمة اليوم، ما مدى اشتياقك للمسجد الأقصى؟ ماذا يمثل لكم المسجد الأقصى؟ إن قيمته عند الله سبحانه وتعالى عظيمة، وقيمته عند النبي صلى الله عليه وسلم كبيرة، فهو أول القبلتين وثالث الحرمين، وهو مسرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نقطة معراجه للسماء، وهناك سورة باسمه في القرآن، يقول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ...} (الإسراء: الآية1)، لا يمكن أن يذكر المسجد الأقصى إلا وتتبعه جملة (الذي باركنا حوله).
هل تشتاق لأداء العمرة؟ هل تشتاق لزيارة بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومدينة النبي ومسجد النبي؟ بالطبع، فأنت تحلم بزيارته وهناك من يدعو الله أن ينال الحج أو العمرة، هل تشتاق للمسجد الأقصى كاشتياقك للحج والعمرة؟ أتلاحظون أن الثلاثة لا يذكرون إلا مع بعضهم ، فلا تُشد الرحال إلا إلى الثلاثة، فهل يا ترى شوقك إلى المسجد الأقصى كشوقك لزيارة المدينة أو مكة؟ بالتأكيد أقل ولكن ما مقدار ذلك؟ ولو سألتك ما هي أغلى ثلاث مدن أو أماكن بحياتك؟ وهل من بينها القدس، وهل تشمل المسجد الأقصى؟ وبكم من عشرة تقيم مكانة المسجد الأقصى بحياتك، قيمة اليوم هي حب المسجد الأقصى، ألم أقل لك بأن هناك ما يسمى برصيد البنك وما يسمى برصيد القيم، إن حب المسجد الأقصى لا يقدر بجميع كنوز الدنيا.
الطريق إلى الأقصى:
خرج موسى من مصر مارًا بسيناء ثم الأردن حيث مر على ديار بني كنعان مرورًا بجبل نيبو وهو أقرب جبل يطل على المسجد الأقصى، فبينه وبين المسجد الأقصى حوالي خمسة وعشرين كيلو مترًا تقريبًا، ولو كنت فوق الجبل والرؤيا جيدة فقد ترى المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وأهل مأدُبة بالأردن يعرفون هذه المنطقة جيدًا، ويعلمون أنك من هذا المكان تستطيع رؤية المسجد الأقصى بمنتهى السهولة ومنتهى الوضوح، يا ترى كيف هو شكل جبل نيبو ومنظر المسجد الأقصى من أعلى؟
لماذا يا ترى سلك موسى طريق جبل نيبو؟ لأنه أقصر طريق يؤدي إلى المسجد الأقصى والقدس، إن المسافة من جبل نيبو بالأردن إلى القدس قريبة جدًا، إن الطريق الذي سلكه موسى حتى وصوله إلى المسجد الأقصى أصبح طريقًا رسميًا يزوره السائحين من كل العالم ومن كل الأديان ليروا خط سير موسى حتى وصل للقدس، هل تشتاق للمسجد الأقصى؟ هذه هي قيمة اليوم، إياك أن تنسى المسجد الأقصى، إياك ألا تملأ قلبك بحبه والاشتياق له، وأن تتمنى أن يمن الله عليك في يوم من الأيام أن تكون من الفاتحين له والمصليين فيه، لقد دعى موسى الله أن يُدفن هناك تحت أسوار المسجد الأقصى فكان يدعوه قائلا: يا رب قربني ولو برمية حجر لأكون بجوار القدس، فتخيل كيف هي مشاعر موسى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تُشد الرحال إلا لثلاث مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ) ألا تشعرون ونحن نروي عن مسيرة موسى ووصوله لجبل نيبو أننا نشد الرحال للمسجد الأقصى؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يذكر المسجد الحرام إلا وذكر معه المسجد الأقصى فيقول: ( صلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة وصلاة في مسجدي هذا بألف صلاة وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة)، هل تحب المسجد الأقصى أم لا؟ إن هذا من دلائل إيمانك.
وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما أول بيت بني في الأرض قال: المسجد الحرام قيل: ثم أي، قال: المسجد الأقصى، قيل: كم بينهما يا رسول الله؟ قال: أربعون سنة. حديث رواه البخاري، لقد بُني المسجد الحرام قبل المسجد الأقصى بأربعين سنة، لذا فهما متلازمان دائما في الذكر، وقد بنى آدم كلا المسجدين، إن المسجد الأقصى هو المسجد الذي حدث به أعظم اجتماع في التاريخ، فقد اجتمع به أنبياء الله آدم وموسى وعيسى وداوود وسليمان ومحمد عليهم السلام، اجتمعوا جميعًا في المسجد الأقصى وليس المسجد الحرام، أيضًا معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء تم من المسجد الأقصى، وكانت رحلة النبي صلى الله عليه وسلم الوحيدة مع جبريل إلى المسجد الأقصى، ألهذه الدرجة غالٍ هو المسجد الأقصى؟ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ...}.
فتح عمر بن الخطاب جميع البلاد ومنها الشام والعراق ولم يذهب أبدًا لاستلام مفاتيح مكان ما إلا وسلك هذا الطريق لأنه أقرب الطرق، فقد عبر جبل نيبو ومر بهذا الطريق لاستلام مفاتيح المسجد الأقصى كما فعل موسى بعبوره هذا الطريق، وعندما عبر عمر هذا الطريق ووصل للمسجد الأقصى كانت ملابسه قد تمزقت وعندما رآه المسيحيون واليهود قالوا أن هذا ما ذكر في التوراة والإنجيل عن الشخص الذي سيستلم مفاتيح القدس، فقد ذُكر في كتبهم أن المسلمين سيستلمون مفاتحها (هامةٌ عالية وثوب ممزق) وعندما رأوه وجدوا أن هامته عالية مرفوعة وثوبه ممزق فتأكدوا أنه هو نفسه الشخص المذكور في كتبهم، ووقف عمر بن الخطاب في المسجد الأقصى ودعاه الناس للصلاة في كنيسة القيامة فرفض عمر بن الخطاب لأنه يؤمن بالتعايش ويؤمن بحق الأديان الأخرى، وقد خاف أن يصلي بداخلها فتتحول إلى مسجد فصلى خارجها، وبالتالي تركت دولة الأردن الهاشمية كنيسة القيامة لأن عمر بن الخطاب لم يصلي بها ولأنها فهمت الغاية مما فعله عمر بن الخطاب وبالتالي أبقت هذا المكان لكل الأديان، لقد بنى المسلمون هذا المكان وأقامته دولة الأردن، ولكن المسيحيين أضافوا إليه رسالة تقول (إن هذه رسالة الأنبياء كلهم) وذلك لأن جميع الأديان لم تختلف على موسى، وعندما دخل عمر بن الخطاب ووقف عند المسجد الأقصى طلب من بلال أن يقف على مكان مرتفع فوقف على جبل يشرف على المسجد الأقصى هو وكل جيش المسلمين، فقال لبلال: أذِّن يا بلال، فقال له بلال: يا أمير المؤمنين إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله، فقال له عمر: هذا يوم يُسعد رسول الله، وقد أتى صلاح الدين بعد عمر فعبر بنفس الطريق، وكانت كلمة صلاح الدين الشهيرة (كيف أبتسم والمسجد الأقصى أسير)، هل تشتاقون للمسجد الأقصى؟ هل تحبون المسجد الأقصى؟
كيف كان خط سير موسى ومن بعده عمر بن الخطاب وصلاح الدين؟ تقول الآية الكريمة: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ } (المائدة: الآية21) بعدما اجتاز موسى الطريق تقدم حتى أصبح بينه وبين القدس عشرة كيلو مترات فإذا ببني إسرائيل يتخاذلون ويخافون ويجبنون ولا يدخلون القدس فتحرم عليهم القدس بعد ذلك، عندما وجد موسى أنهم قد وقفوا لا يريدون أن يكملوا الطريق حتى القدس بدأ موسى يحفز بني إسرائيل بخطاب وقد ذُكر هذا الخطاب بالقرآن وكأن الله يخصنا به أيضًا، فتخيل خطبة موسى كي يحفزهم للوصول للقدس، لقد جاءت هذه الخطبة بالقرآن في الآية العشرين من سورة المائدة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ... } (المائدة: الآيات20،21)
تحفيز بني إسرائيل لدخول القدس:
قام موسى بتحفيز بني إسرائيل لدخول القدس وعبور المسافة المتبقية بأربعة أشياء
وهي:
1. ذكر نعمة الله عليهم، فقد منحهم الله أشياءً عظيمة فيجب أن يردوا هذا الجزاء بفعل شيءٍ ما لدينه سبحانه وتعالى وذلك بأن يقوموا بشيءٍ ما للقدس، وهذا ما نحتاج لسماعه حقًا الآن نحن أيضًا.
2. إرسال الأنبياء إلى بني إسرائيل، ولقد بعث الله كذلك لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صلى محمد هناك وكانت بداية رحلة المعراج من هناك.
3. لقد جعل الله لهم ملوكًا، فقد كان الله سبحانه وتعالى يذكرهم ب يوسف وبأنه كان ملكًا، فلم يكن تاريخهم تاريخ ذلٍّ بل كان تاريخ علم ٍ، وكذلك نحن فلم يكن تاريخنا تاريخ ذلٍّ بل كان في تاريخنا عظماء كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وك خالد و عمر، كان في تاريخنا المسجد الأقصى الذي عاش به المسلمون، فبعد كل عمرة وحج ٍ كان المسلمون يذهبون للمسجد الأقصى، وكان الإمام الشافعيّ يعتكف هناك فيقول أحب الاعتكاف في المسجد الأقصى، وهناك عمود لأبي حامد الغزاليّ بالمسجد الأقصى، وكذلك صلاح الدين ونور الدين محمود ومن بعدهم أجيالٌ وأجيال، تاريخنا ليس تاريخ ذلٍّ بل تاريخ عزٍّ، فالمسجد الأقصى غالٍ جدًا.
4. قال لهم نبيُّ الله موسى ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم، ما معنى كتب الله لكم؟ لكي تفهم ما معنى (كتب الله لكم) فيجب أن تفهم حقيقة المسجد الأقصى وحقيقة القدس، فالقدس ليست ملكًا لأحد، بل كلما بعث الله نبيًا كان هو وقومه المسئولون عن القدس، ولقد كان الرسول في هذا الوقت هو موسى وبالتالي تقول الآية الكريمة: {... ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ...} لأن موسى هو النبي في هذا الوقت، فعندما بُعث آدم كان هو المسئول عن القدس، وكذلك نوح و عيسى و داوود و سليمان وكذلك خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم هو وأمته هم المسئولون الآن عن القدس.
اجتماع الأنبياء وتسليم الراية:
هل تودون أن تكونوا ممن اختارهم الله ليكونوا في المسجد الأقصى؟ انتبهوا لأمرٍ مهم جدًا لقد أخبرتكم أن كل نبي يُبعث يكون مسئولا عن المسجد الأقصى، لذلك بدأت رحلة محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الأقصى ولقائه الأنبياء كان بالمسجد الأقصى وذلك ليتسلم راية المسجد الأقصى ولهذا اجتمع بالأنبياء في المسجد الأقصى وليس في مكة، ويدخل محمد و جبريل فتقام الصلاة ويقف الأنبياء جميعًا صفًا واحدًا، فإذا ب جبريل يسأل محمد من سيصلي بالأنبياء إمامًا؟ هل هو إبراهيم أم موسى أم عيسى، فيقول: تقدم يا محمد، فيقف النبي ليصلي بالأنبياء إمامًا، يقول الحديث الشريف: ( لا يُؤم الرجل في بيته) و محمد هو من صلى بالأنبياء إمامًا وبالتالي يُفهم من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم هو صاحب البيت والمسئول عنه، ويبدأ المعراج من المسجد الأقصى إلى السماء وينزل إلى هناك أيضًا بالرغم من أنه كان من الممكن أن ينزل المعراج من السماء إلى مكة بدلا من المسجد الأقصى.
لقد دفن موسى بجبل نيبو الذي يبعد أقل من ثلاثين كيلو مترًا عن القدس، ولقد مر بهذا الجبل عمر بن الخطاب، ومر به الصحابة، ومر به التابعين والعلماء، ومر به صلاح الدين، أترى قرب هذا المكان؟ يا ترى ما هو شعورك الآن، انتبه فالأمنيات وحدها لا تكفي ولا تحقق أي شيء، فهناك صفات يجب أن تكون متواجدة، ففي سورة المائدة تأتي قصة موسى وسبب عدم دخول بني إسرائيل وتوقفهم هنا، ولقد دفن موسى هنا وكان يأمل أن يدخل القدس، ولقد سأل موسى اللهَ تعالى أن يأذن له أن يدفن على أسوار القدس، ويقول العلماء جملة جميلة جدًا أن موسى قد طلب أن يدفن على أسوار القدس لأنه يعرف أن المسئول عنها ليس هو ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لقد توقف موسى هنا لنكمل نحن بعده لأننا نحن المسئولون، فماذا ستقول ل موسى يوم القيامة؟ وماذا ستقول ل محمد يوم القيامة؟
سبب تسميتها القدس:
لماذا سميت بالأرض المقدسة أو القدس؟ لأن كل الأنبياء اجتمعوا بها فهي أرض الأنبياء، إنه المكان الوحيد على وجه الأرض الذي عُقد به أعظم اجتماع في التاريخ مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك من أجل تسليم الراية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، كل أنبياء الله في هذا المكان {... مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ...} (غافر: الآية 78)، وصلى بهم النبي هناك، ترى من يصلي مع النبي؟ موسى و داوود و سليمان كلهم يقفون مع النبي للصلاة فهو المسئول فقد سُلِّمت إليه الراية، وهنا أريد أن أوضح نقطتين:
1. إن الحياة هي حرب وسَلم، جهاد وعبادة وحتى العبادة فهي لونان فهناك عبادة تغذي الروح والقلب، وهناك الجهاد ولذلك أوجد الله تعالى الحرمين الحرم المكي والمسجد الأقصى، وكل منهم يرمز لشيءٍ معين، فالحرم المكي هو دار عبادة القلب والروح ومن دخله كان آمنًا، أما المسجد الأقصى فدار جهادٍ وإصلاح ٍللأرض، هل سبق وفكرت أن هذا هو دور كل من المسجد الحرام والمسجد الأقصى؟
2. أما النقطة الثانية فهي أن المسجد الأقصى هو ترمومتر الأرض، والترمومتر هو جهاز لقياس الحرارة إن كانت مرتفعة أو منخفضة، إذا كنت تريد أن تعلم ما إذا كانت الأرض بأحوال جيدة أم لا فانظر للمسجد الأقصى ومن يسيطر عليه، فلو أتيت من كوكب آخر ونزلت على الأرض وتريد أن تعرف وضع الأرض فانظر من يسيطر ويتحكم بالمسجد الأقصى، هل هو مع الصالحين أم العنصريين أم الجبارين.
لقد تعلمنا عدة أشياء اليوم فالمسجد الحرام لعبادة الروح والمسجد الأقصى للجهاد، تعلمنا أيضاً أن المسجد الأقصى هو ترمومتر الأرض وهو مقياس لوضع الإيمان الحق بالأرض شاملاً إيمان العطاء والإنتاج والخير وليست العبادة فقط، ثالث شيءٍ قد تعلمناه وهو شيء مهم جدًا أن المسجد الأقصى ليس ملكًا لقوم بعينهم بل ملكًا لكل نبيٍّ في عهده، وبالتالي هو مسئولية خاتم الأنبياء وأمته الآن.
صفات يجب توافرها فيمن يدخل الأرض المقدسة:
إذًا ما هي الأربع صفات التي من المفروض أن يتصف بها كل من هو متواجد في هذا المكان؟ تقول الآيات الكريمة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ... } (المائدة: الآيات20،21،22). وهذه الأربع صفات هي:
1. شجاعة ونفس حرة غير ذليلة، وهذه هي أول صفة يجب أن يتصف بها الجيل والشباب والناس والنساء حتى يربوا أبناءهم على ذلك.
2. الثقة والتوكل على الله، وليس الضعف والتواكل على الله.
3. الوحدة والأخوة، لا أن تكون الأمة متفرقة متنازعة أو أن يكره أفرادها بعضهم بعضًا أو يعادون بعضهم .
4. أما الصفة الأخيرة والتي من المفترض أن تكون بمن سيذهب للقدس ويصلي هناك ويكون من أهل المسجد الأقصى فهي الحركة والإنتاج والعطاء.
هذه هي الأربع صفات ولكن ما توافر في بني إسرائيل كان العكس لذلك لم يدخلوا، لأن هذه الأرض هي ترمومتر الإيمان لا يدخلها إلا المؤمنون حقًا، { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ{22} } (المائدة: الآية 22) أترى خوف بني إسرائيل وذلهم مع أن المفروض أن يتصفوا بالشجاعة ليتمكنوا من دخول الأرض المقدسة هذه هي الصفة الأولى.
أما الصفة الثانية فيأتي ذكرها في الآية الكريمة: { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ...{23} } (المائدة: الآية 23) تأمرهم الآية الكريمة أن يأخذوا خطوة وأن يتحركوا في سبيل الدخول إلى القدس، ولكنهم قعدوا بلا حركة بلا إنتاج أو عطاء فيقولون بتكاسل { ...إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } (المائدة: الآية 24)، إن هذه الأمة لا تريد التحرك فالشباب لا يريد أن ينتج أي شيء بل يريدون أن يقفوا في مكانهم ولا يريدون أن يأخذوا خطوة للأمام أو أن يتقدموا بأي شيء، ولا يريدون أن يتعلموا أي علم ٍ جديد في مجالهم أو في أي مجال آخر، مستسلمين للبطالة لا يريدون التعلم أو أن يحصلوا على خبراتٍ جديدة.
{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{23} } (المائدة: الآية 23)، كان من بني إسرائيل رجلان فقط هم من أبدوا الاستعداد للتحرك والدخول إلى القدس ولكنهما اثنان فقط ولم يكن هذا كافيًا، إن مشكلة بني إسرائيل كانت ضعف الإرادة وضعف الثقة بالله، فتنازعوا مع الرجلين واشتد الخلاف بينهم فقالوا لموسى كما جاء بالآية الكريم: { قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: الآية 24) إنها إساءة أدب في حقِّ الله تعالى وضعف ثقةٍّ بالله وكسلٍ وتراخ ٍ وعجز أنفس ذليلة. فما كان من موسى إلا أن قال كما جاء بالآية: { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (المائدة: الآية 25)، فهؤلاء قوم متفرقون لا يوجد بينهم أي وحدة، ولا توجد الوحدة إلا بين موسى وبين أخيه، {...فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} إن من لا يريد أن يكون في المسجد الأقصى هم الفاسقون.
فهل أنت شجاع وصاحب نفس حرة؟ هل أنت متوكلٌ على الله؟ هل ثقتك بالله قوية؟ هل بينك وبين باقي العرب والمسلمين أخوة وحب، هل نحن أمة متآخية متحدة؟ هل هناك تعايش وانفتاح واستعداد للوحدة ؟ هل لك أخوة تحبهم ويحبونك وتعينون بعضكم على طاعة الله؟ فتنتجون وتنجحون مع بعضكم ، هل أنت قادر على العطاء وهل تساعد الفقراء؟ هل يوجد حركة وإنتاج وعطاء؟ يا جماعة إن حب المسجد الأقصى ليس كلامًا فقط ولا نظريات أو دموع بل صفاتٌ أربع، بكم تقيم نفسك في الأربع صفات سابقة الذكر؟ إذا حصلت على درجة عالية في تقييمك لذاتك فضع يدك في يد غيرك لتصبحوا أنت وغيرك بإذن الله الجيل المقصود، إن بني إسرائيل لم يكونوا كذلك لذلك جاءت ختام الآيات بأن قال الله تعالى لهم: { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ...} (المائدة: الآية 26)، لقد حرم الله سبحانه وتعالى عليهم القدس، فهي ترمومتر الإيمان فلا يدخلها أيًا كان، إن بعض التفاسير قد فسرت الآية الكريمة على أنها محرمة عليهم تحريمًا أبديًا فيتيهون أربعين سنة في الأرض، وفي تفاسير أخرى بأنها حرمت عليهم أربعين سنة حتى يستكملوا الصفات الأربع، وكانت هذه هي عقوبة بني إسرائيل، فهل يا ترى أيها المسلمون ما نحن فيه اليوم نوع من أنواع التيه بما أننا تركنا الصفات الأربع؟ تيهٌ نفسي ومعنوي، هل نعاني مما عانى منه بنو إسرائيل؟ عاقبهم الله مدة أربعين سنة حتى يتغير الجيل فيذهب الجيل القديم ويأتي بعده جيلٌ جديد، وبالتالي كان دور موسى هو الشباب، أن يعد جيل من الشباب تتوافر لديهم الصفات الأربع فيكونون ناجحين في عملهم يستطيعون مد يد المساعدة والعطاء، شجعانًا ذوي أنفس حرة ومتوكلين على الله بينهم أخوة ووحدة هذا هو الجيل، وهذا هو ما يجب أن يعمل وألا يكون كلامًا نظريًا.
قوانين الله في كونه:
ومات موسى في هذا التيه، فلم يجد الوقت الكافي ليبني جيلًا لديه هذه الصفات الأربع لأنها احتاجت أربعين سنة، وجاء من بعده يوشع بن نون تلميذ موسى النجيب، وسنرى كيف كان موقف موسى مع الخضر وكيف سيلتقي موسى بيوشع ليجهزه بالعلم لأن يوشع بن نون هو من سيدخل القدس وستكون الصفات الأربع قد اكتملت في عهده، إن لله في الكون قوانين فكما تشرق الشمس من المشرق فإن المسجد الأقصى ليس لأي أحد بل هو لمن تتوافر لديه الصفات الأربع، فهي ترمومتر الإيمان في الأرض، فالقدس ليست بالكلام أو الدعاء فقط بل باستكمال الصفات فهي كقوانين ثابتة بالكون، فهل يا ترى جيلنا هذا هو الجيل المقصود أم لابد أن ننتظر جيلاً آخر؟ مات موسى دون أن يكمل وكانت أمنيته أن يكمل فيدخل القدس وقد مات موسى وهو متعلقٌ بالقدس، وتمنى من الله أن يدفن في أقرب بقعة من القدس فدفن على جبل نيبو، نحن لا نعرف المكان بالظبط ولكنها أقرب البقاع إلى المسجد الأقصى.
هل أنت مشتاقٌ للمسجد الأقصى؟ يجب أن تكون أمانة المسجد الأقصى في قلبك عظيمة، فهو ليس كأي مسجد، وقد أوصانا به النبي صلى الله عليه وسلم وقد استلم النبي الراية حتى يسلمنا إياها، إنها أمانة في رقبتك تُسأل عنها يوم القيامة فأصدِق الله وضعها كنية من نواياك الكبيرة حتى نحرر المسجد الأقصى، فطالما لا يوجد مكان للمسلمين في المسجد الأقصى فسنُسأل عن ذلك يوم القيامة، إن قيمة اليوم غالية جدًا على قلوبنا، فاملأ عينيك وقلبك وعقلك برؤية المسجد الأقصى، وانوها كنية لتعش بها دائمًا.
http://rooosana.ps/Down.php?d=WaxB</SPAN>
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir