بدر بن عبدالمحسن
23-01-2009, 01:56
الإقناع
في
حكم الإيقاع
إِعْدَاْدُ/
عَاْمِرِ بنِ مُحَمَّدِ فِدَاْءِ بنِ بَهْجَت الْجُدِّي
غفر الله له ولوالديه ولمشايخه -
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَىْ أَشْرَفِ الْمُرْسَلِيْنَ، سَيِّدِ الأَوَّلِيْنَ والآخِرِيْنَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، أمَّاْ بَعْدُ:
فَقَدْ تَتَاْبَعَ العُلْمَاْءُ رَحِمَهُمُ اللهُ فِيْ القَدِيْمِ وَالْحَدِيْثِ عَلَى ذَمِّ المَعَاْزِفِ وَآلاتِ اللهْوِ، وَحَذَّرُوا مِنْهَاْ وَأَنْكَرُوا عَلَىْ المُخَاْلِفِ، وَاتَّفَقَتْ المَذَاْهِبُ الْفِقْهِيَّةُ الأَرْبَعَةُ عَلَىْ تَحْرِيْمِهَاْ وَالْمَنْعِ مِنْهَاْ..[1] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn1) وَوَقَعَ الخِلافُ بَيْنَهُمْ –قَدِيْمَاً وَحَدِيْثَاً- فِيْ حُكْمِ الْغِنَاْءِ بِالْكَلِمَاْتِ المُبَاْحَةِ بِغَيْرِ اسْتِخْدَاْمِ الْمَعَاْزِفِ مَاْبَيْنَ مُبِيْحٍ وَمَاْنِعٍ وَمُفَصِّلٍ.[2] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn2)
أَيَّاً مَاْ كَاْنَ فَلَيْسَ المُرَاْدُ بِهَذِهِ الْوَرَقَاْتِ تَقْرِيْرَ تَحْرِيْمِ الْمَعَاْزِفِ وَآلاتِ الّلهْوِ، وَلاْ تَقْرِيْرَ جَوَاْْزِ الْغِنَاْءِ الْخَاْلِيْ مِنَ الْمَعَاْزِفِ أَوْ مَاْ يُسْمَّىْ بِاْلأَنَاْشِيْدِ، بَلْ مَحَلُّ الْبَحْثِ فِيْ هَذِهِ الْوَرَقَاْتِ عَنْ حُكْمِ مَاْ دَخَلَ عَلَىْ بَعْضِ الأَنَاْشِيْدِ أَوْ فِيْ بَعْضِ القَنَوَاتِ مِنْ المُؤَثِرَاْتِ الصَّوْتِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِـ" الإيقاعات" التي تصدر باستخدام أجهزة أوبرامج كمبيوترية تقوم بمعالجة وتعديل الصوت البشري ويمكن بذلك تحويله إلى صوت شبيه جداً بصوت الموسيقى.
وقبل الكلام عن الحكم أكشف الستار عن معنى "الإيقاع" في اللغة وفي اصطلاح الموسيقيين، ثم صورة المسألة التي يراد الكلام عليها والمراد بالإيقاع هنا إذ "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"[3] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn3) فأقول:
الإيقاع لغة:
مصدر أوقع يوقع إيقاعاً، وله معانٍ كثيرة لكن ألصقها بموضوع البحث ما ذكره ابن منظور في "لسان العرب" بقوله: (و الإِيقاع : من إِيقاع اللـحْنِ والغِناءِ وهو أَن يوقع الأَلـحانَ ويبـينها، وسمى الـخـلـيل، رحمه الله، كتاباً من كتبه فـي ذلك الـمعنى كتاب الإِيقاع .)[4] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn4)
وقال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: (و الإيقاعُ : إيقاعُ ألْحانِ الغناءِ، وهو أن يُوقِعَ الأَلْحانَ ويَبْنِيَها)[5] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn5)
وقد وردت كلمة الإيقاعات على لسان غير واحد من أهل العلم بهذا المعنى فمن ذلك:
قول ابن القيم رحمه الله: (وكلُّ من له علم بأحوال السلف، يعلم قطعاً أنهم بُرآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة ، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها، ويُسوِّغوها) [6] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn6)
الإيقاع في اصطلاح الموسيقيين[7] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn7):
عرفه الخوارزمي(ت:387هـ) في فصل الإيقاعات المستعملة من باب الموسيقى من كتابه مفاتيخ العلوم[8] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn8) بقوله: (الإيقاع هو النقلة على النغم في أزمنة محدودة المقادير والنسب.)
تعريف الإيقاعات في اصطلاح البحث:
هو صوت مشابه أو مماثل لصوت الموسيقى يصدر بمعالجة وتعديل الصوت البشري ونحوه بواسطة برامج الكمبيوتر ونحوها [9] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn9)
وحيث أطلقتُ كلمة "الإيقاعات" في هذا البحث فالمراد به هذا.
حكم الإيقاعات:
اختلف أهل العلم المعاصرون في الحكم على هذه النازلة ما بين مانع ومجوِّز، وسأعرض هنا كلا القولين (التحريم والجواز) بأدلتهما فإلى ذلك:
أدلة القول بالتحريم[10] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn10)، ما يلي:
الدليل الأول:
أن الشرع لا يفرق بين المتماثلات، فلا يليق أن ينسب إلى الشرع الحكيم أنه يحرم صوتاً ثم يبيح صوتاً مماثلاً له ، قال ابن القيم: (وإذا تأملت أسرار هذه الشريعة الكاملة وجدتها في غاية الحكمة ورعاية المصالح لا تفرق بين متماثلين ألبتة، ولا تسوي بين مختلفين ولا تحرم شيئاً لمفسدة وتبيح ما مفسدته مساوية لما حرمته أو رجحته عليه، ولا تبيح شيئاً لمصلحة وتحرم ما مصلحته تساويه لما أباحته ألبتة، ولا يوجد فيما جاء به الرسول شيء من ذلك ألبتة.)[11] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn11) ، وقال أيضاً: (أَمَّا أَحْكَامُهُ الْأَمْرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَكُلُّهَا هَكَذَا , تَجِدُهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ , وَإِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ , وَاعْتِبَارِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ , وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ , وَعَدَمِ تَسْوِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ , وَشَرِيعَتُهُ - سُبْحَانَهُ - مُنَزَّهَةٌ أَوْ تَنْهَى عَنْ شَيْءٍ لِمَفْسَدَةٍ فِيهِ , ثُمَّ تُبِيحُ مَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ أَوْ مِثْلِهَا أَوْ أَزِيدَ مِنْهَا , فَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى الشَّرِيعَةِ فَمَا عَرَفَهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا ; وَلَا قَدَّرَهَا حَقَّ قَدْرِهَا وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالشَّرِيعَةِ أَنَّهَا تُبِيحُ شَيْئًا لِحَاجَةِ الْمُكَلَّفِ إلَيْهِ وَمَصْلَحَتِهِ ثُمَّ تُحَرِّمُ مَا هُوَ أَحْوَجُ إلَيْهِ وَالْمَصْلَحَةُ فِي إبَاحَتِهِ أَظْهَرُ , وَهَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يُشَرِّعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْحِيَلِ مَا يَسْقُطُ بِهِ مَا أَوْجَبَهُ , أَوْ يُبِيحَ بِهِ مَا حَرَّمَهُ , وَلَعَنَ فَاعِلَهُ , وَآذَنَهُ بِحَرْبِهِ وَحَرْبِ رَسُولِهِ , وَشَدَّدَ فِيهِ الْوَعِيدَ ; لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسَوِّغُ التَّوَصُّلَ إلَيْهِ بِأَدْنَى حِيلَةٍ , وَلَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ اعْتَمَدَ هَذَا فِيمَا يَحْمِيهِ مِنْهُ الطَّبِيبُ وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ لَكَانَ مُعِينًا عَلَى نَفْسِهِ , سَاعِيًا فِي ضَرَرِهِ , وَعُدَّ سَفِيهًا مُفْرِطًا , وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عِبَادَهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ , وَحُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ , وَعَلَى إنْكَارِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ , وَعَلَى إنْكَارِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ , وَالْعَقْلُ وَالْمِيزَانُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - شَرْعًا وَقَدْرًا يَأْبَى ذَلِكَ)[12] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn12)
وصوت الإيقاعات مماثل لصوت الموسيقى فلا يصح التفريق بينهما في الحكم الشرعي.
ويناقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: أن الغالب في الإيقاعات أنها لا تماثل الصوت الصادر من الآلات مماثلة تامة بل يدرك المتخصص والخبير الفرق بينهما.
ورُدَّ[13] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn13) من وجهين:
الأول: أن وجود الفارق اليسير بين الصوتين لا يمنع التسوية بينهما في الحكم.
الثاني: أن آلات اللهو يختلف صوتها باختلاف العازف عليها وطريقة العزف ولم يكن هذا موجباً للتفريق بينهما في الحكم فكذلك هنا.
الثالث: أن هذا الفارق اليسير لا يدركه عامة الناس فلا يعدُّ فرقاً.
ورُدَّ: بأن المعتبر في مثل هذا بأهل الخبرة والاختصاص لا بالعامة والجهلة فَرُبَّ إنسانٍ لايدرك الفرق بين الذهب الأصيل والمغشوش ولايدرك مثل هذا إلا أهل الخبرة ولا يقال بتسوية الذهب الأصيل بالمغشوش في الأحكام لأن عامة الناس لايفرقون بينهما.
الوجه الثاني:[14] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn14) أن الشرع قد يفرق بين صوتين متماثلين فيبح أحدهما ويحرم الآخر لاختلاف مصدرهما، فإن الرجل يباح له سماع صوت تغنج زوجته وتكسرها في الكلام ولا يباح له سماع صوت الأجنبية على تلك الحال ولو كان الصوتان متماثلين تماماً، فدلّ على أن لمصدر الصوت أثراً في تغيير الحكم من الحل للحرمة أو بالعكس.
ورُدَّ: بأن منع سماع صوت الأجنبية على تلك الصفة إنما هو من باب منع الوسائل المفضية إلى الزنا، ولما كانت الزوجة حلالاً له انتفت العلة التي من أجلها منع من ذلك الصوت، وليس ذلك لاختلاف مصدر الصوت فإنه لو طلّق زوجته وبانت منه حرم عليه ذلك منها مع أن المصدر واحد، بخلاف مسألتنا.
الدليل الثاني:
أن العبرة بمآلات الأمور، ولا يحكم على الأفعال بمجردها دون نظرٍ إلى ماتؤول إليه، فصوت الآدمي إذا غُيِِّر فآل إلى الصوت الموسيقي فالعبرة بما آل إليه لا بأصله، كما أن النفخ وإخراج الهواء من الفم جائز لكن إذا كان النفخ في مزمار أو بوق أو نحوهما حرم لأن مآله إلى صوت موسيقي محرم فكما أن الصوت الصادر من المزمار أصله نفخ آدمي ومع هذا حُكمَ بتحريمه فكذلك يقال في الإيقاعات.
الدليل الثالث:
أن الطرب الحاصل بالإيقاعات نفس الطرب الحاصل بآلات الموسيقى فوجب إلحاقها بها بهذا الجامع بل قد يكون بعض الإيقاعات أبلغ في الطرب من بعض أصوات الموسيقى، قال ابن القيم: (وإذا كان الزمر، الذي هو أخف آلات اللهو، حراماً، فكيف بما هو أشد منه؟ كالعود، والطنبور، واليراع، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك. فأقل ما فيه: أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور)[15] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn15)، وقال ابن حجر الهيتمي: (قال االشمس الجوهري في شرح الإرشاد ويمكن أن يستدل لتحريم الشبابة القياس على الآلات المحرمة لاشتراكه في كونهمطرب. بل ربمما كان الطرب الذي فيه أشد من الطرب الذي في نحو الكمنجة والربابة فهوا إما قياس الأولى أو المساواة بالنسبة إلى المذكورين وهما حرام بلا خلاف.انتهى
وصرح بما يعم ذلك إمام الحرمين أيضاً ونقله عنه الأذرعي قال عقبه إنه لفي غاية الحسن وعبارة توسطه وقد اشار الإمام إلى ضابط الحرمة من ذلك وغيره بقوله: مايصدر من الحان مستلذة تهيج السامع وتستحثه على الطرب ومجالسة أحداثه فهو المحرم. فهذه العبارة تشهد ما نحن فيه بالنص لان ماذكر موجود فيه وزيادة)[16] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn16)
ويناقش من أوجه:
الأول: أنه لم يأت دليل صريح على أن علة تحريم المعازف التي يدور معها الحكم وجوداً وعدماً هي الطرب أو الإطراب.
الثاني: أنه لو قيل بأن علة تحريم المعازف هي الطرب للزم منه: جواز سماع المعازف على وجه لاطرب فيه.
الثالث: أن الشرع لم يحرم كل مطرب، فقد يطرب الإنسان لصوت زوجته فلا يحرم سماع صوتها، وقد يطرب لصوت البلبل فلا يحرم سماعه، وقد يطرب لصوت قارئ فلا يحرم سماعه، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود »[17] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn17) وقال أبو عثمان النهدي:” دخلت دار أبي موسى الأشعري فما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا ناي أحسن من صوته ” [18] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn18) والصنج هو آلة تتخذ من نحاس كالطبقين يضرب أحدهما بالآخر، والبربط آلة تشبه العود ، والناي هو المزمار، فهل يكون صوت أبي موسى محرماً؟.
الرابع: أن الطرب أمر ذوقيٌ يتفاوت الناس فيه فليس هو وصف ظاهر منضبط يمكن تعليل الحكم به، وقد اشترط الأصوليون في كون الوصف علة أن يكون وصفاً ظاهراً منضبطاً، قال ابن النجار: (ويعتبر فيه [أي الوصف المجعول علة] أمران , أحدهما : أن يكون ظاهرا لا خفيا , الثاني : أن يكون منضبطا , أي متميزا عن غيره .)[19] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn19).
الدليل الرابع:
أن هذه الأصوات تتردد بين أصلين:
أصل مباح: وهو صوت الآدمي.
وأصل محرم: وهو صوت المعازف والموسيقى.
فتلحق بأكثرهما شبهاً بها ولاشك أن شبهها بأصوات الموسيقى أقرب من شبهها بأصوات الآدميين الطبيعية المجردة، وهذا ما يسمَّى عند الأصوليين بـ"قياس الشَبَه".[20] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn20)
ويناقش: بأن قياس الشبه ضعيف في حجيته وقد أنكر حجيته كثير من الأصوليين منهم الإمام المحقق ابن القيم في إعلام الموقعين، حيث قال: (وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَلَمْ يَحْكِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إلَّا عَنْ الْمُبْطِلِينَ ; فَمِنْهُ قوله تعالى إخْبَارًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا وَجَدُوا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِمْ : { إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } فَلَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِعِلَّةٍ وَلَا دَلِيلِهَا , وَإِنَّمَا أَلْحَقُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ جَامِعٍ سِوَى مُجَرَّدِ الشَّبَهِ الْجَامِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يُوسُفَ , فَقَالُوا : هَذَا مَقِيسٌ عَلَى أَخِيهِ , بَيْنَهُمَا شَبَهٌ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ , وَذَاكَ قَدْ سَرَقَ فَكَذَلِكَ هَذَا , وَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ بِالشَّبَهِ الْفَارِغِ , وَالْقِيَاسِ بِالصُّورَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّسَاوِي , وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ , وَالتَّسَاوِي فِي قَرَابَةِ الْأُخُوَّةِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلتَّسَاوِي فِي السَّرِقَةِ لَوْ كَانَتْ حَقًّا , وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّسَاوِي فِيهَا ; فَيَكُونُ الْجَمْعُ لِنَوْعِ شَبَهٍ خَالٍ عَنْ الْعِلَّةِ وَدَلِيلِهَا . وَمِنْهُ قوله تعالى إخْبَارًا عَنْ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا : { مَا نَرَاكَ إلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا } فَاعْتُبِرُوا صُورَةَ مُجَرَّدِ الْآدَمِيَّةِ وَشَبَهَ الْمُجَانَسَةِ فِيهَا , وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ حُكْمُ الْآخَرِ ; فَكَمَا لَا نَكُونُ نَحْنُ رُسُلًا فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ , فَإِذَا تَسَاوَيْنَا فِي هَذَا الشَّبَهِ فَأَنْتُمْ مِثْلُنَا لَا مَزِيَّةَ لَكُمْ عَلَيْنَا , وَهَذَا مِنْ أبطل الْقِيَاسِ ; فَإِنَّ الْوَاقِعَ مِنْ التَّخْصِيصِ وَالتَّفْضِيلِ وَجَعْلِ بَعْضِ هَذَا النَّوْعِ شَرِيفًا وَبَعْضَهُ دَنِيًّا , وَبَعْضَهُ مَرْءُوسًا وَبَعْضَهُ رَئِيسًا , وَبَعْضَهُ مَلِكًا وَبَعْضَهُ سُوقَةً , يُبْطِلُ هَذَا الْقِيَاسَ , كَمَا أَشَارَ سُبْحَانَهُ إلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّك نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سِخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّك خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } . وَأَجَابَتْ الرُّسُلُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِمْ : { إنْ نَحْنُ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إنَّكُمْ إذًا لَخَاسِرُونَ } فَاعْتَبَرُوا الْمُسَاوَاةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ , وَهَذَا مُجَرَّدُ قِيَاسِ شَبَهٍ وَجَمْعٍ صُورِيٍّ , وَنَظِيرُ هَذَا قَوْله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } وَمِنْ هَذَا قِيَاسُ الْمُشْرِكِينَ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ الصُّورِيِّ , وَمِنْهُ قِيَاسُهُمْ الْمَيْتَةَ عَلَى الْمُذَكَّى فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْقِيَاسُ فِي الْقُرْآنِ إلَّا مَرْدُودًا مَذْمُومًا ....)[21] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn21)
الدليل الخامس:
أن أجهزة الكمبيوتر وبرامج الصوت إذا استخدمت لإصدار الأصوات المطربة كانت من آلات اللهو المحرمة الداخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف"[22] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn22) فالمعازف تتطور وتتغير من زمان لآخر، ولا يمكن قصر الحديث على الآلات الموجود في زمن الرسالة، وقد قال ابن القيم: (المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك)[23] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn23) وقال ابن تيمية: (والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها.)[24] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn24)، فكل ما يستخدم لإصدار الأصوات الموسيقية هو من المعازف الداخلة في الحديث، وقد نقل ابن حجر الهيتمي الضابط في الآلات المحرمة فقال: (وقد اشار الإمام إلىضابط الحرمة من ذلك وغيره بقوله: مايصدر من الحان مستلذة تهيج السامع وتستحثه على الطرب ومجالسة أحداثه فهو المحرم.)[25] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn25)
ويناقش من وجهين:
الأول: أن أجهزة الكمبيوتر وبرامج الصوت لا تسمى "معازف" لا لغة ولا عرفاً فليست هي آلة من آلات اللهو، لأنها غير معدة للهو والطرب، فليست كالطبل والمزمار ونحوهما، وإنما هي وسيلة ذات أغراض متعددة.
ورُدَّ: بأن استخدامها على ذلك الوجه يجعلها آلة لهو، وإن لم تكن معدة لذلك في الأصل، ثم إن اعتماد كثير من المطربين وأهل الفن على برامج الصوت والأجهزة الحديثة يجعلها من أبرز آلات اللهو في هذا العصر عند استخدامها لهذا الغرض، فكلمة (آلات اللهو) تعم كل آلة تستخدم في اللهو والطرب.
الثاني: أن الإيقاعات تستخدم لغرض نشر الخير والدعوة فليست من اللهو، ولذا فلا يصح تسمية الآلات المصدرة لها "آلات لهو".
ورُدَّ: بأن استخدامه للأغراض المذكورة لا يغيّر الحكم فهو "لهو" استخدم لما ذُكِرَ، والعبرة بالحقائق لا بالمسمّيات، ومن المعلوم أن من شرط الوسائل أن تكون مباحة غير محرمة.
الدليل السادس:
أن كون هذه الإيقاعات أصلها مباح وهو الصوت البشري الذي يدخل للجهاز ويجري تعديله لا يجعلها مباحة نظراً لأصلها بل إجراء عملية تعديل الصوت يجعل حكم الصوت الخارج بعد التعديل مخالفاً لحكم الصوت الداخل، فالعزف بالبوق والمزمار أصله: نفخ الآدمي في المزمار أو البوق ، ونفخ الآدمي جائز، وسماع صوت خروج الهواء جائز لكن لما أدخل ذلك في البوق والمزمار وأخرج صوتاً مطرباً مستلذاً صار حراماً.. وهذا نظير مسألتنا، فوجب الحكم على الصوت الخارج من الجهاز بالتحريم، ولايشوِّش على هذا أن الصوت الداخل جائز.
قال الشيخ مصطفى مخدوم: (الأحكام الشرعية متعلقة بحقائق الأعيان، فإذا تغيرت هذه الحقائق تغيرت الأحكام معها، والأعيان التي تستحيل من صفة إلى صفة تكتسب حكم الصفة المستحيلة إليها والصوت في مسألتنا بعد المعالجة تبدلت حقيقته وتغير اسمه ووصفه....)[26] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn26)
الدليل السابع:
أن استخدام الإيقاعات فيه تشبه بالفسقة والكفرة، والتشبه بهم محرم لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)[27] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn27).
ويناقش من وجهين:
الأول: أن هذه الأصوات ليست من خصائص الفسقة والكفرة فلا تكون تشبهاً فقد استخدمها أهل الخير والصلاح فانتفى وصف التشبه عن مستخدمها.
الثاني: أن استخدام الفسقة أو الكفرة للتقنية في الباطل لايوجب على غيرهم تركها في الدعوة إلى الخير، وإلا للزم ترك كثير من الآلات الحديثة التي سبق الفسقة باستخدامها في الشر.
الدليل الثامن:
على فرض وجود دليل لإباحة الإيقاعات فقد وُجِدَ دليل لتحريمها والقاعدة أنه (إذا اجتمع مبيح وحاظر غلب جانب الحظر).
ويناقش: بعدم التسليم بوجود الحاظر فإن الأصل الإباحة وما استُدِلَ به على الحظر غير مسلّم به.
الدليل التاسع:
أن مجرد مشابهة الزمر والمعازف مذموم ولو لم تكن المشابهة صادرة عن آلات كما روى البخاري عنْ عَائًّشةَ قالَتْ دَخَلَ علَيَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعِنْدِي جارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فاضْطَجَعَ عَلى الفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ ودخَلَ أبُو بَكْرٍ فانْتَهَرَنِي وقال مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأقْبَلَ علَيْهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال دَعْهُمَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُما فخَرَجَتَا.[28] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn28)
قال العيني في شرحه:
((وقال المهلب: الذي أنكره أبو بكر كثرة التنغيم وإخراج الإنشاد من وجهه إلى معنى التطريب بالألحان، ألاَ ترى أنه لم ينكر الإنشاد، وإنما أنكر مشابهة الزمر بما كان في المعتاد الذي فيه اختلاف النغمات وطلب الإطراب، فهو الذي يخشى منه، وقطع الذريعة فيه أحسن.))[29] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn29)، فنحن ننكر مشابهة الموسيقى كما أنكر أبو بكر t مشابهة الزمر.
ويناقش: بأن إقرار النبي صلى لله عليه وسلم يدل على جواز فعل الجاريتين، فكيف يستدل بإنكار أبي بكر، ولا يستدل بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم!؟.
في
حكم الإيقاع
إِعْدَاْدُ/
عَاْمِرِ بنِ مُحَمَّدِ فِدَاْءِ بنِ بَهْجَت الْجُدِّي
غفر الله له ولوالديه ولمشايخه -
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَىْ أَشْرَفِ الْمُرْسَلِيْنَ، سَيِّدِ الأَوَّلِيْنَ والآخِرِيْنَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، أمَّاْ بَعْدُ:
فَقَدْ تَتَاْبَعَ العُلْمَاْءُ رَحِمَهُمُ اللهُ فِيْ القَدِيْمِ وَالْحَدِيْثِ عَلَى ذَمِّ المَعَاْزِفِ وَآلاتِ اللهْوِ، وَحَذَّرُوا مِنْهَاْ وَأَنْكَرُوا عَلَىْ المُخَاْلِفِ، وَاتَّفَقَتْ المَذَاْهِبُ الْفِقْهِيَّةُ الأَرْبَعَةُ عَلَىْ تَحْرِيْمِهَاْ وَالْمَنْعِ مِنْهَاْ..[1] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn1) وَوَقَعَ الخِلافُ بَيْنَهُمْ –قَدِيْمَاً وَحَدِيْثَاً- فِيْ حُكْمِ الْغِنَاْءِ بِالْكَلِمَاْتِ المُبَاْحَةِ بِغَيْرِ اسْتِخْدَاْمِ الْمَعَاْزِفِ مَاْبَيْنَ مُبِيْحٍ وَمَاْنِعٍ وَمُفَصِّلٍ.[2] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn2)
أَيَّاً مَاْ كَاْنَ فَلَيْسَ المُرَاْدُ بِهَذِهِ الْوَرَقَاْتِ تَقْرِيْرَ تَحْرِيْمِ الْمَعَاْزِفِ وَآلاتِ الّلهْوِ، وَلاْ تَقْرِيْرَ جَوَاْْزِ الْغِنَاْءِ الْخَاْلِيْ مِنَ الْمَعَاْزِفِ أَوْ مَاْ يُسْمَّىْ بِاْلأَنَاْشِيْدِ، بَلْ مَحَلُّ الْبَحْثِ فِيْ هَذِهِ الْوَرَقَاْتِ عَنْ حُكْمِ مَاْ دَخَلَ عَلَىْ بَعْضِ الأَنَاْشِيْدِ أَوْ فِيْ بَعْضِ القَنَوَاتِ مِنْ المُؤَثِرَاْتِ الصَّوْتِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِـ" الإيقاعات" التي تصدر باستخدام أجهزة أوبرامج كمبيوترية تقوم بمعالجة وتعديل الصوت البشري ويمكن بذلك تحويله إلى صوت شبيه جداً بصوت الموسيقى.
وقبل الكلام عن الحكم أكشف الستار عن معنى "الإيقاع" في اللغة وفي اصطلاح الموسيقيين، ثم صورة المسألة التي يراد الكلام عليها والمراد بالإيقاع هنا إذ "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"[3] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn3) فأقول:
الإيقاع لغة:
مصدر أوقع يوقع إيقاعاً، وله معانٍ كثيرة لكن ألصقها بموضوع البحث ما ذكره ابن منظور في "لسان العرب" بقوله: (و الإِيقاع : من إِيقاع اللـحْنِ والغِناءِ وهو أَن يوقع الأَلـحانَ ويبـينها، وسمى الـخـلـيل، رحمه الله، كتاباً من كتبه فـي ذلك الـمعنى كتاب الإِيقاع .)[4] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn4)
وقال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: (و الإيقاعُ : إيقاعُ ألْحانِ الغناءِ، وهو أن يُوقِعَ الأَلْحانَ ويَبْنِيَها)[5] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn5)
وقد وردت كلمة الإيقاعات على لسان غير واحد من أهل العلم بهذا المعنى فمن ذلك:
قول ابن القيم رحمه الله: (وكلُّ من له علم بأحوال السلف، يعلم قطعاً أنهم بُرآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة ، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها، ويُسوِّغوها) [6] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn6)
الإيقاع في اصطلاح الموسيقيين[7] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn7):
عرفه الخوارزمي(ت:387هـ) في فصل الإيقاعات المستعملة من باب الموسيقى من كتابه مفاتيخ العلوم[8] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn8) بقوله: (الإيقاع هو النقلة على النغم في أزمنة محدودة المقادير والنسب.)
تعريف الإيقاعات في اصطلاح البحث:
هو صوت مشابه أو مماثل لصوت الموسيقى يصدر بمعالجة وتعديل الصوت البشري ونحوه بواسطة برامج الكمبيوتر ونحوها [9] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn9)
وحيث أطلقتُ كلمة "الإيقاعات" في هذا البحث فالمراد به هذا.
حكم الإيقاعات:
اختلف أهل العلم المعاصرون في الحكم على هذه النازلة ما بين مانع ومجوِّز، وسأعرض هنا كلا القولين (التحريم والجواز) بأدلتهما فإلى ذلك:
أدلة القول بالتحريم[10] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn10)، ما يلي:
الدليل الأول:
أن الشرع لا يفرق بين المتماثلات، فلا يليق أن ينسب إلى الشرع الحكيم أنه يحرم صوتاً ثم يبيح صوتاً مماثلاً له ، قال ابن القيم: (وإذا تأملت أسرار هذه الشريعة الكاملة وجدتها في غاية الحكمة ورعاية المصالح لا تفرق بين متماثلين ألبتة، ولا تسوي بين مختلفين ولا تحرم شيئاً لمفسدة وتبيح ما مفسدته مساوية لما حرمته أو رجحته عليه، ولا تبيح شيئاً لمصلحة وتحرم ما مصلحته تساويه لما أباحته ألبتة، ولا يوجد فيما جاء به الرسول شيء من ذلك ألبتة.)[11] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn11) ، وقال أيضاً: (أَمَّا أَحْكَامُهُ الْأَمْرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَكُلُّهَا هَكَذَا , تَجِدُهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ , وَإِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ , وَاعْتِبَارِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ , وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ , وَعَدَمِ تَسْوِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ , وَشَرِيعَتُهُ - سُبْحَانَهُ - مُنَزَّهَةٌ أَوْ تَنْهَى عَنْ شَيْءٍ لِمَفْسَدَةٍ فِيهِ , ثُمَّ تُبِيحُ مَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ أَوْ مِثْلِهَا أَوْ أَزِيدَ مِنْهَا , فَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى الشَّرِيعَةِ فَمَا عَرَفَهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا ; وَلَا قَدَّرَهَا حَقَّ قَدْرِهَا وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالشَّرِيعَةِ أَنَّهَا تُبِيحُ شَيْئًا لِحَاجَةِ الْمُكَلَّفِ إلَيْهِ وَمَصْلَحَتِهِ ثُمَّ تُحَرِّمُ مَا هُوَ أَحْوَجُ إلَيْهِ وَالْمَصْلَحَةُ فِي إبَاحَتِهِ أَظْهَرُ , وَهَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يُشَرِّعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْحِيَلِ مَا يَسْقُطُ بِهِ مَا أَوْجَبَهُ , أَوْ يُبِيحَ بِهِ مَا حَرَّمَهُ , وَلَعَنَ فَاعِلَهُ , وَآذَنَهُ بِحَرْبِهِ وَحَرْبِ رَسُولِهِ , وَشَدَّدَ فِيهِ الْوَعِيدَ ; لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسَوِّغُ التَّوَصُّلَ إلَيْهِ بِأَدْنَى حِيلَةٍ , وَلَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ اعْتَمَدَ هَذَا فِيمَا يَحْمِيهِ مِنْهُ الطَّبِيبُ وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ لَكَانَ مُعِينًا عَلَى نَفْسِهِ , سَاعِيًا فِي ضَرَرِهِ , وَعُدَّ سَفِيهًا مُفْرِطًا , وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عِبَادَهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ , وَحُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ , وَعَلَى إنْكَارِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ , وَعَلَى إنْكَارِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ , وَالْعَقْلُ وَالْمِيزَانُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - شَرْعًا وَقَدْرًا يَأْبَى ذَلِكَ)[12] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn12)
وصوت الإيقاعات مماثل لصوت الموسيقى فلا يصح التفريق بينهما في الحكم الشرعي.
ويناقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: أن الغالب في الإيقاعات أنها لا تماثل الصوت الصادر من الآلات مماثلة تامة بل يدرك المتخصص والخبير الفرق بينهما.
ورُدَّ[13] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn13) من وجهين:
الأول: أن وجود الفارق اليسير بين الصوتين لا يمنع التسوية بينهما في الحكم.
الثاني: أن آلات اللهو يختلف صوتها باختلاف العازف عليها وطريقة العزف ولم يكن هذا موجباً للتفريق بينهما في الحكم فكذلك هنا.
الثالث: أن هذا الفارق اليسير لا يدركه عامة الناس فلا يعدُّ فرقاً.
ورُدَّ: بأن المعتبر في مثل هذا بأهل الخبرة والاختصاص لا بالعامة والجهلة فَرُبَّ إنسانٍ لايدرك الفرق بين الذهب الأصيل والمغشوش ولايدرك مثل هذا إلا أهل الخبرة ولا يقال بتسوية الذهب الأصيل بالمغشوش في الأحكام لأن عامة الناس لايفرقون بينهما.
الوجه الثاني:[14] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn14) أن الشرع قد يفرق بين صوتين متماثلين فيبح أحدهما ويحرم الآخر لاختلاف مصدرهما، فإن الرجل يباح له سماع صوت تغنج زوجته وتكسرها في الكلام ولا يباح له سماع صوت الأجنبية على تلك الحال ولو كان الصوتان متماثلين تماماً، فدلّ على أن لمصدر الصوت أثراً في تغيير الحكم من الحل للحرمة أو بالعكس.
ورُدَّ: بأن منع سماع صوت الأجنبية على تلك الصفة إنما هو من باب منع الوسائل المفضية إلى الزنا، ولما كانت الزوجة حلالاً له انتفت العلة التي من أجلها منع من ذلك الصوت، وليس ذلك لاختلاف مصدر الصوت فإنه لو طلّق زوجته وبانت منه حرم عليه ذلك منها مع أن المصدر واحد، بخلاف مسألتنا.
الدليل الثاني:
أن العبرة بمآلات الأمور، ولا يحكم على الأفعال بمجردها دون نظرٍ إلى ماتؤول إليه، فصوت الآدمي إذا غُيِِّر فآل إلى الصوت الموسيقي فالعبرة بما آل إليه لا بأصله، كما أن النفخ وإخراج الهواء من الفم جائز لكن إذا كان النفخ في مزمار أو بوق أو نحوهما حرم لأن مآله إلى صوت موسيقي محرم فكما أن الصوت الصادر من المزمار أصله نفخ آدمي ومع هذا حُكمَ بتحريمه فكذلك يقال في الإيقاعات.
الدليل الثالث:
أن الطرب الحاصل بالإيقاعات نفس الطرب الحاصل بآلات الموسيقى فوجب إلحاقها بها بهذا الجامع بل قد يكون بعض الإيقاعات أبلغ في الطرب من بعض أصوات الموسيقى، قال ابن القيم: (وإذا كان الزمر، الذي هو أخف آلات اللهو، حراماً، فكيف بما هو أشد منه؟ كالعود، والطنبور، واليراع، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك. فأقل ما فيه: أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور)[15] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn15)، وقال ابن حجر الهيتمي: (قال االشمس الجوهري في شرح الإرشاد ويمكن أن يستدل لتحريم الشبابة القياس على الآلات المحرمة لاشتراكه في كونهمطرب. بل ربمما كان الطرب الذي فيه أشد من الطرب الذي في نحو الكمنجة والربابة فهوا إما قياس الأولى أو المساواة بالنسبة إلى المذكورين وهما حرام بلا خلاف.انتهى
وصرح بما يعم ذلك إمام الحرمين أيضاً ونقله عنه الأذرعي قال عقبه إنه لفي غاية الحسن وعبارة توسطه وقد اشار الإمام إلى ضابط الحرمة من ذلك وغيره بقوله: مايصدر من الحان مستلذة تهيج السامع وتستحثه على الطرب ومجالسة أحداثه فهو المحرم. فهذه العبارة تشهد ما نحن فيه بالنص لان ماذكر موجود فيه وزيادة)[16] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn16)
ويناقش من أوجه:
الأول: أنه لم يأت دليل صريح على أن علة تحريم المعازف التي يدور معها الحكم وجوداً وعدماً هي الطرب أو الإطراب.
الثاني: أنه لو قيل بأن علة تحريم المعازف هي الطرب للزم منه: جواز سماع المعازف على وجه لاطرب فيه.
الثالث: أن الشرع لم يحرم كل مطرب، فقد يطرب الإنسان لصوت زوجته فلا يحرم سماع صوتها، وقد يطرب لصوت البلبل فلا يحرم سماعه، وقد يطرب لصوت قارئ فلا يحرم سماعه، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود »[17] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn17) وقال أبو عثمان النهدي:” دخلت دار أبي موسى الأشعري فما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا ناي أحسن من صوته ” [18] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn18) والصنج هو آلة تتخذ من نحاس كالطبقين يضرب أحدهما بالآخر، والبربط آلة تشبه العود ، والناي هو المزمار، فهل يكون صوت أبي موسى محرماً؟.
الرابع: أن الطرب أمر ذوقيٌ يتفاوت الناس فيه فليس هو وصف ظاهر منضبط يمكن تعليل الحكم به، وقد اشترط الأصوليون في كون الوصف علة أن يكون وصفاً ظاهراً منضبطاً، قال ابن النجار: (ويعتبر فيه [أي الوصف المجعول علة] أمران , أحدهما : أن يكون ظاهرا لا خفيا , الثاني : أن يكون منضبطا , أي متميزا عن غيره .)[19] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn19).
الدليل الرابع:
أن هذه الأصوات تتردد بين أصلين:
أصل مباح: وهو صوت الآدمي.
وأصل محرم: وهو صوت المعازف والموسيقى.
فتلحق بأكثرهما شبهاً بها ولاشك أن شبهها بأصوات الموسيقى أقرب من شبهها بأصوات الآدميين الطبيعية المجردة، وهذا ما يسمَّى عند الأصوليين بـ"قياس الشَبَه".[20] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn20)
ويناقش: بأن قياس الشبه ضعيف في حجيته وقد أنكر حجيته كثير من الأصوليين منهم الإمام المحقق ابن القيم في إعلام الموقعين، حيث قال: (وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَلَمْ يَحْكِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إلَّا عَنْ الْمُبْطِلِينَ ; فَمِنْهُ قوله تعالى إخْبَارًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا وَجَدُوا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِمْ : { إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } فَلَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِعِلَّةٍ وَلَا دَلِيلِهَا , وَإِنَّمَا أَلْحَقُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ جَامِعٍ سِوَى مُجَرَّدِ الشَّبَهِ الْجَامِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يُوسُفَ , فَقَالُوا : هَذَا مَقِيسٌ عَلَى أَخِيهِ , بَيْنَهُمَا شَبَهٌ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ , وَذَاكَ قَدْ سَرَقَ فَكَذَلِكَ هَذَا , وَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ بِالشَّبَهِ الْفَارِغِ , وَالْقِيَاسِ بِالصُّورَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّسَاوِي , وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ , وَالتَّسَاوِي فِي قَرَابَةِ الْأُخُوَّةِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلتَّسَاوِي فِي السَّرِقَةِ لَوْ كَانَتْ حَقًّا , وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّسَاوِي فِيهَا ; فَيَكُونُ الْجَمْعُ لِنَوْعِ شَبَهٍ خَالٍ عَنْ الْعِلَّةِ وَدَلِيلِهَا . وَمِنْهُ قوله تعالى إخْبَارًا عَنْ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا : { مَا نَرَاكَ إلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا } فَاعْتُبِرُوا صُورَةَ مُجَرَّدِ الْآدَمِيَّةِ وَشَبَهَ الْمُجَانَسَةِ فِيهَا , وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ حُكْمُ الْآخَرِ ; فَكَمَا لَا نَكُونُ نَحْنُ رُسُلًا فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ , فَإِذَا تَسَاوَيْنَا فِي هَذَا الشَّبَهِ فَأَنْتُمْ مِثْلُنَا لَا مَزِيَّةَ لَكُمْ عَلَيْنَا , وَهَذَا مِنْ أبطل الْقِيَاسِ ; فَإِنَّ الْوَاقِعَ مِنْ التَّخْصِيصِ وَالتَّفْضِيلِ وَجَعْلِ بَعْضِ هَذَا النَّوْعِ شَرِيفًا وَبَعْضَهُ دَنِيًّا , وَبَعْضَهُ مَرْءُوسًا وَبَعْضَهُ رَئِيسًا , وَبَعْضَهُ مَلِكًا وَبَعْضَهُ سُوقَةً , يُبْطِلُ هَذَا الْقِيَاسَ , كَمَا أَشَارَ سُبْحَانَهُ إلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّك نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سِخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّك خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } . وَأَجَابَتْ الرُّسُلُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِمْ : { إنْ نَحْنُ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إنَّكُمْ إذًا لَخَاسِرُونَ } فَاعْتَبَرُوا الْمُسَاوَاةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ , وَهَذَا مُجَرَّدُ قِيَاسِ شَبَهٍ وَجَمْعٍ صُورِيٍّ , وَنَظِيرُ هَذَا قَوْله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } وَمِنْ هَذَا قِيَاسُ الْمُشْرِكِينَ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ الصُّورِيِّ , وَمِنْهُ قِيَاسُهُمْ الْمَيْتَةَ عَلَى الْمُذَكَّى فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْقِيَاسُ فِي الْقُرْآنِ إلَّا مَرْدُودًا مَذْمُومًا ....)[21] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn21)
الدليل الخامس:
أن أجهزة الكمبيوتر وبرامج الصوت إذا استخدمت لإصدار الأصوات المطربة كانت من آلات اللهو المحرمة الداخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف"[22] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn22) فالمعازف تتطور وتتغير من زمان لآخر، ولا يمكن قصر الحديث على الآلات الموجود في زمن الرسالة، وقد قال ابن القيم: (المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك)[23] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn23) وقال ابن تيمية: (والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها.)[24] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn24)، فكل ما يستخدم لإصدار الأصوات الموسيقية هو من المعازف الداخلة في الحديث، وقد نقل ابن حجر الهيتمي الضابط في الآلات المحرمة فقال: (وقد اشار الإمام إلىضابط الحرمة من ذلك وغيره بقوله: مايصدر من الحان مستلذة تهيج السامع وتستحثه على الطرب ومجالسة أحداثه فهو المحرم.)[25] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn25)
ويناقش من وجهين:
الأول: أن أجهزة الكمبيوتر وبرامج الصوت لا تسمى "معازف" لا لغة ولا عرفاً فليست هي آلة من آلات اللهو، لأنها غير معدة للهو والطرب، فليست كالطبل والمزمار ونحوهما، وإنما هي وسيلة ذات أغراض متعددة.
ورُدَّ: بأن استخدامها على ذلك الوجه يجعلها آلة لهو، وإن لم تكن معدة لذلك في الأصل، ثم إن اعتماد كثير من المطربين وأهل الفن على برامج الصوت والأجهزة الحديثة يجعلها من أبرز آلات اللهو في هذا العصر عند استخدامها لهذا الغرض، فكلمة (آلات اللهو) تعم كل آلة تستخدم في اللهو والطرب.
الثاني: أن الإيقاعات تستخدم لغرض نشر الخير والدعوة فليست من اللهو، ولذا فلا يصح تسمية الآلات المصدرة لها "آلات لهو".
ورُدَّ: بأن استخدامه للأغراض المذكورة لا يغيّر الحكم فهو "لهو" استخدم لما ذُكِرَ، والعبرة بالحقائق لا بالمسمّيات، ومن المعلوم أن من شرط الوسائل أن تكون مباحة غير محرمة.
الدليل السادس:
أن كون هذه الإيقاعات أصلها مباح وهو الصوت البشري الذي يدخل للجهاز ويجري تعديله لا يجعلها مباحة نظراً لأصلها بل إجراء عملية تعديل الصوت يجعل حكم الصوت الخارج بعد التعديل مخالفاً لحكم الصوت الداخل، فالعزف بالبوق والمزمار أصله: نفخ الآدمي في المزمار أو البوق ، ونفخ الآدمي جائز، وسماع صوت خروج الهواء جائز لكن لما أدخل ذلك في البوق والمزمار وأخرج صوتاً مطرباً مستلذاً صار حراماً.. وهذا نظير مسألتنا، فوجب الحكم على الصوت الخارج من الجهاز بالتحريم، ولايشوِّش على هذا أن الصوت الداخل جائز.
قال الشيخ مصطفى مخدوم: (الأحكام الشرعية متعلقة بحقائق الأعيان، فإذا تغيرت هذه الحقائق تغيرت الأحكام معها، والأعيان التي تستحيل من صفة إلى صفة تكتسب حكم الصفة المستحيلة إليها والصوت في مسألتنا بعد المعالجة تبدلت حقيقته وتغير اسمه ووصفه....)[26] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn26)
الدليل السابع:
أن استخدام الإيقاعات فيه تشبه بالفسقة والكفرة، والتشبه بهم محرم لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)[27] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn27).
ويناقش من وجهين:
الأول: أن هذه الأصوات ليست من خصائص الفسقة والكفرة فلا تكون تشبهاً فقد استخدمها أهل الخير والصلاح فانتفى وصف التشبه عن مستخدمها.
الثاني: أن استخدام الفسقة أو الكفرة للتقنية في الباطل لايوجب على غيرهم تركها في الدعوة إلى الخير، وإلا للزم ترك كثير من الآلات الحديثة التي سبق الفسقة باستخدامها في الشر.
الدليل الثامن:
على فرض وجود دليل لإباحة الإيقاعات فقد وُجِدَ دليل لتحريمها والقاعدة أنه (إذا اجتمع مبيح وحاظر غلب جانب الحظر).
ويناقش: بعدم التسليم بوجود الحاظر فإن الأصل الإباحة وما استُدِلَ به على الحظر غير مسلّم به.
الدليل التاسع:
أن مجرد مشابهة الزمر والمعازف مذموم ولو لم تكن المشابهة صادرة عن آلات كما روى البخاري عنْ عَائًّشةَ قالَتْ دَخَلَ علَيَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعِنْدِي جارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فاضْطَجَعَ عَلى الفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ ودخَلَ أبُو بَكْرٍ فانْتَهَرَنِي وقال مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأقْبَلَ علَيْهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال دَعْهُمَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُما فخَرَجَتَا.[28] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn28)
قال العيني في شرحه:
((وقال المهلب: الذي أنكره أبو بكر كثرة التنغيم وإخراج الإنشاد من وجهه إلى معنى التطريب بالألحان، ألاَ ترى أنه لم ينكر الإنشاد، وإنما أنكر مشابهة الزمر بما كان في المعتاد الذي فيه اختلاف النغمات وطلب الإطراب، فهو الذي يخشى منه، وقطع الذريعة فيه أحسن.))[29] (http://www.qassimy.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=8#_ftn29)، فنحن ننكر مشابهة الموسيقى كما أنكر أبو بكر t مشابهة الزمر.
ويناقش: بأن إقرار النبي صلى لله عليه وسلم يدل على جواز فعل الجاريتين، فكيف يستدل بإنكار أبي بكر، ولا يستدل بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم!؟.