راقيه الجزائريه
23-12-2008, 16:55
رسالة من عاشق:
".. فهذه شجونٌ مبعثرةٌ من مُصابٍ بسهامٍ مسمومةٍ، ورسالةٌ من مريضٍ وكلماتٌ من حزينٍ.. لا أدري من أين أبدأُ وعن أيِّ جزءٍ من الموضوعِ أتكلَّمُ وأكتُب! باختصارٍ شديدٍ فأنا كغيري من المعذَّبين العُشَّاقِ أبحثُ عن مخرجٍ من هذا البلاءِ وهذا الدَّاءِ..، فعالمُ العُشَّاقِ من أشهى ما في هذه الدُّنيا الفانيةِ وألذِّه، ليس مالُ صاحبِ المالِ ولا مناصبُ وشهرةُ المشاهيرِ تبلغُ عُشرَ معشارِ لذَّةِ العاشقِ حين نظرِه إلى محبوبه ومحادثتِه معه.. -إلا أن تكونَ لذَّةَ الطاعةِ والإيمانِ فهي بلا شكٍّ أعظمُ-، ولو قضى المرءُ مع محبوبه أياماً وليالٍ بلا مبالغةٍ.. لما ملَّ أو هكذا يزعمُ العاشقون.
ولو سألتَ العاشقين عن معنى قولِ حبيبنا صلى الله عليه وسلم: "ما تركتُ على أمَّتي فتنةً أشدَّ على الرجالِ من النِّساءِ" ([1]) لكانوا أعرفَ الناس بحقيقةِ هذا القولِ ومعناه، إنها فتنةٌ وأيُّ فتنةٍ، وهي في كل صورةٍ -مذكرة أو مؤنثة- فتنةٌ عظيمةٌ، لا يعادلُها في سُكرِها ونشوتِها من زخرفِ الدنيا أو إن شئت فقل معاصيها شيءٌ - أو هكذا يزعم العاشقون-، وقد قال الحكيمُ الخبيرُ: ( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)([2]).
أقولُ ما سبقَ وأستغفرُ الله، لتشعرَ بما يشعرُ به العاشقون أو ببعضٍ، ولا أظنُّ أكثرَ من ذلك، لأقولَ إنَّنا بحاجةٍ إلى محاضرةٍ أو حديثٍ خاصٍّ لنا، مِمَّن يشعرُ بمشاعرنا ويعرفُ عذاباتِنا، ولا يكونُ الحديثُ من متحدِّثٍ بطرفِ لسانه بعيدٍ قلبُه عن التجربةِ.. أو على الأقلِّ بعيدٍ عن توفيقِ الله في النَّصيحةِ والإشفاقِ على المنصوحِ.
ولو سُئلَ العشَّاقُ عن حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيتُ من ناقصاتِ عقلٍ ودينٍ أذهبَ للبِّ الرجلِ العاقلِ من إحداكن" ([3]) ؛ لسطَّروا في ذلك ما لا يُعَدُّ من الصَّفحاتِ بأعذبِ أسلوبٍ وأرقِّه وأحزنِه، - وإلى الله المشتكى - من هذا البلاءِ العظيمِ.
إنَّ العشقَ أشدُّ من مُجرَّدِ الحبِّ، ولذلك أصرُّ على تسميةِ المحاضرةِ بهذا الاسمِ: "للعُشَّاقِ فقط"، أو ما فيه لفظُ "العشقِ" -والأمرُ لكم-، فهي لفظةٌ تأخذُ بتلابيبهم بمجرَّدِ سماعها، فالعينُ لها مكانةٌ خاصَّةٌ عندهم، والشِّينُ تطيرُ بالقلبِ فهي عينُ الكلمةِ، والقافُ تُقلِقُ النَّفسَ حيث تتذكَّرُ سريعاً صورةَ المحبوبِ فيزدادُ شوقُها إليه، أمَّا كلمة "فقط" فهي وحدَها التي تُشعرني بشعورِك بي واهتمامِك لي، وأنَّك تحسُّ بما أعيشُه من مشاعرَ يختلطُ فيها لذَّةُ الحبِّ بشقاءِ عذابه، فأشعرُ أنَّك بـ "فقط" هذه تعينني على تجاوُزِ محنتي وابتعادي عن شقوتي، طلباً للنجاةِ في الدنيا من العذابِ المحبوبِ والنجاةِ في الآخرةِ من العذابِ بالمحبوبِ.."إلى آخر رسالته.
ب- أنا عاشق الدعوة:
وأقول لأخي الحبيب: أبشِر فسأتحدَّثُ إلى العُشَّاقِ وسأخاطبُهم، وسأخصُّهم وحدَهم بالحديثِ، وأرجو غيرَهم ألا يسمعَ فحديثي خاصٌّ بالعُشَّاقِ وللعُشَّاقِ فقط!
لكنَّهم عشاقٌ من جنسٍ آخر ليسوا من جنسِ عُشَّاقك، فما مثلي ومثلك الآن إلا كقولِ ابن دأبٍ لما قال: قلتُ لرجلٍ من بني عامر: أتعرفُ المجنونَ وتروي من شعرِه شيئاً؟ قال: أوَ قد فرغنا من شعرِ العُقلاء حتى نرويَ أشعارَ المجانين؟! إنهم لكثيرٌ"([4])!
وأنا أقولُ لك – أيضا ً- : دعك من هؤلاء الآنَ، وتعالَ أحدِّثُك عن عشاقٍ جلستُ معهم، أنستُ بهم، عرفتُهم، رأيتُ شدَّةَ الوَلَهِ في وجوههم، سمعتُ آهاتِهم، أصابَتْهم الصبابةُ فانصبَّ القلبُ بكليته لمعشوقتِهم، قتلهمُ الشغفُ فقد وصلَ حبُّها إلى شغافِ قلوبِهم، أحبُّوها فذهبَ بهم الحبُّ كُلَّ مذهبٍ، متيَّمُون بها حتى أشغلتهم عن الشهواتِ والمباحاتِ والتجاراتِ، تخلَّلت محبَّتُها أرواحَهم وقلوبَهم حتى أصبحَت خليلاً لا يرغبون عنها بديلاً، تعلَّقت قلوبُهم بها وأنسَت نفوسُهم لها!
تعجَّبتُ من حالِهم، فسامرتُهم وحدَّثتُهم وحدَّثوني، فلم أملكُ نفسي إلا وقد أصابني الداءُ الذي أصابَهم، همٌّ وسهرٌ وتفكيرٌ، أيُعقَلُ أني أصبحتُ عاشقاً؟! نعم يبدو أني عشقتُ معشوقتَهم، وهامتَ بها نفسي وتعلَّقَ بها قلبي، حتى أصبحتُ أسيراً لها، نعم لم أعقل نفسي إلا وأنا عاشق:
أنا عاشقٌ للقمَّةِ الشمَّاءِ للحبلِ المتينْ لكتابيَ السَّامي ويكفيني به شَرَفاً ودينْ
نعم أخي! أنا عاشقُ الدعوةِ إلى الله، الدعوةِ إلى التوحيد، الدعوةِ إلى نبذِ الشركِ والبدعِ والخرافاتِ، الدعوةِ إلى حقيقةِ : {لا إله إلا الله}، إلى العقيدةِ الصحيحةِ، إلى الكتابِ والسنةِ وفهمِ سلف هذه الأمةِ، الدعوةِ إلى الحذرِ من الشبهاتِ، وعدمِ الإغراقِ في الشهواتِ، نعم إنَّها معشوقتي: الدعوة إلى الله، لقد أحببتُها فلم أجد حُبَّاً كحُبِّها ولا قلباً كقلبها، ولستُ أرى في الجمالِ أجملَ من جمالِها:
وسلكتُ دربَ الحبِّ مشدودَ القوى تجري دماءُ العزمِ في خطواتي
أوغلتُ في كُلِّ القلوبِ فلم أجد قلباً كقلبكِ صادقَ العزماتِ
سافرتُ في كُلِّ الدروبِ فلم أجد وجهاً كوجهكِ رائعَ القسماتِ ([5]).
أيُّها العاشقُ: لا تلمني ولا تعتَبْ عليَّ فأنا مثلك عاشق!
ألست تجدُ في لذَّةِ المحبَّةِ ما ينسيك المصائبَ؟! بل ألست تلتذُّ بكثيرٍ من المصائبِ التي يصيبُك بها حبيبُك؟!
فنحن كذلك بل أشدُّ، فإنا نجدُ في معشوقتنا من لذَّةِ المحبَّةِ ما ننسى معه التعبَ والنَّصَبَ، بل إنَّ المحنَ منحٌ والعذابَ عذبٌ في سبيلها، وربما كان الموتُ مطلباً وأمنيةً من أجلِ تبليغها !
2- صور من العشق :
فهذا عميرُ بن الحمامِ يقول: "إنَّها لحياةٌ طويلةٌ إن بقيتُ حتى آكلَ هذه التمراتِ"!
وهذا حرامُ بن ملحان وهو يبلِّغُ رسالةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطعَنُ بالرمحِ من ظهره فيصيحُ بكلِّ شوقٍ: "فزتُ وربِّ الكعبة"!
أما أنسُ بن النَّضر فقد طارَ به الشوقُ والولَهُ حتى أقسمَ: "والذي نفسي بيده إنِّي لأجدُ ريحَ الجنَّةِ من دون أحد"، فيقاتِلُ فيُقتَلُ،ولا يُعرفُ من كثرةِ جروحه!
بل اسمع لهذا العاشقِ يموتُ وهو يترنَّمُ بمعشوقته؛ جعفر بن أبي طالب يصولُ ويجولُ وهو يقولُ:
"يا حبَّذا الجنَّة واقترابُها طيبةٌ وباردٌ شرابُها"!
بل هل سمعت أخي العاشقَ عن فتى العُشَّاقِ حبيبِ بن زيد - رضي الله عنه-، يُقطعُ جسمُه بالسيفِ قطعةً قطعةً، يبلِّغُ رسالةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ثابتٌ لا يتزعزعُ؟!
إذا كان حبُّ الهائمين من الورى بليلى وسلمى يسلبُ اللُّبَّ والعقلا
فماذا عسى أن يصنعَ الهائمُ الذي سرى قلبُه شوقاً إلى العالمِ الأعلـى
إنه حبُّ الله، حبُّ هذا الدينِ، بذلُ النَّفسِ والنَّفيسِ لنشرِه وحملِ همِّه وتبليغِه، بل وكُلَّما اشتدَّت عليه الأمورُ وادلهمَّت الفتنُ؛ كلما زادَ الجدُّ ونهض العزمُ واشتدَّ، فقل لي أخي أرأيت مثل هذا العاشقِ في صبره وتحمُّله؟!:
لا يُرى من فزعٍ رهنَ أسى يقينُهُ كالطَّودِ في القلبِ رسا
يُبْصرُ في غورِ الخطوبِ قَبَسَا من نُصرةِ الله إذا ما استيأسا([6]).
".. فهذه شجونٌ مبعثرةٌ من مُصابٍ بسهامٍ مسمومةٍ، ورسالةٌ من مريضٍ وكلماتٌ من حزينٍ.. لا أدري من أين أبدأُ وعن أيِّ جزءٍ من الموضوعِ أتكلَّمُ وأكتُب! باختصارٍ شديدٍ فأنا كغيري من المعذَّبين العُشَّاقِ أبحثُ عن مخرجٍ من هذا البلاءِ وهذا الدَّاءِ..، فعالمُ العُشَّاقِ من أشهى ما في هذه الدُّنيا الفانيةِ وألذِّه، ليس مالُ صاحبِ المالِ ولا مناصبُ وشهرةُ المشاهيرِ تبلغُ عُشرَ معشارِ لذَّةِ العاشقِ حين نظرِه إلى محبوبه ومحادثتِه معه.. -إلا أن تكونَ لذَّةَ الطاعةِ والإيمانِ فهي بلا شكٍّ أعظمُ-، ولو قضى المرءُ مع محبوبه أياماً وليالٍ بلا مبالغةٍ.. لما ملَّ أو هكذا يزعمُ العاشقون.
ولو سألتَ العاشقين عن معنى قولِ حبيبنا صلى الله عليه وسلم: "ما تركتُ على أمَّتي فتنةً أشدَّ على الرجالِ من النِّساءِ" ([1]) لكانوا أعرفَ الناس بحقيقةِ هذا القولِ ومعناه، إنها فتنةٌ وأيُّ فتنةٍ، وهي في كل صورةٍ -مذكرة أو مؤنثة- فتنةٌ عظيمةٌ، لا يعادلُها في سُكرِها ونشوتِها من زخرفِ الدنيا أو إن شئت فقل معاصيها شيءٌ - أو هكذا يزعم العاشقون-، وقد قال الحكيمُ الخبيرُ: ( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)([2]).
أقولُ ما سبقَ وأستغفرُ الله، لتشعرَ بما يشعرُ به العاشقون أو ببعضٍ، ولا أظنُّ أكثرَ من ذلك، لأقولَ إنَّنا بحاجةٍ إلى محاضرةٍ أو حديثٍ خاصٍّ لنا، مِمَّن يشعرُ بمشاعرنا ويعرفُ عذاباتِنا، ولا يكونُ الحديثُ من متحدِّثٍ بطرفِ لسانه بعيدٍ قلبُه عن التجربةِ.. أو على الأقلِّ بعيدٍ عن توفيقِ الله في النَّصيحةِ والإشفاقِ على المنصوحِ.
ولو سُئلَ العشَّاقُ عن حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيتُ من ناقصاتِ عقلٍ ودينٍ أذهبَ للبِّ الرجلِ العاقلِ من إحداكن" ([3]) ؛ لسطَّروا في ذلك ما لا يُعَدُّ من الصَّفحاتِ بأعذبِ أسلوبٍ وأرقِّه وأحزنِه، - وإلى الله المشتكى - من هذا البلاءِ العظيمِ.
إنَّ العشقَ أشدُّ من مُجرَّدِ الحبِّ، ولذلك أصرُّ على تسميةِ المحاضرةِ بهذا الاسمِ: "للعُشَّاقِ فقط"، أو ما فيه لفظُ "العشقِ" -والأمرُ لكم-، فهي لفظةٌ تأخذُ بتلابيبهم بمجرَّدِ سماعها، فالعينُ لها مكانةٌ خاصَّةٌ عندهم، والشِّينُ تطيرُ بالقلبِ فهي عينُ الكلمةِ، والقافُ تُقلِقُ النَّفسَ حيث تتذكَّرُ سريعاً صورةَ المحبوبِ فيزدادُ شوقُها إليه، أمَّا كلمة "فقط" فهي وحدَها التي تُشعرني بشعورِك بي واهتمامِك لي، وأنَّك تحسُّ بما أعيشُه من مشاعرَ يختلطُ فيها لذَّةُ الحبِّ بشقاءِ عذابه، فأشعرُ أنَّك بـ "فقط" هذه تعينني على تجاوُزِ محنتي وابتعادي عن شقوتي، طلباً للنجاةِ في الدنيا من العذابِ المحبوبِ والنجاةِ في الآخرةِ من العذابِ بالمحبوبِ.."إلى آخر رسالته.
ب- أنا عاشق الدعوة:
وأقول لأخي الحبيب: أبشِر فسأتحدَّثُ إلى العُشَّاقِ وسأخاطبُهم، وسأخصُّهم وحدَهم بالحديثِ، وأرجو غيرَهم ألا يسمعَ فحديثي خاصٌّ بالعُشَّاقِ وللعُشَّاقِ فقط!
لكنَّهم عشاقٌ من جنسٍ آخر ليسوا من جنسِ عُشَّاقك، فما مثلي ومثلك الآن إلا كقولِ ابن دأبٍ لما قال: قلتُ لرجلٍ من بني عامر: أتعرفُ المجنونَ وتروي من شعرِه شيئاً؟ قال: أوَ قد فرغنا من شعرِ العُقلاء حتى نرويَ أشعارَ المجانين؟! إنهم لكثيرٌ"([4])!
وأنا أقولُ لك – أيضا ً- : دعك من هؤلاء الآنَ، وتعالَ أحدِّثُك عن عشاقٍ جلستُ معهم، أنستُ بهم، عرفتُهم، رأيتُ شدَّةَ الوَلَهِ في وجوههم، سمعتُ آهاتِهم، أصابَتْهم الصبابةُ فانصبَّ القلبُ بكليته لمعشوقتِهم، قتلهمُ الشغفُ فقد وصلَ حبُّها إلى شغافِ قلوبِهم، أحبُّوها فذهبَ بهم الحبُّ كُلَّ مذهبٍ، متيَّمُون بها حتى أشغلتهم عن الشهواتِ والمباحاتِ والتجاراتِ، تخلَّلت محبَّتُها أرواحَهم وقلوبَهم حتى أصبحَت خليلاً لا يرغبون عنها بديلاً، تعلَّقت قلوبُهم بها وأنسَت نفوسُهم لها!
تعجَّبتُ من حالِهم، فسامرتُهم وحدَّثتُهم وحدَّثوني، فلم أملكُ نفسي إلا وقد أصابني الداءُ الذي أصابَهم، همٌّ وسهرٌ وتفكيرٌ، أيُعقَلُ أني أصبحتُ عاشقاً؟! نعم يبدو أني عشقتُ معشوقتَهم، وهامتَ بها نفسي وتعلَّقَ بها قلبي، حتى أصبحتُ أسيراً لها، نعم لم أعقل نفسي إلا وأنا عاشق:
أنا عاشقٌ للقمَّةِ الشمَّاءِ للحبلِ المتينْ لكتابيَ السَّامي ويكفيني به شَرَفاً ودينْ
نعم أخي! أنا عاشقُ الدعوةِ إلى الله، الدعوةِ إلى التوحيد، الدعوةِ إلى نبذِ الشركِ والبدعِ والخرافاتِ، الدعوةِ إلى حقيقةِ : {لا إله إلا الله}، إلى العقيدةِ الصحيحةِ، إلى الكتابِ والسنةِ وفهمِ سلف هذه الأمةِ، الدعوةِ إلى الحذرِ من الشبهاتِ، وعدمِ الإغراقِ في الشهواتِ، نعم إنَّها معشوقتي: الدعوة إلى الله، لقد أحببتُها فلم أجد حُبَّاً كحُبِّها ولا قلباً كقلبها، ولستُ أرى في الجمالِ أجملَ من جمالِها:
وسلكتُ دربَ الحبِّ مشدودَ القوى تجري دماءُ العزمِ في خطواتي
أوغلتُ في كُلِّ القلوبِ فلم أجد قلباً كقلبكِ صادقَ العزماتِ
سافرتُ في كُلِّ الدروبِ فلم أجد وجهاً كوجهكِ رائعَ القسماتِ ([5]).
أيُّها العاشقُ: لا تلمني ولا تعتَبْ عليَّ فأنا مثلك عاشق!
ألست تجدُ في لذَّةِ المحبَّةِ ما ينسيك المصائبَ؟! بل ألست تلتذُّ بكثيرٍ من المصائبِ التي يصيبُك بها حبيبُك؟!
فنحن كذلك بل أشدُّ، فإنا نجدُ في معشوقتنا من لذَّةِ المحبَّةِ ما ننسى معه التعبَ والنَّصَبَ، بل إنَّ المحنَ منحٌ والعذابَ عذبٌ في سبيلها، وربما كان الموتُ مطلباً وأمنيةً من أجلِ تبليغها !
2- صور من العشق :
فهذا عميرُ بن الحمامِ يقول: "إنَّها لحياةٌ طويلةٌ إن بقيتُ حتى آكلَ هذه التمراتِ"!
وهذا حرامُ بن ملحان وهو يبلِّغُ رسالةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطعَنُ بالرمحِ من ظهره فيصيحُ بكلِّ شوقٍ: "فزتُ وربِّ الكعبة"!
أما أنسُ بن النَّضر فقد طارَ به الشوقُ والولَهُ حتى أقسمَ: "والذي نفسي بيده إنِّي لأجدُ ريحَ الجنَّةِ من دون أحد"، فيقاتِلُ فيُقتَلُ،ولا يُعرفُ من كثرةِ جروحه!
بل اسمع لهذا العاشقِ يموتُ وهو يترنَّمُ بمعشوقته؛ جعفر بن أبي طالب يصولُ ويجولُ وهو يقولُ:
"يا حبَّذا الجنَّة واقترابُها طيبةٌ وباردٌ شرابُها"!
بل هل سمعت أخي العاشقَ عن فتى العُشَّاقِ حبيبِ بن زيد - رضي الله عنه-، يُقطعُ جسمُه بالسيفِ قطعةً قطعةً، يبلِّغُ رسالةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ثابتٌ لا يتزعزعُ؟!
إذا كان حبُّ الهائمين من الورى بليلى وسلمى يسلبُ اللُّبَّ والعقلا
فماذا عسى أن يصنعَ الهائمُ الذي سرى قلبُه شوقاً إلى العالمِ الأعلـى
إنه حبُّ الله، حبُّ هذا الدينِ، بذلُ النَّفسِ والنَّفيسِ لنشرِه وحملِ همِّه وتبليغِه، بل وكُلَّما اشتدَّت عليه الأمورُ وادلهمَّت الفتنُ؛ كلما زادَ الجدُّ ونهض العزمُ واشتدَّ، فقل لي أخي أرأيت مثل هذا العاشقِ في صبره وتحمُّله؟!:
لا يُرى من فزعٍ رهنَ أسى يقينُهُ كالطَّودِ في القلبِ رسا
يُبْصرُ في غورِ الخطوبِ قَبَسَا من نُصرةِ الله إذا ما استيأسا([6]).