العناقره تميمي
15-06-2008, 20:22
وجوب إخراج الإسلام من تحت مطرقة الرأسمالية
لم تعبأ الأنظمة الرأسمالية كثيراً بمجادلة الفكرة الشيوعية ودحض نظريتها الديلكتيكية (الجدلية)، وتوجهت عوضاً عن ذلك بحكم طبيعة الرأسمالية البراغماتية إلى التعاطي بواقعية صرفة مع ما يتهددها، فرقعت الرأسمالية باشتراكية مكنتها من الصمود إلى درجة التباهي أمام شعارات المعكسر الاشتراكي. وبات الضنك والقمع والبؤس الذي تحياه شعوب شرق أوروبا لقاء الرفاه الذي تحياه شعوب شقها الغربي مرآة تعكس الفارق الشاسع بين المعسكرين، فارقاً يغني عن الحاجة لمزيد من التدليل على فساد الشيوعية نظاماً وسياسة وطريقة عيش. ثم كان ما كان من تفكك الاتحاد السوفياتي واندثار المعسكر الشرقي وتحول الشيوعية إلى مجرد فكرة فلسفية لا أثر لها في واقع الحياة البشرية رغم وجود من يعتنقها هنا وهناك.
وقد استخدم الغرب خبراته المتراكمة من محاربة الشيوعية للتصدي للإسلام ولإنهاء خطره المفترض على الغرب وحضارته، متجنباً الدخول في صراع صريح ومباشر معه. فسارع إلى استثمار أحداث معينة ومحدودة نسبياً (لأصابعه دور في إثارة بعضها)، واضعاً الإسلام في قفص الاتهام، مشيعاً صورة بشعة عنه، معتبراً المسلمين بعامة مصدر تهديد واقع أو مؤجل على الحضارة الإنسانية جمعاء، مصوراً المسلم بالإرهابي حكماً وبقنبلة معدة للانفجار.
وقد سهل مهمة الغرب في حربه على العالم الإسلامي افتقاد الأخير لنظام سياسي جامع يحصنه من الاختراق، ما يسر أمر تقسيمه والهيمنة المباشرة عليه وعلى مقدراته، ودفعه للدوران في حلقات مفرغة من الصراعات، بخاصة بعد أن تمكن الغرب بشكل مباشر أو عن طريق وسطائه من إقصاء الفئات الواعية والصادقة وشلها عن قيادة العالم الإسلامي بعد تهشيمها أو تهميشها. إلا أنّ أشد ما نجح الغرب في تحقيقه في هذا الإطار هو جعل تصوراته وقيمه وتوجهاته مهيمنة على العالم الإسلامي، ما قلب الأمور رأساً على عقب، وجعل الجماهير العريضة تكافح من أجل ترسيخ مشاريع الاستعمار بدل العمل على الانعتاق والتحرر منها.
وفي هذا السياق زُينَت ديمقراطية الغرب لتصبح هدفاً "سامياً" جاذباً للمسلمين، وبات محور النقاش هو كيفية العمل على تحقيقها، وهل يُستعان بالدول الغربية أم يكتفى بالنضال الجماهيري لإنجازها في المنطقة الإسلامية. وتلخصت مهمة كثير من المفكرين بتلفيق الأدلة للتوفيق بين الديمقرطية والإسلام، بغية إزالة العوائق التي تحول دون قبول الناس بها (بعضهم عن حسن طوية). وقد أصر هؤلاء على أسلمة الديمقراطية ضاربين بعرض الحائط حقيقة نشأتها وتطورها وواقعها المخالف للإسلام وللعالم الإسلامي شكلاً ومضموناً، بخاصة أن ميزة الإسلام تكمن في كونه ديناً كاملاً ناسخاً لغيره من الشرائع السماوية ومهيمناً على كل ما سواه، مشرعاً نظاماً فريداً في الحكم والاقتصاد والاجتماع والعقوبات، جاعلاً الوحي لا البشر المرجع والحَكمَ الفصل.
وقد حاول هؤلاء وضع تعريفات جديدة للديمقراطية وتقزيمها في كونها مجرد آلية لانتخاب ممثلي الأمة ونمطاً شورياً من الحكم، مفترضين أن تطبيقها سيؤدي إلى إنهاء التسلط والفردية في الحكم، وإلى تحكيم الشريعة لكون غالبية الناس من المسلمين المتعاطفين مع المشروع الإسلامي. متجاهلين بدورهم أن طرح الديمقراطية على هذا النحو هو خلط غير مقبول في عالم المعرفة المنضبط بالأدلة والموضوعية، وهو تجديف بعيد عن الحقيقة، حيث إن الشورى حكم شرعي يأخذ أشكالاً متعددة ومنضبطة، ويتباين حكمه بحسب التفصيل بين الحظر فيما فيه نص والإباحة والندب والوجوب بحسب الموضوع ذي العلاقة بالاختصاص أو المصالح العامة أو ما شاكل، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالديمقراطية، تلك التي تجعل الشعب هو المرجع مطلقاً، لا قداسة لغيره، مرتبطة حتماً بفكرة الحرية، تلك التي تهدف إلى تحرير إرادة الفرد والجماعة من أي سلطة دينية أو سياسية تقيدها، وهو ما يعرف بالليبرالية، وهي ما يتعارض مع الإسلام الذي يمثل طريقة عيش متكاملة، ملخصاً غاية وجود الإنسان بالعبودية لله وحده، جاعلاً طاعة ولي الأمر من طاعة الله ورسوله وعصيانه عصياناً لهما، مستثنياً الطاعة في المعصية من ذلك. كما يفترض بالديمقراطية كذلك أن تعنى بالمجتمعات القائمة على الاختيارات الفردية كما هو حال الواقع القائم في الغرب حيث يعتبر الفرد هو أساس المجتمع وأهم مكوناته، أما حيث تبرز الأواصر العائلية والقبلية والدينية وما شاكل، فإن الديمقراطية أضيق من أن تتسع لها، وهو واقع الحال في العالم الإسلامي بإجمال.
رغم كل هذا، وبناء على افتراض هؤلاء، فإنّ اعتمادهم اللعبة الديمقراطية ووصول بعضهم إلى البرلمانات أو تعيينهم وزراء لم يعنِ بحال تطبيق الإسلام. وبدل أن يكونوا أداة لتغيير النظام السياسي القائم، استعمِلوا من قبله لتزيينه وتقوية دعائمه وإضفاء الشرعية عليه، وباتوا في أكثر الأحيان سدنة للحاكم الفرد المستبد بعد أن عقدوا صفقات مشبوهة معه. ومن ثم فلا إسلام طبق ولا حاكم مستبد استبدل. كما فشلت أو أفشلت التجارب الأكثر جدية في هذا المضمار (الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر وحماس في فلسطين مثلاً)، إذ إن اللعبة الديمقراطية محكومة بنهاية المطاف بقوانين سيد اللعبة، ذلك الذي ينسج خيوطها ويضع أطرها لتصب ضمن تصوراته وتحقق أهدافه، وهي بالتالي ليست مكرمة تهدى لمن يفوز بالأكثرية كما يتوهم البعض، وعلى من يريد اقتحامها إدراك ذلك والخضوع لقوانينها التي وضعت للحفاظ على هويتها وترسيخها لا للانقلاب عليها والوصول إلى نقيضها. وأما المثال التركي الذي يروج على أنه نموذج ناجح في هذا السياق، فقد كان مشروطاً بالعلمنة الصريحة والظاهرة، ما يعني براءة الإسلام منه جملة وتفصيلا، وما الإصرار على أسلمة تلك التجربة من قبل البعض إلا تعسف ظاهر وصرف لها عن حقيقتها، وهو ما يقر به حزب العدالة والتنمية علنا.
وبالنتيجة فقد أصبحت الديمقراطية مهيمنة على الإسلام الذي تحول في معترك الصراع السياسي إلى مجرد برنامج سياسي كغيره من البرامج، يترك للناس حق الاستفتاء عليه، يرفضونه أو يقبلونه أو يطالبون بتعديله كأي مشروع وضعي آخر، بل قد ينبذ كلياً إذا كان عائقاً من الوصول إلى السلطة كأنها الغاية لا الإسلام، ذلك الذي لم يترك خياراً للناس في وجوب تحكيمه في كافة شؤونهم بشكل قاطع لا جدال فيه، بغض النظر عن رغبات الناس وأهوائهم قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة 49]، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب 36] (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة 44].
وإضافة إلى تسويق الديمقراطية، فقد قام البعض بأسلمة عناوين الحضارة الغربية وإضفاء الشرعية على منتجاتها الثقافية والأنظمة المرتبطة بها، كحرية الرأي والتعبير والرأي الآخر، وكالحرية الشخصية والعقائدية والاقتصادية، وكذلك باتت الشركات المساهمة وشركات التأمين والبنوك حلالاً زلالاً بعرف هؤلاء بعد إسباغهم عليها تأويلات لا تعرفها بذريعة التجديد والاجتهاد، كما قدم هؤلاء نظام الحكم بالإسلام كتوأم لنظام الحكم الديمقراطي مع تحفظات قليلة تتعلق بالشكليات وهكذا دواليك، حتى لا يكاد ينجو مفهوم من المفاهيم الغربية من تبني هؤلاء له وأسلمته على نحو لافت، وكأن الإسلام يتسع للشيء والنقيض له في آن واحد.
كما باتت العناوين البراقة الأخرى كالاستقلال وحق تقرير المصير وتبجيل الهوية الوطنية والقومية وما إليه قيماً عليا ينبغي تمجيدها والتضحية في سبيلها لأمة تعتنق عقيدة قامت على النقيض من تلك المفاهيم. ذلك أنه لا يمكن بحال فصل تلك المصطلحات عن سياقاتها والفكر السياسي الذي تنتمي إليه وتروج لتحقيقه. ولذلك فقد كان تسويق تلك المفاهيم والعمل على التوفيق بينها وبين الإسلام وسيلة للانقضاض عليه وجعله مائعاً قابلاً للتطوير لدرجة قبوله بالنقيض منه. وقد كان مسلك مسوقي هذه الأفكار بالعادة منحها أبعاداً جديدة تجملها وتجعلها مقبولة لدى المسلمين بغية تقبلها.
فمدار الاستقلال الوطني وحق تقرير المصير يقضي بتجزئة الأمة وتفتيتها وإعادة صياغتها بعيداً عن رابطة الإسلام وأحكامه التي تفرض الوحدة وتحرم التشرذم والانقسام. وهو ما أدى فعلياً للمناداة باستقلال بلاد المسلمين عن بعضها البعض واعتبار البعض محتلاً أجنبياً لمجرد اختلاف الهوية القومية أو الوطنية كما صار يوصف حكم العثمانيين للبلدان العربية، والوجود السوري في لبنان إبان وجوده فيها، وأثناء ضم العراق للكويت وغيرها (رغم أن نظامي البعث في دمشق وبغداد لم يمثلا الإسلام قط وكان دورهما في لبنان والكويت مشبوهاً، لكننا نتحدث هنا عن المفهوم وأثره في الواقع). ولهذا طالبت فئات عديدة استناداً لتلك المفاهيم بحق الانفصال والاستقلال، كمطالبة الأكراد بانفصالهم عن العراق أو تركيا، والبوليساريو عن المغرب، وجنوب السودان عن شماله وهكذا. يأتي هذا لترسيخ الواقع الاستعماري الذي نتج إثر احتلال بلادنا وتقطيع أوصالها. وفي ذلك مخالفة صريحة للإسلام الذي يعتبر الوحدة أصلاً والانفصال موجباً للقتال لحماية وحدة الأمة وجماعتها.
وأما المشاريع القومية والوطنية فلم تكن أفضل حالاً. فقد مثلت روابط عصبية وعنصرية استبدلت هوية الأمة الإسلامية بروابط إقليمية وجغرافية وعرقية ضيقة أعلت من شأنها، مسخرة الغرائز والعواطف لتغليب المصالح الفئوية على مصلحة الأمة وعقيدتها. لتنال بذلك من الرابطة الإسلامية المفترض أنها تعلو ولا يعلى عليها، والتي ينبغي أن تجتمع الأمة تحت رايتها ملغية بذلك أية رابطة أخرى تتعارض معها، وهو واقع الحال حين المناداة بالقومية العربية مقابل القومية التركية والكردية والفارسية والأمازيغية أو العكس.
وأما الوطنية السياسية فإنها رابطة أضيق وأشد هشاشة، وما قام به الرسول الكريم من فتح مكة بقوى أجنبية عنها في جلها يتضارب تماماً معها، بل إن اقتراف مثل هذا ينعت من قبل المجاميع الوطنية بالخيانة من الدرجة الأولى، أولئك الذين يعتبرون أن الوطن أولاً وعلى حق دائماً. وللتنبيه هنا فإنه لا علاقة لهذا المفهوم بحب التراب أو المكان الذي ولد الإنسان فيه وترعرع، فإن ذلك شأن غريزي طبيعي لا علاقة له بمفهوم الوطنية السياسية الرائجة. والمفارقة هي أن أوروبا، تلك التي روجت المفاهيم الوطنية والقومية قد بدأت بهدمها بفعل توحدها رغم مختلف التباينات بين مكوناتها، وتركت تلك المفاهيم لتعبث بالمسلمين لتأجيج الصراعات القومية فيما بينهم وتمزيقهم.
وقد دفع ذلك التقهقر المضطرد أمام الغرب وأفكاره لخطوة وقحة جديدة للنيل من مقدسات المسلمين لسحقهم نفسياً بعد تطويعهم فكرياً، كانتقاص النبي الكريم، والتشنيع على أحكام القصاص، وازدراء أحكام الشريعة المتعلقة بالمرأة وما إلى ذلك. ولتطويق أي محاولة للثبات على الإسلام والذود عنه، باتت تهم التشدد والتطرف والإرهاب جاهزة لمن يستنكر تلك الحملات الجائرة عليه. والخلاصة هي أن اعتناق تلك الأفكار الغربية واستيراد كثير من المفاهيم الثقافية والاقتصادية والسياسية الرأسمالية وتقديمها على أنها إسلام حلال زلال تجعل التشبث بالإسلام كبديل لحضارة الغرب واعتباره حلاً أساسياً للمشاكل القائمة منافياً للواقع ومجرد شعار أجوف لا قيمة له، بل هو خدمة مجانية للرأسمالية التي تنادي بدمقرطة الإسلام وتبني قيمها المعولمة. كما يمنح ذلك الغربَ إقراراً ضمنياً بهيمنة حضارته وتفوقها على الإسلام كما تفوقت سابقاً على الشيوعية. وهو ما يفسر إصرار الغرب على مواصلة هجمته على الأمة الإسلامية عامة وعلى الحركات الإسلامية خاصة لضعضعة ثقتها بإسلامها وتطويع خطابها للقيم الغربية، تلك التي تعتبر قيماً عالمية عليا بحسب دعواه، لا محل لمن ينتقصها أو يتعارض معها في الخارطة السياسية والحضارية.
ولذلك كان لزاماً على من يطرح الإسلام كبديل حضاري حقيقي تبيان معالم ذلك الطرح وتفصيل معالجاته لمشاكل الأمة الإسلامية بخاصة والإنسانية بعامة، على أن يكون ما يقدمه منبثقاً عن الإسلام وليس مجرد إعادة تقديم حضارة الآخرين وثقافتهم بثوب إسلامي.
م. حسن الحسن
لم تعبأ الأنظمة الرأسمالية كثيراً بمجادلة الفكرة الشيوعية ودحض نظريتها الديلكتيكية (الجدلية)، وتوجهت عوضاً عن ذلك بحكم طبيعة الرأسمالية البراغماتية إلى التعاطي بواقعية صرفة مع ما يتهددها، فرقعت الرأسمالية باشتراكية مكنتها من الصمود إلى درجة التباهي أمام شعارات المعكسر الاشتراكي. وبات الضنك والقمع والبؤس الذي تحياه شعوب شرق أوروبا لقاء الرفاه الذي تحياه شعوب شقها الغربي مرآة تعكس الفارق الشاسع بين المعسكرين، فارقاً يغني عن الحاجة لمزيد من التدليل على فساد الشيوعية نظاماً وسياسة وطريقة عيش. ثم كان ما كان من تفكك الاتحاد السوفياتي واندثار المعسكر الشرقي وتحول الشيوعية إلى مجرد فكرة فلسفية لا أثر لها في واقع الحياة البشرية رغم وجود من يعتنقها هنا وهناك.
وقد استخدم الغرب خبراته المتراكمة من محاربة الشيوعية للتصدي للإسلام ولإنهاء خطره المفترض على الغرب وحضارته، متجنباً الدخول في صراع صريح ومباشر معه. فسارع إلى استثمار أحداث معينة ومحدودة نسبياً (لأصابعه دور في إثارة بعضها)، واضعاً الإسلام في قفص الاتهام، مشيعاً صورة بشعة عنه، معتبراً المسلمين بعامة مصدر تهديد واقع أو مؤجل على الحضارة الإنسانية جمعاء، مصوراً المسلم بالإرهابي حكماً وبقنبلة معدة للانفجار.
وقد سهل مهمة الغرب في حربه على العالم الإسلامي افتقاد الأخير لنظام سياسي جامع يحصنه من الاختراق، ما يسر أمر تقسيمه والهيمنة المباشرة عليه وعلى مقدراته، ودفعه للدوران في حلقات مفرغة من الصراعات، بخاصة بعد أن تمكن الغرب بشكل مباشر أو عن طريق وسطائه من إقصاء الفئات الواعية والصادقة وشلها عن قيادة العالم الإسلامي بعد تهشيمها أو تهميشها. إلا أنّ أشد ما نجح الغرب في تحقيقه في هذا الإطار هو جعل تصوراته وقيمه وتوجهاته مهيمنة على العالم الإسلامي، ما قلب الأمور رأساً على عقب، وجعل الجماهير العريضة تكافح من أجل ترسيخ مشاريع الاستعمار بدل العمل على الانعتاق والتحرر منها.
وفي هذا السياق زُينَت ديمقراطية الغرب لتصبح هدفاً "سامياً" جاذباً للمسلمين، وبات محور النقاش هو كيفية العمل على تحقيقها، وهل يُستعان بالدول الغربية أم يكتفى بالنضال الجماهيري لإنجازها في المنطقة الإسلامية. وتلخصت مهمة كثير من المفكرين بتلفيق الأدلة للتوفيق بين الديمقرطية والإسلام، بغية إزالة العوائق التي تحول دون قبول الناس بها (بعضهم عن حسن طوية). وقد أصر هؤلاء على أسلمة الديمقراطية ضاربين بعرض الحائط حقيقة نشأتها وتطورها وواقعها المخالف للإسلام وللعالم الإسلامي شكلاً ومضموناً، بخاصة أن ميزة الإسلام تكمن في كونه ديناً كاملاً ناسخاً لغيره من الشرائع السماوية ومهيمناً على كل ما سواه، مشرعاً نظاماً فريداً في الحكم والاقتصاد والاجتماع والعقوبات، جاعلاً الوحي لا البشر المرجع والحَكمَ الفصل.
وقد حاول هؤلاء وضع تعريفات جديدة للديمقراطية وتقزيمها في كونها مجرد آلية لانتخاب ممثلي الأمة ونمطاً شورياً من الحكم، مفترضين أن تطبيقها سيؤدي إلى إنهاء التسلط والفردية في الحكم، وإلى تحكيم الشريعة لكون غالبية الناس من المسلمين المتعاطفين مع المشروع الإسلامي. متجاهلين بدورهم أن طرح الديمقراطية على هذا النحو هو خلط غير مقبول في عالم المعرفة المنضبط بالأدلة والموضوعية، وهو تجديف بعيد عن الحقيقة، حيث إن الشورى حكم شرعي يأخذ أشكالاً متعددة ومنضبطة، ويتباين حكمه بحسب التفصيل بين الحظر فيما فيه نص والإباحة والندب والوجوب بحسب الموضوع ذي العلاقة بالاختصاص أو المصالح العامة أو ما شاكل، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالديمقراطية، تلك التي تجعل الشعب هو المرجع مطلقاً، لا قداسة لغيره، مرتبطة حتماً بفكرة الحرية، تلك التي تهدف إلى تحرير إرادة الفرد والجماعة من أي سلطة دينية أو سياسية تقيدها، وهو ما يعرف بالليبرالية، وهي ما يتعارض مع الإسلام الذي يمثل طريقة عيش متكاملة، ملخصاً غاية وجود الإنسان بالعبودية لله وحده، جاعلاً طاعة ولي الأمر من طاعة الله ورسوله وعصيانه عصياناً لهما، مستثنياً الطاعة في المعصية من ذلك. كما يفترض بالديمقراطية كذلك أن تعنى بالمجتمعات القائمة على الاختيارات الفردية كما هو حال الواقع القائم في الغرب حيث يعتبر الفرد هو أساس المجتمع وأهم مكوناته، أما حيث تبرز الأواصر العائلية والقبلية والدينية وما شاكل، فإن الديمقراطية أضيق من أن تتسع لها، وهو واقع الحال في العالم الإسلامي بإجمال.
رغم كل هذا، وبناء على افتراض هؤلاء، فإنّ اعتمادهم اللعبة الديمقراطية ووصول بعضهم إلى البرلمانات أو تعيينهم وزراء لم يعنِ بحال تطبيق الإسلام. وبدل أن يكونوا أداة لتغيير النظام السياسي القائم، استعمِلوا من قبله لتزيينه وتقوية دعائمه وإضفاء الشرعية عليه، وباتوا في أكثر الأحيان سدنة للحاكم الفرد المستبد بعد أن عقدوا صفقات مشبوهة معه. ومن ثم فلا إسلام طبق ولا حاكم مستبد استبدل. كما فشلت أو أفشلت التجارب الأكثر جدية في هذا المضمار (الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر وحماس في فلسطين مثلاً)، إذ إن اللعبة الديمقراطية محكومة بنهاية المطاف بقوانين سيد اللعبة، ذلك الذي ينسج خيوطها ويضع أطرها لتصب ضمن تصوراته وتحقق أهدافه، وهي بالتالي ليست مكرمة تهدى لمن يفوز بالأكثرية كما يتوهم البعض، وعلى من يريد اقتحامها إدراك ذلك والخضوع لقوانينها التي وضعت للحفاظ على هويتها وترسيخها لا للانقلاب عليها والوصول إلى نقيضها. وأما المثال التركي الذي يروج على أنه نموذج ناجح في هذا السياق، فقد كان مشروطاً بالعلمنة الصريحة والظاهرة، ما يعني براءة الإسلام منه جملة وتفصيلا، وما الإصرار على أسلمة تلك التجربة من قبل البعض إلا تعسف ظاهر وصرف لها عن حقيقتها، وهو ما يقر به حزب العدالة والتنمية علنا.
وبالنتيجة فقد أصبحت الديمقراطية مهيمنة على الإسلام الذي تحول في معترك الصراع السياسي إلى مجرد برنامج سياسي كغيره من البرامج، يترك للناس حق الاستفتاء عليه، يرفضونه أو يقبلونه أو يطالبون بتعديله كأي مشروع وضعي آخر، بل قد ينبذ كلياً إذا كان عائقاً من الوصول إلى السلطة كأنها الغاية لا الإسلام، ذلك الذي لم يترك خياراً للناس في وجوب تحكيمه في كافة شؤونهم بشكل قاطع لا جدال فيه، بغض النظر عن رغبات الناس وأهوائهم قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة 49]، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب 36] (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة 44].
وإضافة إلى تسويق الديمقراطية، فقد قام البعض بأسلمة عناوين الحضارة الغربية وإضفاء الشرعية على منتجاتها الثقافية والأنظمة المرتبطة بها، كحرية الرأي والتعبير والرأي الآخر، وكالحرية الشخصية والعقائدية والاقتصادية، وكذلك باتت الشركات المساهمة وشركات التأمين والبنوك حلالاً زلالاً بعرف هؤلاء بعد إسباغهم عليها تأويلات لا تعرفها بذريعة التجديد والاجتهاد، كما قدم هؤلاء نظام الحكم بالإسلام كتوأم لنظام الحكم الديمقراطي مع تحفظات قليلة تتعلق بالشكليات وهكذا دواليك، حتى لا يكاد ينجو مفهوم من المفاهيم الغربية من تبني هؤلاء له وأسلمته على نحو لافت، وكأن الإسلام يتسع للشيء والنقيض له في آن واحد.
كما باتت العناوين البراقة الأخرى كالاستقلال وحق تقرير المصير وتبجيل الهوية الوطنية والقومية وما إليه قيماً عليا ينبغي تمجيدها والتضحية في سبيلها لأمة تعتنق عقيدة قامت على النقيض من تلك المفاهيم. ذلك أنه لا يمكن بحال فصل تلك المصطلحات عن سياقاتها والفكر السياسي الذي تنتمي إليه وتروج لتحقيقه. ولذلك فقد كان تسويق تلك المفاهيم والعمل على التوفيق بينها وبين الإسلام وسيلة للانقضاض عليه وجعله مائعاً قابلاً للتطوير لدرجة قبوله بالنقيض منه. وقد كان مسلك مسوقي هذه الأفكار بالعادة منحها أبعاداً جديدة تجملها وتجعلها مقبولة لدى المسلمين بغية تقبلها.
فمدار الاستقلال الوطني وحق تقرير المصير يقضي بتجزئة الأمة وتفتيتها وإعادة صياغتها بعيداً عن رابطة الإسلام وأحكامه التي تفرض الوحدة وتحرم التشرذم والانقسام. وهو ما أدى فعلياً للمناداة باستقلال بلاد المسلمين عن بعضها البعض واعتبار البعض محتلاً أجنبياً لمجرد اختلاف الهوية القومية أو الوطنية كما صار يوصف حكم العثمانيين للبلدان العربية، والوجود السوري في لبنان إبان وجوده فيها، وأثناء ضم العراق للكويت وغيرها (رغم أن نظامي البعث في دمشق وبغداد لم يمثلا الإسلام قط وكان دورهما في لبنان والكويت مشبوهاً، لكننا نتحدث هنا عن المفهوم وأثره في الواقع). ولهذا طالبت فئات عديدة استناداً لتلك المفاهيم بحق الانفصال والاستقلال، كمطالبة الأكراد بانفصالهم عن العراق أو تركيا، والبوليساريو عن المغرب، وجنوب السودان عن شماله وهكذا. يأتي هذا لترسيخ الواقع الاستعماري الذي نتج إثر احتلال بلادنا وتقطيع أوصالها. وفي ذلك مخالفة صريحة للإسلام الذي يعتبر الوحدة أصلاً والانفصال موجباً للقتال لحماية وحدة الأمة وجماعتها.
وأما المشاريع القومية والوطنية فلم تكن أفضل حالاً. فقد مثلت روابط عصبية وعنصرية استبدلت هوية الأمة الإسلامية بروابط إقليمية وجغرافية وعرقية ضيقة أعلت من شأنها، مسخرة الغرائز والعواطف لتغليب المصالح الفئوية على مصلحة الأمة وعقيدتها. لتنال بذلك من الرابطة الإسلامية المفترض أنها تعلو ولا يعلى عليها، والتي ينبغي أن تجتمع الأمة تحت رايتها ملغية بذلك أية رابطة أخرى تتعارض معها، وهو واقع الحال حين المناداة بالقومية العربية مقابل القومية التركية والكردية والفارسية والأمازيغية أو العكس.
وأما الوطنية السياسية فإنها رابطة أضيق وأشد هشاشة، وما قام به الرسول الكريم من فتح مكة بقوى أجنبية عنها في جلها يتضارب تماماً معها، بل إن اقتراف مثل هذا ينعت من قبل المجاميع الوطنية بالخيانة من الدرجة الأولى، أولئك الذين يعتبرون أن الوطن أولاً وعلى حق دائماً. وللتنبيه هنا فإنه لا علاقة لهذا المفهوم بحب التراب أو المكان الذي ولد الإنسان فيه وترعرع، فإن ذلك شأن غريزي طبيعي لا علاقة له بمفهوم الوطنية السياسية الرائجة. والمفارقة هي أن أوروبا، تلك التي روجت المفاهيم الوطنية والقومية قد بدأت بهدمها بفعل توحدها رغم مختلف التباينات بين مكوناتها، وتركت تلك المفاهيم لتعبث بالمسلمين لتأجيج الصراعات القومية فيما بينهم وتمزيقهم.
وقد دفع ذلك التقهقر المضطرد أمام الغرب وأفكاره لخطوة وقحة جديدة للنيل من مقدسات المسلمين لسحقهم نفسياً بعد تطويعهم فكرياً، كانتقاص النبي الكريم، والتشنيع على أحكام القصاص، وازدراء أحكام الشريعة المتعلقة بالمرأة وما إلى ذلك. ولتطويق أي محاولة للثبات على الإسلام والذود عنه، باتت تهم التشدد والتطرف والإرهاب جاهزة لمن يستنكر تلك الحملات الجائرة عليه. والخلاصة هي أن اعتناق تلك الأفكار الغربية واستيراد كثير من المفاهيم الثقافية والاقتصادية والسياسية الرأسمالية وتقديمها على أنها إسلام حلال زلال تجعل التشبث بالإسلام كبديل لحضارة الغرب واعتباره حلاً أساسياً للمشاكل القائمة منافياً للواقع ومجرد شعار أجوف لا قيمة له، بل هو خدمة مجانية للرأسمالية التي تنادي بدمقرطة الإسلام وتبني قيمها المعولمة. كما يمنح ذلك الغربَ إقراراً ضمنياً بهيمنة حضارته وتفوقها على الإسلام كما تفوقت سابقاً على الشيوعية. وهو ما يفسر إصرار الغرب على مواصلة هجمته على الأمة الإسلامية عامة وعلى الحركات الإسلامية خاصة لضعضعة ثقتها بإسلامها وتطويع خطابها للقيم الغربية، تلك التي تعتبر قيماً عالمية عليا بحسب دعواه، لا محل لمن ينتقصها أو يتعارض معها في الخارطة السياسية والحضارية.
ولذلك كان لزاماً على من يطرح الإسلام كبديل حضاري حقيقي تبيان معالم ذلك الطرح وتفصيل معالجاته لمشاكل الأمة الإسلامية بخاصة والإنسانية بعامة، على أن يكون ما يقدمه منبثقاً عن الإسلام وليس مجرد إعادة تقديم حضارة الآخرين وثقافتهم بثوب إسلامي.
م. حسن الحسن