محب شمـر
10-02-2008, 23:15
رسالة من الشيخ محمد شقرة إلى أخيه الشيخ بكر أبو زيد أثناء مرضه /غاية في الروعة
بكر أَبو زيدابنُ القَيِّمالَّثاني
" عَيْبَةُ علمه ، وَبنانُ حُجّتهِ "
الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى .... أَما بعدفما كان للتاريخ أَنْيُغْفل طوائِفَ العلم التي عمرت حِقَبه، وملأَت أَرجاءَه، وطوََّفَت بآفاقه.
ومن هذه الطوائف طائِفةٌ اجتباها الإِسلامُ اجتباءً خاصَّاً لنفسه، وخصَّهابالكثير من فضله، وأَولاها من فَيْضِ عنايته، ما لم يأْذن لغير هذه الطائفة أنتناله، وليس ذلك من ضنٍّ منه أَن يُنيلَ الذي أَناله هذه الطائِفة، بل لما اختصهاالله به من فضائِل نفْسيَّةٍ وصفاتٍ عقليةٍ، ومواهبَ رقَيِتْ بها سُلَّم الخلود،وأَخْرجَتْها من ظُلْمةِ التذبذب والتَّحيُّرِ، إلى نور الاستقرار والثبات،فَعُرِفَت في دنيا الناس بتلكم المواهب، وأَجْرَتْ عليها من شَفيفِ بِرِّهاوإِحسانها، ما لم تبصر ولا ترى في غيرها .
وعرفت أُمَّةُ الإسلام في كلِّ قرنمن قرونها واحداً وقف قوياً عزيزاً على رأْس هذه الطائِفة، يمدُّ بصره إِلى آفاقالزَّمن، يَجِدُّ في البحث عن واحدٍ يكون مثله،لانت له المعرفة، وأَلقت إِليهبزمامها، وأَرادته أن يكون لها وحدها، لا ينازعها فيه منازع، ولا تجترح أَصابعهتدوين غيرها، مما شغل سوادُ أهل العلم أَقلامَهم وقلوبَهم بها مما هو مقدور عليه ،وهو مستطاع للعامة قبل الخاصة منهم.
وقد يجد هذا الواحدُ من يظاهره فيما اختصهالله به من المواهب، والفضائِل، والصفات، عطاءً غير مجذوذٍ، واحداً أَو أكثر، ممنأَخذوا العلم عنه، أَو أَطافوا بِعلْمه من بعد موته، فيما أَبقى للناس مسطوراً فيقرطاس، أَو مأْخوذاً عن سماع، أو مُتَلقّىً من طول صحبة.
ولا نرغب في أَن ننحدرمع القرون لنشارِف رأسَ القرون المفضلة، وإِمامها الأشمَّ، وسقفها المتين العالي،فلا علينا، فذلك قرن مع صنويه بلغ من الرفعة وعلوِّ المنزلة، وبعدِ الشَّأْوِوالمطَّلب، ما ليس في وسع القرون العاقبةِ كلِّها مجتمعةً بجهدها وَطَوْلِها أَنتبلغ ـ إِلاَّ ما يكون، بالتَّأسِّي والمصابرة ـ من جلال ذلك القرن، وَروْنق بهائِه، وعزِيزِ سلطانه، في كل جانب من جوانب وجوده الحياتي.
لذا، فإني واقفٌ بكم علىمدرجة القرن السادس، لنستشرف معاً قطعة من أَرض الشام الطيبة المباركة، على بعدٍأَو قربٍ منها، فالزمن مطويٌّ بكلِّ ما هو في باطنه، وبكلِّ ما هو من فوق ظاهره،بِيَدِ سِجِلٍّ حافظٍ بارع، ليس يغيب منه شيءٌ على الدهر، لنبصر معاً برجل أَمَّالعالمَ كلَّه بعلمه، وشَمَخَ على الحياة شموخَ الرَّواسي، وأَسلمت له العلومُوالمعارف برَغَبِها ورَهَبِها زِمامَها، يُصَرِّفها بالحقِّ ودقَّةِ النظر،وأَمانةِ القلم والحفظ، كيف يشاء، ويجعل الوارثين من بعده يسارعون في الاستباقإِليها، ليذيعوا فيمن بعدهم من القرون فضلَها، وبهاءَها، وجلالَها، ذلكم: هوالإِمامُ الحجَّة الباقية على الأُمة كلِّها ـ خلا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم،والعروةَ المكينةَ التي وثَّقَتْها يدُه الشريفة من أَصحابه، رضي الله عنهم ـ ابنتيمية رحمه الله، وجزاه عن الأمة خيراً.
وذكرُ ابن تيمية رحمه الله تعالى ذكرٌمستطابٌ، محفوظٌ بهدي السُّنَّة، وصريح الكتاب، عَمَر أَرض المسلمين بهما، واستاقإِلى القرون الآتية بعضاً من فضلها، بلغ بها ـ من سَعِد وأَخلد بقلبه وعقله إِليه ـالفرقدين، وبوَّأَها معقد الخافقين، وكان مما استاق من ذلك البعض من الفضل (تلميذُه، وصاحبه، وجامع فضله، الرامي عن قوسه، الوارثه وحده، السَّاعي في خدْمته من بينيديه ومن خلفه، الحامي ضَيْعتَه، الحافظ سيرته، القيِّم على قلمه، الناشر في الناسمن بعده عِلْمَه) ابن قيِّم الجوزية، رحمه الله تعالى.
وابن القيِّم ، ليسبخافٍ على أحدٍ في دنيا البشر، صاحبُ التصانيف الكثيرة الجليلة، الباسطُ جناحيالرقائِق فوق الأَرض المباركة، الآخذ بِعِنَان العربية إِلى رحابها الواسعة،بأَحسنِ أَساليبها، وأَجملِ وجوه البلاغة والبيان المودعة في تراكيبها، وأَعلىمقاصدِ المعاني التي تَهدي إِليها بِشِعْرِها ونَثْرِها، هذا إِلى غزارة الفقهوالإحاطةِ بوجوه التأْويل والتفسير، وتأْصيلِ قواعدِ الأَصول وإِحصاءِ فروعها،وتقَصِّي الشوارد الخفيِّة بالقياسات المرضيِّة، التي يُستَغْنى بها بالجمعوالتأليف بينها عن النُّصوصِ الناطقةِ بأَحكامها وشرائِعها، وتدفُّقِ الإِملاآتالعقلية الحسان، إِلى غيْر ذلك مما تعجز عن الإِنباءِ به، والنطق به جماعاتُالأَقلام، ولعلَّ " إِعلام الموقعين " يهدي لذلك كلِّه وزيادة، وقد مشت من وراءِابن القيم رحمه الله ـ في حياته ومن بعد ثوائِه في رمسه ـ أَفواجٌ من العلماءِ،والأُدباءِ ، والكتاب، والشعراء، والصالحين الزاهدين، كلما غاب منها فوجٌ ظهرت منبعده أَفواجٌ، يأْخذ كل فوج منها لنفسه أَوفر ما يريد حظَّاً مما يقدر عليها قلمه،يحتفظ منه لنفسه الكثير ليثوي معه، ويدع لمن بعده ما يفضل عن حاجته، وما يفضل منهأَكثر مما يحتفظ، والْتقى فضل تلك الأَفواج كلها على صعيد واحد، فتآلفت كلها،وتراصَّت في كتبٍ ورسائِل، حتى غدت ميراثاً آخر لابن القيِّم رحمه الله، يُباهيبنفسه ما خفي وذهب من علمه معه حيث استقر به الثوَى من بعد شيخه ابن تيمية، رحمهمالله جميعاً، وأَذهب عنهم الحزن يوم الجمع والتلاقي الأكبر.
وَلكأَنما أَرادالله لعلم ابن القيِّم رحمه الله أَن يظهر من جديد في الأَرض، لينشِأَ مدرسة جديدة،يتخرج فيها طلاَّبُ علمٍ على سَنَن السابقين المُجدِّين، الذين تخرجوا في دمشق فيحلقة ابن القيِّم رحمه الله، وشهرت بهم في كل مكان وُجِدوا فيه، وارتحلوا إِليه.
وليس غريباً أَن يحظى علم ابن القيِّم بجهابذة من طلاب العلمِ الأَغيار، وأَنيترسَّمُوا خطاه، وأَن يكون له في كل قطرٍ محبُّون وأَشياعٌ، وأَن يُجلِي قَلَمُهحيثما حلَّ سائِر الأَقلام، فيكون له الغلبةُ والظهور عليها، من غير منازع.
غيرأن قلم " بكر أَبو زيد " من بين هذه الأَقلام، كان له تفرد في هذا الشأْن ماز بهنفسه بنفسه، أَوردَ به علم ابن القيِّم رحمه مورداً عذباً سائغاً، لا عيب فيه يزري،ولا ظلمه من فوقه تُغشِّيه، ولا اضطراب من تحته يَنْقيه ، في نصاعة العبارةورسوخها، وقوة المعنى وجلائِه، وتماسك الحروف والكلمات وتآلفها، حتى لكأَنك وأَنتتقرأُ الذي كتب ـ لولا الخط الوهمي الحاجز بين ما كتبه ابن القيِّم وبين ما كتبهبكر ـ تقول في نفسك : لو كان ابن القيِّم حياً، لكان عليك أَن ترجع إِليه ليهديكإِلى الكلمات والعبارات التي خطَّتها يمينه، كيلا تقع في لبس، يختلط به عليكالأَمر، فيكون به الخلط، ودليلاً جاهراً بأَن هذا هو ذاك، وذاك هو هذا، لكن الخطالوهميَّ الحاجزَ بينهما، لا يعتسفك وأَنت تقرأُ كلام الرجلين معاً، أو وأنت تقرأُكلامَ كلٍّ منها منفرداً، فقد تشابها، فتشاكلا، وباتا على تباعد الزمان بينهما علىحرفٍ واحدٍ، يأْخذ معنى كلٍّ منهما لفظه من لفظ الآخر، ومعناه من معنى الآخر، وهذهمزيةٌ خاصة لم تكن إِلا لعقل بكر وقلمه، وهو يرتاد علم ابن القيِّم من أَطرافه،يوغل فيه برفق، وينساب في خباياه بَتُؤدة، وينتاب أَطرافه في هونٍ، وعلى مهل، يجمعفي إِيغاله كلَّ الشوارد، ويمسك وثاقَها جميعاً في حذرٍ من أَن تطرف عينه عنهابغفل، أو أَن يُناشَ سمعه بإغماضة، أو أَن يُناب فكره بوهلة.
ومن يعرف " بكرأبو زيد " من قلمه، يعرف العربية في دارها من أهلها، ومن يعرفه من لسانه لا يأْذنلسمعه أَن تُصيبه معرَّة اللحن الفاحش، ومن يعرفه من سلوكه في الناس يبصر برجل فيهأناة العزة، وشموخ النَّقيبة، ومضاءُ الشكيمة، يُؤْويها كلَّها رداءٌ من الهيبة، فيتواضع غير متكلَّفٍ، وترفُّعٍ غيرِ مستثقلٍ، وإِحسان بمعروفٍ غير مستأْثَرٍ، ثم لايجد الناظر فيه إِلا مصداق قول الشاعر:
يقولون فيك انقباض وإنما رأَوا رجلا عنموقف الذُّلِّ أَحجما.
عرفت بكراً أّوَّل ما عرفته في قدمَةٍ له إِلى " عمَّان " في حاجةٍ له، زار فيها الشيخ ناصر رحمه الله تعالى، وكان يحبُّ الشيخ حبَّاًجمَّاً، ويعظِّمه لعلمه، ولا يقدِّم عليه أَحداً من أَضرابه ونظرائِه، ويثني عليهالثناءَ الجميل، ويعود إِليه في المسائِل العلمية التي تبهم أَو تشكل عليه فيالسُّنَّة، وكان سيفاً يحامي عن الشيخ رحمه الله من ورائِه، ويحضُّ الناس فيالمملكة ـ علماءَ، وطلاَّب علم ـ على توقيره، والإِفادة من علمه، ولا يدع مجالاًيذكر فيه الشيخ إِلا والثناءُ عليه يكاد يسبق ذكرَه، لكن الشيخ رحمه الله، لم يلبثأن أَلمَّ به بقلمه، واشتدَّ عليه الشدَّة المعهودة منه رحمه الله ، ووطأَهبأُسلوبه المعروف، وما كان ينبغي أَن يفعل ذلك معه، إِذ الخلاف العلمي أَمرٌتعاهدته أقلام أَهل العلم من قديم، وراحت به وغدت على روَّاده من قديم، لكن هكذافعل الشيخ.
وكأَن التلاميذ الأَدعياءِ، تلاميذ النَّوم والموائَد، سنحت لهمسانحة بِصَنيع الشيخ رحمه الله ببكر في كتابه النافع: (تمام المِنَّة )، فحوَّلوارحالهم، وفوَّقوا سهامهم إِلى بكر، ظانِّين أَنهم بذلك يسكتون صوته، ويكسِرون قلمه،الذي وشَّح فتوى لجنة الإفتاء الصادرة في حق أربعتهم، ومن تبعهم بغير إحسان.
وصحبته في زيارته هذه إِلى الشيخ، فرأَيت منه ـ على علمه ـ ما يُرى من طالبالعلم، الحريص على الإِفادة من شيِخه، أَن تَندَّ عنه نادَّة، أَو تشرد منه مسأَلة،سأل الشِيخَ سُؤالاتٍ عدَّة، وكان منه إِيراداتٌ على جوابات الشيِخ، كمَّل بعضهابعضاً، ظهر فيها الخلق العلمي، الذي أَطاح به طلابُ العلم في زماننا، بالإِغلاظ،وسوءِ الأَدب، والتعالم، الذي وضع فيه بكرٌ كتاباً مستقلاً، أَبان فيه عوارالمتعالمين الساجحين، وحدَّد معالم الطلب خير تحديد، ودعا طلاب العلم أَن يتركواالبُنَيَّات للجادَّة، وأَن يستقيموا على الأَمر كما أمر الله، وبيَّن رسوله.
ولا زالت حروف كتابه " حراسة الفضيلة" تقطع آفاق الدنيا، تدعو الأُمة إِلى أَنيتواضعوا على قواعد واضحة ثابتة، تنبو عنها كلُّ رذيلةٍ تسعى في الأمة بسُمِّها،وتصدُّ بقوة كلَّ دعوىٍ جائِفةٍ زائِفةٍ عن حِماها، ولكأَنَّما كلُّ جملةٍ فيه جزءٌأَخلاقيٌّ يُمهِّدُ السبيل أَمام كلِّ محبٍّ الخُلُقَ الطيِّب.
وما من كتاب منكتبه، ولا رسالة من رسائِله، إِلا وقد تأَلَّقت بسنا معانيها، وذاعت بشذا أَلفاظهاوأَدرجت كرائِم مقاصدها بين يديها، تُرى على البُعدِ ذبدباتُ ضوئِها، وتُسمَعُ علىالنأْي همسات حسِّها، وتتلاقى هذه وتلك على صعيد الرجاءِ في ترسُّمِ خطى القرونالأَولى، التي صدَّقت بكلمات ربِّها ورسله، فجثت أَمامها القرون الآتية من بعدها فيخشوع الرضا، على يد كاتب مثل بكرٍ، حتى صار يقال بها وفيها: " يضارع أُسلوب بكر فيتدفق معانيه، وترابُطِ أَفكاره، وجزالة أَلفاظه، وقوة تراكيبه، ومتانة عبارته،وفصاحة كلمته، وسموِّ غايته، ودقة دَرْكَتِه، وشمول إِحاطته، ووضوح معالمه".
ولسوف تَظل كتُبُه ورسائِله سقفاً علميّاً واسعاً، قويّاً، تستظل به عقولُطلابِ العلم، وترتاده آناءَ الليل وأَطرف النهار، في نَهْمَةِ رغَبٍ، وطُلَعةِشوقٍ، وأَتِيَّةِ حرصٍ، وأَمَنَةِ عطاءٍ وأَخذٍ، لكأَن الزمان قد انحسر بقرونه،وذهبت غواشيه المتكاثفة، وانزاحت أَستاره الصفيقة، حتى لكأَن بكراً قد أَخذ من بدرةابن القيِّم، مكتوب على كل قطعة منها أَخذها ـ وكأَنها وصيَّة ٌ منه رحمه الله،لبكر شفاه الله وعافاه ـ أَنْفِقْ بكرُ، ولا تخش إِقلالاً، فقد آتانيَ الله منخزائن رحمته، ومن خفايا علمه ـ مما لا يُخْشى به على عقيدة التوحيد أَن تُثْلَمَ،ولا يخاف منه على جريب أَحكام الشرع الحنيف أَنْ يُنْتَقَصَ ـ بأَعلى إِسنادٍيُعرفُ في طبقاتِ الرجال، لم يُعْهد إِلا على سَنَن الصحابة رضوان الله عليهم، وهميأْخُذون عن معلِّمهم، ومُرَبيهم ـ وقائِدهم، "المصطفى" صلى الله عليه وسلَّم ، معفارق المنزلة، بين الصحابة رضي الله عنهم، وبين القرون كلها التي تتالت على مدرجةالزمن.
ولكن ما ينبغي أَن ننسى كلمة أَثبتها لنا الزمان على جداره العظيم الذيأَحاط بالدنيا، منذ كانت دنيا، يقرؤُها الأُمِّيُّ والقارئُ على حدٍّ سواءٍ: " أمتيكالمطر، لا يُدرى خير أَوَّلُه أم آخره "، فتكون الأمة في الخير ـ علماً وعبْرة ـوكسبه وبذله على حدّ قوله سبحانه: ** وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } .
فلا عجبَإذاً من بعدُ ومن قبل، أَن يمنَّ الله على الأُمَّة اليوم كما منَّ عليها بالأَمس،بطائفةٍ، يَصْطفيها لدين الإِسلام الحق، فيها ابن القيِّم، وابن تيمية، لقبانمتكرران متجددان على الزمن، يمنحهما الله سبحانه من يعلم أَنَّه أَهلٌ، ليعطيواحداً منهما أَو كليهما معاً.
وإِني لأَرى أَنَّ بكراً لأَهلٌ ـ وقد صار عيبةًحافظةً لعلم ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ من بعد قرون خلت ـ أَن يُمْنَحَ أَحداللقبين، بإضافة وصفٍ إِليه يميزه من صاحب الاسم السابق، ابن قيِّم الجوزية الذيتألَّق القرن السابع بسنا ذكره، فنُسِّمى صاحبنا بكراً بـ: "ابن القيِّم الثاني"،ضارعين إِلى بارئِ الأَرض، ورافع سقف السماءِ، أَن يمنَّ الله عليه بالشفاء، لعلَّالله سبحانه، يحدِث لهذه الأُمة به وبمن هو مثله ما يُراح به إِلى آفاق المعارفالإِسلامية العربية، ويُغْدىَ به إِلى قيعان الهدى، وثبج المحيطات، فيملأَ تلك منهذه، ويُغْذي هذه من تلك، وإذا الحياة العلمية تفيض بالخير والبركات، بما أَلقتإِليها تلك الثروة الجليلة التي خلَّفها للأمة من بعده، شيخ الإسلام، ابن القيِّمرحمه الله، وإِنِّيِ على يقين من أَن الأُمة كان يكفيها أَن تقف بجهدها العلمي فيالعقيدة، والفقه، وعلم السلوك، والرقائِق، والتفسير، وغيرها، على عتبة تراث الشيخينالإمامين العظيمين ابن تيمية، وابن القيِّم، ليكون ذلك بداية في توحيد الأُمة علىمذهبٍ واحد، تذوب به الخلافات، وتذهب فيه النزاعات، وتعود سيرتها الأُولى، التينَسَجَها قرن الصحابة، رضوان الله عليهم، لكنها تَظلُّ أُمنيَّةً معلَّقةً في سماءِالأُمة، لا ندري متى تدنو من حبل الرجاء، والأُمة تنتهب عقولها الشُّبهاتُالمظلمةُ، والجهالاتُ السَّافية العافية، وتؤُودُ الأَخلاقَ فيها كبائِرُ الإِثم،وأَجلُّها وأَفدحُها : الاستكبارُ والبغضاءُ.
وظلَّ بكر حفظه الله في منأىً عنمداراتِ الفتن، هو وقلمه، وكم من فتنةٍ استطارت برهَجها بين ظهراني الأُمة، أَتتعلى كثير من قيمها ـ من غير إبادة لآثارها وأَسبابها ـ كأَن بينها وبين بكرٍ عهداًأَن لا تُرِيهَ نفسها إن هي حطت في أَرض الأُمة، حتى لا يجري منها حرف أَو كلمة علىلسانه، أَو يصيب منها قلمه، وكأَنها تعلم منه أَنها لا تفيد منه شيئاً، فآثرت أَنيكون منها عهد له في ذلك.
بيد أَن خطأً ـ عَدَّ العقلاءُ الأَنقياء منه خطيئَةـ واقعه، اندفع إليه بحماسة الحبِّ، وشيءٍ من حُسْن الظنِّ، حين ذكرَ واحداً ممنأَوقدوا نار الفتنة في " عمَّان " ، وأَثنى عليه ثناءً ـ ندم عليه فيما بعد ولابدَّ ، إِذ تبيَّن له أَنه ليس أَهلاً لمثل هذا الثناء ـ فوصفه في مقدمته لواحد منكتبه (بالعلاَّمة)، ونحمد الله على أَن هذا الثناءَ لم يتعدَّ هذا الواحد، ليأْتيعلى الأربعة أَو الخمسة الآخرين، غفر الله لك يا شيخ بكر صنيعك الذي كان، ولعلك ـولابدَّ ـ قد علمت أَنها شهادة من مثلك ترفع بها خسيسة المغموز في دينه وأَمانتهالعلمية، لكن ذاك أَبى إِلاَّ أَن يُنيل نفسه فتنةً صنعها هو وأَربعةٌ معه، ليرتدَّإِليهم قلمك جملةً واحدةً بالفتيا، التي أَصدرتها لجنتكم الموقَّرة، لجنة الإِفتاءِالدائمةِ في حق الأربعة (صُنَّاع الفتنة) محرري مَجَلَّة الأَصالة، المجذوذة الأَصل، حين أَظهرت للأُمة ضلالتهم الإِرجائِيَّة التي أَبوا بكبْرِ جهلهم إِلا أَنيلصقوها بالشيخ ناصر رحمه الله، إِذ زعموا أَنَّه شيخهم، وأَنهم أَخذوا هذه العقيدةالباطلة الخبيثة عنه، فانظر إِلى آثار سوءِ الفتنة التي صنعوها،وأَذاعوها في الناسعن الأَحياءِ والأَموات، وأَصروا عليها واستكبروا استكباراً، ومشوا قائِلين فيعلانية وقحةٍ جائِرة هاجرة : اصبروا على ضلالتكم إنَّ هذا الشيءُ يُراد منكم،ولعلكم بعد يومكم هذا لا تستطيعون أَن تنكصوا أَو تؤُوبوا عن شيءٍ أُريدَ بكمومنكم،بغُلْمَةِ الحرام، وكسْب الإثم، وأَزيز الطمع.
ومثلكم في ذلك صاحبكم " أَبو ذُنيبٍ المتسوِّل " ، الذي أَذاع في الناس بنفسه خبره المشين، إِذ أَراد أَنيتبرَّأَ من صنيعه، فسقط إِما على أُمِّ رأْسه، وإِمَّا على عَجْبِ ذَنَبه، فلم يعدمن شدة الأَلم يدرى ما يقول، وفَّاه الله سوءَ حسابه، وأَعجل له في الدنيا منعقابه.
ولكأَنما جعل الله للبلاءِ حقاً أَن يتخيَّر لنفسه ما يريد ومن يريدفيهبَ من يتخيَّر شيئاً مما يتخير من صنوف الشدة، وأنواع المرض بحسب ما يعلم من قوةتحمُّل من يتخيَّر لنفسه، فينيله من شدته، ويوقع فيه من مرضه، وكلُّ ما يكون بأَمرٍمن الله، ولا رادَّ له، حتى يغسل من ذنبه.
وكان لبكر حظٌّ جمٌّ في جعبة البلاء،أَوفره له فيه ربُّه سبحانه منذ كان صورةً في تقدير الله وعلمه، حتى إِذا حان وقتظهوره فيه أَظهره عليه، وأَسبغه نعمةً على رأسه العظيمة، التي وعت القرآن والحكمة،وجمعت علم الشيخ ابن القيِّم إِمام الأُمة، وأَدنت مسائِله من العلماء، وقربتشوارده، وألَّفَت بين متفرِّقاته، وحَّلت معضلاته ومشكلاته، وأَصارته إِلى أَيديطلاب العلم في سهولةٍ ويسر، حتى غدا ليس من علم عالمٍ أَحبَّ إليهم منه، إِلا أَنيكون عِلْمَ شيخه ابن تيمية رحمهما الله، وأَسبغ عليهما وأَفاض عليهما من نعمائه،وبَّوأَهما منازلَ الصدِّيقين والشهداءِ والصالحين والنَّبيين، وآواهما إِلى ربوةفي الفردوس الأَعلى ذات قرارٍ ومعين، وأَلحقنا بهما على خير، ورزقنا نحن وبكرٌ ومننحب من علمهما، ما يكون لنا به شرف المنازل العالية في الدنيا وفي الآخرة.
ولستُ يا شيخُ بكر بالمواسيك ـ وأَنت من كنتَ تواسيني حين كنت تعودني، في مرضيفي " الرياض " فتدعو لي بِقَولك: "جمع الله لك بين الأجر والعافية " ـ بأَجملَ ولاأَلطف منها، وإن كان الأحْسنَ والأَطيبَ ـ بِل هو كذلك ـ تلك الدعوة التي كان يدعوبها المصطفى عليه الصلاة والسلام، حين كان يعودُ مريضاً من أَصحابه: " أَسأل اللهالعظيم رب العرش العظيم أَن يشفيك" سبع مرات.
ولستُ بالمصبِّرك بأَحسنَ ولابأَطيبَ من تذكيرك بشيءٍ مما تحفظ عن نَبيِّنا عليه الصلاة والسلام من مثل قوله : "من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه " وقوله : "ما يزال البلاءُ بالمؤْمنِ في نفسهوولده حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئَة" وقوله: "إِذا أَراد الله بعبده الخيرعجَّل له العقوبة في الدنيا " فأَيُّ نعمةٍ يا حبيبنا بكرُ قد أَنعم الله بها عليك،وأَيَُ فضلٍ أنالكه، وأَنت ترتدي ثوب البلاءِ، الذي مَنَّ الله به على الصالحين منعباده، فَتَصبرَ وتُصابرَ، وتُعِلِّم الناس الصَّبرَ.
والسلام عليك في الأَخيارالطيِّبين، وعجَّل لك الشفاءَ وجمع شملك بقلمك، وأَنعم عليك بالرضا، ولقَّاناوإِياك في الفردوس الأَعلى من حبِّه ما يُكافئُ رجاءَنا فيه بالحسنى وزيادة،وأَقامنا على الحقِّ الذي أَقام عليه نبيَّه، وباعَدَ بيننا وبين الباطل الذي أَزاغالله إِليه قلوب أَهل الإرجاءِ بزيغهم، وعلَّمنا وإِياك ما لم نكن نعلم، إِنه سميعٌمجيب.
واسلم رعاك الله لمحبيك وإخوانك الذين هم على خير ماأنت عليه واذكرني بدعوةٍ صالحة في بلائك.
أخوكم المحبأَبو مالك محمد إبراهيم شقرة
منقول
بكر أَبو زيدابنُ القَيِّمالَّثاني
" عَيْبَةُ علمه ، وَبنانُ حُجّتهِ "
الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى .... أَما بعدفما كان للتاريخ أَنْيُغْفل طوائِفَ العلم التي عمرت حِقَبه، وملأَت أَرجاءَه، وطوََّفَت بآفاقه.
ومن هذه الطوائف طائِفةٌ اجتباها الإِسلامُ اجتباءً خاصَّاً لنفسه، وخصَّهابالكثير من فضله، وأَولاها من فَيْضِ عنايته، ما لم يأْذن لغير هذه الطائفة أنتناله، وليس ذلك من ضنٍّ منه أَن يُنيلَ الذي أَناله هذه الطائِفة، بل لما اختصهاالله به من فضائِل نفْسيَّةٍ وصفاتٍ عقليةٍ، ومواهبَ رقَيِتْ بها سُلَّم الخلود،وأَخْرجَتْها من ظُلْمةِ التذبذب والتَّحيُّرِ، إلى نور الاستقرار والثبات،فَعُرِفَت في دنيا الناس بتلكم المواهب، وأَجْرَتْ عليها من شَفيفِ بِرِّهاوإِحسانها، ما لم تبصر ولا ترى في غيرها .
وعرفت أُمَّةُ الإسلام في كلِّ قرنمن قرونها واحداً وقف قوياً عزيزاً على رأْس هذه الطائِفة، يمدُّ بصره إِلى آفاقالزَّمن، يَجِدُّ في البحث عن واحدٍ يكون مثله،لانت له المعرفة، وأَلقت إِليهبزمامها، وأَرادته أن يكون لها وحدها، لا ينازعها فيه منازع، ولا تجترح أَصابعهتدوين غيرها، مما شغل سوادُ أهل العلم أَقلامَهم وقلوبَهم بها مما هو مقدور عليه ،وهو مستطاع للعامة قبل الخاصة منهم.
وقد يجد هذا الواحدُ من يظاهره فيما اختصهالله به من المواهب، والفضائِل، والصفات، عطاءً غير مجذوذٍ، واحداً أَو أكثر، ممنأَخذوا العلم عنه، أَو أَطافوا بِعلْمه من بعد موته، فيما أَبقى للناس مسطوراً فيقرطاس، أَو مأْخوذاً عن سماع، أو مُتَلقّىً من طول صحبة.
ولا نرغب في أَن ننحدرمع القرون لنشارِف رأسَ القرون المفضلة، وإِمامها الأشمَّ، وسقفها المتين العالي،فلا علينا، فذلك قرن مع صنويه بلغ من الرفعة وعلوِّ المنزلة، وبعدِ الشَّأْوِوالمطَّلب، ما ليس في وسع القرون العاقبةِ كلِّها مجتمعةً بجهدها وَطَوْلِها أَنتبلغ ـ إِلاَّ ما يكون، بالتَّأسِّي والمصابرة ـ من جلال ذلك القرن، وَروْنق بهائِه، وعزِيزِ سلطانه، في كل جانب من جوانب وجوده الحياتي.
لذا، فإني واقفٌ بكم علىمدرجة القرن السادس، لنستشرف معاً قطعة من أَرض الشام الطيبة المباركة، على بعدٍأَو قربٍ منها، فالزمن مطويٌّ بكلِّ ما هو في باطنه، وبكلِّ ما هو من فوق ظاهره،بِيَدِ سِجِلٍّ حافظٍ بارع، ليس يغيب منه شيءٌ على الدهر، لنبصر معاً برجل أَمَّالعالمَ كلَّه بعلمه، وشَمَخَ على الحياة شموخَ الرَّواسي، وأَسلمت له العلومُوالمعارف برَغَبِها ورَهَبِها زِمامَها، يُصَرِّفها بالحقِّ ودقَّةِ النظر،وأَمانةِ القلم والحفظ، كيف يشاء، ويجعل الوارثين من بعده يسارعون في الاستباقإِليها، ليذيعوا فيمن بعدهم من القرون فضلَها، وبهاءَها، وجلالَها، ذلكم: هوالإِمامُ الحجَّة الباقية على الأُمة كلِّها ـ خلا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم،والعروةَ المكينةَ التي وثَّقَتْها يدُه الشريفة من أَصحابه، رضي الله عنهم ـ ابنتيمية رحمه الله، وجزاه عن الأمة خيراً.
وذكرُ ابن تيمية رحمه الله تعالى ذكرٌمستطابٌ، محفوظٌ بهدي السُّنَّة، وصريح الكتاب، عَمَر أَرض المسلمين بهما، واستاقإِلى القرون الآتية بعضاً من فضلها، بلغ بها ـ من سَعِد وأَخلد بقلبه وعقله إِليه ـالفرقدين، وبوَّأَها معقد الخافقين، وكان مما استاق من ذلك البعض من الفضل (تلميذُه، وصاحبه، وجامع فضله، الرامي عن قوسه، الوارثه وحده، السَّاعي في خدْمته من بينيديه ومن خلفه، الحامي ضَيْعتَه، الحافظ سيرته، القيِّم على قلمه، الناشر في الناسمن بعده عِلْمَه) ابن قيِّم الجوزية، رحمه الله تعالى.
وابن القيِّم ، ليسبخافٍ على أحدٍ في دنيا البشر، صاحبُ التصانيف الكثيرة الجليلة، الباسطُ جناحيالرقائِق فوق الأَرض المباركة، الآخذ بِعِنَان العربية إِلى رحابها الواسعة،بأَحسنِ أَساليبها، وأَجملِ وجوه البلاغة والبيان المودعة في تراكيبها، وأَعلىمقاصدِ المعاني التي تَهدي إِليها بِشِعْرِها ونَثْرِها، هذا إِلى غزارة الفقهوالإحاطةِ بوجوه التأْويل والتفسير، وتأْصيلِ قواعدِ الأَصول وإِحصاءِ فروعها،وتقَصِّي الشوارد الخفيِّة بالقياسات المرضيِّة، التي يُستَغْنى بها بالجمعوالتأليف بينها عن النُّصوصِ الناطقةِ بأَحكامها وشرائِعها، وتدفُّقِ الإِملاآتالعقلية الحسان، إِلى غيْر ذلك مما تعجز عن الإِنباءِ به، والنطق به جماعاتُالأَقلام، ولعلَّ " إِعلام الموقعين " يهدي لذلك كلِّه وزيادة، وقد مشت من وراءِابن القيم رحمه الله ـ في حياته ومن بعد ثوائِه في رمسه ـ أَفواجٌ من العلماءِ،والأُدباءِ ، والكتاب، والشعراء، والصالحين الزاهدين، كلما غاب منها فوجٌ ظهرت منبعده أَفواجٌ، يأْخذ كل فوج منها لنفسه أَوفر ما يريد حظَّاً مما يقدر عليها قلمه،يحتفظ منه لنفسه الكثير ليثوي معه، ويدع لمن بعده ما يفضل عن حاجته، وما يفضل منهأَكثر مما يحتفظ، والْتقى فضل تلك الأَفواج كلها على صعيد واحد، فتآلفت كلها،وتراصَّت في كتبٍ ورسائِل، حتى غدت ميراثاً آخر لابن القيِّم رحمه الله، يُباهيبنفسه ما خفي وذهب من علمه معه حيث استقر به الثوَى من بعد شيخه ابن تيمية، رحمهمالله جميعاً، وأَذهب عنهم الحزن يوم الجمع والتلاقي الأكبر.
وَلكأَنما أَرادالله لعلم ابن القيِّم رحمه الله أَن يظهر من جديد في الأَرض، لينشِأَ مدرسة جديدة،يتخرج فيها طلاَّبُ علمٍ على سَنَن السابقين المُجدِّين، الذين تخرجوا في دمشق فيحلقة ابن القيِّم رحمه الله، وشهرت بهم في كل مكان وُجِدوا فيه، وارتحلوا إِليه.
وليس غريباً أَن يحظى علم ابن القيِّم بجهابذة من طلاب العلمِ الأَغيار، وأَنيترسَّمُوا خطاه، وأَن يكون له في كل قطرٍ محبُّون وأَشياعٌ، وأَن يُجلِي قَلَمُهحيثما حلَّ سائِر الأَقلام، فيكون له الغلبةُ والظهور عليها، من غير منازع.
غيرأن قلم " بكر أَبو زيد " من بين هذه الأَقلام، كان له تفرد في هذا الشأْن ماز بهنفسه بنفسه، أَوردَ به علم ابن القيِّم رحمه مورداً عذباً سائغاً، لا عيب فيه يزري،ولا ظلمه من فوقه تُغشِّيه، ولا اضطراب من تحته يَنْقيه ، في نصاعة العبارةورسوخها، وقوة المعنى وجلائِه، وتماسك الحروف والكلمات وتآلفها، حتى لكأَنك وأَنتتقرأُ الذي كتب ـ لولا الخط الوهمي الحاجز بين ما كتبه ابن القيِّم وبين ما كتبهبكر ـ تقول في نفسك : لو كان ابن القيِّم حياً، لكان عليك أَن ترجع إِليه ليهديكإِلى الكلمات والعبارات التي خطَّتها يمينه، كيلا تقع في لبس، يختلط به عليكالأَمر، فيكون به الخلط، ودليلاً جاهراً بأَن هذا هو ذاك، وذاك هو هذا، لكن الخطالوهميَّ الحاجزَ بينهما، لا يعتسفك وأَنت تقرأُ كلام الرجلين معاً، أو وأنت تقرأُكلامَ كلٍّ منها منفرداً، فقد تشابها، فتشاكلا، وباتا على تباعد الزمان بينهما علىحرفٍ واحدٍ، يأْخذ معنى كلٍّ منهما لفظه من لفظ الآخر، ومعناه من معنى الآخر، وهذهمزيةٌ خاصة لم تكن إِلا لعقل بكر وقلمه، وهو يرتاد علم ابن القيِّم من أَطرافه،يوغل فيه برفق، وينساب في خباياه بَتُؤدة، وينتاب أَطرافه في هونٍ، وعلى مهل، يجمعفي إِيغاله كلَّ الشوارد، ويمسك وثاقَها جميعاً في حذرٍ من أَن تطرف عينه عنهابغفل، أو أَن يُناشَ سمعه بإغماضة، أو أَن يُناب فكره بوهلة.
ومن يعرف " بكرأبو زيد " من قلمه، يعرف العربية في دارها من أهلها، ومن يعرفه من لسانه لا يأْذنلسمعه أَن تُصيبه معرَّة اللحن الفاحش، ومن يعرفه من سلوكه في الناس يبصر برجل فيهأناة العزة، وشموخ النَّقيبة، ومضاءُ الشكيمة، يُؤْويها كلَّها رداءٌ من الهيبة، فيتواضع غير متكلَّفٍ، وترفُّعٍ غيرِ مستثقلٍ، وإِحسان بمعروفٍ غير مستأْثَرٍ، ثم لايجد الناظر فيه إِلا مصداق قول الشاعر:
يقولون فيك انقباض وإنما رأَوا رجلا عنموقف الذُّلِّ أَحجما.
عرفت بكراً أّوَّل ما عرفته في قدمَةٍ له إِلى " عمَّان " في حاجةٍ له، زار فيها الشيخ ناصر رحمه الله تعالى، وكان يحبُّ الشيخ حبَّاًجمَّاً، ويعظِّمه لعلمه، ولا يقدِّم عليه أَحداً من أَضرابه ونظرائِه، ويثني عليهالثناءَ الجميل، ويعود إِليه في المسائِل العلمية التي تبهم أَو تشكل عليه فيالسُّنَّة، وكان سيفاً يحامي عن الشيخ رحمه الله من ورائِه، ويحضُّ الناس فيالمملكة ـ علماءَ، وطلاَّب علم ـ على توقيره، والإِفادة من علمه، ولا يدع مجالاًيذكر فيه الشيخ إِلا والثناءُ عليه يكاد يسبق ذكرَه، لكن الشيخ رحمه الله، لم يلبثأن أَلمَّ به بقلمه، واشتدَّ عليه الشدَّة المعهودة منه رحمه الله ، ووطأَهبأُسلوبه المعروف، وما كان ينبغي أَن يفعل ذلك معه، إِذ الخلاف العلمي أَمرٌتعاهدته أقلام أَهل العلم من قديم، وراحت به وغدت على روَّاده من قديم، لكن هكذافعل الشيخ.
وكأَن التلاميذ الأَدعياءِ، تلاميذ النَّوم والموائَد، سنحت لهمسانحة بِصَنيع الشيخ رحمه الله ببكر في كتابه النافع: (تمام المِنَّة )، فحوَّلوارحالهم، وفوَّقوا سهامهم إِلى بكر، ظانِّين أَنهم بذلك يسكتون صوته، ويكسِرون قلمه،الذي وشَّح فتوى لجنة الإفتاء الصادرة في حق أربعتهم، ومن تبعهم بغير إحسان.
وصحبته في زيارته هذه إِلى الشيخ، فرأَيت منه ـ على علمه ـ ما يُرى من طالبالعلم، الحريص على الإِفادة من شيِخه، أَن تَندَّ عنه نادَّة، أَو تشرد منه مسأَلة،سأل الشِيخَ سُؤالاتٍ عدَّة، وكان منه إِيراداتٌ على جوابات الشيِخ، كمَّل بعضهابعضاً، ظهر فيها الخلق العلمي، الذي أَطاح به طلابُ العلم في زماننا، بالإِغلاظ،وسوءِ الأَدب، والتعالم، الذي وضع فيه بكرٌ كتاباً مستقلاً، أَبان فيه عوارالمتعالمين الساجحين، وحدَّد معالم الطلب خير تحديد، ودعا طلاب العلم أَن يتركواالبُنَيَّات للجادَّة، وأَن يستقيموا على الأَمر كما أمر الله، وبيَّن رسوله.
ولا زالت حروف كتابه " حراسة الفضيلة" تقطع آفاق الدنيا، تدعو الأُمة إِلى أَنيتواضعوا على قواعد واضحة ثابتة، تنبو عنها كلُّ رذيلةٍ تسعى في الأمة بسُمِّها،وتصدُّ بقوة كلَّ دعوىٍ جائِفةٍ زائِفةٍ عن حِماها، ولكأَنَّما كلُّ جملةٍ فيه جزءٌأَخلاقيٌّ يُمهِّدُ السبيل أَمام كلِّ محبٍّ الخُلُقَ الطيِّب.
وما من كتاب منكتبه، ولا رسالة من رسائِله، إِلا وقد تأَلَّقت بسنا معانيها، وذاعت بشذا أَلفاظهاوأَدرجت كرائِم مقاصدها بين يديها، تُرى على البُعدِ ذبدباتُ ضوئِها، وتُسمَعُ علىالنأْي همسات حسِّها، وتتلاقى هذه وتلك على صعيد الرجاءِ في ترسُّمِ خطى القرونالأَولى، التي صدَّقت بكلمات ربِّها ورسله، فجثت أَمامها القرون الآتية من بعدها فيخشوع الرضا، على يد كاتب مثل بكرٍ، حتى صار يقال بها وفيها: " يضارع أُسلوب بكر فيتدفق معانيه، وترابُطِ أَفكاره، وجزالة أَلفاظه، وقوة تراكيبه، ومتانة عبارته،وفصاحة كلمته، وسموِّ غايته، ودقة دَرْكَتِه، وشمول إِحاطته، ووضوح معالمه".
ولسوف تَظل كتُبُه ورسائِله سقفاً علميّاً واسعاً، قويّاً، تستظل به عقولُطلابِ العلم، وترتاده آناءَ الليل وأَطرف النهار، في نَهْمَةِ رغَبٍ، وطُلَعةِشوقٍ، وأَتِيَّةِ حرصٍ، وأَمَنَةِ عطاءٍ وأَخذٍ، لكأَن الزمان قد انحسر بقرونه،وذهبت غواشيه المتكاثفة، وانزاحت أَستاره الصفيقة، حتى لكأَن بكراً قد أَخذ من بدرةابن القيِّم، مكتوب على كل قطعة منها أَخذها ـ وكأَنها وصيَّة ٌ منه رحمه الله،لبكر شفاه الله وعافاه ـ أَنْفِقْ بكرُ، ولا تخش إِقلالاً، فقد آتانيَ الله منخزائن رحمته، ومن خفايا علمه ـ مما لا يُخْشى به على عقيدة التوحيد أَن تُثْلَمَ،ولا يخاف منه على جريب أَحكام الشرع الحنيف أَنْ يُنْتَقَصَ ـ بأَعلى إِسنادٍيُعرفُ في طبقاتِ الرجال، لم يُعْهد إِلا على سَنَن الصحابة رضوان الله عليهم، وهميأْخُذون عن معلِّمهم، ومُرَبيهم ـ وقائِدهم، "المصطفى" صلى الله عليه وسلَّم ، معفارق المنزلة، بين الصحابة رضي الله عنهم، وبين القرون كلها التي تتالت على مدرجةالزمن.
ولكن ما ينبغي أَن ننسى كلمة أَثبتها لنا الزمان على جداره العظيم الذيأَحاط بالدنيا، منذ كانت دنيا، يقرؤُها الأُمِّيُّ والقارئُ على حدٍّ سواءٍ: " أمتيكالمطر، لا يُدرى خير أَوَّلُه أم آخره "، فتكون الأمة في الخير ـ علماً وعبْرة ـوكسبه وبذله على حدّ قوله سبحانه: ** وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } .
فلا عجبَإذاً من بعدُ ومن قبل، أَن يمنَّ الله على الأُمَّة اليوم كما منَّ عليها بالأَمس،بطائفةٍ، يَصْطفيها لدين الإِسلام الحق، فيها ابن القيِّم، وابن تيمية، لقبانمتكرران متجددان على الزمن، يمنحهما الله سبحانه من يعلم أَنَّه أَهلٌ، ليعطيواحداً منهما أَو كليهما معاً.
وإِني لأَرى أَنَّ بكراً لأَهلٌ ـ وقد صار عيبةًحافظةً لعلم ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ من بعد قرون خلت ـ أَن يُمْنَحَ أَحداللقبين، بإضافة وصفٍ إِليه يميزه من صاحب الاسم السابق، ابن قيِّم الجوزية الذيتألَّق القرن السابع بسنا ذكره، فنُسِّمى صاحبنا بكراً بـ: "ابن القيِّم الثاني"،ضارعين إِلى بارئِ الأَرض، ورافع سقف السماءِ، أَن يمنَّ الله عليه بالشفاء، لعلَّالله سبحانه، يحدِث لهذه الأُمة به وبمن هو مثله ما يُراح به إِلى آفاق المعارفالإِسلامية العربية، ويُغْدىَ به إِلى قيعان الهدى، وثبج المحيطات، فيملأَ تلك منهذه، ويُغْذي هذه من تلك، وإذا الحياة العلمية تفيض بالخير والبركات، بما أَلقتإِليها تلك الثروة الجليلة التي خلَّفها للأمة من بعده، شيخ الإسلام، ابن القيِّمرحمه الله، وإِنِّيِ على يقين من أَن الأُمة كان يكفيها أَن تقف بجهدها العلمي فيالعقيدة، والفقه، وعلم السلوك، والرقائِق، والتفسير، وغيرها، على عتبة تراث الشيخينالإمامين العظيمين ابن تيمية، وابن القيِّم، ليكون ذلك بداية في توحيد الأُمة علىمذهبٍ واحد، تذوب به الخلافات، وتذهب فيه النزاعات، وتعود سيرتها الأُولى، التينَسَجَها قرن الصحابة، رضوان الله عليهم، لكنها تَظلُّ أُمنيَّةً معلَّقةً في سماءِالأُمة، لا ندري متى تدنو من حبل الرجاء، والأُمة تنتهب عقولها الشُّبهاتُالمظلمةُ، والجهالاتُ السَّافية العافية، وتؤُودُ الأَخلاقَ فيها كبائِرُ الإِثم،وأَجلُّها وأَفدحُها : الاستكبارُ والبغضاءُ.
وظلَّ بكر حفظه الله في منأىً عنمداراتِ الفتن، هو وقلمه، وكم من فتنةٍ استطارت برهَجها بين ظهراني الأُمة، أَتتعلى كثير من قيمها ـ من غير إبادة لآثارها وأَسبابها ـ كأَن بينها وبين بكرٍ عهداًأَن لا تُرِيهَ نفسها إن هي حطت في أَرض الأُمة، حتى لا يجري منها حرف أَو كلمة علىلسانه، أَو يصيب منها قلمه، وكأَنها تعلم منه أَنها لا تفيد منه شيئاً، فآثرت أَنيكون منها عهد له في ذلك.
بيد أَن خطأً ـ عَدَّ العقلاءُ الأَنقياء منه خطيئَةـ واقعه، اندفع إليه بحماسة الحبِّ، وشيءٍ من حُسْن الظنِّ، حين ذكرَ واحداً ممنأَوقدوا نار الفتنة في " عمَّان " ، وأَثنى عليه ثناءً ـ ندم عليه فيما بعد ولابدَّ ، إِذ تبيَّن له أَنه ليس أَهلاً لمثل هذا الثناء ـ فوصفه في مقدمته لواحد منكتبه (بالعلاَّمة)، ونحمد الله على أَن هذا الثناءَ لم يتعدَّ هذا الواحد، ليأْتيعلى الأربعة أَو الخمسة الآخرين، غفر الله لك يا شيخ بكر صنيعك الذي كان، ولعلك ـولابدَّ ـ قد علمت أَنها شهادة من مثلك ترفع بها خسيسة المغموز في دينه وأَمانتهالعلمية، لكن ذاك أَبى إِلاَّ أَن يُنيل نفسه فتنةً صنعها هو وأَربعةٌ معه، ليرتدَّإِليهم قلمك جملةً واحدةً بالفتيا، التي أَصدرتها لجنتكم الموقَّرة، لجنة الإِفتاءِالدائمةِ في حق الأربعة (صُنَّاع الفتنة) محرري مَجَلَّة الأَصالة، المجذوذة الأَصل، حين أَظهرت للأُمة ضلالتهم الإِرجائِيَّة التي أَبوا بكبْرِ جهلهم إِلا أَنيلصقوها بالشيخ ناصر رحمه الله، إِذ زعموا أَنَّه شيخهم، وأَنهم أَخذوا هذه العقيدةالباطلة الخبيثة عنه، فانظر إِلى آثار سوءِ الفتنة التي صنعوها،وأَذاعوها في الناسعن الأَحياءِ والأَموات، وأَصروا عليها واستكبروا استكباراً، ومشوا قائِلين فيعلانية وقحةٍ جائِرة هاجرة : اصبروا على ضلالتكم إنَّ هذا الشيءُ يُراد منكم،ولعلكم بعد يومكم هذا لا تستطيعون أَن تنكصوا أَو تؤُوبوا عن شيءٍ أُريدَ بكمومنكم،بغُلْمَةِ الحرام، وكسْب الإثم، وأَزيز الطمع.
ومثلكم في ذلك صاحبكم " أَبو ذُنيبٍ المتسوِّل " ، الذي أَذاع في الناس بنفسه خبره المشين، إِذ أَراد أَنيتبرَّأَ من صنيعه، فسقط إِما على أُمِّ رأْسه، وإِمَّا على عَجْبِ ذَنَبه، فلم يعدمن شدة الأَلم يدرى ما يقول، وفَّاه الله سوءَ حسابه، وأَعجل له في الدنيا منعقابه.
ولكأَنما جعل الله للبلاءِ حقاً أَن يتخيَّر لنفسه ما يريد ومن يريدفيهبَ من يتخيَّر شيئاً مما يتخير من صنوف الشدة، وأنواع المرض بحسب ما يعلم من قوةتحمُّل من يتخيَّر لنفسه، فينيله من شدته، ويوقع فيه من مرضه، وكلُّ ما يكون بأَمرٍمن الله، ولا رادَّ له، حتى يغسل من ذنبه.
وكان لبكر حظٌّ جمٌّ في جعبة البلاء،أَوفره له فيه ربُّه سبحانه منذ كان صورةً في تقدير الله وعلمه، حتى إِذا حان وقتظهوره فيه أَظهره عليه، وأَسبغه نعمةً على رأسه العظيمة، التي وعت القرآن والحكمة،وجمعت علم الشيخ ابن القيِّم إِمام الأُمة، وأَدنت مسائِله من العلماء، وقربتشوارده، وألَّفَت بين متفرِّقاته، وحَّلت معضلاته ومشكلاته، وأَصارته إِلى أَيديطلاب العلم في سهولةٍ ويسر، حتى غدا ليس من علم عالمٍ أَحبَّ إليهم منه، إِلا أَنيكون عِلْمَ شيخه ابن تيمية رحمهما الله، وأَسبغ عليهما وأَفاض عليهما من نعمائه،وبَّوأَهما منازلَ الصدِّيقين والشهداءِ والصالحين والنَّبيين، وآواهما إِلى ربوةفي الفردوس الأَعلى ذات قرارٍ ومعين، وأَلحقنا بهما على خير، ورزقنا نحن وبكرٌ ومننحب من علمهما، ما يكون لنا به شرف المنازل العالية في الدنيا وفي الآخرة.
ولستُ يا شيخُ بكر بالمواسيك ـ وأَنت من كنتَ تواسيني حين كنت تعودني، في مرضيفي " الرياض " فتدعو لي بِقَولك: "جمع الله لك بين الأجر والعافية " ـ بأَجملَ ولاأَلطف منها، وإن كان الأحْسنَ والأَطيبَ ـ بِل هو كذلك ـ تلك الدعوة التي كان يدعوبها المصطفى عليه الصلاة والسلام، حين كان يعودُ مريضاً من أَصحابه: " أَسأل اللهالعظيم رب العرش العظيم أَن يشفيك" سبع مرات.
ولستُ بالمصبِّرك بأَحسنَ ولابأَطيبَ من تذكيرك بشيءٍ مما تحفظ عن نَبيِّنا عليه الصلاة والسلام من مثل قوله : "من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه " وقوله : "ما يزال البلاءُ بالمؤْمنِ في نفسهوولده حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئَة" وقوله: "إِذا أَراد الله بعبده الخيرعجَّل له العقوبة في الدنيا " فأَيُّ نعمةٍ يا حبيبنا بكرُ قد أَنعم الله بها عليك،وأَيَُ فضلٍ أنالكه، وأَنت ترتدي ثوب البلاءِ، الذي مَنَّ الله به على الصالحين منعباده، فَتَصبرَ وتُصابرَ، وتُعِلِّم الناس الصَّبرَ.
والسلام عليك في الأَخيارالطيِّبين، وعجَّل لك الشفاءَ وجمع شملك بقلمك، وأَنعم عليك بالرضا، ولقَّاناوإِياك في الفردوس الأَعلى من حبِّه ما يُكافئُ رجاءَنا فيه بالحسنى وزيادة،وأَقامنا على الحقِّ الذي أَقام عليه نبيَّه، وباعَدَ بيننا وبين الباطل الذي أَزاغالله إِليه قلوب أَهل الإرجاءِ بزيغهم، وعلَّمنا وإِياك ما لم نكن نعلم، إِنه سميعٌمجيب.
واسلم رعاك الله لمحبيك وإخوانك الذين هم على خير ماأنت عليه واذكرني بدعوةٍ صالحة في بلائك.
أخوكم المحبأَبو مالك محمد إبراهيم شقرة
منقول