المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اعترافات --- قصة قصيرة بقلمي



mars
04-10-2007, 23:15
اعترافات
بدأت نسمات الشتاء الباردة تغزو أجواء القرية الغافية على كتف الجبل المغطى بأشجار السنديان و البلوط المتطاول شموخاً يريد أن يطرق أبواب السماء ....
خرج من كوخه القابع على أطراف القرية يحمل بيده التي خط عليها الزمن تواقيعاً فنية فنجان قهوة تتصاعد منه رائحة الهيل و البن و تسافر مع النسمات ...
أتجه نحو شجرة التين العجوز التي بدأت أوراقها بالاصفرار و السقوط على الأرض , مسح الغبار الموجود على مقعد الأرجوحة المتدلية منها و بقايا الأوراق و جلس بكل هدوء و هو يرتشف رشفات قصيرة متسارعة من فنجان القهوة المتواجد بين يديه في محاولة منه لبث الدفء في جسده , نظر إلى البعيد إلى تلك النجمة التي بدأت باللمعان في كبد السماء السوداء الصافية و لمعت معها عيناه الغائرتان في وجهه الذي أصبح دفتراً سجلت عليه السنون أحداثها ....
تنهد بقوه ... هاهو قد أصبح وحيداً بعد أن توفى الله زوجته منذ فترة ليس طويلة و تزوجت ابنته الوحيدة أما ولداه فقد انهيا خدمتهما العسكرية و سافرا بعيداً طلباً للعمل و الرزق ... و بقي هو وحيداً في ذلك الكوخ مع بعض الصور المعلقة على الجدران , و أرجوحة تتدلى من أقدم شجرة تين في كل المنطقة ... حتى العصافير بدأت بالرحيل مع قدوم الشتاء .
بدء يسترجع ذكرياته القديمة و علت وجهه ابتسامة صغيرة أخذت بالتوسع , تحمل في طياتها خبث الطفولة و ثقة الشباب و حكمة الشيوخ
تذكر كيف قام بقتل فراخ البط لجارتهم و هو عائد من المدرسة لقد كان في الصف الثالث الابتدائي , شاهد الفراخ بعيداً عن البطة الكبيرة لحقها أمسك اثنين منها ربطهما بخيط كان في جيبه خصيصاً لهذا الأمر , فهو كان يتربص بالفراخ منذ زمن و حانت الفرصة الآن . خبئهما تحت قميصه و ركض باتجاه النهر و هناك قام بإغراق أولهما أما الآخر فقد شنقه على شجرة السنديان و تركه هناك يتدلى فوق صفحة النهر الرقراقة ... ثم عاد إلى البيت كأن شيئاً لم يكن و شارك في البحث عنهما مع أولاد الجيران ابتسم ابتسامة كبيرة و هو يستعيد ذلك و أخذ رشفة أخرى من فنجان القهوة و أخرج من جيبه كبساً أسود اللون تفوح منح منه رائحة التبغ و وضع فنجان القهوة إلى جانبه و بدأ يلف لفافة من التبغ البلدي الذي كان يزرعه بجانب كوخه و يقوم بتجهيزه بيديه و يرفض أن يدخن سواه .
رفعها بيده المتثاقله إلى فمه و أشعلها وأخذ منها نفساً عميقا و نظر إلى رأسها المتوهج و بدأ بإخراج الدخان من فمه رويداً رويداً و أعاد الكيس إلى جيبه و أمسك بفنجان القهوة بين يديه في محاولة لطرد برودة الجو التي بدأت تتسلل إلى أنحاء جسده ,ومن خلف سحابة الدخان كان يرفع نظره إلى الجبل الموجود أمامه يراقبه من الأسفل صعوداً و كأنه يحاول ان يجد شيئاً ما أضاعه هناك بين الأضواء المتناثرة كقطع الذهب على كتف الجبل الأشم .
و عادت به الذكريات إلى أيام الدراسة و تذكر أول محاوله غش كان له في الامتحان , كيف قام بكتابه قصاصة من الورق و أخفاها في جيبه حملها ما كان يريد من المعلومات تذكر كيف انه عندما حاول إخراجها من جيبه داخل قاعة الامتحان , كيف بدء وجهه يتلون كألوان قوس قزح خوفاً من أن يراه الأستاذ لأنه كان يعرف ما سيكون مصيره
لم يكن الخوف من عقاب الأستاذ أو من علامة الصفر إنما كان الخوف من عقاب والده إن علم بمحاولة الغش فسوف يقوم بربطة إلى شجرة التين التي يجلس الان تحتها و حيداً و سيذيقه طعم عصاه المصنوعة من أغصان شجرة الرمان التي تسكن باحة الدار , و التي طالما ذاق طعمها إن أخطأ في شيء , و أكثر ما كان يخيفه فيها صوتها الذي كان يشق الهواء شقاً و هي تهوي عليه من يد واله الثقيله رحمه الله ...
سافر بذاكرته بعيداً في الزمن وتوقف هناك , عندما بدأت بنت الجيران تسترعي انتباهه , و كيف بدأ يهتم بمظهره أمامها و كيف بدأ يسترق النظر إليها من باب دارهم المفتوح على مصراعيه دائماً و هي تكنس أرض الدار صباحاً
و كيف كان يطاردها على ****ه الأبيض و هي تقود البقرة إلى الأرض المجاورة للرعي , و كيف كان يطلب منها أن تسقيه الماء من الجرة التي تحملها على كتفها مليئة بالماء العذب الذي أحضرته من النبع و تضحك بكل قلبها هي و رفيقاتها و هن يرينه كيف يشرب و تتساقط المياه من جوانب فمه , و على حركاته الصبيانية المفضوحة .
رفع يده بالسيجارة إلى فمه و أخذ منها نفساً طويلاً و رفع رأسه إلى الأعلى و نفثه بقوه باتجاه السماء و كأنه يريد أن يحجب بريق النجوم المتلألئة لكن النسمات الباردة بددته بسرعة و لفحت وجهه القديم و بدأت السحب تركض في السماء .
نهض عن الأرجوحة و اتجه صوب باب الدار توقف قليلاً و نظر خلفه كأنه يودع خربشه الحشرات على الأوراق المتساقطة و صراصير الليل تعزف سمفونيتها الأبدية ممتزجاً بصوت السيارات القادم من الطريق السريع على أطراف القرية الوادعة .
أغلق الباب خلفه و اتجه إلى غرفته و استلقى على السرير ووضع يديه خلف رأسه و لف رجليه على بعضهما و عادت الابتسامة من جديد لتغزو وجهه و هو يتذكر أيام خدمة العلم و كيف هرب ليلاً من ثكنته إلى القرية عندما سمع أن والدته مريضة و عاد بنفس الليلة كي لا يكتشف غيابه و تفرض بحقه العقوبة المناسبة لكن الملازم عاصم و هو الضابط المناوب معهم عرف به و استدعاه عند حضوره و عندما عرف سبب هروبه ضحك و قال له بكل ود لا تعيدها مرة ثانية في شي اسمو إجازة .
و هنا انحدرت دمعة من عينه و ضاعت في أخاديد الزمن المحفورة على وجهه و هو يتذكر استشهاد الملازم عاصم في الحرب و هو في مقدمتهم يدافع عن حياض الوطن .
ازدادت برودة الجو نزل عن السرير سار بخطوات ثقيلة باتجاه الموقد القديم و أشعل فيه النار و جلس على المقعد الهزاز المقابل له و أسند رأسه إلى الخلف و بدء يصغي إلى صوت النار و الحطب المتكسر من حرارتها .
و سافر مع ذكرياته هذه المرة إلى الطريق المحاذي للنهر و تذكر كيف كمن هناك جزءاً كبيراً من الليل و هو ينتظر مرور غريمة في حب جارته و كيف انقض عليه و هو يرتدي سربالاً أسود يغطيه من رأسه إلى قدميه و قد وضع حول عينيه مادة فسفورية مشعة و أصدر أصواتاً كأصوات الوحوش و بدء يقهقه وكأن المشهد أمامه الأن وكيف اقشعر بدن غريمه و بدأ يركض متعثراً و هو يصيح جني ... جني ... جني .
أمسك القضيب المعدني ذو المقبض الخشبي و بدء يحرك الجمر في الموقد الذي بناه بيديه حجراً حجراً
تذكر يوم زفافه و الحفلة التي ظلت القرية تتحدث عنها القرية أياماً طويلة كإحدى أطرف حفلات الزفاف التي جرت في القرية ... و ذلك بسبب إصراره على الذهاب إلى الحفلة على ظهر ****ه الأبيض الذي رفض الحراك من مكانه رغم كل الضرب الذي انهال به عليه و كان يكتفي بالنهيق والرفس بقدميه إلى الوراء و في النهاية قام بإسقاطه عن ظهره و ركض هارباً باتجاه الزريبة .
استعاد بذاكرته لحظات ولادة ابنه البكر " علي" وكيف انهمرت الدموع من عينيه وهو يحمله بين يديه للمرة الأولى و يرفعه إلى الأعلى و يقترب بفمه من أذنه يسمعه شهادة أن لا الله إلا الله ...
كذلك يوم ولادة ابنته الوحيدة " أميرة " التي كانت نسخة طبق الأصل عن أمها و صغيره أخر العنقود " نضال "
استعاد بلحظات قصيرة تاريخهم كله من لحظة ولادتهم حتى لحظة مغادرة علي و نضال للقطر و لحظة زفاف أميرة .
كما تذكر دموع أم علي عندما تبلغ علي أمر سوقه إلى خدمة العلم و تذكر صوت زغردتها عندما أنهى خدمته و كذلك الأمر بالنسبة لنضال .
كما تذكر كيف أسندت رأسها على كتفه و دموعها تتسابق أثناء مغادرة أميرة للمنزل إلى بيت زوجها ...
و استعاد كلمات أم علي و هي على فراش الموت توصيه ان ينتبه على البيت و ينتبه للأولاد صحيح هم كبروا لكنهم يبقون صغاراً يحتاجون للرعاية ....
سقطت دمعة ساخنة عندما نظر حوله فلم يجد سوى الصور على الجدار ترميه بنظرة باردة , تنهد بزفرة طويلة و نهض عن الكرسي و اتجه مرة أخرى صوب السرير حيث وضع رأسه على وسادته التي غزاها الدفء ... و بدأ يغط بنوم ثقيل يدل عليه صوت شخيره الذي كان يهز أركان المنزل ..........

شام
10-10-2007, 23:58
سلمت يمينك


عاش فكر متوقد


و قلم ثائر


ومداد مشتعل



أخي mars


قصة قصيرة رائعة ...


هي من سلسلة ما ابدعه قلمك من أدب القصة


قوافل مـــن rooose2

|مسفهلة,,Miss|
11-10-2007, 01:18
قصة رااااائعة :goooood:


وفكر يحمل الكثــــير


الله يعطيك العـــآفية يامارس


وبالتــــوفيق


تحياتي,,,

mars
19-10-2007, 00:18
ايمان قويدر


القلم الذهبي

شكرا لك على هذا المرور

mars
19-10-2007, 00:19
مسفهلة,,Miss|


شكرا لتواجدك هنا

و ارجو ان لا يكون سحابة صيف

خالد الخالد
19-10-2007, 04:51
يعطيك العافيه

ابداع منقطع النظير ......... وقصه اروع من رائعه


أشكرك أخوي على القلم المبدع


أتمنى لك التوفيق

mars
20-10-2007, 16:09
اخي خالد الخالد


كل الشكر لمرورك من هنا

و لهذا التوقيع على صفحتي

الجازي
10-11-2007, 22:20
رائع مبدعنا الواعد مارس


اعترافات مضحكة مبكية

سلم لنا إبداعك

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية

mars
11-11-2007, 23:02
اخي الجازي


كل الشكر لمرورك