المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة العلمانيين والمتشددين ودورصدام حسين



ابوالغريب
07-01-2007, 22:13
الدين والدولة في المملكة العربية السعودية
العودة المستحيلة
(3 من 3)
محمد فؤاد
بين 2 أغسطس سنة 1990 و11سبتمبر 2001 يكتمل عقد المواجهة بين التيار الديني السلفي والحكومة السعودية، وفيه تكمن الانعطافة الحادة في علاقة الدين بالدولة، ففي الحدث الاولى استيقظ التيار الديني في السعودية على زلزال سياسي كانت ردود الفعل ازاءه تلتقي عند معنى الخديعة الطويلة الأجل التي عاشها التيار الديني السلفي بمستوياته الدنيا والعليا. وفي الحدث الثاني، جاء الرد على الخديعة، حيث استيقضت الحكومة السعودية في الحادي عشر من سبتمبر على انهيار لصورتها، وتاريخها، ودورها، وتحالفاتها السياسية ووجدت نفسها على حين غرة في موقف دفاعي امام العالم بأسره، تنشد حلاً لمعضلة جوهرية داخلية ودولية وتفتش عن طريقة في المرافعة عن الذات، وتتوسل أساليب في التبرير لما جرى بطريقة مثيرة للشفقة. أما القادة الاميركيون، فقد شعروا بالمرارة والخديعة في آن، فإن ما قاموا به بعد الثاني من اغسطس لدرء خطر ابتلاع السعودية قد حصدوا حصرمه في الحادي عشر من سبتمبر حيث انطلقت حملة التعبئة السياسية والثقافية ضد الولايات المتحدة من لحظة دخول القوات العراقية الى الكويت وحققت أهدافها الاولى بسقوط البرجين.

هذا الزمن الواقع بين 1990 ـ 2001 يمثل، في تقديري، ذروة العلاقة المشحونة بين الدين والدولة في السعودية، وتكشف الى حد كبير عملية الاهلاك المتبادل بين طرفين وصلا الى قناعة بانهاك قدرة كل منهما للآخر ونفاذ أغراضه منه. وكما أن موقف التيار الديني السلفي من الحكومة بعد الثاني من اغسطس يمثل انقطاعة مع الماضي، إذ لم تعد نظرة التيار الديني السلفي للحكومة هي ذاتها قبل الثاني من اغسطس، فإن موقف الحكومة من حليفها التاريخي والمضمد لانكساراتها السياسية والضامن لمشروعيتها الدينية قد ارتكس بصورة دراماتيكية بعد الحادي عشر من سبتمبر.

سنحاول هنا استكشاف رؤية التيار الديني السلفي للحكومة منذ الثاني من اغسطس 1990 وكيف طوّر هذا التيار خطاباً دينياً بلغ ذراه القصوى عند النقطة التي لامست فيها الطائرة الانتحارية الاولى لأحد البرجين في نيويورك.

أزمة الخليج..الحدود المدمّرة

ثمان ساعات مضت على انهيار المباحثات بين الوفدين العراقي والكويتي...وفي تمام الساعة الثانية من فجر اليوم الثاني من شهر آب/ اغسطس 1990م، اجتاحت القوات العراقية الحدود الكويتية...وبعد ثمان ساعات سقطت الكويت بالكامل تحت نير الاحتلال العراقي..

كانت لحظات حرجة وحاسمة لطرفين طالما تعاقدا على ان يحقق كل منهما أغراض الآخر، فالسياسي يحقق مشروعيته من ضمانة الديني له، والديني يحقق انتشاره من حماية السياسي له، وكل ذلك يتأسس على آصرة شديدة الوثاقة، آصرة طالما بقيت مصونة من الاختبار او الاهتزاز، حيث سعى الطرفان الدفاع عن الآًصرة وتوفير مبررات التشديد عليها طالما أن ثمة مصالح مشتركة تضغط لجهة تعميقها.

ما جرى بعد ساعات من دخول القوات العراقية الى الاراضي الكويتية ان اجتياحاً آخر قد جرى داخل وعي ومشاعر ومصير طرف طالما حشد خزانة فكره ومناشطه الاجتماعية والتوجيهية من اجل إثبات صدقية موقف السلطة السياسية، طرف وجد نفسه امام امتحان مصداقية تزلزت بعنف في الثاني من اغسطس.

لم يكن التيار الديني السلفي في شكليه الرسمي والشعبي في وضع يؤهله للدفاع عن نفسه مع قلة عتاده في تبرير سيفضي به قطعاً الى مناقضة فاضحة.

في الثاني من اغسطس 1990 كان ثمة ارتجاج في منظومة القيم والرموز والاشخاص والمواقف، فالازدواجية أصابت كل شيء بدءا من صورة الزعيم الذي كان بالامس حارس البوابة الشرقية وفارس العروبة، فيما أصبح اليوم نموذجاً للجريمة والدموية. ويشاء أن تتكرر هذه الازدواجية طالما بقي الموقف الديني يخضع تحت تأثير التوجيه السياسي وتقلباته السريعة. فبعد الاعلان عن استقدام قوات اميركية واجنبية الى الاراضي السعودية كان ثمة مسعى حثيث لايجاد المبرر الديني. نتيجة ذلك إصدار المفتي العام السابق للمملكة الشيخ عبد العزيز بن باز فتوى تجيز الاستعانة بالاميركيين والاجانب. وفي رد فعل على اللغط الذي أثارته فتوى الشيخ بن باز تلك، ألقى الاخير محاضرة في جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية نشرته جريدة (الشرق الاوسط) في 1/1/1991م قال فيها "يجوز الاستعانة بغير المسلمين للضرورة اذا دعت الى ذلك برد العدو الغاشم والقضاء عليه وحماية البلاد من شره، فاذا كانت القوة المسلحة لاتكفى لردعه جاز الاستعانة بمن يظن فيهم أنهم يعينون ويساعدون على كف شره وردع عدوانه سواءً كان المستعان به يهودياً او نصرانياً او وثنياً او غير ذلك اذا رأت الدولة الاسلامية ان عنده نجدة وان عنده مساعدة لصد العدوان المشترك ".

ثمة رأي بلا شك يثير شكوكاً كثيفة مع استحضار موقف مكتوب للشيخ بن باز في كتابه ( نقد القومية العربية على ضوء الاسلام والواقع ) يقول فيه بالنص:"قال تعالى( يا ايها الذين آمنوا لاتتخذوا بطانة من دونكم لايألونكم خبالاً ، ودّوا ماعنتم قد بدت البغضاء من افواههم وما تخفي صدورهم اكبر قد بينا لكم الآيات ان كنتم تعقلون )..فانظر ايها المؤمن الى كتاب ربك وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام كيف يحاربان موالاة الكفار والاستعانة بهم واتخاذهم يطانة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من انفسهم.

"فلو كان في الاستعانة بهم مصلحة راجحة لأذن الله فيه وأباحه لعباده ..ولكن لماّ علم بما في ذلك من المفسدة الكبرى والعواقب الوخيمة، نهى عنه وذم من يفعله.

"واخبر في آيات اخرى ان طاعة الكفار وخروجهم في جيوش المسلمين يضرّهم ولايزيدهم يذلك الاّ خبالا.. ...واذا اختلط الكفار بالمسلمين وصار بعضهم اولياء بعض، حصلت الفتنة والفساد الكبير، وذلك كما يحلّ في القلوب من الشكوك والركون الى اهل الباطل والميل اليهم، واشتباه الحق على المسلمين نتيجة امتزاجهم بأعدائهم وموالاة بعضهم لبعض، كما هو الواقع اليوم من اكثر المدعين للاسلام ..حيث والوا الكافرين واتخذوهم بطأنة ، فألتبست عليهم الأمور حتى صاروا لايميزون بين الحق والباطل ولابين الهدى والضلال ولابين اولياء الرحمن واولياء الشيطان، فحصل بذلك من الفساد والاضرار مالا يحصيه الا الله سبحانه وتعالى". وكل ذلك اشارة واضحة للرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر حين استعان بخبراء عسكريين من الاتحاد السوفيتي لتدريب القوات المسلحة المصرية .

على أنه يجب التنويه هنا الى أن موقف الشيخ ابن باز القاضي بجواز الاستعانة بالكفار يخالف ما ذهب اليه مؤسس المذهب الوهابي الشيخ محمد بن عبدالوهاب فقد جاء في الرسالة الثانية عشرة بعنوان ( نواقض الاسلام ) والتي حددها في عشر نواقض وفي الناقض الثامن منها قال:"مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى "ومن يتولهم منكم فإنه منهم، ان الله لايهدي القوم الظالمين "[1] ، وبذلك تكون المحصلة النهائية ــ حسب المعتقد الوهابي ــ انه "من استعان بغير الله فقد أشرك في عبادة الله غيره"[2].

في واقع الامر، أن الخطاب الديني السلفي لم يكن يملك قوة دفاعية كافية لدرء حملات التشكيك التي يثيرها نظام الرئيس العراقي الذي بات يملك من أسلحة الحشد والدفاع ما يفوق قدرة ضحاياه. وربما هذا يفسر لجوء حكومة المملكة الى محاولة كسب تأييد العرب والمسلمين، فقد عقدت في يوم الاثنين 4شعبان /1411هـ الموافق 18/فبراير 1991م مهرجان الجهاد وهو اول خطوة تتخذها الحكومة كاجراء ديني حضره عدد من العلماء من السعودية ومصر الاّ أنه لم يحظ بصدى كبير.

شعور التيار الديني السلفي بالخديعة في الثاني من اغسطس انتقل من جغرافية الحدث الى تاريخية موسعة لمنظومة ضخمة من الروابط والتحالفات والقيم والمواقف السياسية، ومن السياسي الى الايديولوجي. فالموقف السلفي من الاستعانة بالقوات الاميركية والاجنبية لم يتأسس على خلفية سياسية أي علاقات الاستتباع والاهداف السياسية المختبأة خلف قدوم قوات عسكرية اجنبية تنتمي الى قوة عالمية، وانما جرى انزال الموقف في قالب ايديولوجي أكثر اتساعاً. فالسياسي من الموقف السلفي يفترض انحصار مجال التجريم أو حتى المجابهة داخل دائرة ضيقة تضم الضالعين بصورة مباشرة في أي ترتيبات لقدوم قوات عسكرية أجنبية الى السعودية، بيد أن الايديلوجي يمتد الى مساحة أوسع تستوعب داخلها مجتمع أو مجتمعات بكالمها ضمن دائرة المجابهة والتجريم. بكلمات أخرى، أن الاستعانة بالقوات الاميركية لم تعالج ضمن منظور سياسي يقوم على علاقات غير متوازنة بين دول كبرى واخرى صغرى تفضي في الغالب الى آثار وخيمة على الدول الضعيفة من خلال علاقات قهرية، واتفاقيات غير متكافئة عسكرية واقتصادية، بينما جرت المعالجة على قاعدة دينية أي النظرة الصارمة المتضمنة لحكم ديني يفوح بالكراهية الشديدة لمجتمعات مصنفة على أنها كافرة او مشركة بما تبطن احكاماً قصاصية مدوّنة في الاضابير الدينية السلفية.

نقرأ هذا الموقف الايديولوجي في محاضرة للشيخ سلمان العودة المحاضر السابق في جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية بالرياض فقد تحدث مساء يوم الاحد 7 صفر 1411هـ في الحلقة الثامنة عشر حول "اسباب سقوط الدول " وقال في التاسع منها: (عدم تميز العدو من الصديق ) وذكر " بأن اليهود والنصارى اعداء مشركون ومن المؤسف ان يتحول هؤلاء للمسلم أصدقاء وأعواناً " وقال ايضاً " ان ثقتنا في هؤلاء اليهود والاميركان والبريطانيين والفرنسيين والشيوعيين الروس ليست في محلها وان كانوا في الظاهر يحموننا ولكنهم يجرّون إلينا خطراً كبيراً.. إننا نعلم خبايا هؤلاء وأغراضهم في بلاد الإسلام خاصة بلادنا التي حباها الله بهذه الثروة ـ البترول... فكيف نثق بهم وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العداوة التي بين المسلمين وبينهم".

واستنكر الشيخ العودة في محاضرة أخرى بعنوان (ويل للعرب من شر قد اقترب) موقف الحكومة السعودية من وجود القوات الاميركية من منطلق ايديولوجي، حيث استنكر عدم اتخاذ الحكومة" خطوات للعمل، للجهاد" وعليها "أن ترفع الخطأ بسبب الكفار والتبرؤ منهم واعلان الجهاد ضدهم إن كانوا ـ آل سعود ـ صادقين".

وعلى نفس النسق الاحترابي ضد اميركا لا كقوة سياسية تخضع لانتقادات حادة من قبل دول وشعوب ومنظمات وجماعات عديدة في ارجاء العالم، وانما اميركا كمعسكر ايديولوجي، انتقد الدكتور سفر الخوالي رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة في محاضر بعنوان (فستذكرون ما أقول لكم)، انتقد موقف العائلة المالكة من الغرب متسائلاً "وهل نثق بأن الكفار يدافعون عنا.. إن اميركا هي عدو للمسلمين".

وفي سياق الادلجة ايضاً تأتي معارضة الحوالي لوجود ثلاثين الف امرأة لحماية أبناء هذا البلد بينما "نحن لا نقوم بدفع الشر عن انفسنا.. واذا كان صدام قد أذل الامة، فالغرب أيضاً قد أذل الامة". وحدد الحوالي ثلاثة أهداف للوجود اللاميركي في المنطقة: إذلال الامة الإسلامية، وضرب الامة الإسلامية، واستنزاف خيرات المنطقة.

إن ثمة نزعة بعداً اسكاتولوجياً للغة الاحتراب هذه في الخطاب السلفي، فقد دعا الشيخ الحوالي الى "اعداد العدة لمقاتلة الغرب لأنهم أعداء لنا الى يوم القيامة انهم سيحاربوننا يوماً ما". وفي ختام المحاضرة سأل أحد الحضور عن اعتماد بعض الأدلة الضعيفة لتشريع الاستعانة بالقوات الأجنبية فقال الحوالي: "لا يصح أن تستدل بدليل ضعيف من أجل قضية غير صحيحة" وأضاف بأن رسول الله (ص) لم يستعن بالمشركين في معاركه.

سلسلة المحاضرات والخطب العامة لرجال الدين ولا سيما رجال المؤسسة الدينية الرسمية أجمعت على موقف ايديولوجي موحد هو التنديد بالوجود الأميركي كتمظهر للمجابهة المؤجل احتدامها بين الشرك والايمان وان آل سعود أسرى في أيدي المشركين. ولابد أن ثمة في موروث السلف ما يقعّد هذا الموقف، فقد ذكر الماوردي أسباباً لخروج الإمامة منها القهر وقال "وأما القهر فهو أن يصير مأسوراً في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه فيمنع ذلك عن عقد الإمامة له لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، وسواء كان العدو مشركاً أو مسلماً باغياً، وللأمة اختيار من عداه من ذوي القدرة"[3].

سلاح التكفير: تهريب من مخازن الدولة

مثّلت المؤسسة الدينية بانبثاثاتها الشعبية والمؤسسية الضمانة الكبرى لتحقق اسلامية الدولة وبالتالي مشروعيتها الدينية التي ستكون مكفولة على الدوام طالما بقي التحالف الوهابي السعودية متماسكاً. بل كانت الدولة بوجود حليف ديني راسخ الجذور ومتحصن خلف ترسانة ايديولوجية وشعبية قادرة على تقويض اركان خصومها المحليين بسهولة. فطيلة تاريخ الحكم السعودي كانت المؤسسة الدينية الوهابية العصا الغليظة التي تضرب الدولة بها القوى المعارضة دينية أو وطنية، فالأولى نصيبها حكم (الخوارج) والثانية قدرها حكم (الشيوعية) لتبرير إنزال أقصى العقوبات ضد هذه القوى وتصفية وجودها بصورة عنيفة وقمعية.

ويجب الفات الانتباه الى أن سياسة العصا الغليظة تلك طالت حتى الذين نشأوا داخل المؤسسة الدينية الرسمية حال خروجهم على السلطة والتنديد بممارساتها غير المشروعة. ولعل أبرز مثال في هذا الصدد جهيمان العتيبي الذي كان عضواً في الحرس الوطني مدة ثمانية عشر عاماً وطالب الفلسفة الدينية في جامعة مكة الإسلامية وانتقاله فيما بعد الى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حيث التقى هناك مع محمد بن عبد الله القحطاني تلميذ الشيخ عبد العزيز بن باز في الفلسفة الإسلامية. .......

ابوالغريب
08-01-2007, 13:26
كتب جهيمان العتيبي سبع كراريس تعالج موضوعات سياسية ودينية يقول في كتابه (دعوة الإخوان كيف بدأت والى اين تسير): نحن مسلمون نود أن نتعلم الشريعة لكنا سرعان ما أدركنا أننا لا يمكن أن نتعلم في مؤسسات تقيدها الحكومة.. لقد انفصلنا عن الإنتهازيين والمأجورين.. ". اما موقفه من آل سعود فيتحدث جهيمان "فهؤلاء الحكام ليسوا ائمة لأن إمامتهم للمسلمين باطلة ومنكر يجب انكاره..لانهم لايقيمون الدين ولم يجتمع عليهم المسلمون وانما اصحاب ملك سخروا المسلمين لصالحهم بل جعلوا الدين وسيلة لتحقيق مصالحهم الدنيوية فعطلوا الجهاد، ووالوا النصارى( امريكا ) وجلبوا على المسلمين كل شر وفساد.نسأل الله ان يريح المسلمين منهم ويجعل لهم من لدنه ولياً ويجعل لهم من لدنه نصيراً "[4]. كما تضمنت الكراريس الست انتقادات حادة للمؤسسة الدينية الوهابية ورجالها وخاصة فيما يرتبط بصمتها ازاء مفاسد السلطة.

وحينما قاد جهيمان العتيبي اانتفاضته في مكة المكرمة، كان أول وصف اطلقه الاعلام السعودي على جماعة جهيمان او( الاخوان الجدد ) بأنهم "زمرة من الخارجين على الدين الاسلامي "وتكررت هذه المقولة على لسان الامير نايف وزير الداخلية السعودية باشكال مختلفة فتارة يصفهم بأنهم "مجرمون "واخرى "منحرفون وخارجون عن حقيقة الدين الاسلامي "وثالثة"طغمة فاسدة خارجة عن الدين الاسلامي "ورابعة "شرذمة فاسدة مفسدة "وخامسة "مجرمة وخارجة ".

وبعد أكثر من عقد حدث ما يشبه انشقاق داخل التيار الديني السلفي على قاعدة سياسية مالبث ان اجتذب بعداً ايديولوجياً فرض سطوته على مجمل المناظرات التي دارت لاحقاً بين طرفي التيار السلفي، طرف يعبّر عنه بلغة متحفظة الخط الديني التقليدي الرسمي: ويترمز هذا الخط في المفتي العام السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز رئيس الادارات العامة للبحوث والأفتاء والدعوة والارشاد وعضو بارز في هيئة كبار العلماء واغلب عناصر هذا الخط هم من علماء الدين الكبار في السن ويقفون في صف واحد مع السياسة السعودية، كما يشكلون الغطاء الشرعي لممارساتها. ورغم ما شاع عن تشدد الشيخ بن باز الاّ انه يظهر التسامح فيما يخص تجاوزات السلطة، تعكس ذلك الفتاوى المتعارضة احياناً مع معتقده الاصلي. وكثيراً ما كان يرجع صمته عن مفاسد السلطة الخوف منها في ضرب القوة الدينية وتقليص حجمها، فيما كان يبرر اصداره فتوى جواز الاستعانة بالقوات الاجنبية بعم وضوح الحق من الباطل وانها على حد تعبيره ــ فتنة !!

ويندرج في الخط نفسه الشيخ ابو بكر الجزائري( سعودي من اصل جزائري ) القطب الثاني بعد بن باز. وقد التزم الشيخ الجزائري موقفاً مؤيداً لسياسة الحكومة السعودية في ازمة احتلال الكويت وقال في خطبه له بمكة المكرمة: ان النبي محمد عليه الصلاة والسلام قد استعان باليهود والنصارى في حروبه ضد المشركين وان المملكة فعلت الشيء نفسه ". وهذا الخط ينسجم مع المشروع السياسي السعودي، كما يلعب هذا الخط دوراً كبيراً في الهيمنة على المؤسسات الدينية الرسمية ولاسيما الجامعات الاسلامية في الرياض ومكة والمدينة اضافة الى هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ...كما يمتاز بعض اقطاب هذا الخط ولاسيما الشيخ بن باز بسلطة روحية على شريحة واسعة من رجال الدين وخاصة المتخرجين على يد الشيخ بن باز الذي يلقبه رجال الدين هؤلاء بــ( الوالد ).

نشير الى أن التأسيس الايديولوجي لهذا الخط قد لا يختلف كثيراً عن الخط المنشق عنه لاحقاً متمثلاً في تيار سلفي متشدد ينتمي اليه جيل الشباب، الا أن الفارق هو قدرة اقطاب التيار السلفي المحافظ على تسكين نزعة التطرف تبعاً للمصالح السياسية والظروف الموضوعية.

ـ الخط السلفي الاحتجاجي: ويتمركز هذا الخط في منطقة القصيم ذات الثقل النوعي والعمق الاستراتيجي لعناصر الخط. ويعد الشيخ محمد بن عثيمين عضو هيئة كبار العلماء المرشد الروحي لهذا الخط يجمع حوله كثيرا من الجماعات السلفية المتطرفة وقد حاولت الحكومة استمالته الا انها فشلت في ذلك. ولقي ابن عثيمين تعاطفاً كبيراً من قبل رجال الدين سيما الشباب منهم لمكانته العلمية ومواقفه الشجاعة من السلطة ويبدوا أن مؤشرات ظهور هذا الخط تعود الى ما قبل ازمة الخليج بسنوات. يعزز ذلك الاوامر والتعاميم الصادرة عن وزارة الداخلية ووزارة الاوقاف الخاصة بتنظيم المساجد وخطب الجمعة. ففي محاولة لاغلاق مصادر اشتعال الخطاب السلفي بنبرته الاحتجاجية المناوئة للدولة، فرضت الاخيرة اجراءات ضد بعض عناصر هذا الخط سيما الخطباء والدعاة. فبحسب اوامر وزير الداخلية الى وزير الحج والاوقاف الدكتور عبدالوهاب عبدالواسع صدر تعميم الى كافة ائمة وخطباء المساجد وذلك بتاريخ 10/8/1985م جاء فيه:

1ـ يحظر توزيع النصائح والارشادات المكتوبة أو لصقها او وضعها في أي مكان في المسجد.

2ــ لايسمح بالتحدث في المساجد لغير العلماء والمشايخ المعروفين بأشخاصهم في البلاد والمأذون لهم بتصريح حكومي مكتوب.

كما أصدر مدير عام الاوقاف بالمنطقة الشرقية سيف ابراهيم السيف تعميماً عاجلاً جاء فيه :

"اشارة الى تعميم معالي الوزير رقم 4597/402في 22/1402هـ المبني على خطاب صاحب السمو الملكي وزير الداخلية رقم /ب/6/1/19313في 26/9/1402هـ والخاص بعدم السماح لأحد بالقاء خطبه او طلب حاجة ما لم يكن لديه تصريح رسمي بذلك "لذا عليكم مراعاة ذلك وابلاغنا بمن يعارض ذلك، حتى يتخذ الاجراء به "وفي 30/5/1409هـ صدر تعميم الى الخطباء ينص على "عدم التعرض كلامياً بسوء لليهود والنصارى "تحت مبرر ان "هذا يجنب البلاد الاحراجات مع الدول الأخرى ".

وكان آخر اجراء اتخذته الحكومة السعودية ضد عناصر الخط الديني الساخط في بداية شهر شوال عام 1410هـ حيث اصدر امير الرياض سلمان بن عبدالعزيز قراراً ينص على عزل العشرات من ائمة المساجد ومنع تداول محاضرات تسعة من رجال الدين وهم: محمد احمد الفراج، سعد البريك، عبدالله المطرود، عبدالعزيز الجربوع، عادل سالم الكباني، محمد علي المقح، عبدالاله المؤيد، محمد ناصر الجعوان، طلال الصولمي، احمد القطان ( كويتي الجنسية ) عبدالحميد كشك (الداعية االمعروف) وقد تم مصادرة كافة الاشرطة المسجلة الخاصة بالمحاضرات الدينية لهؤلاء الدعاة التسعة وكان عدد من هؤلاء قد لعب دوراً بارزاً في نقد السياسة السعودية إبان ازمة الخليج كما شارك بعضهم في صياغة وثيقة الاصلاح التي قدمها اثنان وخمسون عالمـاً ومحاضراً وقاضياً ــ وهم في الغالب عناصر من التيار الديني الساخط ــ الى الملك فهد .

عودة الى سياق الحديث عن التيار السلفي المتشدد الناشيء من باطن المؤسسة الدينية الرسمية، فإن ثمة حضوراً كثيفاً للتيار الجديد في الاوساط الاجتماعية في الشهور السبعة لازمة الخليج عن طريق القاء الخطب والمحاضرات ذات الطابع الاحتجاجي المتصاعد ضد الحكومة. فقد ألقى الشيخ عادل الكباني امام جامع الملك خالد بالرياض خطبة أمام حشد من المصلين: "ان الحكومة تريدنا ان نعيش مثل الآت التسجيل. تضع الشريط وتضغط الزر ليخرج كلام من نوع ما، وتبدل الشريط وتضغط الزر ليخرج كلام آخر هو نقيض الاول". ويشير بذلك الى تبدل موقف الحكومة السعودية من صدام حسين، كما القى الشيخ عايض القرني( محاضرّة بكليّة الشريعة بأبها ) محاضرة مماثلة تحت عنوان ( سهام في عين العاصفة ) ودعا الى الجهاد ضد الغرب والواقع القائم في البلاد واستنكر وجود القوات الاميركية في السعودية وقال "انها تريد الاماكن المقدسة "

من جهة ثانية القى شيخ سليمان عودة( عنصر بارز في التيار الديني الساخط ) عدة محاضرات نقدية لمؤسسات الحكم السعودي وسياسته العامة ولعل ابرزها محاضرة بعنوان ( اسباب سقوط الدول ) والتي استعرض فيها مساوئ النظام السعودي يقول العودة "نحن نغزى منذ سنين ويحفر لنا في جوانب عديدة، في جانب السياسة، الاعلام، الصحافة، الراديو، الاذاعة..حتى انك اذا استمعت الى بعض البرامج في اذاعة المملكة سواء كانت اذاعة الرياض او اذاعة البرنامج الثاني، والله لتقول ان هذه الدولة ـ السعودية ـ وكأنها لاتدين بالاسلام..والمخطط جاري منذ سنوات ". وحدد العودة اثنا عشر سبباً لسقوط الدولة منها: الاستبداد والفردية في الرأي وزوال الشورى " ذلك لأن الله سبحانه وتعالى اعطى لكل انسان عقلاً وفماً وانسانية وشخصية، فاذا اهدرت عقل الانسان وشخصيته، فانه لاينفعه ان تعطيه الدنيا كلها..اننا نرى الدولة الشرعية تهتم بقضية الشورى فالحكومة التي اقام بنيانها النبي محمد ( ص ) كانت تقوم على الشورى ( وشاوروهم في الامر ) ( وامرهم شورى بينهم ) وكأن رسول الله يقول لاصحابه شوروا عليّ..اما الحكومات غير الشرعية والاستبدادية فانها تقول ( ما أراكم الاّ ما أرى وما أهديكم الاّ سبيل الرشاد ) ومن تلك الاسباب الظلم يقول عودة ( ان الظلم من اعظم اسباب زوال الدول ) واستند العودة على حديث ورد في مسند ابن حنبل وابن تيميه ( اتق دعوة المظلوم ولو فاجراً ) وقال بأن "الظلم على نوعين: ظلم عام وظلم خاص: "في الظلم العام تجد نهب اموال الرعية وأخذ اراضيهم واستقطاعها والمحسوبية في الشركات والاعمال والوظائف، والتفاوت والطبقية..فإذا كان ضعيفاً اقاموا عليه الحد، واذا كان قوياً تركوه، فكأن هناك اناس يجري في عروقهم دم مقدس ــ يقصد بذلك الامراء ــ فإذا زنوا وسرقوا لم تقم عليهم الحدود..ان العدل ليس تهريجاً او خداعاً للناس كما يجري في الاعلام ".

وتحدث العودة عن فساد الاقتصاد ــ كأحد اسباب سقوط الدول ــ وقال "ان المال يكسب سخط الجميع فاذا مست الدولة اموال الناس فإنها تكسب سخط الجميع.. ومن مظاهر مساس اموال الناس فرض الضرائب والأتاوات بكثافة حتى أثقلت كواهل الناس حتى يتمنى الناس زوالها وزوال من فرضها عليهم..وهكذا ظاهرة الرشوة على مستوى الفرد او المسؤولين، او احتكار السلع، او الشركات والاعمال لأشخاص معينين ".

ومن ابرز اقطاب هذا الخط الدكتور سفر الحوالي( رئيس قسم العقيدة بجامعة ام القرى بمكة ) حيث لقيت محاضراته انتشاراً واسعاً في صفوف الجماعات السلفية مما حدا بصحيفة نيويورك تايمز أن تكتب مقالاً في عددها الصادر يوم 24 نوفمبر 1990م تحت عنوان ( اشرطة الحوالي ) وان تعتبره الصحيفة "المتحدث الرئيسي باسم الوهابية "وفي مخاضرة له بعنوان ( فستذكرون ما اقول لكم ) انتقد فيها مظاهر الفساد في الاعلام والاقتصاد والسياسة ففي الفساد السياسي انتقد لموقف الحكومة السعودية من الغرب وتسائل قائلاً "هل نثق بأن الكفار يدافعون عنا "اما عن الموقف من العراق فقال الحوالي "ندفع الملايين لصدام خلال عشر سنوات ثم ترتد اموالنا علينا ...الذين ساعدوه وأعطوه ..فمن لم يساعده ولم يعطه ...فهل ذلك من ظلم الله لنا لاوالله وانما الله امرنا ان نعطي حيث امرنا ان نعطي ولا نملأ الاّ من حيث امرنا ان نملأ وعندها ينصرنا الله".

كما طالب الحوالي بالغاء الربا والزنا والغناء والرشوة اضافة الى الغيبة والنميمة والحقد والبغضاء والغاء كل نظام يخالف شريعة الله. وكن يؤكد الحوالي في اغلب محاضراته على فكرة مركزية هي اساءة فهم المسلمين للاسلام ولزوم التوبة الى الله والرجوع إليه، بما يتبطن غالباً حكماً مريباً بانحراف المجتمعات المسلمة فضلاً عن الكتابية.

يمكن القول كنتيجة مكثّفة لما سبق أن التكفير لم يكن ابتكاراً حديثاً في حينه بل استعملته الدولة مع خصومها المحليين ثم جرى تهريبه من مخازنها ليستعمله حلفاء الامس.

ـ تسييس التيار السلفي: والمنطلق الديني

ثمة كتابات صدرت بأقلام من داخل او مقربة من تيار السلفية السياسية تنزع مشروعية الدولة السعودية وتضعها في خانة الدول غير الدينية. فرغم الشكوك التي أثيرت حول هوية مؤلف كتاب (الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية) رغم اللغة السلفية الفاقعة التي تكشف الحرفية السلفية الشديدة الوضوح والنزعة السيكولائية لمؤلف الكتاب، فأن "مذكرة النصيحة" بموقعيها الذين يربو عددهم على المائة والعشرين موقعاً تكشف بوضوح موقفاً غير قابل للتفسير. فمضمون المذكرة وخطة الاصلاح الشامل للدولة او مشروع أسلمة الدولة من أسفل الى الاعلى توحي بأن ثمة حكماً صارماً يتبناه الموقعون وهو نزع رداء الشرعية الدينية عن الدولة السعودية بما تطلب عملية اعادة تأهيل ايديولوجي لها من خلال اعادة تأسيس الاجهزة الدولتية وسياساتها على أساس اسلامي.

ان انهمار عناصر الخط الديني الساخط في خط احتجاجي منفصل عن مجال التأثير الروحي لعلماء الدين الكبار من اقطاب المؤسسة الدينية التقليدية، أفضى الى انكماش مجال الاستقطاب الروحي لحساب عناصر جديدة حكمت معادلة المؤسسة الدينية منها ظهور زعامات شابة ترفض الواقع القائم في المؤسسة الدينية وتدعو الى عملية تغيير شاملة في جذور المؤسسة، وثانياً اكتساح الخط الديني الساخط على الحكومة والمدعوم من العناصر السلفية الشبابية والمنتشرة في بقاع مختلفة من المملكة مما أدى الى تهميش الخط التقليدي لاسيما مع اتساع شق الخلاف بين التيار الديني الساخط والحكومة السعودية ، وزاد في قوة تيار السلفية السياسية انضمام عناصر متشددة من قمة الهرم الديني الرسمي امثال الشيخ عبد الله بن جبرين.

إن اعلان قطاع كبير من افراد المؤسسة الدينية الرسمية فك الارتباط مع الخط السياسي الحكومي يعد أخطر مؤشر على دمار أسس التحالف بين الديني والسياسي, أسس ليس بالامكان ترميمها منذاك. فالجهاز الديني شكّل لفترة طويلة الحماية للنظم السعودي كما أسبغ عليه الشرعية حتى وإن تطلب الامر إيجاد احكام تسويغية تفتقر الى مفاهيم الشرعية او ضرورات دينية ما عدا الضرورات السياسية !! من هنا كان وقوع تمرد داخل المؤسسة الدينية بحجم لم يسبق له مثيل في تاريخ الموسسة يعد تحولاً استراتيجياً في جوهر التحالف.

ومن خلال قراءة الخطاب الذي وجهه اثنان وخمسون شخصية من علماء الدين والدعاة والمعلمين والقضاة ومدراء الاقسام في الجامعات والمعاهد والمراكز والمؤسسات الدينية نجد انه يحتوي على اثارات في غاية الاهمية والدقة منها ان الخطاب فيه اقرار بفساد المؤسسات الحكومية ( الداخلية والخارجية والاعلام ووزارة العدل والقضاء والجيش والبنوك..] كما ان الخطاب يسحب من الحكومة السعودية الشرعية الدينية من خلال المطالبة بعرض اللوائح والانظمة السياسية والاقتصادية والارضية وغيرها على احكام الشريعة الاسلامية من خلال لجان شرعية موثوقة ذات صلاحية .

وهذا الحكم ينال موافقة اعضاء في اكبر سلطة دينية في الدولة السعودية ( هيئة كبار العلماء ) امثال عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين والدكتور صالح بن فوزان، وعبدالله بن مسعود ( عضو الهيئة المذكورة سابقاً ) علاوة على تأييد القطبين البارزين في( هيئة كبار العلماء ) الشيخ عبدالعزيز بن باز بعد ان اضاف عبارة "على اساس الشريعة الاسلامية "والشيخ محمد بن صالح العثيمين إضافة الى تأييد مئات من العلماء والقضاة وأساتذة الجامعات والدعاة والمثقفين .

ولعل الاكثر إثارة ان الخطاب المذكور انتشر بكثافة هائلة في اوساط التيار السلفي المتواجد في اغلب مناطق المملكة قبل أن يصدر جواب من الاسرة المالكة والملك فهد على وجه الخصوص.

أثار خطاب التيار السلفي التجريمي مخاوف العائلة المالكة، فجرت مداولات بين كبار اعضاء العائلة للبحث عن امكانية للحل، وكان ثمة اصرار على أن أي حل مقترح يجب ان يأتي عن طريق نفس المؤسسة الدينية لقدرتها في التأثير على التيار الديني المتمرد..لقد تبقى حيز بسيط من المناورة مع التيار الديني، عبر استخدام بقايا رهان المؤسسة الدينية الرسمية، خاصة وان ثمة تناقضات في المجتمع قابلة للاستغلال دون حاجة لتورّط الدولة مباشرة. لجأت العائلة المالكة الى ( هيئة كبار العلماء ) رغم الانقسام الواضح في داخلها، وصدر بيان لمجلس هئية كبار العلماء عقب إنعقاد دورته الاستثنائية المنعقدة في الرياض في يومي 18و19/11/1411هـ في ظل غياب أربعة من اعضاء الهيئة هم: عبدالله خياط وسليمان بن عبيد وابراهيم بن محمد آل الشيخ وعبد المجيد حسين وقد ورد في البيان تحت اسم كل واحد منهم عبارة ( لم يحضر لظروف صحية ).

وممل جاء في البيان "وبعد اطلاع المجلس على ما تناقلته بعض وسائل الاعلام المسموعة والمقروءة وما تداولته بعض الأيدي حول ما كتب لولي الأمر عن امور يراد تحقيقها، فان مجلس هيئة كبار العلماء يستنكر الطريقة التي سلكت في نشر وتوزيع ما كتب في ذلك، ويحذر من مغبة تكرار مثل ذلك مستقبلاً، ويرى ان الطريقة التي استخدمت في نشر وتوزيع ذلك لاتخدم المصلحة ولا تحقق التعاون على البر والتقوى"[5].

وليس ثمة شك في ان البيان قد اعطى مبرراً جديداً للحكومة السعودية في قمع التيار الديني الساخط وهو ما حصل بالفعل فقد تعرض عناصر هذا التيار الى الاعتقال والتعذيب والحصار الامني فقد ذكرت بعض المصادر المقربة من التيار الديني ان ثلاثمائة عنصراً من العناصر البارزة ( خطيب أمام مسجد، محاضر، استاذ جامعة ) قد دخلوا السجون السعودية اضافة الى عشرات آخرين تعرضوا الى عمليات استجواب من قبل الاجهزة الامنية علاوة على استبعاد العشرات من ائمة المساجد. كما منع عدد من المحاضرين من التيار الديني الساخط من القاء الخطب والمحاضرات.

الصراع البديل...الهروب للاعلى



ثمة تفنية سياسية شائعة عن العائلة المالكة مستلهمة من تجارب المواجهة محلياً وهي قدرة النظام على صناعة الصراع البديل والذي يعني فتح جبهات متعددة تفسح الطريق امام الحكومة للانسحاب من المعركة الى اعلى الهرم وحصر المعركة بين قوى متباينة في الاتجاه السياسي وحتى الفكري لاضعاف الطرفين او ضرب الطرف الاقوى ثم جني الثمار من هذا الصراع وإحكام السيطرة بعد سقوط الضحايا .

هذه الحقيقة تبدو جلية في الصراع الدائر بين التيار الديني السلفي المتمرد والتيار الوطني وقد تفجر هذا الصراع بصورة علنية بعد خروج مسيرة نسائية في يوم الثلاثاء بتاريخ 19 ربيع الآخر الموافق 16 نوفمبر 1990م في شوارع بالرياض تطالب الحكومة بالسماح للنساء السعوديات قيادات السيارات، وان هؤلاء النسوة ــ البالغ عددهن 46 امرأة ــ يحملن شهادات عالية ويعملن في وظائف على درجة كبيرة من الاهمية( معلمات مربيات وصحفيات وباحثات ) وكثير منهن معروفات في عالم الثقافة والفكر وخاصة في شؤون المرأة .

وقد رفعت النساء المشاركات في المسيرة خطاباً الى امير الرياض سلمان بن عبدالعزيز يشرحن فيه اهداف المسيرة وخلفيات مطالبهن والوجهة الشرعية بشأن قيادة النساء للسيارات، سيما وان المجندات الاميركيات كانت تقمن بصورة مكثفة بقيادة السيارات داخل الاحياء المدنية والقروية في مناطق مختلفة من السعودية. هذه الحادثة كانت بمثابة عود الثقاب الذي اشعل فتيل الصراع بين التيار الوطني والتيار السلفي بكافة انشقاقاته، فقد شن الاخير هجوماً عنيفاً على النساء اللاتي شاركن في المسيرة ووجهوا اليهن اقذع التهم ( الساقطات، الفاسقات، المتبرجات...) رغم أن النسوة ينتمي معظمهن الى عائلات واسر معروفة ومنهن نساء ينتمين الى عائلات دينية محافظة مثل عائلة آل الشيخ وعائلة الجربوع التي يسيطر رجالها على هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذا الهجوم العنيف من قبل عدد كبير من العلماء والخطباء والسلفيين أثار حمية أزواج النساء المشاركات في المسيرة بالدرجة الأولى كما اثار حفيظة عوائلهن وامتعاض كثير من فئات الشعب مما حدا بأزواج اولئك النسوة الى كتابة رسائل احتجاج الى الحكومة والى الملك فهد خاصة، طالبوا فيها بايقاف الحملات التشهيرية التي يقوم بها بعض الخطباء ورجال الدين وائمة المساجد ضد ازواجهن.

ولم تتوقف القضية عند هذا الحد بل تنامت عملية الصراع وطالت مواضيع اخرى تكثفت حملات التشهير تلك وبدأ التيار السلفي الساخط بعملية "نشر غسيل" للتيار الوطني وبالاسماء استكمالاً لما تم نشره في عام 1988م على الحداثيين (الحداثة في ميزان الاسلام) (محاضرات مسجلة على كاسيتات نشرت بعضها في مجلة "الناقد "في عددها الاول ) ومقالات في مجلة الدعوة السعودية...

اتسمت حملات التشهير المتبادلة بين التيارين الوطني والسلفي بالحدية الشديدة. فقد وصف خطباء التيار السلفي رجال التيار الوطني بالعلمانيين والكائدين للاسلام والعملاء للغرب والمناهضين للدين والمحاربين الدعوة الى الله ولم يتردد هؤلاء الخطباء في ذكر المؤسسات واسماء العاملين فيها (الصحافة والاعلام والجامعات، والمعاهد، والوزارات...). في المقابل شهر التيار الوطني سلاحه في مواجهة هجمات الجماعات السلفية في عملية تشهير واسعة النطاق لإنزال ضربة قاصمة لتلك الجماعات في اول هجوم من نوعه. فقد اصدر الدكتور غازي القصيبي ــ وزير المياه الحالي ـ كتاباً مثيراً بعنوان (حتى لاتكون فتنة) يحتوي على اربع رسائل موجهة الى أقطاب التيار السلفي الشيخ ناصر العمر والشيخ عائض القرني والشيخ سلمان عودة في 218 صفحة، قدّم فيه قراءة نقدية لخطاب السلفية السياسية. وحاول في الوقت ذاته اعادة الاعتبار الديني للدولة السعودية، والتي وصفها القصيبي بأنها "تجسيد حي لفكرة ان الاسلام هو الدين والدولة ..رئيس الدولة هو امام المسلمين قبل ان يكون الملك ..ومن هذا المنطلق تخلى امام المسلمين في المملكة عن اللقب المعتاد للملوك ـ صاحب الجلالة ــ وجعل لقبه خادم الحرمين الشريفين ، فتأمل ابعاد هذا القرار ".

حاول الدكتور القصيبي اضعاف اسس مشروعية طبقة الفقهاء المتشكلة داخل الدولة دون قصد الاضرار بالاخيرة، من خلال اضعاف أسباب انخراط الديني في السياسي، حيث أكد "ان السياسة ليست ساحة للفقهاء" وعدّ الفقهاء المتسللين الى الحقل السياسي بـ "الفقهاء السياسيون "ومحذراً كما يظهر في خطابه الى الشيخ القرني من ان يكون "خميني المملكة القادم "ودعاه اكثر من مرة "إلزم امام المسلمين (الملك) يا أخي عايض القرني ". على اية حال وقع القصيبي ومن راسلهم في ذات المأزق في عملية افراغ متبادلة لمشروعية الآخر.

على أية حال كان كتاب القصيبي فصلاً من فصول المعركة المحتدمة، اجتذبت اطرافاً عديدة من التيارين، فقد انضم الى جبهة الدكتور القصيبي جمعاً من الصحفيين والمثقفيين من العاملين في الجرائد والمجلات السعودية، كما تحولت الجامعات الى مسرح صراع مكشوف للتيارين السلفي والوطني حيث كان يحاول طرف دفع الآخر نحو الهاوية.

وجاء رد التيار السلفي على كتاب القصيمي سريعاً وعنيفاً، حيث صدر كتاب (العلمانية في العراء ـ القصيبي شاعر الامس ، وواعظ اليوم) عن دار الكتاب بولاية شيكاغوا الاميركية تضمّن ثلاث رسائل لثلاث شخصيات من التيار السلفي (وليد الطويرقي، الدكتور محمد سعيد القحطاني، سعيد بن مبارك آل زغير) وقد كتب المقدمة احد اعضاء هيئة الكبار العلماء الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين، قال فيها "الفاسق بملء شدقيه..وان من الجهاد باللسان وبالقلم مناقشة دعاة الضلال ورد كيدهم وابراز نواياهم وأسرارهم كي يبين خزيهم ويعرفوا ..فلابد من ذكر الفاسق بما فيه كي يحذره الناس ـص 8 ". بل ان الرسالة الاولى جاءت بتشجيع من المفتي بن باز الذي طلب من الطويرقي كتابة رد على رسائل القصيبي التي ضمنها في كتاب (حتى لاتكون فتنة) وقد احتوت مقدمة الناشر على مجموعات من الاحكام الموجهة ضد القصيبي "الفاسق، الفاسد ، المنحرف ، الضال، علم من اعلام العلمانية، عميل من عملاء الاميركان ، دعي، منافق..."

لقد جاء رد التيار السلفي على كتاب (حتى لاتكون فتنة ) عنيفاً في لغته وفي تقييمه وفي احكامه، ويمكن القول بأنه حملة تشهير ضد شخص الدكتور القصيبي، اهتم معدو الكتاب بالتركيز بكشف اسرار حياته الشعرية والثقافية بل واسرار حياته العائلية وارتباطاته الثقافية، بل امتدت الحملة حتى الى مواقف القصيبي من موضوعات لا يمكن فهمها بمعزل عن شراسة الحملة، كما في رد الفعل على موقف الدكتور القصيبي الدفاعي عن هجوم التيار السلفي ضد الشيعة، ومع ذلك يصر الطرفان على استعمال تهمة اثارة الفتنة.

معركة التيار السلفي المفتوحة على أفق واسع بدأت من أسفل مع الشيعة ضمن خط السير الطائفي الممتد ومن ثم امع لتيار الوطني داخل دائرة المواجهة مع قوى التحديث، واخيراً مع الدولة باعتبارها قوة ناقضة لاستحقاقات الدين في الدولة.

إن المراكمة المتصلة لخطاب احترابي يشنه الخط الراديكالي منذ أغسطس 1990 لابد أن يشحن محركات التطرف بالتزامن مع ظروف اقتصادية وسياسية حالكة تمر بها السعودية، فمعكسر الساخطين يتغذى على خطاب احترابي مناهض للدولة ومن يسير في خطها العلوي أي الى المعسكر التي تنتمي اليه دولياً، فالاشارات المتكررة حول مجابهة منتظرة مع معسكر الشرك، لا يقف عند حد مواجهة بين حكومات او جماعات قليلة العدد بل معركة ذات ابعاد شاملة.

المجابهة التي اندلعت بين الدولة والتيار السلفي منذ عام 1990 أريد تطويرها بامدادات مذهبية تحمل بداخلها جرعات عالية التوتر تقرر توظيفها لمعركة أكبر من تصور الدولة ذاتها. فالمواجهة التي كانت الحكومة السعودية تخشى وقوعوها مع التيار السلفي في يوم ما، والتي كانت ترى في تفجيرات الرياض عام 1995 والخبر عام 1996 أقصى طاقة العنف المتصورة لدى الحكومة من حليفها القديم. ولكن هذا الحليف المتضخم خلال عقدين من الزمن بطريقة غير قابلة للسيطرة وانتشاره اللامحدود في مناطق عديدة من العالم، وتحوله كبؤر توتر نشطة في اكثر من قارة من هذا العالم حمل قوة تدميرية هائلة قادرة على تخريب ليس سمعة الدولة فحسب بل ربما تخريب اسس الدولة ذاتها.

ان الحاصل النهائي كما يمكن تلخيصه من تحولات علاقة التيار الديني السلفي بالدولة، هو استحالة العودة للوراء بخلق خيارات جديدة واسس مختلفة للعلاقة بين المؤسسة الدينية والسلطة. فالحرص الظاهر احياناً على حفظ علاقة ودية مع المؤسسة الدينية ورجالها قد يخفي في احيان كثيرة نزعة استغلالية لدى جناح في الدولة ضد أجنحة اخرى، أي استخدام الدين كأحد اسلحة الصراع بين الاجنحة، وليس بالضرورة رغبة في تأكيد دور الدين في الدولة، فما جرى منذ الثاني من اغسطس 1990 وحتى انهدام برجي التجارة في الحادي عشر من سبتمبر 2001 يمثل الحلقة الاكثر التهاباً في علاقة مأزومة بين قوتين محدودتين (التيار السلفي والحكومة) رهنت مجتمعاً بكل قواه الاجتماعية والسياسية ومصادره البشرية وثرواته الاقتصادية لأخطاء قد نجزم بوصفها بالفردية