كـ زمان ـان
18-03-2002, 01:23
ذكريات من ليلة وفاتي
كانت ليلة باردة ما يعكّر هدوءها إلاّ ريحة المطهّر اللي يميز المستشفيات ، وبالرغم من أني ما كنت أحس بأي ألم إلاّ أني كنت أتقلب على سريري خايفة من بكره… ما أدري ليش ؟!!!.
ابتسمت وأنا أتذكر زوجي، كان يقول:
لا تخافين يا العنود الطب تطور، وأنا بلّف بك العالم لين تشفين، لا تخافين أنا معك.
ابتسمت وأنا أتذكر كلامه والخوف اللي بنظراته وهو يحاول يطمني .. أمي يا حليلك ا يمّه… طول الليل كانت تصلي وكل ما فتحت عيوني سمعت صوت همساتها تدعي لي، وتتضرع لله .. يا حليلك يا يمّه .. ويا حليل عيونك اللي مَورْمه من البكاء، بالرغم من أنّي ما أشوفها وهي تبكي ..
أشياء كثيرة تغيرت هالأيام، زوّاري كلهم تغيروا، ما عاد يجيني أحد من سني، لا ما عاد أشوف إلاّ كبار العايلة اللي يتصفون بالدين والعقل .. شيء غريب !! ما أدري وش سببه؟! حتى الأحاديث اللي تطرح في غرفتي كلها عن قوة الإيمان والصبر.
وما عاد أحد يذكر لي الأمل في الشفاء، ولا أخبار العايلة!! بنت عمي ولدت ما دريت إلاّ بالدفة، سمعت وحدة تبارك لأمها في زيارتي .. وش صاير؟!!!!! والله شكيت أنهم يعرفون عني شيء أنا ما أعرفه! يعني يمكن الطبيب قال في حالتي شيء؟!!!.
بس طردت وساوسي بحجة إن الطب تطور، والطبيب شكله مطّمّن علي، وزوجي يقول إني بَشفى إن شاء الله أكيد .. قطع صوت أمي حبل أفكاري، وهي تناديني: العنود قومي وأنا أمك صلّي.
ابتسمت وأنا أتذكر كيف أمي تغيرت .. أمي أوّل من كثر حبها لي في البرد إذا أذّن الفجر تهمس في أذني إني أصلي، وكنها ودها إني ما أسمعها ، وإذا ما قمت تعيمت عني وسكتت وابعدت، وهي تدعي إن الله يهديني.. غريبة من بداية مرضي وهي حريصة على صلاتي، تقومني بصوت حزين مستسلم، ابتسمت وقلت لها: أنا قايمة يا يمّه ..
تنهدت وقالت : الله يشفيك يا بنيتي ..
قلت : يمّه… ليش أنتِ حزينة؟! ترى أنا طيبة، والله ما فيني إلاّ العافية بالذات اليوم ..
وطلعت أمي وأنا أكلمها وتركتني .. استغربت، وسكت، وقمت أصلي .. يوم سلّمت وقبل لا أقوم عن سجادتي إلاّ باب الغرفة يدق الفجر!!! من جاي هالوقت ؟!!! شفت أخوي الكبير محمد يطل من الباب .. ابتسامته تنوّر وجهه الملتحي، بس ابتسامته كلها حزن ..
قال : كيف حالك ا الغالية اليوم؟! وبعدها سلّم على أمي وانحنى يسلم على يدها ..
قلت : الحمدلله بخير .. اليوم أنا طيبه ، وأظنهم اليوم بيطلعوني .. عندي إحساس !!
الغريب بالرغم من إني كنت أبي أفرحه إلاّ أنه التفت عني وراح للشباك ، وفتحه ووقف عنده شوي وهو يتنفس بعمق ويذكر الله .. وكأنه يحاول يطرد الشيطان، بعدين قال بدون ما يرفع عينه من الأرض : ودّي أغيّر اتجاه سريرك يا العنود ..
وقبل لا أرد حرّك السرير وخلاّه من جهة القبلة… ابتسمت، قلت : لييش ؟!!!!!!!!
قال وهو ما رفع عينه من الأرض وبصوت مرتعش : أضل علشان إذا دعيتي الله تكونين مواجهة للقبلة ..
قلت وأنا أضحك : محمد أخاف ذي بدعة ، انتبه !!
لم يرد علي محمد ، وحط مصحف جنب سريري وخرج وتركني، ولحقته أمي، وأنا ابتسمت وأنا أتذكر المناقشات الحادة اللي كانت تدور بينا في أمور الدين .. كان دايم ينصحني ويوعظني، وأنا بالرغم من إني أحترمه إلاّ أني كنت أناقشه في أي فكرة يقولها، وأقول اللي في خاطري ، وهو كان متقبّل للمناقشة ويرد برحابة صدر..
رجعت لسريري وتمددت عليه، فعلاً هالمكان أحسن من الأول، هنا أقدر أشوف الحديقة اللي برّا، وأشوف العصافي تغرد في الصبح .. تذكرت شباك غرفة بنتي سارة، أكيد العصافير متجمعة عنده ألحين .. يا ما أزعجتني أصوات تغريدها، وفتحت الشباك علشان أفرّقها، لا تقوم حبيبتي سارة وترتاع .. يوه… وينك يا سارة؟! بكرة بتنامين في حضني إن شاء الله، وأبعوضك عن الأيام اللي قضيتها بعيدة عنّك في المستشفى، بكرة أبشم ريحتك يا عمري.
دخلت أمي ، قلت : يمّه سارة تراها الأيام الأخيرة تجيها كوابيس ، عساك وصيتي نورة عليها لا تفارقها لو دقيقة في الليل لين أجي.
قالت أمي : ما عليكِ أنتِ، سارة مرتاحة، فكري بنفسك بس ..
تمددت عى سريري وأنا أطالع الساعة على الحائط، الدكتور بيجي الساعة 10 وأبقوله إني أبطلع خلاص، ماله داعي أربك أهلي وزوجي أكثر من كذا، خاصة أخوي ماجد قرّب عرسه .. وسحبت مجلة أزياء، وفتحت على صفحه الموديل اللي اخترته لزواج أخوي ماجد، واتخيلت شكلي وأنا لابسته، يوووه أبقهر كثير من البنات اللي ينافسوني في العايلة، أبكسر عينهم .. وقعدت أفكر… كيف أقنع الخياطة علشان توافق تخيطه بسرعة وبعدها غفيت ...
قمت بعدها على صوت أخوي محمد يقرأ قرآن عند راسي، وفتحت عيوني، وابتسمت له ..
قلت : محمد ما بعد رحت البيت ؟!!! يه وعملك ؟!!!!
مارد علي وكمّل قراية لين ختم السورة، وهذا أبو سارة زوجي الحبيب اللي مسك يدي، وقال وهو يبتسم بحنان : هاه العنود … عساكِ ما حسيتي بشيء؟!
استغربت من سؤاله ! قلت : لا أنا يا خالد طيبة، ما فيني إلاّ العافية، وودي أطلع الصراحة ..
قال : الله يشفيكِ ..
وابتعد عني بسرعة لا أشوف دموعه، وفي هاللحظة سمعنا دقات على الباب، ودخلت الممرضة لتعلن وصول الطبيب .. وفي هاللحظة زوجي نقز من مكانه كأنّه مقروص، وخرج بسرعة مثل الواحد اللي يبي يهرب، أما أنا فرحت قلت للممرضة بحماس : خلّي يدخل أنا جاهزة !!
ودخل الطبيب، طبيبي يشبه أخوي محمد كثير، مسلم ملتزم ملتحي ومحترم، ما أذكر مرّة إنه رفع عينه في عيني إلاّ للضرورة، وأنا أستحي منه مرّة، بس أثق فيه وأعتبره زي أخوي ..
قال : هاه .. كيف حالك يا العنود؟!
قلت بسرعة : الحمد لله يا دكتور، أنا اليوم أفضل يوم لي من بداية مرضي، وأبي أطلع خلاص ، اشتقت لبيتي .. !!
أخوي محمد في هاللحظة طلع بسرعة وأمي لحقته وتركوني لحالي مع الطبيب والممرضة ، الظاهر كانوا يتوقعون انفجار لغم .. قال الطبيب بوجه جامد ما فيه من الإحساس ذرّه، كأنه مو هو اللي يتكلم إلاّ كأنه يحكي بلغه هو نفسه ما يعرفها، قال : العنود أنا بكتبلك خروج !!
نوّر وجهي بابتسامة وأنا أدس يديني تحت الغطوة لا يشوفها الطبيب، وكمّل كلامه بوجه جامد: العنود .. أنتِ وحدة مؤمنة وأكيد عارفة إن الموت حق .. وسكت ...
تسارعت أنفاسي وأنا أقول : إيه… كمّل يا دكتور..
حالتك ميؤوس منها، وبطلعك علشان تقضين آخر أيامك في المكان اللي تحبينه .. ورجع لصمته وسكت الطبيب، وسكت كل شيء في الغرفة، بس أنا ما عاد أسمع إلاّ صوت أنفاسي وصوت أكوام الأمل اللي انهدت في قلبي، ومن الصمة رميت غطوتي بعيد وقمت بحماس، وكأني بدافع عن حياتي، وكأن الطبيب هو اللي يبي يسلبها مني، وانحنيت، ولأول مرة أحط عيني في عين طبيبي اللي ما رفعها عن الأرض، وقلت بحماس : دكتور!!! لا تقول كذا أنا طيبة! دكتور!!! وش هالكلام؟!!! دكتووور كيف الطب يعجز عن حالتي أنا؟!!!!! أنا؟!!! أصلاً أبو سارة قال إنّه بيلف بي العالم!!! كيف المرض ينتصر على شبابي وحيويتي؟!! أنا أقوى منه أكيد ..
قال الدكتور : يا العنود الموت والحياة بيد الله، والطب وسيلة، وما أدري؟! يمكن يبقالك ساعات أو أيام أو أسابيع ؟! بس حالتك يا العنودما عاد نقدر نسيطر عليها ... (وسكت بعدها الطبيب) ..
قبل لا يطلع الطبيب قال، وكأنه يبي يخفف عني : ( وأبعطيك أقوى المهدئات ولا راح تحسين بالألم في باقي أيامك إن شاء الله .. حسّيت ساعتها إني مجوفة فاضية من الداخل، حسيت الدنيا سوداء حواليني، وبدت تتضح لي صور من بعيد في مخيلتي، أول صورة شفتها كانت صورة سارة بنتي وهي تضحك وعمرها شهور .. وبعدين شفت صورة زواجي وأنا لابسة أبيض وزوجي ماسك يدي بفخر، وهذي أمي وهذي زميلتي في المدرسة شفتها، مع إني من بداية الصيف ما قابلتها ولا كلمتها، وهذولا عصافير غرفة سارة .. آخر صورة شفتها قبل لا أفوق كانت فستان زواج ماجد اللي اخترته من مجلة الأزياء ..
حسيت باختناق وضيق، هذا حضن أمي اللي دخلت علي وضمتني، وأبعدها عني بقوة وقاومت علشان أتخلص من حضنها، وسمعت صوت زوجي يكلم الطبيب عند الباب، طالعت أمي بعصبية، وقلت : يمّه ما أبي أشوف خالد !!
كانت رغباتي أوامر في ذيك الساعة، ركضت أمي وردّته من عند الباب، ما كنت أبي أشوفه، كنت متأكدة إني ما راح أتحمل شوفته هو بالذات، حسّيت إنه بيذكرني بأيام الرخاء وأنا ألحين في شدة .. وينكم يا أهلي؟!! بس ما أبي غيركم.. ما بكيت ولا نزل مني ولا دمعة، وكأن الخبر كان فوق مستوى البكاء، بالعكس تحمست وقلت : يا الله أبطلع !!
أكملت إجراءات خروجي، وقبل لا أطلع جت المريضة اللي بتاخذ غرفتي، طالعت عيونها فيها بريق أمل تختلف تماماً عن نظرتي أنا، كانت نظرتي ميتة عميقة مالها لمعة .. سبحان الله للأمل بريق في العيون .. وطلعت قلت لأخوي: محمد ما أبي بيتي ، أبي أروح لغرفتي قبل لا أعرف خالد !!
وفعلاً أخوي بدون أوامري كان رايح لبيت أهلي .. ونزلت ودخلت البيت بس ما لقيت في استقبالي إلا خواتي الكبار!! والبيت كأنهم أخلوه لي! هذا بيت أهلي العامر للي الكل داخل طالع !! ألحين هادي كأنه مقبرة!!!
رحت لغرفتي ورميت عبايتي، كنت ناوية أتحمم وأغير ملابسي، وأستعد علشان أضم سارة لصدري بس ألحين غيرت رايي، ما أبي أشوف سارة، ما أبي أشعر إنها معتمدة علي في شيء، أبي أوكل أمرها لله، ونِعم بالله .. أبخليها في وداعة الرحمن ومن يحفظ الودائع مثل الله ! دخلت أمي وهمست بصوت واطي، قالت:
العنود وش تبين تاكلين؟!!!
قلت لها : ولا شيء !!
وقلتها بحزم وقوة : يمّه ما أبي شيء !!
أمي أوّل كانت دايم تتابع أكلي وتجبرني إني آكل، حتى بعد ما تزوجت انت تحرجني عند زوجي اللي كان يضحك من حرصها على أكلي، وكأني طفلة، بس اليوم ولأول مرة احترمت رغبتي وسكتت وكأنها تقول : ماله داعي الأكل ما دام آخرته للدود .. يا بنيتي زوجك يبي يشوفك ..
قلت بصوت عالي وكأني أكلمهم من العالم الآخر : لا ما أبي أشوفه ..
وطلعت ورجعت مرة ثانية ، قالت : ترى خالد يقول إذا وافقتي تشوفينه هو ينتظر في المجلس مع أخوك ..
بس أنا قررت إني ما أعذب أحد وإني أقضي آخر أوقاتي لحالي ، قلت: يمّه روحي… إن بغيتك ناديتك ..
قالت أمي : أبقعد عندك أوسّع صدرك ..
\r
قلت : يمّه ماني فاضية ووقتي قصير ..
طلعت وأنا أتذكر الوقت اللي كنت أضيعه في أمور تافهة مثلاً مجلة الأزياء اللي اخترت موديل زواج ماجد منها، جلست في المكتبة ساعتين علشان أختارها وأشتريها، وألحين تركتها في المستشفى ونسيت رقم الصفحة، وما راح ألبس الفستان أبداً .. يا الله يا وقتي أثرك كنت غالي ألحين !!!!
عندي أشياء كثيرة أبي أسويها بس ما عرفت !! زي الطالب إذا أعلن المدرس إنه باقي له عشر دقايق من وقت الامتحان ، وهو ما بعد كتب في الورقة شيء، بيسلم ورقته قبل العشر الدقايق ما تنتهي ، لأنه راحيتوه بين الأسئلة .. وأنا هذا شعوري أبدأ بإيش ولاّ إيش!!
جلست أفكر شوي وطلّعت ورقة وقلم، قلت أبكتب وصية… وصية؟!!!! زي الأفلام اللي كنت أتابعها .. يا ما سهرت أطالع ناس (أظنهم) أردى خلق الله، وهم يفتعلون حكايات تافهة مالها بالواقع صلة!!
يا خسارة ذاك الوقت كان ربي نازل في السماء يقول: هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من داعي فأجيبه؟!!
يا خسارة ليتني قمت وصليت ودعيت إن الله يخليني لسارة وأبوها، يا ليتني على الأقل رحت لسارة وضميتها لصدري ..
وفجأة رميت الورقة والقلم، وقمت وفتحت الدولا، وطلعت فستان حرير كان خالد يحب يشوفه علي، ولبسته ولبست جزمة مناسبة، وفكيت شعري وطلعت دهن العود وحطيته على شعري، ووقفت قدام المراية وتأملت صورتي : يا الله كم باقي من الوقت ويندس هالجمال في التراب ؟!! كم باقي من الوقت وتمشي الحشرات على هالخد النظر؟!! كنت أعتني بجسمي، حمامات زيت وكريمات، وأكافح التجاعيد، بس ليتني وصلت لسن التجاعيد!!
خسارة الوقت الممل اللي قضيته وأنا أوزّع شرائح الخيار على وجهي ! يا خسارة ! ليتني رحت قريت سورة من القرآن ولا لعبت مع سارة حبيبتي قبل لا تفقدني ..
وقفت وطالعت جسي .. هالجسم الممشوق بيتمدّد في القبر بعد ساعات .. يا ترى ضلوعي هذي بتلتقي بضمة القبر؟
كانت ليلة باردة ما يعكّر هدوءها إلاّ ريحة المطهّر اللي يميز المستشفيات ، وبالرغم من أني ما كنت أحس بأي ألم إلاّ أني كنت أتقلب على سريري خايفة من بكره… ما أدري ليش ؟!!!.
ابتسمت وأنا أتذكر زوجي، كان يقول:
لا تخافين يا العنود الطب تطور، وأنا بلّف بك العالم لين تشفين، لا تخافين أنا معك.
ابتسمت وأنا أتذكر كلامه والخوف اللي بنظراته وهو يحاول يطمني .. أمي يا حليلك ا يمّه… طول الليل كانت تصلي وكل ما فتحت عيوني سمعت صوت همساتها تدعي لي، وتتضرع لله .. يا حليلك يا يمّه .. ويا حليل عيونك اللي مَورْمه من البكاء، بالرغم من أنّي ما أشوفها وهي تبكي ..
أشياء كثيرة تغيرت هالأيام، زوّاري كلهم تغيروا، ما عاد يجيني أحد من سني، لا ما عاد أشوف إلاّ كبار العايلة اللي يتصفون بالدين والعقل .. شيء غريب !! ما أدري وش سببه؟! حتى الأحاديث اللي تطرح في غرفتي كلها عن قوة الإيمان والصبر.
وما عاد أحد يذكر لي الأمل في الشفاء، ولا أخبار العايلة!! بنت عمي ولدت ما دريت إلاّ بالدفة، سمعت وحدة تبارك لأمها في زيارتي .. وش صاير؟!!!!! والله شكيت أنهم يعرفون عني شيء أنا ما أعرفه! يعني يمكن الطبيب قال في حالتي شيء؟!!!.
بس طردت وساوسي بحجة إن الطب تطور، والطبيب شكله مطّمّن علي، وزوجي يقول إني بَشفى إن شاء الله أكيد .. قطع صوت أمي حبل أفكاري، وهي تناديني: العنود قومي وأنا أمك صلّي.
ابتسمت وأنا أتذكر كيف أمي تغيرت .. أمي أوّل من كثر حبها لي في البرد إذا أذّن الفجر تهمس في أذني إني أصلي، وكنها ودها إني ما أسمعها ، وإذا ما قمت تعيمت عني وسكتت وابعدت، وهي تدعي إن الله يهديني.. غريبة من بداية مرضي وهي حريصة على صلاتي، تقومني بصوت حزين مستسلم، ابتسمت وقلت لها: أنا قايمة يا يمّه ..
تنهدت وقالت : الله يشفيك يا بنيتي ..
قلت : يمّه… ليش أنتِ حزينة؟! ترى أنا طيبة، والله ما فيني إلاّ العافية بالذات اليوم ..
وطلعت أمي وأنا أكلمها وتركتني .. استغربت، وسكت، وقمت أصلي .. يوم سلّمت وقبل لا أقوم عن سجادتي إلاّ باب الغرفة يدق الفجر!!! من جاي هالوقت ؟!!! شفت أخوي الكبير محمد يطل من الباب .. ابتسامته تنوّر وجهه الملتحي، بس ابتسامته كلها حزن ..
قال : كيف حالك ا الغالية اليوم؟! وبعدها سلّم على أمي وانحنى يسلم على يدها ..
قلت : الحمدلله بخير .. اليوم أنا طيبه ، وأظنهم اليوم بيطلعوني .. عندي إحساس !!
الغريب بالرغم من إني كنت أبي أفرحه إلاّ أنه التفت عني وراح للشباك ، وفتحه ووقف عنده شوي وهو يتنفس بعمق ويذكر الله .. وكأنه يحاول يطرد الشيطان، بعدين قال بدون ما يرفع عينه من الأرض : ودّي أغيّر اتجاه سريرك يا العنود ..
وقبل لا أرد حرّك السرير وخلاّه من جهة القبلة… ابتسمت، قلت : لييش ؟!!!!!!!!
قال وهو ما رفع عينه من الأرض وبصوت مرتعش : أضل علشان إذا دعيتي الله تكونين مواجهة للقبلة ..
قلت وأنا أضحك : محمد أخاف ذي بدعة ، انتبه !!
لم يرد علي محمد ، وحط مصحف جنب سريري وخرج وتركني، ولحقته أمي، وأنا ابتسمت وأنا أتذكر المناقشات الحادة اللي كانت تدور بينا في أمور الدين .. كان دايم ينصحني ويوعظني، وأنا بالرغم من إني أحترمه إلاّ أني كنت أناقشه في أي فكرة يقولها، وأقول اللي في خاطري ، وهو كان متقبّل للمناقشة ويرد برحابة صدر..
رجعت لسريري وتمددت عليه، فعلاً هالمكان أحسن من الأول، هنا أقدر أشوف الحديقة اللي برّا، وأشوف العصافي تغرد في الصبح .. تذكرت شباك غرفة بنتي سارة، أكيد العصافير متجمعة عنده ألحين .. يا ما أزعجتني أصوات تغريدها، وفتحت الشباك علشان أفرّقها، لا تقوم حبيبتي سارة وترتاع .. يوه… وينك يا سارة؟! بكرة بتنامين في حضني إن شاء الله، وأبعوضك عن الأيام اللي قضيتها بعيدة عنّك في المستشفى، بكرة أبشم ريحتك يا عمري.
دخلت أمي ، قلت : يمّه سارة تراها الأيام الأخيرة تجيها كوابيس ، عساك وصيتي نورة عليها لا تفارقها لو دقيقة في الليل لين أجي.
قالت أمي : ما عليكِ أنتِ، سارة مرتاحة، فكري بنفسك بس ..
تمددت عى سريري وأنا أطالع الساعة على الحائط، الدكتور بيجي الساعة 10 وأبقوله إني أبطلع خلاص، ماله داعي أربك أهلي وزوجي أكثر من كذا، خاصة أخوي ماجد قرّب عرسه .. وسحبت مجلة أزياء، وفتحت على صفحه الموديل اللي اخترته لزواج أخوي ماجد، واتخيلت شكلي وأنا لابسته، يوووه أبقهر كثير من البنات اللي ينافسوني في العايلة، أبكسر عينهم .. وقعدت أفكر… كيف أقنع الخياطة علشان توافق تخيطه بسرعة وبعدها غفيت ...
قمت بعدها على صوت أخوي محمد يقرأ قرآن عند راسي، وفتحت عيوني، وابتسمت له ..
قلت : محمد ما بعد رحت البيت ؟!!! يه وعملك ؟!!!!
مارد علي وكمّل قراية لين ختم السورة، وهذا أبو سارة زوجي الحبيب اللي مسك يدي، وقال وهو يبتسم بحنان : هاه العنود … عساكِ ما حسيتي بشيء؟!
استغربت من سؤاله ! قلت : لا أنا يا خالد طيبة، ما فيني إلاّ العافية، وودي أطلع الصراحة ..
قال : الله يشفيكِ ..
وابتعد عني بسرعة لا أشوف دموعه، وفي هاللحظة سمعنا دقات على الباب، ودخلت الممرضة لتعلن وصول الطبيب .. وفي هاللحظة زوجي نقز من مكانه كأنّه مقروص، وخرج بسرعة مثل الواحد اللي يبي يهرب، أما أنا فرحت قلت للممرضة بحماس : خلّي يدخل أنا جاهزة !!
ودخل الطبيب، طبيبي يشبه أخوي محمد كثير، مسلم ملتزم ملتحي ومحترم، ما أذكر مرّة إنه رفع عينه في عيني إلاّ للضرورة، وأنا أستحي منه مرّة، بس أثق فيه وأعتبره زي أخوي ..
قال : هاه .. كيف حالك يا العنود؟!
قلت بسرعة : الحمد لله يا دكتور، أنا اليوم أفضل يوم لي من بداية مرضي، وأبي أطلع خلاص ، اشتقت لبيتي .. !!
أخوي محمد في هاللحظة طلع بسرعة وأمي لحقته وتركوني لحالي مع الطبيب والممرضة ، الظاهر كانوا يتوقعون انفجار لغم .. قال الطبيب بوجه جامد ما فيه من الإحساس ذرّه، كأنه مو هو اللي يتكلم إلاّ كأنه يحكي بلغه هو نفسه ما يعرفها، قال : العنود أنا بكتبلك خروج !!
نوّر وجهي بابتسامة وأنا أدس يديني تحت الغطوة لا يشوفها الطبيب، وكمّل كلامه بوجه جامد: العنود .. أنتِ وحدة مؤمنة وأكيد عارفة إن الموت حق .. وسكت ...
تسارعت أنفاسي وأنا أقول : إيه… كمّل يا دكتور..
حالتك ميؤوس منها، وبطلعك علشان تقضين آخر أيامك في المكان اللي تحبينه .. ورجع لصمته وسكت الطبيب، وسكت كل شيء في الغرفة، بس أنا ما عاد أسمع إلاّ صوت أنفاسي وصوت أكوام الأمل اللي انهدت في قلبي، ومن الصمة رميت غطوتي بعيد وقمت بحماس، وكأني بدافع عن حياتي، وكأن الطبيب هو اللي يبي يسلبها مني، وانحنيت، ولأول مرة أحط عيني في عين طبيبي اللي ما رفعها عن الأرض، وقلت بحماس : دكتور!!! لا تقول كذا أنا طيبة! دكتور!!! وش هالكلام؟!!! دكتووور كيف الطب يعجز عن حالتي أنا؟!!!!! أنا؟!!! أصلاً أبو سارة قال إنّه بيلف بي العالم!!! كيف المرض ينتصر على شبابي وحيويتي؟!! أنا أقوى منه أكيد ..
قال الدكتور : يا العنود الموت والحياة بيد الله، والطب وسيلة، وما أدري؟! يمكن يبقالك ساعات أو أيام أو أسابيع ؟! بس حالتك يا العنودما عاد نقدر نسيطر عليها ... (وسكت بعدها الطبيب) ..
قبل لا يطلع الطبيب قال، وكأنه يبي يخفف عني : ( وأبعطيك أقوى المهدئات ولا راح تحسين بالألم في باقي أيامك إن شاء الله .. حسّيت ساعتها إني مجوفة فاضية من الداخل، حسيت الدنيا سوداء حواليني، وبدت تتضح لي صور من بعيد في مخيلتي، أول صورة شفتها كانت صورة سارة بنتي وهي تضحك وعمرها شهور .. وبعدين شفت صورة زواجي وأنا لابسة أبيض وزوجي ماسك يدي بفخر، وهذي أمي وهذي زميلتي في المدرسة شفتها، مع إني من بداية الصيف ما قابلتها ولا كلمتها، وهذولا عصافير غرفة سارة .. آخر صورة شفتها قبل لا أفوق كانت فستان زواج ماجد اللي اخترته من مجلة الأزياء ..
حسيت باختناق وضيق، هذا حضن أمي اللي دخلت علي وضمتني، وأبعدها عني بقوة وقاومت علشان أتخلص من حضنها، وسمعت صوت زوجي يكلم الطبيب عند الباب، طالعت أمي بعصبية، وقلت : يمّه ما أبي أشوف خالد !!
كانت رغباتي أوامر في ذيك الساعة، ركضت أمي وردّته من عند الباب، ما كنت أبي أشوفه، كنت متأكدة إني ما راح أتحمل شوفته هو بالذات، حسّيت إنه بيذكرني بأيام الرخاء وأنا ألحين في شدة .. وينكم يا أهلي؟!! بس ما أبي غيركم.. ما بكيت ولا نزل مني ولا دمعة، وكأن الخبر كان فوق مستوى البكاء، بالعكس تحمست وقلت : يا الله أبطلع !!
أكملت إجراءات خروجي، وقبل لا أطلع جت المريضة اللي بتاخذ غرفتي، طالعت عيونها فيها بريق أمل تختلف تماماً عن نظرتي أنا، كانت نظرتي ميتة عميقة مالها لمعة .. سبحان الله للأمل بريق في العيون .. وطلعت قلت لأخوي: محمد ما أبي بيتي ، أبي أروح لغرفتي قبل لا أعرف خالد !!
وفعلاً أخوي بدون أوامري كان رايح لبيت أهلي .. ونزلت ودخلت البيت بس ما لقيت في استقبالي إلا خواتي الكبار!! والبيت كأنهم أخلوه لي! هذا بيت أهلي العامر للي الكل داخل طالع !! ألحين هادي كأنه مقبرة!!!
رحت لغرفتي ورميت عبايتي، كنت ناوية أتحمم وأغير ملابسي، وأستعد علشان أضم سارة لصدري بس ألحين غيرت رايي، ما أبي أشوف سارة، ما أبي أشعر إنها معتمدة علي في شيء، أبي أوكل أمرها لله، ونِعم بالله .. أبخليها في وداعة الرحمن ومن يحفظ الودائع مثل الله ! دخلت أمي وهمست بصوت واطي، قالت:
العنود وش تبين تاكلين؟!!!
قلت لها : ولا شيء !!
وقلتها بحزم وقوة : يمّه ما أبي شيء !!
أمي أوّل كانت دايم تتابع أكلي وتجبرني إني آكل، حتى بعد ما تزوجت انت تحرجني عند زوجي اللي كان يضحك من حرصها على أكلي، وكأني طفلة، بس اليوم ولأول مرة احترمت رغبتي وسكتت وكأنها تقول : ماله داعي الأكل ما دام آخرته للدود .. يا بنيتي زوجك يبي يشوفك ..
قلت بصوت عالي وكأني أكلمهم من العالم الآخر : لا ما أبي أشوفه ..
وطلعت ورجعت مرة ثانية ، قالت : ترى خالد يقول إذا وافقتي تشوفينه هو ينتظر في المجلس مع أخوك ..
بس أنا قررت إني ما أعذب أحد وإني أقضي آخر أوقاتي لحالي ، قلت: يمّه روحي… إن بغيتك ناديتك ..
قالت أمي : أبقعد عندك أوسّع صدرك ..
\r
قلت : يمّه ماني فاضية ووقتي قصير ..
طلعت وأنا أتذكر الوقت اللي كنت أضيعه في أمور تافهة مثلاً مجلة الأزياء اللي اخترت موديل زواج ماجد منها، جلست في المكتبة ساعتين علشان أختارها وأشتريها، وألحين تركتها في المستشفى ونسيت رقم الصفحة، وما راح ألبس الفستان أبداً .. يا الله يا وقتي أثرك كنت غالي ألحين !!!!
عندي أشياء كثيرة أبي أسويها بس ما عرفت !! زي الطالب إذا أعلن المدرس إنه باقي له عشر دقايق من وقت الامتحان ، وهو ما بعد كتب في الورقة شيء، بيسلم ورقته قبل العشر الدقايق ما تنتهي ، لأنه راحيتوه بين الأسئلة .. وأنا هذا شعوري أبدأ بإيش ولاّ إيش!!
جلست أفكر شوي وطلّعت ورقة وقلم، قلت أبكتب وصية… وصية؟!!!! زي الأفلام اللي كنت أتابعها .. يا ما سهرت أطالع ناس (أظنهم) أردى خلق الله، وهم يفتعلون حكايات تافهة مالها بالواقع صلة!!
يا خسارة ذاك الوقت كان ربي نازل في السماء يقول: هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من داعي فأجيبه؟!!
يا خسارة ليتني قمت وصليت ودعيت إن الله يخليني لسارة وأبوها، يا ليتني على الأقل رحت لسارة وضميتها لصدري ..
وفجأة رميت الورقة والقلم، وقمت وفتحت الدولا، وطلعت فستان حرير كان خالد يحب يشوفه علي، ولبسته ولبست جزمة مناسبة، وفكيت شعري وطلعت دهن العود وحطيته على شعري، ووقفت قدام المراية وتأملت صورتي : يا الله كم باقي من الوقت ويندس هالجمال في التراب ؟!! كم باقي من الوقت وتمشي الحشرات على هالخد النظر؟!! كنت أعتني بجسمي، حمامات زيت وكريمات، وأكافح التجاعيد، بس ليتني وصلت لسن التجاعيد!!
خسارة الوقت الممل اللي قضيته وأنا أوزّع شرائح الخيار على وجهي ! يا خسارة ! ليتني رحت قريت سورة من القرآن ولا لعبت مع سارة حبيبتي قبل لا تفقدني ..
وقفت وطالعت جسي .. هالجسم الممشوق بيتمدّد في القبر بعد ساعات .. يا ترى ضلوعي هذي بتلتقي بضمة القبر؟