روح التميمي
01-03-2006, 10:28
حجاب بن عبدالله النحيت الحربي ـ أظن اسمه هكذا ـ أسطورة ورائد الفن الشعبي في نجد خلال ثمانينيات القرن الهجري الماضي .. سليل أسرة ذات مجد وأظن أن والده كان شيخا لأحد بطون القبيلة العربية الشاهقة (حرب).. فنان موهوب متعدد المواهب , فهو شاعر وملحن ومطرب أصيل . فنان جمع بين أصالة البداوة ورقة الحضارة , تسيد الساحة الفنية الشعبية النجدية في وقت لم تتشكل فيه بعد ملامح الفن , لذلك أطلقت عليه لقب (رائد) وهو يستحقه بكل جدارة . بدأ الغناء في بداية الثمانينيات الهجرية ـ على سبيل التخمين لا اليقين ـ واعتزل في منتصف التسعينيات بعد أن ترك إرثا فنيا رائعا جدا ..
حجاب فنان لم تخدمه الظروف , نشأ في بيئة كانت تعد الفن مظهرا من مظاهر المجون والزندقة وربما الكفر , لكنه حطّم القفص وانطلق يغرد بصوته الساحر , وألحانه الشجية , وكلماته المذيبة للقلوب المرهفة , حتى صح أن يطلق عليه في تلك الفترة لقب ( محطّم قلوب العذارى ) , وقد سمعت في أيام طفولتي أنه فعلا حطم قلوب الكثيرات , ورُوي أن ما يقارب الثلاثين من معجباته آنذاك قد أصبن بمظهر من مظاهر الجنون الإعجابي فوقعن صريعات هواه !
حجاب فنان ساحر حقا يملك صوتا ذا طبقات عالية ورخيمة في نفس الوقت , تستطيع أن تتماهى في الكلمة حد الامتزاج الكامل لتقدم سحرا يذيب المشاعر وينقل النفس إلى عالم الخيال والأحلام الملونة .كان يكتب كلمات أغانيه ويلحنها ويؤديها في نفس الوقت .. وفنان بهذه المواصفات نادرا ما يتميز في هذه المجالات بنفس القوة .. لكن حجاب كسر هذه القاعدة , فألحانه مميزة , وأداؤه أداء الفنان الموهوب لا المؤدي .. أما كلماته وخصوصا الغزلية فهي القمة في الشعرية والعذوبة والتأثير , كانت تخالج الشغاف , وتمس المشاعر , وتفتح الخيال .. ولعل من المناسب هنا الإشارة إلى أن الشاعر الهائل خلف الهذال العتيبي (ما غيره!) هو كذلك فنان متعدد المواهب , وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات اتجه إلى الغناء وأصدر عددا من الإسطوانات التي فُرغت في الأشرطة فيما بعد , وكان يقدم نفسه في الإسطوانات على أنه الشاعر خلف العتيبي وليس الفنان , وهذه دقة في التقديم وفهم سليم للواقع , كان خلف موهوبا لكنه لم يصل إلى المرتبة التي تربع عليها الأخطبوط حجاب , حتى في الشعر الغنائي ! أقول هذا الكلام وأنا مرتاح جدا إلى هذه النتيجة التي ستبدو للبعض غريبة بعض الشيء ! خلف شاعر فحل , له باع طويل في الشعر , مبدع في النظم , خطير في المحاورة , شاعر يتصرف في المعاني والمفردات تصرفا يقود إلى الذهول , وفغر الأهواه إعجابا, شاعر يحبس أنفاس المتذوقين ويجعل شهقات الإعجاب تتابع وهو يلقي , لكن نصف ذلك الإعجاب يعود إلى براعته في الإلقاء والدليل أن قصائده تفقد الكثير من رونقها عند قراءتها , وأظن الكاتب المبدع الذي أحترم قلمه وأخالف فكره الأستاذ مشاري الذايدي قد كتب في الشرق الأوسط مقالة عنه قبل ثلاثة أيام تقريبا , لكنني رأيتها ولم أقرأها للأسف لقلة الوقت ! وخلف لم يصل في شعره إلى رقة شعر حجاب , شعر خلف يخاطب العقول , ويروي الذوائق اللغوية , أما حجاب فشعره يناجي القلوب ويلهب الشعور ! تميز شعر حجاب بتقدم الفكر الشعري , وأبدع كثيرا في توظيف الحوار في قصائده توظيفا يجبر المتلقي على الدخول في جو القصيدة والتفاعل نفسيا معها , وأتصور أنه كان يعيش مغامرات عاطفية حقيقية وهي ما سجلها شعره المغنى .. وسأعرض بعد قليل شيئا مما تسعف به الذاكرة من شعره .
ولد حجاب فنيا في فترة عقيمة شاحبة قاحلة .. كان التلفزيون ولا يزال للأسف يهمل الفن الشعبي النجدي خصوصا إهمالا واضحا ومقصودا ! ومع ذلك تم تسجيل عدد من الأغاني لحجاب وغيره ممن جاءوا بعده , لكنها أغانٍ بقيت حبيسة أدراج مكتبة التلفزيون ولا نراها إلا في البرامج التي تعرض القديم ! التلفزيون لم يكن يُعنى من الغناء إلا بالذي يُؤدى مع فرقة موسيقية , وتناسى أن الفن الشعبي وهو امتداد للفن العربي الأصيل من أيام الموصلي وزرياب وغيرهم لا يقوم إلى على ملك اللآلات الموسيقية ورمز الموسيقى العربية الخالد : العود ! سجل حجاب وغيره بعض الأغاني في التلفزيون بمصاحبة فرقة التلفزيون لكن ما سجله لا يرقى لمستوى ما غناه في الأسطوانات , والعيب ليس في حجاب بل في تقديم الشيء في غير قالبه !ولا شك في أن الكثير منكم شاهد مهرجان الدوحة العام الماضي الذي خُصّص أحد أيامه للفن الشعبي , وكانت (ضربة معلم) من القائمين على المهرجان , لكن لم يُكتب لها النجاح المأمول بسبب خطأ بسيط جدا , وهو في تصوري أنهم أرادوا أن يُؤدى الفن الشعبي بالآلات الموسيقية العربية والغربية التي تُؤدى بها أغاني الرقص ! وهذا هو خطأ كل من يُقدم متحمسا على الاحتفاء بالفن الشعبي والفنانين الشعبيين وينهج أسلوبا لا يليق به ولا يخدمه .. في المهرجان فشل سعد جمعة ـ وهو في ذوقي فاشل أصلا !ـ وفشل بديّع مسعود الذي لم أكن أعرفه من قبل , وربما هذا عيب فيّ لا فيه ! وبديّع هذا حسب ما فهمت قدمه إلى مجد المهرجان لحن قدمه للفنانة الكويتية نوال ! وربما كان ملحنا أكثر منه مطربا . فشل أسطورة وملك السامري وأعظم الفنانين الشعبيين بلا تحفظ , صاحب الصوت الرخيم سلامة العبدالله , لكن فشله يعود إلى أنه انتهى صوتا وصحة قبل المهرجان فجاء إلى المهرجان خيالا لا إنسانا ! رأيته وكدت أبكي , والله إني خرجت من المنزل وقتها دامع العين , وكنت متحمسا لرؤية (أبوعبدالله), خرجت بعد أن رأيته يذبح مجده الفني بأخطاء في الصوت واللحن والأداء , كان يعاني فعلا , وكان حديث عهد بجلطة هدت ما تبقى من جسده وفنه ! وحده حمد الطيار الذي حفظ ماء الفن الشعبي في المهرجان , مع أن أباناصر كان وقتها ولا يزال يعاني من ظروف نفسية واجتماعية شديدة , إضافة إلى أنه فقد الكثير من مهاراته الهائلة في الصوت والأداء , الطيار ـ شأنه شأن كل البشر ـ تراخت كل مواهبه إلا العزف ! فلا يزال أعظم عازف للعود في الجزيرة العربية على الإطلاق على رغم أنف ذوي الألقاب المتوجين ـ إعلاميا لا واقعا ـ ملوكا للعزف (هذا رأي شخصي قد يكون متهوّرا فعلا لكنه صادر عن اقتناع مطلق)! ومع ذلك لم يفلح الطيار في إقناع من أتوا ليشاهدوا الفن الشعبي إلا عندما انفرد في الفقرة الحرة ليصدح بأغنيته الشهيرة (عطاشا) على العود والمراويس والطيران !
ثم أعود إلى حجاب .. وأقول إنه غنى أغاني خالدة فيها من العذوبة في المعاني والألفاظ والألحان ما يخلب اللب وينعش الروح .. ومن أجمل أغانيه المتكاملة فنيا أغنية (كلامك صح) التي يقول مطلعها :
كلامك صح ولا تشرح . . لا تضرب ولا تطرح
ولو تخطي راح أقول لك تمزح . . ذا دليل إنك ساحرني
ومنها :
الحاجة اللي تعملها . . تسوى الدنيا باكملها
من أعلاها لأسفلها . . وأكثر من هذا اعذرني
أحلى من الما للعطشان . . ومن الصحة للمرضان
ومن النوم للسهران . . فضلك لما يغمرني
ومن أغانيه الجميلة أغنية (تجري بي الأقدار) التي يقول مطلعها :
تجري بي الأقدار من غير ما اختار . . أصبر ولو بانت علي الهزيعه
يا ما صبرت مرار ومرار ومرار . . خايف على السر من الأعدا تذيعه
ومنها :
راع الهوى عزّام جزّام صبار . . يبرك لحمل النوق ماتستطيعه
ومن أغانيه الرائعة ( ياويل من يجرحنه) ويبدو أنها لها قصة حقيقية خلدها في أبيات القصيدة ومطلعها :
يا ويل من يجرحنّه . . بيض العذارى المفاريع
ومن أغنياته الحلوة (سلم علي) وتقول كلماتها :
سلّم علي بكف ألين من الديباج . . يابخت كفي يوم لمّس أياديها
تمايل بجسم ينطوي كنّه الكرباج . . تذوب القلوب العاشقة من تثنّيها!
بالله عليكم هل رأيتم أعذب من هذا الكلام , وأجمل من هذا الوصف , تشبيه الجسم بالكرباج وهو السوط من فلتات الخيال حقا !
ومن أغنياته كذلك (مرت سنين أرتجي) , وتقول كلماتها :
مرت سنين أرتجي . . وأنتي تقولي لي ما أجي
الله يسهل مخرجي . . راس السلامة مكسبي
أول تقولي لي هلا . . ثم تجيبي لي البلا
لا لا لا لا لا لا لا . . أنا ترى ماني غبي!
أما أغنية (بس شعليكم مني) فهي الغاية في الروعة , ويقال إنه قالها ارتجالا عندما حاصرته جماعته ونصحته بترك الغناء لمخالفته التقاليد والعادات , حيث أمسك بالعود بحضرتهم ثم صدح :
بس شعليكم مني . . وش لكم بي وبفني
يمكن مجبور أغني . . لو ماهي طبايعنا
يمكن أكثركم سالي . . ما يدري شي عن حالي
وأنا الشر يعبى لي . . في حانا ومانا ضعنا!
ثم ترك خطابهم والتفت يناجي محبوبته في خياله بحضرتهم أيضا قائلا :
حنّي لي يا محنّة . . ترى قربك لي جنة
كلمة لو فيها منّة . . ترى كلش يقنعنا
والغريب أن حجاب كان يقدم في بعض قصائده بعض اللفتات الطريفة , وكان يوظف كل مظاهر الأحداث المؤثرة في المجتمع , ففي أواسط الثمانينيات الهجرية كان دخول التلفزيون الحدث الاجتماعي الأعظم (في الرياض1385هـ وفي القصيم 1387هـ) فقال مخاطبا معلمة محبوبته الطالبة وموظفا بعض المصطلحات التلفزيونية :
يا معلمة يامعلمة يامعلمة
أعطيها دروس زيادة .. حتى تنال الشهادة
ندخل جو السعادة نعمل حفلة ..
قلبي عامل له تلفزيون ليراها على الشاشة
فرّحني لكن مابيك وشاشة قلبي غشاشة
به تقرب خطوات .. وتقدم وردات
وكل تخيلات ..إلخ
أما أعظم أغانيه على الإطلاق كلمة ولحنا وأداء فهي في نظري (عودي علي) وسأعرضها هنا , وأدعوكم إلى تأمل العذوبة في البيت الذي يذكر محلات الحبيبة والبيت الذي يشاهد فيه ثيابها المعلقة :
عودي علي بسرعة تسبق البرق . . عودي ترى الفرقى تهدد حياتي
يا منيتي من بيض من سمر زرق . . يارغبتي ياغايتي ياغناتي
امشي من الطايف على وجهة الشرق . . أرجو التوجّه باسرع الطائراتي
هذا محل الضحك والمزح والقرق . . وهذا محطّ المعطفه والعباتي
تطرق ضلوعي من سبب بعدكم طرق . . القلب يضربهن وهن مقفلاتي
وانوح نوح مطوّقات من الورق . . لا شفت بعض ثيابك معلقاتي
موتي حدث لا هوب ذبحٍ ولا حرق . . شهيد حب أمواجك المرسلاتي
وأخيرا ..هذه النصوص المعروضة ليست كل ما في فن حجاب من الروعة , ولا شك أن هناك ماهو أجمل منها , لكنها تبقى النصوص التي أسعفتني بها الذاكرة هنا .. وعرضت لكم جانبا منها وهو الكلمة الشعرية .. وإن كانت ممتعة هنا فإن متعتها الأعظم لا تكتمل إلا باكتمال بُعديها الآخرين وأعني بهما اللحن والأداء .. هذه وقفة وفاء لساحر الفن الشعبي وبلبله الذي ظل يصدح فترة من الزمن .. فترك الفن واتجه إلى التجارة حتى أصبح من كبار التجار ومن منسوبي المجتمع المخملي , وأسواق حجاب الواقعة في حي النسيم بالرياض سُميت باسمه لأنه منشئها ومالكها وقت الإنشاء وربما إلى الآن . قرأت مقابلة أجرتها معه مجلة اليمامة قبل عشرين عاما تقريبا , ولم يبق منها في ذاكرتي سوى كلمة قالها وأثارت حفيظتي آنذاك وهي (أنا أربي أولادي لخدمة الوطن وخدمة الهلال !) وكنت وقتها نصراويا متعصبا ولازلت ولكن من غير تعصب ! فمزقت المجلة وكدت أكسّر الأشرطة التي تحوي أغانيه عندي من القهر ..!!
حجاب فنان لم تخدمه الظروف , نشأ في بيئة كانت تعد الفن مظهرا من مظاهر المجون والزندقة وربما الكفر , لكنه حطّم القفص وانطلق يغرد بصوته الساحر , وألحانه الشجية , وكلماته المذيبة للقلوب المرهفة , حتى صح أن يطلق عليه في تلك الفترة لقب ( محطّم قلوب العذارى ) , وقد سمعت في أيام طفولتي أنه فعلا حطم قلوب الكثيرات , ورُوي أن ما يقارب الثلاثين من معجباته آنذاك قد أصبن بمظهر من مظاهر الجنون الإعجابي فوقعن صريعات هواه !
حجاب فنان ساحر حقا يملك صوتا ذا طبقات عالية ورخيمة في نفس الوقت , تستطيع أن تتماهى في الكلمة حد الامتزاج الكامل لتقدم سحرا يذيب المشاعر وينقل النفس إلى عالم الخيال والأحلام الملونة .كان يكتب كلمات أغانيه ويلحنها ويؤديها في نفس الوقت .. وفنان بهذه المواصفات نادرا ما يتميز في هذه المجالات بنفس القوة .. لكن حجاب كسر هذه القاعدة , فألحانه مميزة , وأداؤه أداء الفنان الموهوب لا المؤدي .. أما كلماته وخصوصا الغزلية فهي القمة في الشعرية والعذوبة والتأثير , كانت تخالج الشغاف , وتمس المشاعر , وتفتح الخيال .. ولعل من المناسب هنا الإشارة إلى أن الشاعر الهائل خلف الهذال العتيبي (ما غيره!) هو كذلك فنان متعدد المواهب , وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات اتجه إلى الغناء وأصدر عددا من الإسطوانات التي فُرغت في الأشرطة فيما بعد , وكان يقدم نفسه في الإسطوانات على أنه الشاعر خلف العتيبي وليس الفنان , وهذه دقة في التقديم وفهم سليم للواقع , كان خلف موهوبا لكنه لم يصل إلى المرتبة التي تربع عليها الأخطبوط حجاب , حتى في الشعر الغنائي ! أقول هذا الكلام وأنا مرتاح جدا إلى هذه النتيجة التي ستبدو للبعض غريبة بعض الشيء ! خلف شاعر فحل , له باع طويل في الشعر , مبدع في النظم , خطير في المحاورة , شاعر يتصرف في المعاني والمفردات تصرفا يقود إلى الذهول , وفغر الأهواه إعجابا, شاعر يحبس أنفاس المتذوقين ويجعل شهقات الإعجاب تتابع وهو يلقي , لكن نصف ذلك الإعجاب يعود إلى براعته في الإلقاء والدليل أن قصائده تفقد الكثير من رونقها عند قراءتها , وأظن الكاتب المبدع الذي أحترم قلمه وأخالف فكره الأستاذ مشاري الذايدي قد كتب في الشرق الأوسط مقالة عنه قبل ثلاثة أيام تقريبا , لكنني رأيتها ولم أقرأها للأسف لقلة الوقت ! وخلف لم يصل في شعره إلى رقة شعر حجاب , شعر خلف يخاطب العقول , ويروي الذوائق اللغوية , أما حجاب فشعره يناجي القلوب ويلهب الشعور ! تميز شعر حجاب بتقدم الفكر الشعري , وأبدع كثيرا في توظيف الحوار في قصائده توظيفا يجبر المتلقي على الدخول في جو القصيدة والتفاعل نفسيا معها , وأتصور أنه كان يعيش مغامرات عاطفية حقيقية وهي ما سجلها شعره المغنى .. وسأعرض بعد قليل شيئا مما تسعف به الذاكرة من شعره .
ولد حجاب فنيا في فترة عقيمة شاحبة قاحلة .. كان التلفزيون ولا يزال للأسف يهمل الفن الشعبي النجدي خصوصا إهمالا واضحا ومقصودا ! ومع ذلك تم تسجيل عدد من الأغاني لحجاب وغيره ممن جاءوا بعده , لكنها أغانٍ بقيت حبيسة أدراج مكتبة التلفزيون ولا نراها إلا في البرامج التي تعرض القديم ! التلفزيون لم يكن يُعنى من الغناء إلا بالذي يُؤدى مع فرقة موسيقية , وتناسى أن الفن الشعبي وهو امتداد للفن العربي الأصيل من أيام الموصلي وزرياب وغيرهم لا يقوم إلى على ملك اللآلات الموسيقية ورمز الموسيقى العربية الخالد : العود ! سجل حجاب وغيره بعض الأغاني في التلفزيون بمصاحبة فرقة التلفزيون لكن ما سجله لا يرقى لمستوى ما غناه في الأسطوانات , والعيب ليس في حجاب بل في تقديم الشيء في غير قالبه !ولا شك في أن الكثير منكم شاهد مهرجان الدوحة العام الماضي الذي خُصّص أحد أيامه للفن الشعبي , وكانت (ضربة معلم) من القائمين على المهرجان , لكن لم يُكتب لها النجاح المأمول بسبب خطأ بسيط جدا , وهو في تصوري أنهم أرادوا أن يُؤدى الفن الشعبي بالآلات الموسيقية العربية والغربية التي تُؤدى بها أغاني الرقص ! وهذا هو خطأ كل من يُقدم متحمسا على الاحتفاء بالفن الشعبي والفنانين الشعبيين وينهج أسلوبا لا يليق به ولا يخدمه .. في المهرجان فشل سعد جمعة ـ وهو في ذوقي فاشل أصلا !ـ وفشل بديّع مسعود الذي لم أكن أعرفه من قبل , وربما هذا عيب فيّ لا فيه ! وبديّع هذا حسب ما فهمت قدمه إلى مجد المهرجان لحن قدمه للفنانة الكويتية نوال ! وربما كان ملحنا أكثر منه مطربا . فشل أسطورة وملك السامري وأعظم الفنانين الشعبيين بلا تحفظ , صاحب الصوت الرخيم سلامة العبدالله , لكن فشله يعود إلى أنه انتهى صوتا وصحة قبل المهرجان فجاء إلى المهرجان خيالا لا إنسانا ! رأيته وكدت أبكي , والله إني خرجت من المنزل وقتها دامع العين , وكنت متحمسا لرؤية (أبوعبدالله), خرجت بعد أن رأيته يذبح مجده الفني بأخطاء في الصوت واللحن والأداء , كان يعاني فعلا , وكان حديث عهد بجلطة هدت ما تبقى من جسده وفنه ! وحده حمد الطيار الذي حفظ ماء الفن الشعبي في المهرجان , مع أن أباناصر كان وقتها ولا يزال يعاني من ظروف نفسية واجتماعية شديدة , إضافة إلى أنه فقد الكثير من مهاراته الهائلة في الصوت والأداء , الطيار ـ شأنه شأن كل البشر ـ تراخت كل مواهبه إلا العزف ! فلا يزال أعظم عازف للعود في الجزيرة العربية على الإطلاق على رغم أنف ذوي الألقاب المتوجين ـ إعلاميا لا واقعا ـ ملوكا للعزف (هذا رأي شخصي قد يكون متهوّرا فعلا لكنه صادر عن اقتناع مطلق)! ومع ذلك لم يفلح الطيار في إقناع من أتوا ليشاهدوا الفن الشعبي إلا عندما انفرد في الفقرة الحرة ليصدح بأغنيته الشهيرة (عطاشا) على العود والمراويس والطيران !
ثم أعود إلى حجاب .. وأقول إنه غنى أغاني خالدة فيها من العذوبة في المعاني والألفاظ والألحان ما يخلب اللب وينعش الروح .. ومن أجمل أغانيه المتكاملة فنيا أغنية (كلامك صح) التي يقول مطلعها :
كلامك صح ولا تشرح . . لا تضرب ولا تطرح
ولو تخطي راح أقول لك تمزح . . ذا دليل إنك ساحرني
ومنها :
الحاجة اللي تعملها . . تسوى الدنيا باكملها
من أعلاها لأسفلها . . وأكثر من هذا اعذرني
أحلى من الما للعطشان . . ومن الصحة للمرضان
ومن النوم للسهران . . فضلك لما يغمرني
ومن أغانيه الجميلة أغنية (تجري بي الأقدار) التي يقول مطلعها :
تجري بي الأقدار من غير ما اختار . . أصبر ولو بانت علي الهزيعه
يا ما صبرت مرار ومرار ومرار . . خايف على السر من الأعدا تذيعه
ومنها :
راع الهوى عزّام جزّام صبار . . يبرك لحمل النوق ماتستطيعه
ومن أغانيه الرائعة ( ياويل من يجرحنه) ويبدو أنها لها قصة حقيقية خلدها في أبيات القصيدة ومطلعها :
يا ويل من يجرحنّه . . بيض العذارى المفاريع
ومن أغنياته الحلوة (سلم علي) وتقول كلماتها :
سلّم علي بكف ألين من الديباج . . يابخت كفي يوم لمّس أياديها
تمايل بجسم ينطوي كنّه الكرباج . . تذوب القلوب العاشقة من تثنّيها!
بالله عليكم هل رأيتم أعذب من هذا الكلام , وأجمل من هذا الوصف , تشبيه الجسم بالكرباج وهو السوط من فلتات الخيال حقا !
ومن أغنياته كذلك (مرت سنين أرتجي) , وتقول كلماتها :
مرت سنين أرتجي . . وأنتي تقولي لي ما أجي
الله يسهل مخرجي . . راس السلامة مكسبي
أول تقولي لي هلا . . ثم تجيبي لي البلا
لا لا لا لا لا لا لا . . أنا ترى ماني غبي!
أما أغنية (بس شعليكم مني) فهي الغاية في الروعة , ويقال إنه قالها ارتجالا عندما حاصرته جماعته ونصحته بترك الغناء لمخالفته التقاليد والعادات , حيث أمسك بالعود بحضرتهم ثم صدح :
بس شعليكم مني . . وش لكم بي وبفني
يمكن مجبور أغني . . لو ماهي طبايعنا
يمكن أكثركم سالي . . ما يدري شي عن حالي
وأنا الشر يعبى لي . . في حانا ومانا ضعنا!
ثم ترك خطابهم والتفت يناجي محبوبته في خياله بحضرتهم أيضا قائلا :
حنّي لي يا محنّة . . ترى قربك لي جنة
كلمة لو فيها منّة . . ترى كلش يقنعنا
والغريب أن حجاب كان يقدم في بعض قصائده بعض اللفتات الطريفة , وكان يوظف كل مظاهر الأحداث المؤثرة في المجتمع , ففي أواسط الثمانينيات الهجرية كان دخول التلفزيون الحدث الاجتماعي الأعظم (في الرياض1385هـ وفي القصيم 1387هـ) فقال مخاطبا معلمة محبوبته الطالبة وموظفا بعض المصطلحات التلفزيونية :
يا معلمة يامعلمة يامعلمة
أعطيها دروس زيادة .. حتى تنال الشهادة
ندخل جو السعادة نعمل حفلة ..
قلبي عامل له تلفزيون ليراها على الشاشة
فرّحني لكن مابيك وشاشة قلبي غشاشة
به تقرب خطوات .. وتقدم وردات
وكل تخيلات ..إلخ
أما أعظم أغانيه على الإطلاق كلمة ولحنا وأداء فهي في نظري (عودي علي) وسأعرضها هنا , وأدعوكم إلى تأمل العذوبة في البيت الذي يذكر محلات الحبيبة والبيت الذي يشاهد فيه ثيابها المعلقة :
عودي علي بسرعة تسبق البرق . . عودي ترى الفرقى تهدد حياتي
يا منيتي من بيض من سمر زرق . . يارغبتي ياغايتي ياغناتي
امشي من الطايف على وجهة الشرق . . أرجو التوجّه باسرع الطائراتي
هذا محل الضحك والمزح والقرق . . وهذا محطّ المعطفه والعباتي
تطرق ضلوعي من سبب بعدكم طرق . . القلب يضربهن وهن مقفلاتي
وانوح نوح مطوّقات من الورق . . لا شفت بعض ثيابك معلقاتي
موتي حدث لا هوب ذبحٍ ولا حرق . . شهيد حب أمواجك المرسلاتي
وأخيرا ..هذه النصوص المعروضة ليست كل ما في فن حجاب من الروعة , ولا شك أن هناك ماهو أجمل منها , لكنها تبقى النصوص التي أسعفتني بها الذاكرة هنا .. وعرضت لكم جانبا منها وهو الكلمة الشعرية .. وإن كانت ممتعة هنا فإن متعتها الأعظم لا تكتمل إلا باكتمال بُعديها الآخرين وأعني بهما اللحن والأداء .. هذه وقفة وفاء لساحر الفن الشعبي وبلبله الذي ظل يصدح فترة من الزمن .. فترك الفن واتجه إلى التجارة حتى أصبح من كبار التجار ومن منسوبي المجتمع المخملي , وأسواق حجاب الواقعة في حي النسيم بالرياض سُميت باسمه لأنه منشئها ومالكها وقت الإنشاء وربما إلى الآن . قرأت مقابلة أجرتها معه مجلة اليمامة قبل عشرين عاما تقريبا , ولم يبق منها في ذاكرتي سوى كلمة قالها وأثارت حفيظتي آنذاك وهي (أنا أربي أولادي لخدمة الوطن وخدمة الهلال !) وكنت وقتها نصراويا متعصبا ولازلت ولكن من غير تعصب ! فمزقت المجلة وكدت أكسّر الأشرطة التي تحوي أغانيه عندي من القهر ..!!