خالد الشمري
06-10-2005, 22:37
( الصوم لي )
عنوان مقال في جريدة الجزيرة للشيخ الفاضل الدكتور سلمان العودة بعنوان ( الصوم لي ) وهي الثانية من هذه السلسلة التربوية
:
المقال:
الصوم لي (2)
د. سلمان العودة
أخي الصائم الحبيب، قد مضى من العمر ما مضى، وكأن الواحد منا أعطي صكاً بالخلود.
نخطو وما خطونا إلا إلى الأجل
وننقضي وكأن العمر لم يطل
والعيش يؤذننا بالموت أوله
ونحن نرغب في الأيام والدول
سلّى عن العيش أنا لا ندوم له
وهوّن الموت ما نلقى من العلل
ونستلذ الأماني وهي مردية
كشارب السمّ ممزوجاً مع العسل
إن الصوم عبادة شريفة، ويكفيه شرفاً أن الصوم لم يعبد به غير الله ففي حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله عز وجل:
(الصومُ لي وأنا أجزي) (1).
وقد أفاد جمع من العلماء، كابن حجر وغيره، أن سبب الإضافة إلى الله: أن الصيام لم يعبد به غير الله بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك (2).
والصوم له ظاهر وباطن، فظاهر الصوم كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وباطن الصوم الكف عما سوى الله، فيحفظ الصائم الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته.
أهل الخصوص من الصوام صومهم
صون اللسان عن البهتان والكذب
والصالحون وأهل الصدق صومهم
صون القلوب عن الأغيار والحجب
والصوم مدرسة ربانية، ومحضن إيماني، يتلقى فيه الصائم دروس الأخلاق، ويتربى على جميل الطباع وما أطيب أن يتعاقد الصائم مع نفسه منذ أول شهر على أن يعنى بواحد من الأخلاق الرفيعة - على أقل تقدير - فيتعاهد نفسه ويراقبها ويحاسبها ويعاتبها حتى تلين وتنقاد ومن ذلك:
1- غض البصر عن محارم الله.
قال تعالى {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (النور:30)
{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور:31)
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم) (3).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه:
(يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأُولى وليست لك الآخرة) (4).
وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبدالله قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: حفظ البصر أشد من حفظ اللسان (5).
وقال أيضاً: الإثم حواز القلوب وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع (6).
وما أكثر المناظر التي أصبح من المحتم فطام النظر عنها، فالقنوات الفضائية التي يتفنن القائمون عليها باختيار الوجوه الحسان، والقامات الرشيقة، والأصوات الناعمة، والمواقع الالكترونية المختلفة التي يصل بعضها إلى حد الإباحية، ونشر الرذيلة والعري، والمتاجرة بالأجساد، والصور التي تقابل المرء حتى في إعلانات الشوارع في بلاد الإسلام، أو في الصحف والمجلات والأسواق التي تكتظ بالنساء، وفيهن المحجبة العفيفة المصونة، والمتبرجة المتطلعة الفاتنة المفتونة، حتى أصبحت مجاهدة النفس على غض البصر من أهم المهمات، وصار الفشل فيها لدى الشباب ذريعة إلى الوقوع في الفحشاء، والانقطاع عن عمل الخير، وضعف تأثير العبادة كالصوم والصلاة.
ولغض البصر عما حرم الله فوائد منها:
أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده، وهو يمنع وصول أثر السهم المسموم الذي ربما هلاك قلبه فيه:
كل الحوادث مبداها من النظر
ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها
في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته
لا مرحباً بسرور جاء بالضرر
والغض يورث القلب أنساً بالله واسترواحاً لذكره، ويقوي القلب ويفرحه، كما أن النظر إلى المحرمات يضعف القلب ويحزنه، وغض البصر يكسب القلب نوراً كما أن إطلاقه يورثه ظلمة، والقلب المشرق كالمرآة المصقولة تنكشف عليها الحقائق وتنعكس عليها الصور الصادقة، وهو يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحقق والمبطل والصادق والكاذب، ولذا كان المؤمن يرى بنور الله.
ويورث القلب شجاعة وقوة ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، ومثله يصرع شياطين الإنس والجن فلا يقاربونه ولا يدانونه، ويسد على الشيطان مدخله إلى القلب فإنه يسرع إلى القلب مع النظرة أسرع من الهواء إلى المكان الخالي.
ويفرغ القلب الى مصالحه والاشتغال بها فيقبل على صلاته بخشوع، أو يقبل على دراسته أو عمله أو وظيفته برغبة واهتمام وانصراف تام، وإذا فسد النظر فسد القلب، وإذا فسد القلب فسد النظر فإن بينهما منفذاً يشغل أحدهما بما يشغل به الآخر.
2- ومنها حفظ اللسان
وحق على كل مكلّف ان يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه بل هذا كثير أو غالب في العادة والسلامة لا يعدلها شيء (7).
وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: لما نزلت
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال: كُنّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه: أنزل في الذهب والفضة ما أُنزل لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال: (أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه) (8).
وفي المتفق عليه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت). وفيهما: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).
وفيهما: عن أبي هريرة سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
(إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق).
وفي الترمذي: (أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك). وفيه: (ثكلتك أُمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم)..
وعن ابن مسعود قال: ما من شيء أحق بالسجن من اللسان.
ويروى أن قسّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه:
كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجدت خصلة ان استعملتها سترت العيوب كلها.
قال: ما هي؟
قال: حفظ اللسان.
من آفات اللسان:
- الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع، والفخر بالأحساب، وإثارة النزعات العنصرية والقبلية والاقليمية التي تفرق وحدة المجتمع والأمة، مع قوله سبحانه:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) والحسب هو التقوى والعلم وحسن الخلق، وليس أن يكون أبوك فلاناً أو فلاناً!
- الافتخار.
- التحديث بكل ما سمع إذا لم يظن صحته، وفي صحيح مسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع). وفي محكم التنزيل: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}الحجرات:6).
وفي قراءة: (فتثبتوا).
- اظهار الشماتة بالمسلم.
- احتقار المسلمين والسخرية منهم، بأشكالهم أو صورهم أو طريقة حديثهم.
- شهادة الزور، ومعنى شهوده، أي: حضوره، كما تعني: الشهادة أمام القاضي بغير الحق.
- المن بالعطية ونحوها.
ومن أعظم آفات اللسان عامة، وفي رمضان خاصة: آفة الغيبة.
فالغيبة تضر بالصيام وقد حكي عن عائشة وبه قال الأوزاعي إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأفرط ابن حزم فقال: يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكراً لصومه سواء كانت فعلا أو قولا. (9).
والصواب أنها تخدش الصوم، وتنقص أجره، لكنها لا تبطله ولا توجب القضاء. والغيبة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هي: (ذكرك أخاك بما يكره). قيل: أفرايت إن كان في أخي ما أقول؟
قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته) (10).
سواء كان ذلك في بدن الشخص، او دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلْقِهِ، أو خُلُقه أو ماله، أو والده، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز (11).
وللغيبة أسباب تبعث عليها منها:
الاستهزاء الناشئ عن الكبر والتعاظم، وتحقر الآخرين بسبب الحسد على ما آتاهم الله، ورفع النفس وتزكيتها، ومحاولة تبرئتها مما ينسبه المغتاب لمن يغتابه، وقد يبعث عليها مجاملة الجالسين، وخشية نفرتهم إن لم يشاركهم.
ومن أعظم أسبابها: حب الانتقام، وشفاء النفس عن طريق ذكر المساوئ والسلبيات حتى تعويضاً، كقول بعضهم - نسأل الله العافية -: فلان كذا، أو حصل منه كذا.
وبالجملة فكل قدح في الغير مما يكرهه فلا يحل وهو من الغيبة، وهي درجات فبعضها أعظم من بعض، بحسب من تكلم فيه منزلة، وبحسب المقالة التي قيلت فيه، فمن اغتاب إنساناً في دينه فهذا أعظم من القدح في لون ثوبه او طريقة مشيه وهكذا، وهذا كله إذا كان الباعث له السبب الدنيوي دون سبب أو عذر مبيح.
أما من تكلم تحذيراً للأمة من الشرور والآثام والمبادئ المنحرفة وأهلها، فهذا ليس من الغيبة في شيء، بل هو من النصيحة لله ولعباده المؤمنين.
لكن مع الانضباط بالضابط الشرعي، وتجريد العمل من شوائب الحظوظ الدنيوية والنفسية، والله المستعان، فاللهم اغفر لنا، ولكل من ظلمناه بقول أو عمل!! آمين يا رب العالمين.
والعجب ان كثيراً من الذنوب العظيمة قد هانت على الناس، وخف وقعها، حتى إن الكبير والصغير والعالم والجاهل يعملها ويكررها، ولا يأنف ولا يستنكف ولا يتردد، بينما يتجادل الناس في مسائل صغيرة، ويعظمون أمرها، ويبالغون في النكير على من خالفهم فيها، وقد تكون من المكروهات، أو مما هو خلاف الأولى، أو من اللمم، أو من صغائر الذنوب، فإلى الله المشتكى.
فيتوجب على الصائم ان يحفظ صومه، وأن يتقي الله في لسانه وبصره وقلبه وجوارحه وأن يحرص على ألا يكون حظه من صيامه الجوع والعطش.
أخي الصائم: اعتنِ هذا العام بأحد هذه الأخلاق العظام، فخذ على نفسك غض البصر، أو حفظ اللسان، وهما من أهم آداب الصائم، وجاهد نفسك عليه طيلة ساعات هذا الشهر وأيامه، حتى يصبح سجيّة وطبعاً لك، وستجد أثر ذلك في حياتك وسلوكك حفظ الله صيامك وتقبل قيامك.
****
الهوامش
1- أخرجه البخاري في صحيحه ج6 ص2723 ح 7054
2- فتح الباري 4-108
3- رواه أحمد وابن أبي الدنيا وابن حبان في صحيحه وقال صحيح الإسناد.
4- رواه أحمد وأبو داود والترمذي، والحاكم في مستدركه، وحسنه الألباني وضعفه غير واحد.
5- الورع لابن ابي الدنيا 1-62
6- الترغيب والترهيب 3-36
7- الأذكار للنووي (جزء1- صفحة 775).
8- رواه ابن ماجه والترمذي وصححه الألباني.
9- فتح الباري 4-125
10- أخرجه مسلم برقم:2589، وابو داود برقم: 4874، والترمذي برقم: 1934 والنسائي في التفسير برقم: 538، وأحمد في المسند: 2- 230، 384، 386
11- فتح الباري10-469
**اخي القارئ لاتحرمنا دعائك عند قراءة هذا الموضوع
عنوان مقال في جريدة الجزيرة للشيخ الفاضل الدكتور سلمان العودة بعنوان ( الصوم لي ) وهي الثانية من هذه السلسلة التربوية
:
المقال:
الصوم لي (2)
د. سلمان العودة
أخي الصائم الحبيب، قد مضى من العمر ما مضى، وكأن الواحد منا أعطي صكاً بالخلود.
نخطو وما خطونا إلا إلى الأجل
وننقضي وكأن العمر لم يطل
والعيش يؤذننا بالموت أوله
ونحن نرغب في الأيام والدول
سلّى عن العيش أنا لا ندوم له
وهوّن الموت ما نلقى من العلل
ونستلذ الأماني وهي مردية
كشارب السمّ ممزوجاً مع العسل
إن الصوم عبادة شريفة، ويكفيه شرفاً أن الصوم لم يعبد به غير الله ففي حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله عز وجل:
(الصومُ لي وأنا أجزي) (1).
وقد أفاد جمع من العلماء، كابن حجر وغيره، أن سبب الإضافة إلى الله: أن الصيام لم يعبد به غير الله بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك (2).
والصوم له ظاهر وباطن، فظاهر الصوم كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وباطن الصوم الكف عما سوى الله، فيحفظ الصائم الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته.
أهل الخصوص من الصوام صومهم
صون اللسان عن البهتان والكذب
والصالحون وأهل الصدق صومهم
صون القلوب عن الأغيار والحجب
والصوم مدرسة ربانية، ومحضن إيماني، يتلقى فيه الصائم دروس الأخلاق، ويتربى على جميل الطباع وما أطيب أن يتعاقد الصائم مع نفسه منذ أول شهر على أن يعنى بواحد من الأخلاق الرفيعة - على أقل تقدير - فيتعاهد نفسه ويراقبها ويحاسبها ويعاتبها حتى تلين وتنقاد ومن ذلك:
1- غض البصر عن محارم الله.
قال تعالى {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (النور:30)
{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور:31)
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم) (3).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه:
(يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأُولى وليست لك الآخرة) (4).
وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبدالله قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: حفظ البصر أشد من حفظ اللسان (5).
وقال أيضاً: الإثم حواز القلوب وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع (6).
وما أكثر المناظر التي أصبح من المحتم فطام النظر عنها، فالقنوات الفضائية التي يتفنن القائمون عليها باختيار الوجوه الحسان، والقامات الرشيقة، والأصوات الناعمة، والمواقع الالكترونية المختلفة التي يصل بعضها إلى حد الإباحية، ونشر الرذيلة والعري، والمتاجرة بالأجساد، والصور التي تقابل المرء حتى في إعلانات الشوارع في بلاد الإسلام، أو في الصحف والمجلات والأسواق التي تكتظ بالنساء، وفيهن المحجبة العفيفة المصونة، والمتبرجة المتطلعة الفاتنة المفتونة، حتى أصبحت مجاهدة النفس على غض البصر من أهم المهمات، وصار الفشل فيها لدى الشباب ذريعة إلى الوقوع في الفحشاء، والانقطاع عن عمل الخير، وضعف تأثير العبادة كالصوم والصلاة.
ولغض البصر عما حرم الله فوائد منها:
أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده، وهو يمنع وصول أثر السهم المسموم الذي ربما هلاك قلبه فيه:
كل الحوادث مبداها من النظر
ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها
في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته
لا مرحباً بسرور جاء بالضرر
والغض يورث القلب أنساً بالله واسترواحاً لذكره، ويقوي القلب ويفرحه، كما أن النظر إلى المحرمات يضعف القلب ويحزنه، وغض البصر يكسب القلب نوراً كما أن إطلاقه يورثه ظلمة، والقلب المشرق كالمرآة المصقولة تنكشف عليها الحقائق وتنعكس عليها الصور الصادقة، وهو يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحقق والمبطل والصادق والكاذب، ولذا كان المؤمن يرى بنور الله.
ويورث القلب شجاعة وقوة ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، ومثله يصرع شياطين الإنس والجن فلا يقاربونه ولا يدانونه، ويسد على الشيطان مدخله إلى القلب فإنه يسرع إلى القلب مع النظرة أسرع من الهواء إلى المكان الخالي.
ويفرغ القلب الى مصالحه والاشتغال بها فيقبل على صلاته بخشوع، أو يقبل على دراسته أو عمله أو وظيفته برغبة واهتمام وانصراف تام، وإذا فسد النظر فسد القلب، وإذا فسد القلب فسد النظر فإن بينهما منفذاً يشغل أحدهما بما يشغل به الآخر.
2- ومنها حفظ اللسان
وحق على كل مكلّف ان يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه بل هذا كثير أو غالب في العادة والسلامة لا يعدلها شيء (7).
وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: لما نزلت
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال: كُنّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه: أنزل في الذهب والفضة ما أُنزل لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال: (أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه) (8).
وفي المتفق عليه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت). وفيهما: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).
وفيهما: عن أبي هريرة سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
(إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق).
وفي الترمذي: (أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك). وفيه: (ثكلتك أُمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم)..
وعن ابن مسعود قال: ما من شيء أحق بالسجن من اللسان.
ويروى أن قسّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه:
كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجدت خصلة ان استعملتها سترت العيوب كلها.
قال: ما هي؟
قال: حفظ اللسان.
من آفات اللسان:
- الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع، والفخر بالأحساب، وإثارة النزعات العنصرية والقبلية والاقليمية التي تفرق وحدة المجتمع والأمة، مع قوله سبحانه:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) والحسب هو التقوى والعلم وحسن الخلق، وليس أن يكون أبوك فلاناً أو فلاناً!
- الافتخار.
- التحديث بكل ما سمع إذا لم يظن صحته، وفي صحيح مسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع). وفي محكم التنزيل: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}الحجرات:6).
وفي قراءة: (فتثبتوا).
- اظهار الشماتة بالمسلم.
- احتقار المسلمين والسخرية منهم، بأشكالهم أو صورهم أو طريقة حديثهم.
- شهادة الزور، ومعنى شهوده، أي: حضوره، كما تعني: الشهادة أمام القاضي بغير الحق.
- المن بالعطية ونحوها.
ومن أعظم آفات اللسان عامة، وفي رمضان خاصة: آفة الغيبة.
فالغيبة تضر بالصيام وقد حكي عن عائشة وبه قال الأوزاعي إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأفرط ابن حزم فقال: يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكراً لصومه سواء كانت فعلا أو قولا. (9).
والصواب أنها تخدش الصوم، وتنقص أجره، لكنها لا تبطله ولا توجب القضاء. والغيبة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هي: (ذكرك أخاك بما يكره). قيل: أفرايت إن كان في أخي ما أقول؟
قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته) (10).
سواء كان ذلك في بدن الشخص، او دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلْقِهِ، أو خُلُقه أو ماله، أو والده، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز (11).
وللغيبة أسباب تبعث عليها منها:
الاستهزاء الناشئ عن الكبر والتعاظم، وتحقر الآخرين بسبب الحسد على ما آتاهم الله، ورفع النفس وتزكيتها، ومحاولة تبرئتها مما ينسبه المغتاب لمن يغتابه، وقد يبعث عليها مجاملة الجالسين، وخشية نفرتهم إن لم يشاركهم.
ومن أعظم أسبابها: حب الانتقام، وشفاء النفس عن طريق ذكر المساوئ والسلبيات حتى تعويضاً، كقول بعضهم - نسأل الله العافية -: فلان كذا، أو حصل منه كذا.
وبالجملة فكل قدح في الغير مما يكرهه فلا يحل وهو من الغيبة، وهي درجات فبعضها أعظم من بعض، بحسب من تكلم فيه منزلة، وبحسب المقالة التي قيلت فيه، فمن اغتاب إنساناً في دينه فهذا أعظم من القدح في لون ثوبه او طريقة مشيه وهكذا، وهذا كله إذا كان الباعث له السبب الدنيوي دون سبب أو عذر مبيح.
أما من تكلم تحذيراً للأمة من الشرور والآثام والمبادئ المنحرفة وأهلها، فهذا ليس من الغيبة في شيء، بل هو من النصيحة لله ولعباده المؤمنين.
لكن مع الانضباط بالضابط الشرعي، وتجريد العمل من شوائب الحظوظ الدنيوية والنفسية، والله المستعان، فاللهم اغفر لنا، ولكل من ظلمناه بقول أو عمل!! آمين يا رب العالمين.
والعجب ان كثيراً من الذنوب العظيمة قد هانت على الناس، وخف وقعها، حتى إن الكبير والصغير والعالم والجاهل يعملها ويكررها، ولا يأنف ولا يستنكف ولا يتردد، بينما يتجادل الناس في مسائل صغيرة، ويعظمون أمرها، ويبالغون في النكير على من خالفهم فيها، وقد تكون من المكروهات، أو مما هو خلاف الأولى، أو من اللمم، أو من صغائر الذنوب، فإلى الله المشتكى.
فيتوجب على الصائم ان يحفظ صومه، وأن يتقي الله في لسانه وبصره وقلبه وجوارحه وأن يحرص على ألا يكون حظه من صيامه الجوع والعطش.
أخي الصائم: اعتنِ هذا العام بأحد هذه الأخلاق العظام، فخذ على نفسك غض البصر، أو حفظ اللسان، وهما من أهم آداب الصائم، وجاهد نفسك عليه طيلة ساعات هذا الشهر وأيامه، حتى يصبح سجيّة وطبعاً لك، وستجد أثر ذلك في حياتك وسلوكك حفظ الله صيامك وتقبل قيامك.
****
الهوامش
1- أخرجه البخاري في صحيحه ج6 ص2723 ح 7054
2- فتح الباري 4-108
3- رواه أحمد وابن أبي الدنيا وابن حبان في صحيحه وقال صحيح الإسناد.
4- رواه أحمد وأبو داود والترمذي، والحاكم في مستدركه، وحسنه الألباني وضعفه غير واحد.
5- الورع لابن ابي الدنيا 1-62
6- الترغيب والترهيب 3-36
7- الأذكار للنووي (جزء1- صفحة 775).
8- رواه ابن ماجه والترمذي وصححه الألباني.
9- فتح الباري 4-125
10- أخرجه مسلم برقم:2589، وابو داود برقم: 4874، والترمذي برقم: 1934 والنسائي في التفسير برقم: 538، وأحمد في المسند: 2- 230، 384، 386
11- فتح الباري10-469
**اخي القارئ لاتحرمنا دعائك عند قراءة هذا الموضوع