خالد الشمري
16-06-2005, 01:42
هذه قصة اعجبتني من قصص الشعراء العرب الذين قضوا نحبهم عشقاً
وما أغرب قصة صاحبنا هذه المرة وما أمتعها
فأما هو
فهو بشر الأسيدي من بنى عبد العزى.. شاعر إسلامي متوسط
في طبقته وأحد المتخلفين إلى رسول الله
وأما هي
فهي هند، فتاة من قومه وإحدى فواضل نساء عصرها حسناً
وجمالاً وأما حالتها الإجتماعية فمتزوجة من رجل يقال له
سعد بن سعيد، وأما حالتها العاطفية فعاشقة حتى الثمالة
لبشر
نظرت إليه مرة يوم كان يجتاز بمنزلها قاصداً رسول الله ،
فلم تعد تملك إلاّ أن تنظر إليه دوماً، حتى أدمنت المكوث
كل غداة على دربه تنتظر إجتيازه. فإذا ما مر إضطرب كل
شيء فيها إلا النظرة الثابتة إلى وجهه إلى أن تطويه
المسافة بعيداً عنها، دون أن يكلف نفسه عناء رمي نظرة أو
إلقاء تحية أو القيام بأي حركة تحسسها بشغل حيز في حياته
فتناجي نفسها وتقول
أهواكَ يا بشرُ دون الناس كلهم
وغيركَ يهواني فيمنَعُهُ صدّي
تمرُّ ببابي لست تعرفُ ما الذي
أكابدُ من شوقي إليكَ ومن بُعدي
فياليتني أرضٌ وأنتَ أمامها
تدوسُ بنعليك الكرامِ على خدّي
ويا ليتني نعلاً أقيكَ من الحَفَا
ويا ليتني ثوباً أقيكَ من البَرْدِ
تباتُ خليَّ البالِ من ألمِ الجَوَى
وقلبي كواهُ الحبُّ من شدّةِ الوجدِ
وإنك إن قصَّرت عني ولم تزر
فلابُدَّ بعدَ الصدِّ أدفن في لحدي
ولما تجاوز الحب حدّه، دمّر حدوده وتحول إلى شعر يدوَّن
ورسالة توجه إليه فكتبت ما يعتمر في داخلها، ثم أخذت
الجارية الكتاب وسارت به إلى بشر ولما وصلت إليه سلمت
عليه فرد عليها السلام وسألها عن حاجتها
فقالت الجارية: "إني جارية السيدة هند وقد أرسلتني إليك
بكتاب هذا هو فأخذه وقرأه وفهم معناه ثم إلتفت نحو
الجارية وسألها: هل سيدتك عذراء أم ذات بعل
فقالت الجارية بل متزوجة وزوجها موجود في المدينة
فرد بشر القول بالقول وواجه حبّها بالواجب المفروض عليها
تجاه زوجها ودعاها إلى الإعتصام بكلام الله وقال
عليكِ بتقوى الله والصَّبر إنّه
نهى عن فجور بالنساءِ مُوَحّدُ
وصبراً لأمرِ الله لا تقربي الذي
نهَى الهُ عنه والنبيّ محمدُ
فلا تطمعي في أن أزوركِ طائعاً
وأنت لغيري بالخناءِ معوّدُ
وأخذت الجارية الكتاب وسلمته إلى سيدتها التي عزّت عليها
نفسها كثيراً فبكت بكاء مراً وكتبت إليه تقول
أما تخش يا بشر الإله فإنني لفي
حسرةٍ من لوعتي وتسهدي
فإن زرتني يا بشر أحييتَ مهجتي
وربي غفورٌ بالعطا باسطُ اليدِ
ومرة أخرى عادت إليه الجارية برقعة من سيدتها وصعب على
بشر ما هي فيه فكتب لها هذه الأبيات
أيا هند هذا لا يليقُ بمسلمٍ
ومسلمةٌ في عصَمة الزوج فابعدي
أما تعلمي أن السَفاح محرّمٌ
فحولي عن الفحشاءِ والعيبِ وارتدي
بهذا نهى دين النبيِّ محمدٍ
فتوبي إلى مولاكِ يا هندُ ترشدي
لكن الكلمات كلها لم تكن لتكفيها في وصف ما تكابده من
حبه، وكل العادات والقوانين ما كانت لتثنيها. ولكنه لم
ييأس بل دأب على مراسلتها ليهديها فكتب
إن الذي منع الزيارة فاعلمي
خوف الفساد عليك أن لا تعتدي
وأخافُ أن يهواكِ قلبي في الهوى
فأكون قد خالفتُ دينَ محمدِ
فلما وصلها هذا الكتاب انكمدت نفسها ومرضت فكتبت إليه
تقول
أيا بشر ما أقسى فؤادَك في الهوى
ما هكذا الحبُ في مذهبِ الإسلامِ
إني بُليت وقد تجافاني الصفا
فارحم خضوعي ثم زد بسلامِ
ضاقت قراطيسُ التراسل بيننا
جفّ المدادُ وحفيت الأقلامُ
فلما وقف بشر على هذه الأبيات أجابها بقوله
لا والذي رفعَ السماءَ بأمره
ودحى بساط الأرض باستحكامِ
وهو الذي بعثَ النبي محمداً
بشريعة الإيمان والإسلامِ
لم أعصِ ربي في هواك وإنني
لمطهر من سائر الآثامِ
وحلف أن لا يمر بباب هند ولا يقرأ لها كتاباً، فلما
إمتنع كتبت له
سألت ربي فقد أصبحتَ لي شجناً
أن تُبتلى بهوى من لا يُباليكا
حتى تذوقَ الذي ذقتُ من نَصَبٍ
وتطلب الوصل ممن لا يواتيكا
وتشتكي محنة في الحب نازلة
وتطلب الماء ممن ليس يسقيكَ
بلاك ربي بأمراض مسلسلةٍ
وبامتناع طبيب لا يداويكَ
ولا سروراً ولا يوماً ترى فرحاً
وكل ضرٍ من الرحمن يبليكَ
فلما لج بشر وترك الممر ببابها أرسلت إليه بوصيفة لها
فأنشدته هذه الأبيات فقال للوصيفة لأمر ما لا أمر فلما
جاءت الوصيفة أخبرتها بقول بشر فكتبت وهي تقول
كفّر يمينك أن الذنبَ مغفورُ
وأعلم بأنك أن كفّرت مأجورُ
لا تطردنّ رسولي وارثينّ له
إن الرسولَ قليلُ الذنبِ مأمورُ
واعلم بأني أبيتُ الليلَ ساهرةً
ودمع عيني على خديَّ محدورُ
أدعوه باسمِكَ في كربٍ وفي تعبٍ
وانت لاهٍ قريرُ العين مسرورُ
وأما هندٌ فقد أصبحت بعدها موجة بشر بحرها وزهرة بشر
عطرها، تقطف من محياه كلما مرّ بعضاً من الحياة فكيف
تعيش إن حجب عنها؟؟
وأما بشر فقد خاف على نفسه من الفضيحة فارتحل إلى بطحاء
تراب ليلاً. ووقفت جارية هند على أمره فأعلمت سيدتها،
فاشتد عليها ذلك ومرضت مرضاً شديداً فبعث زوجها إلى
الأطباء فقالت له
لا تبعث إليّ طبيباً فإني عرفت دائي، قهرني جني في
مغتسلي فقال ليتحولي عن هذه الدار فليس لك في جوارنا خير
فأجابها الزوج ما أهون هذا فقالت إني رأيت في منامي أن
أسكن بطحاء تراب فقال اسكني بنا حيث شئت
فاتخذت هناك داراً على طريق بشر وجعلت تمضي الأيام في
النظر إليه كل غداة إذا غدا إلى رسول الله حتى برئت من
مرضها وعادت إلى حسنها، فقال لها زوجها إني لأرجو أن
يكون لك عند الله خير لما رأيت في منامك أن أسكني بطحاء
تراب فاكثري من الدعاء
وكانت مع هند في الدار عجوز فأفشت إليها أمرها وشكت
إليها ما أبتليت به وأخبرتها أنها خائفة أن يعلم بشر
بمكانها فيترك الممر ويأخذ طريقاً آخر فقالت لها العجوز
لا تخافي فإني أعلم لك أمر الفتى كله وإن شئت أقعدتك معه
ولا يشعر بمكانك فقالت ليت ذاك قد كان
ولما همّت العجوز بالإنصراف قالت لها هند
ساعديني واكشفي عني الكروب
ثم نوحي عند نوحي ياجنوبْ
واندبي حظي ونوحي علناً
إن حاليَ بَعْده شيءٌ غريبْ
ما رأت مثلي زليخا يوسفٍ
لا ولا يعقوب بالحزنِ العجيبْ
فقعدت العجوز على باب الدار حتى أقبل بشر فسألته أن يكتب
لها رسالة إلى إبنها في العراق فقعد وراحت تملي عليه
وهند تسمع كلامهما
فلما فرغ قالت العجوز لبشر يا فتى، إني أراك مسحوراً
فقال لها ما أعلمك بذلك؟
فأجابته ما قلت لك إلا وأنا متيقنة فانصرف عني اليوم حتى
أنظر في أمرك
ثم دخلت إلى هند وبشّرتها قائلة إني أراه فتى حدثاً ولا
عهد له بالنساء ومتى ما أتى وزيّنتك وطيّبتك وأدخلتك
عليه غلبت شهوته وهواه دينه
وفي مرة كانت قدإاتفقت فيها مع هند، دعته لتنظر له نجمه
فأدخلته إليها وأغلقت الباب عليهما فلم يشعر إلاّ والباب
أقفل ووقفت أمامه حسناء كأنها البدر وقد إرتمت عليه
وأخذته إليها وهي تقول
يا بشر واصلني وكنْ بي لطيفاً
إني رأيتك بالكمالِ ظريفا
وانظر إلى جسمي وما قد حلّ بي
فتراه صار من الغرام نحيفا
فلما رأها راعه جمالها وعلم ببراعته أنها هند التي هجر
مقره من أجلها فتباعد عنها متعطفاً وأنشد متلطفاً
ليس المليحُ بكاملٍ في حسنهِ
حتى يكونُ عن الحرامِ عفيفَا
فإذا تجنب عن معاصي ربه
فهنالك يدعى عاشقا وظريفا
فجاء زوج هند في غير عادته في كل يوم فوجد مع إمرأته
رجلاً في البيت فطلقها ولبب الفتى أي طوقه وجره وذهب به
إلى رسول الله فكبى بشر أمام الرسول وحلف بأنه ما كذبه
منذ صدقه وما كفر بالله منذ آمن به وقص على النبي قصته
فبعث النبي إلى العجوز وهند فأقرتا بين يديه فقال الحمد
لله الذي جعل من أمتي نظير يوسف الصديق فأدب العجوز
وأعاد هند إلى منزلها
بعد هذه الحادثة هاج بشر بحب هند وإنتظر إنتهاء عدتها
ليخطبها، لكن هند رفضت أن تتزوجه بعد أن فضحها عند رسول
الله ، فجاءها رسول من أهله يعلمها بأنه طريح الفراش وقد
يموت إن هي لم ترض به فقالت أماته الله فطالما أمرضني
فكتب إليها يقول
أرى القلب بعد الصبر أضحى مضيّعا
وأبقيت مالي في هواك مضيّعا
فلا تبخلي يا هندُ بالوصل وارحمي
أسير هوى بالحبِ صارَ مَضْيّعَا
فلما وصلتها الأبيات كتبت تحتها تقول:
أتطلب يا غدَّار وصلي بعدما
أسأت ووصلي منك أضحى مضيّعَا
ولما رجوتُ الوصلَ منك قطعته
وأسقيتني كأساً من الحزن مُتْرَعا
واخجلتني عند النبي محمد
فكادت عيوني أن تسيل وتطلعا
وزادت هذه الأبيات من لوعته وأضرمت نيران الحب في قلبه
فكتب إليها
سلام الله من بعد البعاد
على الشمس المنيرةِ في البلادِ
سلام الله يا هندُ عليك
ورحمته إلى ييومِ التنادي
وحقِّ الله لا ينساك قلبي
إلى يوم القيامةِ يا مرادي
فرقّي وارحمي مضنى كَئيباً
فبشر صار ملقى في الوسادِ
فداوي سقمه بالقرب يوماً
فقلبي ذابَ من ألم البعادِ
لكن جرحها كان أكبر من أن تبلسمه الكلمات وفضيحتها كانت
أوسع من أن تحصرها الزفرات فردت عليه تقول
سلامُ الله من شمسِ البلادِ
على الصبَّ الموسد في المهادِ
فإن ترجُ الوصال وتشتهيه
فأنت من الوصالِ على بعادِ
فلست بنائلٍ منّي وصالاً
ولا يدنو بياضك من سوادي
ولا تبلغ مرادك من وصالي
إلى يوم القيامةِ والتنادي
فلما وصل إليه الكتاب إمتنع عن الطعام والشراب حتى إشتدت
علّته وكانت له أخت تواسيه فطلب منها أن تأتيه بهند
فلما علمت هند بأنه على آخر رمق من الحياة سارت معها
إليه فوجدته يقول
إلهي إني قد بُليت من الهوى
وأصبحتُ ياذا العرش في أشغل الشغلِ
أكابد نفساً قد تولّى بها الهوى
وقد ملّ إخواني وقد ملّني أهلي
وقد أيقنتْ نفسي بأني هالكٌ
بهندٍ وأني قد وهبتُ لها قتلي
وأني وإن كانت إلي مُسيئة
يشقُّ عليَّ أن تعذّب من أجلي
فبكت هند وبكى معها كل من كان حاضراً وأنشدت
أيا بشر حالك قد فنى جسدي
وألهب النار في جسمي وفي كبدي
وفاض دمعي على الخدين منسكباً
وخانني الدهر فيكم وانقضى رشدي
ما كان قصدي بهذا الحال أنظركم
لا والذي خلقَ الإنسانَ من كمدِ
فما سمع كلامها أوما إليها وأنشد:
أيا هند إذا مرّت عليك جنازتي
فنوحي بحزنٍ ثم في النوح رنّمي
وقولي إذا مرّت عليك جنازتي
وشيري بعينيك عليَّ وسلّمي
وقولي رعاكَ اللهُ يا ميَّّتَ الهوى
وأسكنكَ الفردوسَ إن كنتَ مسلم
ثم شهق شهقة وفارقت روحه الدنيا فلما رأته إرتمت عليه
وأنشدت
أيا عينُ نوحي على بشر بتغرير
ألا ترويه من دمعي بتقديرِ
يا عينُ أبكي من بعد الدموعِ دماً
لأنه كان في الطاعات محبورِ
لفقدِ بشرٍ بكيتُ اليومَ من كمدٍ
لا خير في عيشةٍ تأتي بتكديرِ
ألقاك ربك في الجناتِ في غُرَفٍ
تلقى النعيم بها بالخير موفورِ
ثم ألقت بنفسها عليه وحركوها فإذا هي ميتة فغسلوهما
ودفنوهما معاً.(هذه القصه منقوله)
وما أغرب قصة صاحبنا هذه المرة وما أمتعها
فأما هو
فهو بشر الأسيدي من بنى عبد العزى.. شاعر إسلامي متوسط
في طبقته وأحد المتخلفين إلى رسول الله
وأما هي
فهي هند، فتاة من قومه وإحدى فواضل نساء عصرها حسناً
وجمالاً وأما حالتها الإجتماعية فمتزوجة من رجل يقال له
سعد بن سعيد، وأما حالتها العاطفية فعاشقة حتى الثمالة
لبشر
نظرت إليه مرة يوم كان يجتاز بمنزلها قاصداً رسول الله ،
فلم تعد تملك إلاّ أن تنظر إليه دوماً، حتى أدمنت المكوث
كل غداة على دربه تنتظر إجتيازه. فإذا ما مر إضطرب كل
شيء فيها إلا النظرة الثابتة إلى وجهه إلى أن تطويه
المسافة بعيداً عنها، دون أن يكلف نفسه عناء رمي نظرة أو
إلقاء تحية أو القيام بأي حركة تحسسها بشغل حيز في حياته
فتناجي نفسها وتقول
أهواكَ يا بشرُ دون الناس كلهم
وغيركَ يهواني فيمنَعُهُ صدّي
تمرُّ ببابي لست تعرفُ ما الذي
أكابدُ من شوقي إليكَ ومن بُعدي
فياليتني أرضٌ وأنتَ أمامها
تدوسُ بنعليك الكرامِ على خدّي
ويا ليتني نعلاً أقيكَ من الحَفَا
ويا ليتني ثوباً أقيكَ من البَرْدِ
تباتُ خليَّ البالِ من ألمِ الجَوَى
وقلبي كواهُ الحبُّ من شدّةِ الوجدِ
وإنك إن قصَّرت عني ولم تزر
فلابُدَّ بعدَ الصدِّ أدفن في لحدي
ولما تجاوز الحب حدّه، دمّر حدوده وتحول إلى شعر يدوَّن
ورسالة توجه إليه فكتبت ما يعتمر في داخلها، ثم أخذت
الجارية الكتاب وسارت به إلى بشر ولما وصلت إليه سلمت
عليه فرد عليها السلام وسألها عن حاجتها
فقالت الجارية: "إني جارية السيدة هند وقد أرسلتني إليك
بكتاب هذا هو فأخذه وقرأه وفهم معناه ثم إلتفت نحو
الجارية وسألها: هل سيدتك عذراء أم ذات بعل
فقالت الجارية بل متزوجة وزوجها موجود في المدينة
فرد بشر القول بالقول وواجه حبّها بالواجب المفروض عليها
تجاه زوجها ودعاها إلى الإعتصام بكلام الله وقال
عليكِ بتقوى الله والصَّبر إنّه
نهى عن فجور بالنساءِ مُوَحّدُ
وصبراً لأمرِ الله لا تقربي الذي
نهَى الهُ عنه والنبيّ محمدُ
فلا تطمعي في أن أزوركِ طائعاً
وأنت لغيري بالخناءِ معوّدُ
وأخذت الجارية الكتاب وسلمته إلى سيدتها التي عزّت عليها
نفسها كثيراً فبكت بكاء مراً وكتبت إليه تقول
أما تخش يا بشر الإله فإنني لفي
حسرةٍ من لوعتي وتسهدي
فإن زرتني يا بشر أحييتَ مهجتي
وربي غفورٌ بالعطا باسطُ اليدِ
ومرة أخرى عادت إليه الجارية برقعة من سيدتها وصعب على
بشر ما هي فيه فكتب لها هذه الأبيات
أيا هند هذا لا يليقُ بمسلمٍ
ومسلمةٌ في عصَمة الزوج فابعدي
أما تعلمي أن السَفاح محرّمٌ
فحولي عن الفحشاءِ والعيبِ وارتدي
بهذا نهى دين النبيِّ محمدٍ
فتوبي إلى مولاكِ يا هندُ ترشدي
لكن الكلمات كلها لم تكن لتكفيها في وصف ما تكابده من
حبه، وكل العادات والقوانين ما كانت لتثنيها. ولكنه لم
ييأس بل دأب على مراسلتها ليهديها فكتب
إن الذي منع الزيارة فاعلمي
خوف الفساد عليك أن لا تعتدي
وأخافُ أن يهواكِ قلبي في الهوى
فأكون قد خالفتُ دينَ محمدِ
فلما وصلها هذا الكتاب انكمدت نفسها ومرضت فكتبت إليه
تقول
أيا بشر ما أقسى فؤادَك في الهوى
ما هكذا الحبُ في مذهبِ الإسلامِ
إني بُليت وقد تجافاني الصفا
فارحم خضوعي ثم زد بسلامِ
ضاقت قراطيسُ التراسل بيننا
جفّ المدادُ وحفيت الأقلامُ
فلما وقف بشر على هذه الأبيات أجابها بقوله
لا والذي رفعَ السماءَ بأمره
ودحى بساط الأرض باستحكامِ
وهو الذي بعثَ النبي محمداً
بشريعة الإيمان والإسلامِ
لم أعصِ ربي في هواك وإنني
لمطهر من سائر الآثامِ
وحلف أن لا يمر بباب هند ولا يقرأ لها كتاباً، فلما
إمتنع كتبت له
سألت ربي فقد أصبحتَ لي شجناً
أن تُبتلى بهوى من لا يُباليكا
حتى تذوقَ الذي ذقتُ من نَصَبٍ
وتطلب الوصل ممن لا يواتيكا
وتشتكي محنة في الحب نازلة
وتطلب الماء ممن ليس يسقيكَ
بلاك ربي بأمراض مسلسلةٍ
وبامتناع طبيب لا يداويكَ
ولا سروراً ولا يوماً ترى فرحاً
وكل ضرٍ من الرحمن يبليكَ
فلما لج بشر وترك الممر ببابها أرسلت إليه بوصيفة لها
فأنشدته هذه الأبيات فقال للوصيفة لأمر ما لا أمر فلما
جاءت الوصيفة أخبرتها بقول بشر فكتبت وهي تقول
كفّر يمينك أن الذنبَ مغفورُ
وأعلم بأنك أن كفّرت مأجورُ
لا تطردنّ رسولي وارثينّ له
إن الرسولَ قليلُ الذنبِ مأمورُ
واعلم بأني أبيتُ الليلَ ساهرةً
ودمع عيني على خديَّ محدورُ
أدعوه باسمِكَ في كربٍ وفي تعبٍ
وانت لاهٍ قريرُ العين مسرورُ
وأما هندٌ فقد أصبحت بعدها موجة بشر بحرها وزهرة بشر
عطرها، تقطف من محياه كلما مرّ بعضاً من الحياة فكيف
تعيش إن حجب عنها؟؟
وأما بشر فقد خاف على نفسه من الفضيحة فارتحل إلى بطحاء
تراب ليلاً. ووقفت جارية هند على أمره فأعلمت سيدتها،
فاشتد عليها ذلك ومرضت مرضاً شديداً فبعث زوجها إلى
الأطباء فقالت له
لا تبعث إليّ طبيباً فإني عرفت دائي، قهرني جني في
مغتسلي فقال ليتحولي عن هذه الدار فليس لك في جوارنا خير
فأجابها الزوج ما أهون هذا فقالت إني رأيت في منامي أن
أسكن بطحاء تراب فقال اسكني بنا حيث شئت
فاتخذت هناك داراً على طريق بشر وجعلت تمضي الأيام في
النظر إليه كل غداة إذا غدا إلى رسول الله حتى برئت من
مرضها وعادت إلى حسنها، فقال لها زوجها إني لأرجو أن
يكون لك عند الله خير لما رأيت في منامك أن أسكني بطحاء
تراب فاكثري من الدعاء
وكانت مع هند في الدار عجوز فأفشت إليها أمرها وشكت
إليها ما أبتليت به وأخبرتها أنها خائفة أن يعلم بشر
بمكانها فيترك الممر ويأخذ طريقاً آخر فقالت لها العجوز
لا تخافي فإني أعلم لك أمر الفتى كله وإن شئت أقعدتك معه
ولا يشعر بمكانك فقالت ليت ذاك قد كان
ولما همّت العجوز بالإنصراف قالت لها هند
ساعديني واكشفي عني الكروب
ثم نوحي عند نوحي ياجنوبْ
واندبي حظي ونوحي علناً
إن حاليَ بَعْده شيءٌ غريبْ
ما رأت مثلي زليخا يوسفٍ
لا ولا يعقوب بالحزنِ العجيبْ
فقعدت العجوز على باب الدار حتى أقبل بشر فسألته أن يكتب
لها رسالة إلى إبنها في العراق فقعد وراحت تملي عليه
وهند تسمع كلامهما
فلما فرغ قالت العجوز لبشر يا فتى، إني أراك مسحوراً
فقال لها ما أعلمك بذلك؟
فأجابته ما قلت لك إلا وأنا متيقنة فانصرف عني اليوم حتى
أنظر في أمرك
ثم دخلت إلى هند وبشّرتها قائلة إني أراه فتى حدثاً ولا
عهد له بالنساء ومتى ما أتى وزيّنتك وطيّبتك وأدخلتك
عليه غلبت شهوته وهواه دينه
وفي مرة كانت قدإاتفقت فيها مع هند، دعته لتنظر له نجمه
فأدخلته إليها وأغلقت الباب عليهما فلم يشعر إلاّ والباب
أقفل ووقفت أمامه حسناء كأنها البدر وقد إرتمت عليه
وأخذته إليها وهي تقول
يا بشر واصلني وكنْ بي لطيفاً
إني رأيتك بالكمالِ ظريفا
وانظر إلى جسمي وما قد حلّ بي
فتراه صار من الغرام نحيفا
فلما رأها راعه جمالها وعلم ببراعته أنها هند التي هجر
مقره من أجلها فتباعد عنها متعطفاً وأنشد متلطفاً
ليس المليحُ بكاملٍ في حسنهِ
حتى يكونُ عن الحرامِ عفيفَا
فإذا تجنب عن معاصي ربه
فهنالك يدعى عاشقا وظريفا
فجاء زوج هند في غير عادته في كل يوم فوجد مع إمرأته
رجلاً في البيت فطلقها ولبب الفتى أي طوقه وجره وذهب به
إلى رسول الله فكبى بشر أمام الرسول وحلف بأنه ما كذبه
منذ صدقه وما كفر بالله منذ آمن به وقص على النبي قصته
فبعث النبي إلى العجوز وهند فأقرتا بين يديه فقال الحمد
لله الذي جعل من أمتي نظير يوسف الصديق فأدب العجوز
وأعاد هند إلى منزلها
بعد هذه الحادثة هاج بشر بحب هند وإنتظر إنتهاء عدتها
ليخطبها، لكن هند رفضت أن تتزوجه بعد أن فضحها عند رسول
الله ، فجاءها رسول من أهله يعلمها بأنه طريح الفراش وقد
يموت إن هي لم ترض به فقالت أماته الله فطالما أمرضني
فكتب إليها يقول
أرى القلب بعد الصبر أضحى مضيّعا
وأبقيت مالي في هواك مضيّعا
فلا تبخلي يا هندُ بالوصل وارحمي
أسير هوى بالحبِ صارَ مَضْيّعَا
فلما وصلتها الأبيات كتبت تحتها تقول:
أتطلب يا غدَّار وصلي بعدما
أسأت ووصلي منك أضحى مضيّعَا
ولما رجوتُ الوصلَ منك قطعته
وأسقيتني كأساً من الحزن مُتْرَعا
واخجلتني عند النبي محمد
فكادت عيوني أن تسيل وتطلعا
وزادت هذه الأبيات من لوعته وأضرمت نيران الحب في قلبه
فكتب إليها
سلام الله من بعد البعاد
على الشمس المنيرةِ في البلادِ
سلام الله يا هندُ عليك
ورحمته إلى ييومِ التنادي
وحقِّ الله لا ينساك قلبي
إلى يوم القيامةِ يا مرادي
فرقّي وارحمي مضنى كَئيباً
فبشر صار ملقى في الوسادِ
فداوي سقمه بالقرب يوماً
فقلبي ذابَ من ألم البعادِ
لكن جرحها كان أكبر من أن تبلسمه الكلمات وفضيحتها كانت
أوسع من أن تحصرها الزفرات فردت عليه تقول
سلامُ الله من شمسِ البلادِ
على الصبَّ الموسد في المهادِ
فإن ترجُ الوصال وتشتهيه
فأنت من الوصالِ على بعادِ
فلست بنائلٍ منّي وصالاً
ولا يدنو بياضك من سوادي
ولا تبلغ مرادك من وصالي
إلى يوم القيامةِ والتنادي
فلما وصل إليه الكتاب إمتنع عن الطعام والشراب حتى إشتدت
علّته وكانت له أخت تواسيه فطلب منها أن تأتيه بهند
فلما علمت هند بأنه على آخر رمق من الحياة سارت معها
إليه فوجدته يقول
إلهي إني قد بُليت من الهوى
وأصبحتُ ياذا العرش في أشغل الشغلِ
أكابد نفساً قد تولّى بها الهوى
وقد ملّ إخواني وقد ملّني أهلي
وقد أيقنتْ نفسي بأني هالكٌ
بهندٍ وأني قد وهبتُ لها قتلي
وأني وإن كانت إلي مُسيئة
يشقُّ عليَّ أن تعذّب من أجلي
فبكت هند وبكى معها كل من كان حاضراً وأنشدت
أيا بشر حالك قد فنى جسدي
وألهب النار في جسمي وفي كبدي
وفاض دمعي على الخدين منسكباً
وخانني الدهر فيكم وانقضى رشدي
ما كان قصدي بهذا الحال أنظركم
لا والذي خلقَ الإنسانَ من كمدِ
فما سمع كلامها أوما إليها وأنشد:
أيا هند إذا مرّت عليك جنازتي
فنوحي بحزنٍ ثم في النوح رنّمي
وقولي إذا مرّت عليك جنازتي
وشيري بعينيك عليَّ وسلّمي
وقولي رعاكَ اللهُ يا ميَّّتَ الهوى
وأسكنكَ الفردوسَ إن كنتَ مسلم
ثم شهق شهقة وفارقت روحه الدنيا فلما رأته إرتمت عليه
وأنشدت
أيا عينُ نوحي على بشر بتغرير
ألا ترويه من دمعي بتقديرِ
يا عينُ أبكي من بعد الدموعِ دماً
لأنه كان في الطاعات محبورِ
لفقدِ بشرٍ بكيتُ اليومَ من كمدٍ
لا خير في عيشةٍ تأتي بتكديرِ
ألقاك ربك في الجناتِ في غُرَفٍ
تلقى النعيم بها بالخير موفورِ
ثم ألقت بنفسها عليه وحركوها فإذا هي ميتة فغسلوهما
ودفنوهما معاً.(هذه القصه منقوله)