السحاب
09-09-2004, 04:26
قواعد الدعوة إلى الله
الحمد لله، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فصلى الله وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد،،،
من فضائل الدعوة إلى الله :
فإن الدعوة إلى الله هي أشرف الوظائف، وأفضل الأعمال، فإنها الوظيفة الأساسية للنبيين والمرسلين، والعمل الرئيسي لسائر الهداة المصلحين، وقد نص الله تبارك وتعالى على أن أحسن الناس قولًا هم الدعاة إلى الله، فقال:{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
[33]} [سورة فصلت].
كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الداعين إلى الله، العاملين بعلمهم، المعلمين لغيرهم هم أعلى الناس درجة، وأكثر الناس تأثرًا وتأثيرًا بالدين الحنيف، وأعظم الناس انتفاعًا بالغيث الذي أغاث الله به الأرض، فعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ] رواه البخاري ومسلم.
كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم مثوبة الدعاة عند الله، فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ] فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ: [أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ] فَقَالُوا: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ] فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ: [انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ] رواه البخاري ومسلم. يعني من أن تتصدق بأنفس المال .
خير مناهج الدعوة:
ولقد رسم القرآن الكريم خير مناهج الدعوة فيما وصف للدعاة من آياته المحكمة، وفيما قص الله عن النبيين والمرسلين من طرق دعوتهم إلى الله التي تعتبر النموذج الأعلى للداعين إلى الله، وقد وضع القرآن الكريم النظام الأساسي للدعوة إلى الله تعالى إذ يقول:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...[125]}[سورة النحل]. وإذ يقول: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[108]}[سورة يوسف].
قواعد الدعوة إلى الله:
أولاً:الحكمة في الدعوة إلى الله:
فقد طلب الله من الداعي إليه أن يسلك طريق الحكمة في دعوته، والحكمة:'هي وضع الأمور في مواضعها' فاللين حيث ينفع اللين، والشدة حيث لا يجدي غيرها، فوضع اللين في موضع الشدة مضر كوضع الشدة في موضع اللين .
ومن الحكمة في الدعوة:
1- معرفة نفسيات المدعوين، ومنازلهم: فدعوة الأمي غير دعوة المتعلم، والمستقيم في الجملة غير المنحرف، والمعاند غير خالي الذهن، وسادة القوم غير عامتهم. وهذه القاعدة في الدعوة من أعظم أسباب نجاحها؛ ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أول الأمر سرًا ثلاث سنوات.
2- اغتنام الفرص الملائمة للدعوة: ومن أروع الأمثلة على ذلك ما ذكر الله في قصة يوسف عليه السلام مع صاحبه في السجن إذ يقول: { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[36]}[سورة يوسف]. فهذان السجينان رأى كل واحد منهما رؤيا، وهي رؤيا غريبة تستدعي الاهتمام لذلك بحثًا عن معبر لها، ولم يختارا غير يوسف الصديق، وكان الذي حملهما على اختياره دون غيره هو ما رأياه عليه من حسن السلوك، والإحسان في القول والعمل، وما على وجهه من آثار الصلاح يدل على ذلك كله قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
وحينما رأى يوسف عليه السلام حاجاتهما الماسة لتعبير هذه الرؤيا العجيبة، ورأى كذلك من حسن ظنهما فيه؛ اغتنم هذه الفرصة لدعوتهم إلى الله، وكان من حكمته عليه السلام أن يبدأ قبل دعوتهما إلى الله، وقبل تفسير الرؤيا لهما بزيادة تعريفها بنفسه، وتشويقهما إلى حديثه، وبيان نعمة الله على أهل التوحيد، فقال:{ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي...[37]} ثم بين لهما أن الشرك بالله سبب لكل شر، وأن توحيد الله سبب لكل خير، فقال:{...إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ[37] وأتبعت ملة وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ[38]} ثم بعد كل هذه التمهيدات العظيمة جرد الدعوة إلى التوحيد فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[سورة يوسف].
وبعد إقامة هذه الحجة على هذه الدعوة العظيمة، فسّر لكل واحد من صاحبي سجنه رؤياه في عبارة موجزة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ[41]}[سورة يوسف].
ومن اغتنام الفرص في الدعوة كذلك: أن يتخول الدعاة المدعوين بالموعظة الحسنة في غير إكثار ممل: فإن كثرة الكلام تنسيه وتمله، ولذلك كان رسول الله يتخول أصحابه بالموعظة الحسنة مخافة السآمة عليهم، مع أن حديثه كان أعذب حديث يستمعون إليه، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم كأن قطع السكر تتناثر من فمه صلى الله عليه وسلم، ومع ذاك كله، فقد كان لا يكثر على أصحابه وإنما يغتنم الفرصة، فيتخولهم بالموعظة الحسنة مخافة إملالهم، فَعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: ' أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا' رواه البخاري ومسلم.
كما أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قصر الخطبة يوم الجمعة من فقه الرجل، فقد روى مسلم في صحيحة من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ].
ولقد كان السامع له صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يعد كلامه، ومع ذلك إذا تكلم أعاد الكلمة ثلاثًا ليفهم عنه صلى الله عليه وسلم.
3- ملاحظة أقدار الناس، وعدم التسرع في الكلام حتى تحين فرصة قد تكون الكلمة فيها خيرًا من كثير من الكلام.
4-مراعاة بيئة كل مدعو، وضرب الأمثال النافعة له من واقع بيئته، ولفت نظر المدعوين إلى نعم الله عليهم، وإحسانه إليهم دون قسوة أو غلظة، بل يزن الكلام وزنًا ويقدره تقديرًا قبل أن يتكلم به، ثم يستشعر الداعية في نفسه موقف المدعو وكأنه هو، وأن مراده من دعوته إنما هو سعادته في الدنيا والآخرة.
5- ومن الحكمة كذلك: تلوينها فالسرية حين يغلب على الظن أن تنفع السرية والجهرية والليلية حين تواتي الليلية والنهارية حين تواتي النهارية: وفي ذلك كله يذكر الله حكمة نوح عليه السلام في دعوته إذ يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا[5]فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا[6] وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا[7]ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا[8]ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا[9]فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا[10]يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا[11]وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[12]}[سورة نوح].
6- أن يبدأ بالترغيب والتذكير بنعم الله على المطيعين: وفي ذلك يقول تبارك وتعالى في قصة نوح عليه السلام: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا[10]يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا[11]وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[12]}[سورة نوح].
ولذلك كله رأينا مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه يقول لآل فرعون لما هددوا موسى عليه السلام بالقتل، قال هذا الداعية الصالح مع كتمانه إيمانه:{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ...} ثم يقول زيادة في التكتم: {...وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ...} فقد قدم الكلام على احتمال كذبه على الكلام على احتمال صدقه زيادة في أمر كتمانه أمره، ثم كان من أروع طرق جداله أن يستدل على صدقة بسلامة سلوكه وحسن هديه ولذلك قال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ[28]} [سورة غافر].
وكأنه يقول: موسى صادق؛ لأنه مهتد، ولو كان كاذبًا لم يكن مهتديًا، فاستدل باهتدائه على صدقة، ثم قال: { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[29] وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ[30]مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ[31]وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ[32]يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ[33]}[سورة غافر].
ولما رأى أن قومه مصرون على عداوة رسول الله، والمحاربة لدين الله { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ[36]أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا...[37]} [سورة غافر].
لما قال فرعون هذه المقالة لم يجد هذا المؤمن حيلة من إعلان إيمانه، وليكن ما يكون، وفي ذلك يقول الله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ[38]يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ[39]}[سورة غافر].
ثم يقول: { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ[41]تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ[42]لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ[43]فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[44]}[سورة غافر].
أما القاعدة الثانية من قواعد الدعوة إلى الله: فهي سلوك الموعظة الحسنة: والأقوال الرقيقة، والعبارات المؤثرة، وقد اشتملت الأمثلة التي ذكرت الكثير منها.
أما القاعدة الثالثة: فهي الجدال بالتي هي أحسن: فيبتعد الداعية عن الأقوال الشنيعة، والألفاظ البشعة، بل يستدل بالفعل عندما ينفع الاستدلال بالفعل، وبالنقل عندما يرى الاستدلال بالنقل، ويلفت نظر المدعوين إلى آيات الله الكونية، ويحرص أشد الحرص على الخصم بإقراره، وإلى ذلك كله يشير الله تبارك وتعالى؛ إذ يقول: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[24]قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ[25]قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ[26]قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[27]}[سورة سبأ].
ومن أعظم قواعد الدعوة الشاملة للقواعد الثلاث المتقدمة: أن يكون الداعي على بصيرة: وبصيرة الداعية تسلك به أحسن السبل وتهديه أقوم الطرق.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن الدعوة إلى الله: قولًا، وعملًا، وسلوكًا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث داعيًا أمره بأحسن طرقها، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: [بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا]. كما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا] رواه البخاري ومسلم
وكان من أمثلة ذلك عمليًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ] فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: [إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ-أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-. وفي رواية للترمذي وغيره: [أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ] ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ] .
ومن أعظم أسباب نجاح الدعاة: أن يتحلوا بالصبر: ولذلك قال لقمان لابنه وهو يعظه:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[13]}[سورة لقمان].
كما أن من أعظم أسباب نجاح الدعاة كذلك: أن يكونوا عاملين بما يدعون الناس إليه، منتهين عما ينهون الناس عنه: وقد وصف الله الذي يخالف قوله فعله بأنه ممقوت، وفي ذلك يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف].
ولله در الشاعر إذ يقول:
يا أيها الرجل المعلـم غيـره هـلا لنفسك كـان ذا التعليـم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
ابدا بنفسك فانههـا عـن غيها فـإذا انتهت عنـه فأنت حكيم
فهناك يسمع مـا تقول ويهتدى بـالقول منـك وينفـع التعليم
لا تنـه عن خلق وتأتي مثله عـار عليك إذا فعلت عظيـم
ولذلك قال شعيب عليه السلام لقومه:{...وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88]}[سورة هود]. والحمد لله أولاً وآخرًا
الحمد لله، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فصلى الله وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد،،،
من فضائل الدعوة إلى الله :
فإن الدعوة إلى الله هي أشرف الوظائف، وأفضل الأعمال، فإنها الوظيفة الأساسية للنبيين والمرسلين، والعمل الرئيسي لسائر الهداة المصلحين، وقد نص الله تبارك وتعالى على أن أحسن الناس قولًا هم الدعاة إلى الله، فقال:{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
[33]} [سورة فصلت].
كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الداعين إلى الله، العاملين بعلمهم، المعلمين لغيرهم هم أعلى الناس درجة، وأكثر الناس تأثرًا وتأثيرًا بالدين الحنيف، وأعظم الناس انتفاعًا بالغيث الذي أغاث الله به الأرض، فعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ] رواه البخاري ومسلم.
كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم مثوبة الدعاة عند الله، فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ] فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ: [أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ] فَقَالُوا: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ] فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ: [انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ] رواه البخاري ومسلم. يعني من أن تتصدق بأنفس المال .
خير مناهج الدعوة:
ولقد رسم القرآن الكريم خير مناهج الدعوة فيما وصف للدعاة من آياته المحكمة، وفيما قص الله عن النبيين والمرسلين من طرق دعوتهم إلى الله التي تعتبر النموذج الأعلى للداعين إلى الله، وقد وضع القرآن الكريم النظام الأساسي للدعوة إلى الله تعالى إذ يقول:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...[125]}[سورة النحل]. وإذ يقول: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[108]}[سورة يوسف].
قواعد الدعوة إلى الله:
أولاً:الحكمة في الدعوة إلى الله:
فقد طلب الله من الداعي إليه أن يسلك طريق الحكمة في دعوته، والحكمة:'هي وضع الأمور في مواضعها' فاللين حيث ينفع اللين، والشدة حيث لا يجدي غيرها، فوضع اللين في موضع الشدة مضر كوضع الشدة في موضع اللين .
ومن الحكمة في الدعوة:
1- معرفة نفسيات المدعوين، ومنازلهم: فدعوة الأمي غير دعوة المتعلم، والمستقيم في الجملة غير المنحرف، والمعاند غير خالي الذهن، وسادة القوم غير عامتهم. وهذه القاعدة في الدعوة من أعظم أسباب نجاحها؛ ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أول الأمر سرًا ثلاث سنوات.
2- اغتنام الفرص الملائمة للدعوة: ومن أروع الأمثلة على ذلك ما ذكر الله في قصة يوسف عليه السلام مع صاحبه في السجن إذ يقول: { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[36]}[سورة يوسف]. فهذان السجينان رأى كل واحد منهما رؤيا، وهي رؤيا غريبة تستدعي الاهتمام لذلك بحثًا عن معبر لها، ولم يختارا غير يوسف الصديق، وكان الذي حملهما على اختياره دون غيره هو ما رأياه عليه من حسن السلوك، والإحسان في القول والعمل، وما على وجهه من آثار الصلاح يدل على ذلك كله قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
وحينما رأى يوسف عليه السلام حاجاتهما الماسة لتعبير هذه الرؤيا العجيبة، ورأى كذلك من حسن ظنهما فيه؛ اغتنم هذه الفرصة لدعوتهم إلى الله، وكان من حكمته عليه السلام أن يبدأ قبل دعوتهما إلى الله، وقبل تفسير الرؤيا لهما بزيادة تعريفها بنفسه، وتشويقهما إلى حديثه، وبيان نعمة الله على أهل التوحيد، فقال:{ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي...[37]} ثم بين لهما أن الشرك بالله سبب لكل شر، وأن توحيد الله سبب لكل خير، فقال:{...إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ[37] وأتبعت ملة وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ[38]} ثم بعد كل هذه التمهيدات العظيمة جرد الدعوة إلى التوحيد فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[سورة يوسف].
وبعد إقامة هذه الحجة على هذه الدعوة العظيمة، فسّر لكل واحد من صاحبي سجنه رؤياه في عبارة موجزة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ[41]}[سورة يوسف].
ومن اغتنام الفرص في الدعوة كذلك: أن يتخول الدعاة المدعوين بالموعظة الحسنة في غير إكثار ممل: فإن كثرة الكلام تنسيه وتمله، ولذلك كان رسول الله يتخول أصحابه بالموعظة الحسنة مخافة السآمة عليهم، مع أن حديثه كان أعذب حديث يستمعون إليه، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم كأن قطع السكر تتناثر من فمه صلى الله عليه وسلم، ومع ذاك كله، فقد كان لا يكثر على أصحابه وإنما يغتنم الفرصة، فيتخولهم بالموعظة الحسنة مخافة إملالهم، فَعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: ' أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا' رواه البخاري ومسلم.
كما أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قصر الخطبة يوم الجمعة من فقه الرجل، فقد روى مسلم في صحيحة من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ].
ولقد كان السامع له صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يعد كلامه، ومع ذلك إذا تكلم أعاد الكلمة ثلاثًا ليفهم عنه صلى الله عليه وسلم.
3- ملاحظة أقدار الناس، وعدم التسرع في الكلام حتى تحين فرصة قد تكون الكلمة فيها خيرًا من كثير من الكلام.
4-مراعاة بيئة كل مدعو، وضرب الأمثال النافعة له من واقع بيئته، ولفت نظر المدعوين إلى نعم الله عليهم، وإحسانه إليهم دون قسوة أو غلظة، بل يزن الكلام وزنًا ويقدره تقديرًا قبل أن يتكلم به، ثم يستشعر الداعية في نفسه موقف المدعو وكأنه هو، وأن مراده من دعوته إنما هو سعادته في الدنيا والآخرة.
5- ومن الحكمة كذلك: تلوينها فالسرية حين يغلب على الظن أن تنفع السرية والجهرية والليلية حين تواتي الليلية والنهارية حين تواتي النهارية: وفي ذلك كله يذكر الله حكمة نوح عليه السلام في دعوته إذ يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا[5]فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا[6] وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا[7]ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا[8]ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا[9]فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا[10]يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا[11]وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[12]}[سورة نوح].
6- أن يبدأ بالترغيب والتذكير بنعم الله على المطيعين: وفي ذلك يقول تبارك وتعالى في قصة نوح عليه السلام: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا[10]يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا[11]وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[12]}[سورة نوح].
ولذلك كله رأينا مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه يقول لآل فرعون لما هددوا موسى عليه السلام بالقتل، قال هذا الداعية الصالح مع كتمانه إيمانه:{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ...} ثم يقول زيادة في التكتم: {...وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ...} فقد قدم الكلام على احتمال كذبه على الكلام على احتمال صدقه زيادة في أمر كتمانه أمره، ثم كان من أروع طرق جداله أن يستدل على صدقة بسلامة سلوكه وحسن هديه ولذلك قال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ[28]} [سورة غافر].
وكأنه يقول: موسى صادق؛ لأنه مهتد، ولو كان كاذبًا لم يكن مهتديًا، فاستدل باهتدائه على صدقة، ثم قال: { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[29] وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ[30]مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ[31]وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ[32]يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ[33]}[سورة غافر].
ولما رأى أن قومه مصرون على عداوة رسول الله، والمحاربة لدين الله { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ[36]أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا...[37]} [سورة غافر].
لما قال فرعون هذه المقالة لم يجد هذا المؤمن حيلة من إعلان إيمانه، وليكن ما يكون، وفي ذلك يقول الله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ[38]يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ[39]}[سورة غافر].
ثم يقول: { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ[41]تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ[42]لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ[43]فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[44]}[سورة غافر].
أما القاعدة الثانية من قواعد الدعوة إلى الله: فهي سلوك الموعظة الحسنة: والأقوال الرقيقة، والعبارات المؤثرة، وقد اشتملت الأمثلة التي ذكرت الكثير منها.
أما القاعدة الثالثة: فهي الجدال بالتي هي أحسن: فيبتعد الداعية عن الأقوال الشنيعة، والألفاظ البشعة، بل يستدل بالفعل عندما ينفع الاستدلال بالفعل، وبالنقل عندما يرى الاستدلال بالنقل، ويلفت نظر المدعوين إلى آيات الله الكونية، ويحرص أشد الحرص على الخصم بإقراره، وإلى ذلك كله يشير الله تبارك وتعالى؛ إذ يقول: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[24]قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ[25]قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ[26]قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[27]}[سورة سبأ].
ومن أعظم قواعد الدعوة الشاملة للقواعد الثلاث المتقدمة: أن يكون الداعي على بصيرة: وبصيرة الداعية تسلك به أحسن السبل وتهديه أقوم الطرق.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن الدعوة إلى الله: قولًا، وعملًا، وسلوكًا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث داعيًا أمره بأحسن طرقها، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: [بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا]. كما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا] رواه البخاري ومسلم
وكان من أمثلة ذلك عمليًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ] فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: [إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ-أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-. وفي رواية للترمذي وغيره: [أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ] ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ] .
ومن أعظم أسباب نجاح الدعاة: أن يتحلوا بالصبر: ولذلك قال لقمان لابنه وهو يعظه:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[13]}[سورة لقمان].
كما أن من أعظم أسباب نجاح الدعاة كذلك: أن يكونوا عاملين بما يدعون الناس إليه، منتهين عما ينهون الناس عنه: وقد وصف الله الذي يخالف قوله فعله بأنه ممقوت، وفي ذلك يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف].
ولله در الشاعر إذ يقول:
يا أيها الرجل المعلـم غيـره هـلا لنفسك كـان ذا التعليـم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
ابدا بنفسك فانههـا عـن غيها فـإذا انتهت عنـه فأنت حكيم
فهناك يسمع مـا تقول ويهتدى بـالقول منـك وينفـع التعليم
لا تنـه عن خلق وتأتي مثله عـار عليك إذا فعلت عظيـم
ولذلك قال شعيب عليه السلام لقومه:{...وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88]}[سورة هود]. والحمد لله أولاً وآخرًا