راعي الوقيد
19-06-2004, 13:10
القصة القصيرة.. تجربة ورؤية
جار الله الحميد
(( تحظى القصة القصيرة بجماهيرية لا يتمتع بها معظم أنواع الإبداع الأخرى . فرغم انتشار أنواع بديلة من الدراما كالفيلم والمسلسل التلفزيوني ظلت تتراكم نوعيا وكيفيا وتنجز مشاريعها الخاصة نحو بلوغ أفضل طرق الكتابة في حركة دؤوب لا تعرف التوقف . وربما عاد ذلك إلى أن القصة القصيرة توفر للقارئ عنصراً مهما في العمل الفني وهو عنصر ( المتعة ) .
أي أن القارئ في ذات الوقت الذي يتلقى فيه الخبر يتفاعل معه لا باعتباره حدثا بل كلعبة يشترك هو والقاص في لعبها . وهذا يميز القصة عن الشعر مثلاً . فالأخير يكاد يكون نخبويا من حيث الشروط التي يفرضها على مستمعه وقارئه وأولها أن يكون ملما بالنوع الموسيقي الذي يجب أن يتوفر في الشعر . وربما لأن الشعر هو شيء يتوسل الأسطورة واللغة الموازية في حين أن القصة تعتمد في بث رسالتها على إمتاع القارئ وجذب انتباهه إلى غرابة الخبر أو واقعيته الخافية وكيفية تحويله من الذاتي إلى الجماعي .
علاوة على أن القصة بمعنى شمولي تدخل في نسيج حياة الإنسان اليومية . فأنت عندما تتسامر مع أصدقاء إنما تروي لهم قصة وحين تشكو إلى الطبيب فأنت تروي قصة . وحين تتحدث عن واقعة فأنت تتخطى موقع ( المخبر ) إلى موقع ( الراوي ) لأنك تضفي على الواقعة أسلوبك الخاص الذي يختلف عن أي أحد يروي نفس الواقعة .
وقد شهد فن القصة جيلاً بعد جيل نقلات نوعية كبرى فبعد أن كان النقاد يحكمون على القصة من خلال ثلاثة لأقانيم هي : البداية، العقدة، النهاية .
شهد هذا الفن تخلياً مستمرا عن هذه الشروط . وسنعود لذلك فيما بعد . إذ يهمني الإشارة إلى كتابنا المقدس القرآن الكريم قد بث رسالته العظيمة من خلال القصة إذ يقول تعالى ( إنا نقص عليك أحسن القصص ) . ومنها قصة سيدنا يوسف عليه السلام وسيدتنا مريم وهي كلها تمثل أهمية القصة من حيث هي ( خبر ) يحمل في ثناياه رسالة أو هدفاً .
تتميز القصة عن باقي الفنون بكونها ذات جذور في كل الحضارات قبل أن تصل إليها يد الإنسان فتتفنن في تطويرها من مرحلة الخبر / الحكاية إلى مرحلة خلق هذا الخبر وإعادة صياغته بما يتفق مع فكر وتوجه ورسالة كاتبها ومع حال الشعب الذي يستهلكها كمنتج إبداعي مؤسس على اللغة والعادات والفلكلور الإنساني لكل حضارة وترجمة الوعي الجمعي للناس إلى إبداع يحرضه على التجسد عبر أعمال وأشكال ومعادلات موضوعية .
ولا تختلف القصة من حيث هي : إنتاج إنساني عن باقي الفنون الأخرى في خضوعها للشروط الموضوعية التي تدخل في نسيج الفن فتؤهله إلى أن يكون إحدى مصادر ثقافة المجتمع وقيمه وتقاليده .
ولكنها تتميز بكونها لا تحتمل أن تكون مادة لبث الشعارات السياسية كما يحدث في الشعر مثلا حتى ولو كان شعرا جيدا ! فهي فن هادئ . يركز على المشهد والحوار أصلا ثم يعود حين يمر عليه زمن ما إلى موقع التاريخ الغير رسمي أو غير عمومي ! ونخطي حينما نطلب من القاص أن يعطينا مبررات أو مذكرات تفسيرية لكتابته فهذا أولا يتنافى مع أصول التعامل مع الإبداع بعامة . ثم إن القاص لا يزعم أنه يحيط علما بكل شيء ولكنه يخلق نصا بديلا للنص المعاش اليومي إذا ما اعتبرنا الواقع نصا وهو اعتبار قريب من الحقيقة فحركتنا اليومية وما يجري من أحداث فيها تشبه النص الفني من ناحية أنها تمتلئ بالمفاجآت والمواقف التي تبدو كما لو كانت غرائبية . ولكنها تفترق مع النص الفني في كيفية تعامل اللغة القصصية معها فما ينسى الشخص العادي من ملاحظات صغيرة ولكنها هامة هو ما يشكل مادة القاص وخامته . أي باختصار : فإن القصة هي كتابة المرآة المختفية بين ركام الوقت .
أحياناً يسألني سائل : كيف أكتب قصة قصيرة ؟ !
والحقيقة أنني لا أجد إجابة على هذا السؤال .
ففعل الكتابة بحد ذاته هو تجاوز للقواعد . أي أنه فعل شخصي . ليس عملية ميكانيكية . الكتابة هي : رد فعلك تجاه الأحداث والأشياء . مثلها مثل الحلم الذي لا يزال الناس يحتارون في تفسير آليته .
فأن تكتب إذن : هو أن تتعلم كيف تمزج خبرات الماضي مع أحداث الراهن مع رؤياك للمستقبل .
وبالطبع تبدو هذه النصيحة غير علمية وخاصة بالنسبة إلى النقاد الكلاسيكيين والراغبين في كتابة تمتلك شروط الإنشاء الجيد . مع أن أحدا لا يمكنه إغفال الإنشاء كعنصر هام في الكتابة . أية كتابة . فعادة يصدمك بعض النقاد بأن عملك إنشائي وهذا كلام مجاني مهما لبس من لباس العلم . فلا يمكن أن نتصور أن شخصاً يعجز عن كتابة رسالة شخصية بسبب ضعفه في التعبير والإملاء قادراً على إنتاج كتابة إبداعية . وإن كان لنا من تحفظ على الإنشاء فهو تجاه بعض الذين يكتبون خواطر أو مشاعر تحت مسمى القصة . فالقصة في ذات الوقت الذي تتوسل فيه أرقى أشكال اللغة بلاغيا لا تحصر مشروعها ضمن كتابة جنس أدبي ليس فيه قصة ولا خبر ولا حتى إغواء الكتابة .
كيف تكتب ؟!
علينا أن ندرك أن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي معرفة ذاتك كشخص يملك خصوصيته . بمعنى أن ثمة قصة لدى كل أحد منا . لا يستطيع أن يرويها كتابة أو عبر نوع اتصالي آخر إلا هو . وإذا بدا أن العبارات السابقة غامضة فأنني أبادر إلى توضيح ما أقصده بالخصوصية . وهو : أن الشخص الذي يكتب عليه أن يدرك أنه بصدد عمل شخصي أو ذاتي يستحيل على غيره أن يفعله وهو ما يمكن أن نسميه بالتفرد . والتفرد الذي أعنيه هنا ليس تلك الكلمة التي تقال في معرض المديح . ولكن المعنى القاموسي لها وأقرب ما يكون له هو الاختلاف عن بقية الناس في تاريخك الشخصي واستعمالك للكلمات والتعابير وطريقتك في رواية الحدث التي لا تشابه مع طرق آخرين لأنها تمثل طريقتك في التعامل مع ما ترويه بمعجمك الخاص .
أن القصة القصيرة فن مراوغ أيضاً . فقد يظن البعض أنها أسهل مطية حين يكون الشعر مثلا كجنس مكرس في الذاكرة الجماعية يتطلب شروطاً يسهل حتى على غير المشتغلين بالفن تمييزها . وهذا بالذات يعيدنا إلى الحديث عن الكتابة ككل .
هل يمكننا اعتبار الكتابة مؤسسة كما يقول ( رولان بارت ) . أي أننا حينما نكتب ننتمي بالضرورة إلى مؤسسة الكتابة بحيث يصبح موضوعنا الرئيسي هو : كيف، ومتى : نكتب . لنعد إلى القصة . وبالتحديد إلى التراث العربي . لنسأل : هل عرف العرب هذا الفن ؟ قبل غيرهم ؟ أم بعدهم ؟ وجملة أسئلة أخرى . إننا نعرف ( ألف ليلة وليلة ) . وهي وحدها عمل قصصي ضخم . يمتزج فيه السحر والخرافة والحب وحكايات التجار والولاة والحرفيين والقيان والغلمان و الشعر والفلسفة والأخبار بشكل لا يمكن كتابته مرة أخرى . مع أنني أميل ككثير من المهتمين إلى اعتبار هذا السفر الضخم واحدا من أهم الإبداعات القصصية العالمية .
كنت لا أود الخوض في تفاصيل هي أقرب للشأن الأكاديمي . فأنا كاتب قصة ولست ناقداً . يهمني بالدرجة الأولى أن أنقل إليكم ما أستطيع من تجربتي الفنية ورؤاي فيما يتعلق بهذا الفن . ولكنني سأقتطف لكم شيئاً من كتاب القاص العربي الكبير يحي حقي الذي أسماه ( أنشودة للبساطة .. مقالات في فن القصة ) فهو يقول عن موقف بعض النقاد من أن القصة ليست فنا عربيا ( ومن بين ما يقوله بعض النقاد لهؤلاء الشباب أن فن القصة عندنا مستورد من أوربا وأن العرب لم يعرفوا القصة . كل ما ورد في أدبهم إن هو إلا نوع من الحكايات والنوادر والملح لا يرقى إلى مقام القصة كما يعرفها العالم المتمدين ) ويرد يحيى حقي على ذلك بقوله ( ولا تأخذني نخوة عندئذ فأتصور أن تجريد أدب العرب من فن القصة ومن فن المسرح أيضاً تهمة بشعة لا بد من ردها دفاعا عن العرض والشرف ولو بالتمحك والتعلل بحجج واهية . يكفي العرب فخرا ديوان شعرهم العظيم . إن فن الشعر عندهم بلع بقية الفنون في جوفه فهو الموسيقى وهو التصوير وهو النحت ) .
وهكذا ترون كيف تعامل قاص كبير على مستوى العالم مع هؤلاء الذين لا زالوا يرون في الغرب محتكراً لبعض أنواع التعبير الأدبي . متناسين أن تراكم الخبرة والتجربة العربية في هذا الفن بالذات قد أثمرت إبداعات عربية تفوقت على نظيرتها في أوربا ولست بصدد ذكر أسماء لأن أمنيتي أن يكون الحضور مركزين على معنى القصة الذي أرى أنه لابد من الوصول إليه . حتى يزول الالتباس لديكم بين ما ينشر أحياناً باسم القصة فيما هو لا يعدو أن يكون خواطر شعرية غير ناضجة . القصة بعيدة عن الشعر إلا في حالات شديدة الحساسية . وحتى الشعراء الذين كتبوا قصصاً أو روايات لا تلمس روح الشاعر وتعامله مع اللغة فيها لأنهم يعون أن القصة هي خبر أو كما يسمى في تراثنا العربي حكاية أو طرفة أو نادرة .
فكتاب البخلاء للجاحظ مليء بالقصص التي وإن حاول إيهامنا بأنها حقيقة إلا يحيى حقي فهو يقول عن القصة بما هي أحداث ( إنما تؤخذ الأشياء لدلالتها العامة المتخلصة من قيود الزمان والظروف العارضة بل وحتى من خصائص اللغة وهي آخر قيد وأصعب قيد ينكسر . حينئذ تتوجه برسالتها إلى جميع الناس حينما وأينما أتوا من شهدها ومن لم يشهدها يستوون في فهمها والإحساس بها . حينئذ يكون لها جدواها ويكتب لها الصدق والبقاء ودوام الأثر ) ويقول في عبارة أرى أنها بالغة الأهمية ( وقد بدأت الفقرة السابقة بكلمة قول بدلا من كلمة مبدأ . فليس في الفن قواعد ثابتة صلبة كالحديد إنه زئبق كطبع الإنسان )
هكذا إذن ؟ ! لقد تذكرت هذا القول الشفاف وأنا أقرأ دراسة عنوانها ( كتابة القصة القصيرة من تأليف ( ولسن ثورنلي ) أقتطع لكم منها هذا الجزء وهو كاف للدلالة على الدراسة وكاتبها . فهو في باب ( التطبيق على القواعد ) يأتي إلى عنوان الحوار ليطرح تحته هذه الأسئلة :
أ ـ بناء القصة ؟
ب ـ تطوير المشاهد ؟
ج ـ تعميق الفهم للشخصية والدوافع ؟
2ـ هل العبارات المصاحبة للحوار استعملت بشكل مؤثر وأعيدت بنجاح ووزعت بشكل مناسب ؟
3ـ هل لغة الحوار اصطلاحية ومناسبة ؟ أ . هـ
وكما ترون فهذه لغة نقدية متدنية . تحاول أن تجعل من القصة علما يمكن لأي شخص مذاكرته وحل التمارين الموجودة في الكتاب ليصبح كاتب قصة ! لهذا أرى أن مثل هذه الدراسات تعيق من حركة تقدم الإبداع القصصي . إذ تحيله إلى مادة جامدة . وتتناسى أن قيمة الفن هي في تخليه عن الشروط المسبقة .
بالطبع أنا ضد ما يسمونه ( النص المفتوح ) أي القابل لكل الاحتمالات والذي يمكن لكاتبه أن يدعوه قصة أو شعرا أو تشكيلا أو موسيقى لأنه بهذه الطريقة تتداخل الأنواع الأدبية بشكل غير صحي وغير سليم من الناحية الإبداعية المنطقية .
نعم ثمة نصوص جميلة من هذا النوع ولكن جمالها يمكن في لعبة اللغة التي أرى أنها تفسد الشعر والقصة في حين أنها تفيد النص الذي لا ينتسب إليهما . ولا يلبث هذا الإعجاب أن يزول مع مرور الزمن بعكس ما يحصل عندما نتذكر روايات وقصصا لـ ( جيمس جويس ) أو ( عزيز نسين ) أو ( نجيب محفوظ ) أو ( ماركيز ) أو ( يحيى الطاهر ) أو ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن ـ ولاحظوا أنني لا أحرضكم على قراءتهم لأنني أؤمن باختيار القارئ نفسه ـ . ولكن البساطة هي أهم شروط القص . البساطة والإمتاع اللغة ليست فقط هي المعجم أو القاموس أو ما يتداوله الناس في حياتهم الدراسية . كلا . إن للغة وظائف أخرى أهمها تحريض القارئ على ابتكار قاموسه الشخصي حينما يقوم بفعل القراءة .
ولعل الجنس الأدبي المنبثق عن القصة القصيرة وهو ( القصة القصيرة جدا ) يعاني التباساً شديداً . حتى من قبل الذين يتصدون للنقد . أما الكتاب الذين يمارسون هذا النوع من الكتابة فهم يمارسونه على استحياء . كأنما يقومون بفعل غير مهذب ذلك أن الساحة الأدبية لدينا لم تر في هذا الجنس سوى أنه أضيفت إليه كلمة جدا وصار النص قصيراً وغائماً . وهذا ربما يعود إلى أن أغلب الذين كتبوا القصة القصيرة جدا ليسوا على إلمام بشروطها الموضوعية والفنية .
فهي ليست تلخيصاً لقصة ولا عبارات تتوسل الشعر وهي أبعد ما تكون عنه لأن الذي يريد أن يكتب الشعر لا يتوسله عبر آليات مناقضة له . بالفعل إن آلية كتابة القصة تكون عبر وعي نوعي بها . وحب لها . عندما تحب القصة تستطيع وقتها أن تكتبها بدون أن تستعين بمراجع كالذي ذكرناه آنفا يعلمك كيف تحرك الشخوص واصلا كيف تختارهم ! ثم يعطيك تمارين محلولة تقيّم بها مدى تقدمك في كتابة القصة .
القصة باختصار هي تحويل الخاص إلى عام . أن تنقل بطلك حتى ولو كان ليس شخصاً فليكن جماداً أو زمنا أو مكاناً إلى بؤرة يتعرف عليه القارئ من خلالها بكل ألوانه وأطيافه ويحس بالتضامن معه والاستمتاع به ويقضي معه وقتا طيباً ممتلئاً بمتعة الفن وبساطته . كيف يمكن أن يتم ذلك . أنني لازلت أعيش فتنة خاصة ألمت بي وأنا أقرأ كتاب المبدع الكبير يحيى حقي ذا العنوان الأخاذ ( أنشودة للبساطة ) لذا سأحيلكم إلى مقطع كامل منه في كيفية بناء سياق قصصي من أحداث أو عبر أشياء معينة . يقول :
( أنت تريد أن تحدثنا عن إنسان بالذات فينبغي عليك أن تفرزه عن العموم والشيوع حتى لا يختلط بغيره ) ويكمل في بلاغة البساطة التي أسس لها عبر النوعية منذ ( قنديل أم هاشم ) روايته العظيمة التي طرح فيها قضية شعب يتأرجح بين الرغبة في النهوض والأنصياع للشعوذة كنموذج لصراع العلم مع قوى التخلف التي تزعم أنها تمثل الأيمان ووالله ما هي من الإيمان في شيء لو تعلمون . أقول يكمل قائلا : ( وهذا المطلب يقتضي منك قدرتين عسيرتين . الأولى قدرة قاموسك على الاتساع بحيث يشمل جميع الأنواع والفصائل فتعرف اسم كل طائر وكل زهرة ) ثم يتابع ( ما أكثر ما أسمع في هذه القصص ورفع بصره فرأى طائراً يحلق فوق رأسه !!
هنا ينبغي أن تقول : فرأى غراباً أو هدهداً أو صقراً أو حدأة .. الخ، أو أسمع : فقطف زهرة وأخذ ينتسم عطرها، هنا ينبغي أن تقول : فقطف وردة أو قرنفلة أو ياسمينة .. الخ، أو تقول : ودخل حجرة قديمة الأثاث فوجد منضدة .. هنا ينبغي أن تقول : منضدة من خشب أبيض أغبر طلاؤها أو انفرجت قوائمها ) .
أن ما يقصد يحيى حقي هو بالضبط ما نقصده حين نقول : أكتب نفسك ! فأنت حين تعين مصدر قلق البطل وتحيله إلى اضطراب وجداني معروف في علم النفس بالأسم أوقع بكثير بل هو أصدق من أن تجعله تهويمات لا يدري القارئ كيف يقبض عليها أو حين تحدد اسم بطلك مع أن ليس في القصة سواه فإنك لا تقدم فناً جديراً بالمتعة !
فما هي جدوى تحديد مكان جغرافي إذا كنت تتحدث عن حالة فصام أصابت الراوي وهو يشاهد التلفزيون ( راجع قصتي الكوب من مجموعة ظلال رجال هاربين مثلاً ) وهكذا نجد أن البساطة لا تعني إغفال اسم الوردة التي يشمها البطل فالأصل أنه يعرف مثلاً أنها قرنفلة ! وعندما يحدد أنها قرنفلة يحس القارئ أن الكاتب يعطيه معلومات صحيحة رغم إدراكه أنها خيالية ولكن متى كان الخيال بعيداً عن الواقع ؟ !
إن الواقع كله هو أحياناً محض خيال ! ألا يحدث وأنت تشاهد رجلين يتخاصمان حول قطعة نقد رخيصة ويتبادلان الاتهامات ويرشقان بعضهما بصنوف الكلمات الكبيرة كل منهما مدعيا أنها له أنك تعيش في حلم ! بعكس ما يحدث حين يكون الحلم الذي تراه في مناماتك موضوعا لقصة . أنه يحمل كل صفات الواقع وينفعل ويتأثر به وينبئ عنه إليه . لذا فالحلم يشكل موضوعاً رئيسياً لغالبية القصص والكتاب مثل ( غالب هلسا ) في روايته ( البكاء على الأطلال ) خصوصاً فالقصة تستمد عالمها من العالم الموازي . وحتى لو كانت تصور الواقع بدقة فنية فإن لها عالمها الذي يشكل معادلا موضوعيا للعالم البديهي .
وأعترف ككاتب أن كتابة القصة من أصعب أنواع الكتابة . ولكن متى قررت أن تكتب قصتك تلك التي لن يحكيها إلا أنت تصير سهلة . لا يجب أن يصور القاص مناظر طبيعية في كتابته أو أن يسرد عن أشخاص خبرهم بالفعل مهما بدت قصتهم جيدة . في البداية عليه أن يكتب ذاته . لا أعني أن يحصر إبداعه داخل مواضيع ذاتية وإنما أعني تلك المرآة التي بداخله والتي ينعكس عليها وجود العالم أجمع !
إن حياتنا في الأساس مجموعة من القصص ولكن لطولها وكوننا نحن شخوصها لا نحس بها مثل إحساس الآخرين بها .
أنا لم أعد إلى مراجع أثناء كتابة هذه الألمامة والكتابان اللذان ذكرتهما كانا بالقرب مني بالمصادفة فأنا لا أرتب كتبي . لما المراجع ؟ ! القضية ابسط من ذلك بكثير !
هل سيسألني أحدكم : كيف اكتب قصة ؟! مرة سؤلت هذا السؤال . كان الشاب الذي يسألني متحمساً جداً لأنه سألني أيضاً لمن يجب عليه أن يقرأ من الكتّاب ؟! كان جوابي أنه لا يجب أن يسأل هذه الأسئلة . إذا كنت ستكتب قصة يوما ما فلن يتم هذا بنصائحي أو نصائح غيري . إقرأ كثيراً في كل شيء . كل شيء . حتى الإعلانات في الصحف أقرأها . الحوادث . صفحة الوفيات . الكرة . السياسة بالذات . الاقتصاد . الفن . كلما زادت حصيلتك اللغوية كلما اقتربت من حافة الكتابة . خذ مثلاً المناضل الأمريكي ( مالكولم إكس ) كان يحس أن لديه رسالة لشعبه عن ضرورة القضاء على الميز العنصري وحين تكونت لديه أفكار أخرى لكنه ظل يعاني : كيف يوصل أفكاره . فما كان منه طيلة سجنه إلا أن صار ينقل كل يوم صفحة من القاموس ( الديكشنري ) ويحفظها قراءة وكتابة عن ظهر قلب فلما خرج من سجن بهذه الثروة اللغوية قال خطابا أذهل الشعب الأمريكي بغض النظر عن موقفنا من الرجل ودعوته .
كلما قرأت لا تفكر بأنك ستكتب مثل هذا الذي تقرأ . فهذا مأزق صعب . أعرف كثيرين يعانون منه . إن الهوة تزداد عمقا يوما بعد يوم في هذه الحالة . الإبداع لا يكف عن التطور . أنت تسجن نفسك داخل نماذج ربما لو نسيتها لكتبت أفضل منها . هذا هو الشيء الذي يمزق الفنان الحقيقي . أن يكون في حالة تماهي كاملة مع نص لكاتب ما لا يستطيع الخروج منه . ومهما بدا هذا النص عظيما . فإن علينا أن لا نقدسه . بهذا فقط ننتج نصوصاً أعظم منه .
وأعترف بأن هذا الشعور ينتابني أحياناً إزاء نصوص أو كتاب معينين . فعملية الإبداع معقدة . إنك تكتب وفي ذهنك نصوص معينة . تظل طوال الوقت تناسيها لتكتب نفسك . وبما أن القاص مطالب دوما بالقراءة فهو مطالب أيضاً بتمثل ما قرأه . بما يشبه عملية ( الأيض ) وهي مصطلح طبي يعني التمثيل الغذائي . أعود إلى فن القصة القصيرة ( جدا ) . فقد جربت هذا النوع من الكتابة في مجموعتي ( رائحة المدن ) الصادرة عام 1998 م . والتي لم تحظ بقراءة جادة حتى الآن . بسبب الألتباس الذي اشرت إليه . ولكن الذي أسعدني أن طالباً في جامعة الرياض هاتفني وأخبرني أن الدكتور الذي يحاضر لهم في القصة قد قرر أن تكون ( رائحة المدن ) مع مجموعة أخرى لكاتب نسيت اسمه الآن كتاب الفصل الدراسي . وكان يطلب منهم مثلا تكملة قصة معينة . فيكتب كل منهم ما يخطر بباله ساعتها وقال لي إن بعض الطلبة يميل إلى وضع نهايات كوميدية حين يعجز عن الولوج في النص . كما ذكر لي تفسيره الخاص لقصة ( شاي ) في نفس المجموعة . وقد أعجبني تفسيره رغم بعده عن قصد القصة . فأنا أقصد من النهايات المفتوحة والقصة القصيرة جدا إلى إشراك القارئ معي في كتابة النص . لأنني أعتقد أن القارئ شريك رئيسي للكاتب في إبداعه . وكتابة بدون قراء هي محض هراء . فالقارئ النخبوي يتعامل مع النص بعضلاته العقلية . بينما يتعامل القارئ المبدع مع الكتابة بأحاسيسه ومشاعره . ولا ننكر أن الأدب هو نشاط نخبوي نوعاً ما . كونه يعني فئة المثقفين والمتخصصين ولكن هذا لا يعني التسليم بأن هذا الحال سيدوم . فمع تطور فهم الكاتب لدوره الاجتماعي تتطور آليات النشاط الثقافي بحيث تصبح القراءة عملا موجها لكل الناس حين تتوفر فيه روح الإنسان وهي طاقة خلاقة . وقتها يستطيع الكاتب أن يرتفع بذائقة القارئ غير النخبوي . لأن العملية الإبداعية هي أصلاً حوار بين الناص والمتلقي . لذ1 لا أستسيغ الكتابة التي تتوغل في الغموض ولا تعدو كونها عبارات انشائية لا أربط بينها .
وأشير إلى أن الحلم يشكل مادة رئيسية للعمل القصصي . وهذا واضح فيما أكتبه دائماً . فالحلم طاقة للخلق . لأنك تتوحد فيه بنفسك . لا يعيش أحد آخر معك تفاصيله . وأحداثه الغرابية أحيانا تجعلك تتذكرها زمنا لشدة إتقان الحلم وتفاصيله التي تشبه العمل السينمائي . لهذا أركز على عالم الحلم باعتباره مكملا للواقع ومرتبطا به ونابعا منه . فالحلم هو مزيج خبرات الماضي مع أحداث الحاضر . فهو يعبر عن رؤيتك النقية من كل شيء مسبق ويعيد ترتيب أفكارك .
وعلى المستوى اللغوي تشكل القصة بلاغة خاصة . فهي تتعامل مع أحداث ومواقف تفرض لغتها . حتى فيما يخص الحوار نلاحظ أنه في السنوات التي مضت اختفت المشكلة التي ظل كثيرون يرددونها وهي : هل يكتب الحوار باللهجة المحكية أم بالفصحى ؟ ويعلل دعاة اللهجة المحكية دعوتهم بأن القصة أشخاصاً عاديين أو عاميين فكيف يتحدثون باللغة الفصحى وهي لغة لا يمكن اكتسابها إلا بالتعليم وهي لغة الكاتب لا لغة بطل أو أشخاص القصة .
وبهذا الصدد يفضل الذين يكتبون الحوار بالفصحى ذلك لكون اللهجة المحكية قد تقف عائقاً أمام قارئ من قطر غير قطر الكاتب . أقول اختفت هذه المشكلة لأن الفصحي تستوعب الأفكار والمواقف والزمن .
ويهمني أن أشير في ختام هذه المجموعة من الأفكار والملاحظات إلى مسألة غاية في الأهمية وخاصة الآن أي في الوقت الراهن وهي:
ضرورة توفر عنصر المتعة في القصة .
وكذلك : البساطة .
فالقارئ حينما يتناول كتابا شعرياً يكون قد عرف مسبقاً أنه سيتعامل مع لغة مختلفة وموسيقى ورموز . بينما ينتظر من القاص أن يروي له حكاية . وأن تكون هذه الحكاية من الذي يمكن أن يتكرر كل يوم . وتبقى مهارة القاص وموهبته هما اللتين يحددان كيف يحول هذه الحكاية إلى نص يمنح المتلقي المتعة والثقافة ويجعله يقبل على القراء مدفوعا بهذا الأحساس الغامر .
والبساطة ليست مرادفا للمجانية أو السهولة ولكنها مصطلح يراد به أن يقترب الكاتب من حياة الناس وينفعل بها بشكل حقيقي بعكس ما ساد فترة طويلة من الزمن من قصص وروايات تدور أحداثها في أمكنة لا يعرفها الجمهور .
فالقصة التي ينفعل بها القارئ هي تلك التي تكون نتيجة تراكم تجارب شخصية للكاتب . يحولها إلى نص مكتوب . ويقرأها الناس من هذا المنطلق .
ولا يعني هذا أن الكاتب يروي قصة شخصية أو أنه يتكلم عن نفسه .
لقد تعلمت من خلال القصة كيف أتعامل مع الأحداث اليومية مستمتعا بها مهما كانت درجة كآبتي . إذ أصوغ أحداثاً من عندي على مواقف لست طرفا فيها ..
للفائدة والإطلاع ،،، جرى لطشه ...
تحياتي
جار الله الحميد
(( تحظى القصة القصيرة بجماهيرية لا يتمتع بها معظم أنواع الإبداع الأخرى . فرغم انتشار أنواع بديلة من الدراما كالفيلم والمسلسل التلفزيوني ظلت تتراكم نوعيا وكيفيا وتنجز مشاريعها الخاصة نحو بلوغ أفضل طرق الكتابة في حركة دؤوب لا تعرف التوقف . وربما عاد ذلك إلى أن القصة القصيرة توفر للقارئ عنصراً مهما في العمل الفني وهو عنصر ( المتعة ) .
أي أن القارئ في ذات الوقت الذي يتلقى فيه الخبر يتفاعل معه لا باعتباره حدثا بل كلعبة يشترك هو والقاص في لعبها . وهذا يميز القصة عن الشعر مثلاً . فالأخير يكاد يكون نخبويا من حيث الشروط التي يفرضها على مستمعه وقارئه وأولها أن يكون ملما بالنوع الموسيقي الذي يجب أن يتوفر في الشعر . وربما لأن الشعر هو شيء يتوسل الأسطورة واللغة الموازية في حين أن القصة تعتمد في بث رسالتها على إمتاع القارئ وجذب انتباهه إلى غرابة الخبر أو واقعيته الخافية وكيفية تحويله من الذاتي إلى الجماعي .
علاوة على أن القصة بمعنى شمولي تدخل في نسيج حياة الإنسان اليومية . فأنت عندما تتسامر مع أصدقاء إنما تروي لهم قصة وحين تشكو إلى الطبيب فأنت تروي قصة . وحين تتحدث عن واقعة فأنت تتخطى موقع ( المخبر ) إلى موقع ( الراوي ) لأنك تضفي على الواقعة أسلوبك الخاص الذي يختلف عن أي أحد يروي نفس الواقعة .
وقد شهد فن القصة جيلاً بعد جيل نقلات نوعية كبرى فبعد أن كان النقاد يحكمون على القصة من خلال ثلاثة لأقانيم هي : البداية، العقدة، النهاية .
شهد هذا الفن تخلياً مستمرا عن هذه الشروط . وسنعود لذلك فيما بعد . إذ يهمني الإشارة إلى كتابنا المقدس القرآن الكريم قد بث رسالته العظيمة من خلال القصة إذ يقول تعالى ( إنا نقص عليك أحسن القصص ) . ومنها قصة سيدنا يوسف عليه السلام وسيدتنا مريم وهي كلها تمثل أهمية القصة من حيث هي ( خبر ) يحمل في ثناياه رسالة أو هدفاً .
تتميز القصة عن باقي الفنون بكونها ذات جذور في كل الحضارات قبل أن تصل إليها يد الإنسان فتتفنن في تطويرها من مرحلة الخبر / الحكاية إلى مرحلة خلق هذا الخبر وإعادة صياغته بما يتفق مع فكر وتوجه ورسالة كاتبها ومع حال الشعب الذي يستهلكها كمنتج إبداعي مؤسس على اللغة والعادات والفلكلور الإنساني لكل حضارة وترجمة الوعي الجمعي للناس إلى إبداع يحرضه على التجسد عبر أعمال وأشكال ومعادلات موضوعية .
ولا تختلف القصة من حيث هي : إنتاج إنساني عن باقي الفنون الأخرى في خضوعها للشروط الموضوعية التي تدخل في نسيج الفن فتؤهله إلى أن يكون إحدى مصادر ثقافة المجتمع وقيمه وتقاليده .
ولكنها تتميز بكونها لا تحتمل أن تكون مادة لبث الشعارات السياسية كما يحدث في الشعر مثلا حتى ولو كان شعرا جيدا ! فهي فن هادئ . يركز على المشهد والحوار أصلا ثم يعود حين يمر عليه زمن ما إلى موقع التاريخ الغير رسمي أو غير عمومي ! ونخطي حينما نطلب من القاص أن يعطينا مبررات أو مذكرات تفسيرية لكتابته فهذا أولا يتنافى مع أصول التعامل مع الإبداع بعامة . ثم إن القاص لا يزعم أنه يحيط علما بكل شيء ولكنه يخلق نصا بديلا للنص المعاش اليومي إذا ما اعتبرنا الواقع نصا وهو اعتبار قريب من الحقيقة فحركتنا اليومية وما يجري من أحداث فيها تشبه النص الفني من ناحية أنها تمتلئ بالمفاجآت والمواقف التي تبدو كما لو كانت غرائبية . ولكنها تفترق مع النص الفني في كيفية تعامل اللغة القصصية معها فما ينسى الشخص العادي من ملاحظات صغيرة ولكنها هامة هو ما يشكل مادة القاص وخامته . أي باختصار : فإن القصة هي كتابة المرآة المختفية بين ركام الوقت .
أحياناً يسألني سائل : كيف أكتب قصة قصيرة ؟ !
والحقيقة أنني لا أجد إجابة على هذا السؤال .
ففعل الكتابة بحد ذاته هو تجاوز للقواعد . أي أنه فعل شخصي . ليس عملية ميكانيكية . الكتابة هي : رد فعلك تجاه الأحداث والأشياء . مثلها مثل الحلم الذي لا يزال الناس يحتارون في تفسير آليته .
فأن تكتب إذن : هو أن تتعلم كيف تمزج خبرات الماضي مع أحداث الراهن مع رؤياك للمستقبل .
وبالطبع تبدو هذه النصيحة غير علمية وخاصة بالنسبة إلى النقاد الكلاسيكيين والراغبين في كتابة تمتلك شروط الإنشاء الجيد . مع أن أحدا لا يمكنه إغفال الإنشاء كعنصر هام في الكتابة . أية كتابة . فعادة يصدمك بعض النقاد بأن عملك إنشائي وهذا كلام مجاني مهما لبس من لباس العلم . فلا يمكن أن نتصور أن شخصاً يعجز عن كتابة رسالة شخصية بسبب ضعفه في التعبير والإملاء قادراً على إنتاج كتابة إبداعية . وإن كان لنا من تحفظ على الإنشاء فهو تجاه بعض الذين يكتبون خواطر أو مشاعر تحت مسمى القصة . فالقصة في ذات الوقت الذي تتوسل فيه أرقى أشكال اللغة بلاغيا لا تحصر مشروعها ضمن كتابة جنس أدبي ليس فيه قصة ولا خبر ولا حتى إغواء الكتابة .
كيف تكتب ؟!
علينا أن ندرك أن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي معرفة ذاتك كشخص يملك خصوصيته . بمعنى أن ثمة قصة لدى كل أحد منا . لا يستطيع أن يرويها كتابة أو عبر نوع اتصالي آخر إلا هو . وإذا بدا أن العبارات السابقة غامضة فأنني أبادر إلى توضيح ما أقصده بالخصوصية . وهو : أن الشخص الذي يكتب عليه أن يدرك أنه بصدد عمل شخصي أو ذاتي يستحيل على غيره أن يفعله وهو ما يمكن أن نسميه بالتفرد . والتفرد الذي أعنيه هنا ليس تلك الكلمة التي تقال في معرض المديح . ولكن المعنى القاموسي لها وأقرب ما يكون له هو الاختلاف عن بقية الناس في تاريخك الشخصي واستعمالك للكلمات والتعابير وطريقتك في رواية الحدث التي لا تشابه مع طرق آخرين لأنها تمثل طريقتك في التعامل مع ما ترويه بمعجمك الخاص .
أن القصة القصيرة فن مراوغ أيضاً . فقد يظن البعض أنها أسهل مطية حين يكون الشعر مثلا كجنس مكرس في الذاكرة الجماعية يتطلب شروطاً يسهل حتى على غير المشتغلين بالفن تمييزها . وهذا بالذات يعيدنا إلى الحديث عن الكتابة ككل .
هل يمكننا اعتبار الكتابة مؤسسة كما يقول ( رولان بارت ) . أي أننا حينما نكتب ننتمي بالضرورة إلى مؤسسة الكتابة بحيث يصبح موضوعنا الرئيسي هو : كيف، ومتى : نكتب . لنعد إلى القصة . وبالتحديد إلى التراث العربي . لنسأل : هل عرف العرب هذا الفن ؟ قبل غيرهم ؟ أم بعدهم ؟ وجملة أسئلة أخرى . إننا نعرف ( ألف ليلة وليلة ) . وهي وحدها عمل قصصي ضخم . يمتزج فيه السحر والخرافة والحب وحكايات التجار والولاة والحرفيين والقيان والغلمان و الشعر والفلسفة والأخبار بشكل لا يمكن كتابته مرة أخرى . مع أنني أميل ككثير من المهتمين إلى اعتبار هذا السفر الضخم واحدا من أهم الإبداعات القصصية العالمية .
كنت لا أود الخوض في تفاصيل هي أقرب للشأن الأكاديمي . فأنا كاتب قصة ولست ناقداً . يهمني بالدرجة الأولى أن أنقل إليكم ما أستطيع من تجربتي الفنية ورؤاي فيما يتعلق بهذا الفن . ولكنني سأقتطف لكم شيئاً من كتاب القاص العربي الكبير يحي حقي الذي أسماه ( أنشودة للبساطة .. مقالات في فن القصة ) فهو يقول عن موقف بعض النقاد من أن القصة ليست فنا عربيا ( ومن بين ما يقوله بعض النقاد لهؤلاء الشباب أن فن القصة عندنا مستورد من أوربا وأن العرب لم يعرفوا القصة . كل ما ورد في أدبهم إن هو إلا نوع من الحكايات والنوادر والملح لا يرقى إلى مقام القصة كما يعرفها العالم المتمدين ) ويرد يحيى حقي على ذلك بقوله ( ولا تأخذني نخوة عندئذ فأتصور أن تجريد أدب العرب من فن القصة ومن فن المسرح أيضاً تهمة بشعة لا بد من ردها دفاعا عن العرض والشرف ولو بالتمحك والتعلل بحجج واهية . يكفي العرب فخرا ديوان شعرهم العظيم . إن فن الشعر عندهم بلع بقية الفنون في جوفه فهو الموسيقى وهو التصوير وهو النحت ) .
وهكذا ترون كيف تعامل قاص كبير على مستوى العالم مع هؤلاء الذين لا زالوا يرون في الغرب محتكراً لبعض أنواع التعبير الأدبي . متناسين أن تراكم الخبرة والتجربة العربية في هذا الفن بالذات قد أثمرت إبداعات عربية تفوقت على نظيرتها في أوربا ولست بصدد ذكر أسماء لأن أمنيتي أن يكون الحضور مركزين على معنى القصة الذي أرى أنه لابد من الوصول إليه . حتى يزول الالتباس لديكم بين ما ينشر أحياناً باسم القصة فيما هو لا يعدو أن يكون خواطر شعرية غير ناضجة . القصة بعيدة عن الشعر إلا في حالات شديدة الحساسية . وحتى الشعراء الذين كتبوا قصصاً أو روايات لا تلمس روح الشاعر وتعامله مع اللغة فيها لأنهم يعون أن القصة هي خبر أو كما يسمى في تراثنا العربي حكاية أو طرفة أو نادرة .
فكتاب البخلاء للجاحظ مليء بالقصص التي وإن حاول إيهامنا بأنها حقيقة إلا يحيى حقي فهو يقول عن القصة بما هي أحداث ( إنما تؤخذ الأشياء لدلالتها العامة المتخلصة من قيود الزمان والظروف العارضة بل وحتى من خصائص اللغة وهي آخر قيد وأصعب قيد ينكسر . حينئذ تتوجه برسالتها إلى جميع الناس حينما وأينما أتوا من شهدها ومن لم يشهدها يستوون في فهمها والإحساس بها . حينئذ يكون لها جدواها ويكتب لها الصدق والبقاء ودوام الأثر ) ويقول في عبارة أرى أنها بالغة الأهمية ( وقد بدأت الفقرة السابقة بكلمة قول بدلا من كلمة مبدأ . فليس في الفن قواعد ثابتة صلبة كالحديد إنه زئبق كطبع الإنسان )
هكذا إذن ؟ ! لقد تذكرت هذا القول الشفاف وأنا أقرأ دراسة عنوانها ( كتابة القصة القصيرة من تأليف ( ولسن ثورنلي ) أقتطع لكم منها هذا الجزء وهو كاف للدلالة على الدراسة وكاتبها . فهو في باب ( التطبيق على القواعد ) يأتي إلى عنوان الحوار ليطرح تحته هذه الأسئلة :
أ ـ بناء القصة ؟
ب ـ تطوير المشاهد ؟
ج ـ تعميق الفهم للشخصية والدوافع ؟
2ـ هل العبارات المصاحبة للحوار استعملت بشكل مؤثر وأعيدت بنجاح ووزعت بشكل مناسب ؟
3ـ هل لغة الحوار اصطلاحية ومناسبة ؟ أ . هـ
وكما ترون فهذه لغة نقدية متدنية . تحاول أن تجعل من القصة علما يمكن لأي شخص مذاكرته وحل التمارين الموجودة في الكتاب ليصبح كاتب قصة ! لهذا أرى أن مثل هذه الدراسات تعيق من حركة تقدم الإبداع القصصي . إذ تحيله إلى مادة جامدة . وتتناسى أن قيمة الفن هي في تخليه عن الشروط المسبقة .
بالطبع أنا ضد ما يسمونه ( النص المفتوح ) أي القابل لكل الاحتمالات والذي يمكن لكاتبه أن يدعوه قصة أو شعرا أو تشكيلا أو موسيقى لأنه بهذه الطريقة تتداخل الأنواع الأدبية بشكل غير صحي وغير سليم من الناحية الإبداعية المنطقية .
نعم ثمة نصوص جميلة من هذا النوع ولكن جمالها يمكن في لعبة اللغة التي أرى أنها تفسد الشعر والقصة في حين أنها تفيد النص الذي لا ينتسب إليهما . ولا يلبث هذا الإعجاب أن يزول مع مرور الزمن بعكس ما يحصل عندما نتذكر روايات وقصصا لـ ( جيمس جويس ) أو ( عزيز نسين ) أو ( نجيب محفوظ ) أو ( ماركيز ) أو ( يحيى الطاهر ) أو ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن ـ ولاحظوا أنني لا أحرضكم على قراءتهم لأنني أؤمن باختيار القارئ نفسه ـ . ولكن البساطة هي أهم شروط القص . البساطة والإمتاع اللغة ليست فقط هي المعجم أو القاموس أو ما يتداوله الناس في حياتهم الدراسية . كلا . إن للغة وظائف أخرى أهمها تحريض القارئ على ابتكار قاموسه الشخصي حينما يقوم بفعل القراءة .
ولعل الجنس الأدبي المنبثق عن القصة القصيرة وهو ( القصة القصيرة جدا ) يعاني التباساً شديداً . حتى من قبل الذين يتصدون للنقد . أما الكتاب الذين يمارسون هذا النوع من الكتابة فهم يمارسونه على استحياء . كأنما يقومون بفعل غير مهذب ذلك أن الساحة الأدبية لدينا لم تر في هذا الجنس سوى أنه أضيفت إليه كلمة جدا وصار النص قصيراً وغائماً . وهذا ربما يعود إلى أن أغلب الذين كتبوا القصة القصيرة جدا ليسوا على إلمام بشروطها الموضوعية والفنية .
فهي ليست تلخيصاً لقصة ولا عبارات تتوسل الشعر وهي أبعد ما تكون عنه لأن الذي يريد أن يكتب الشعر لا يتوسله عبر آليات مناقضة له . بالفعل إن آلية كتابة القصة تكون عبر وعي نوعي بها . وحب لها . عندما تحب القصة تستطيع وقتها أن تكتبها بدون أن تستعين بمراجع كالذي ذكرناه آنفا يعلمك كيف تحرك الشخوص واصلا كيف تختارهم ! ثم يعطيك تمارين محلولة تقيّم بها مدى تقدمك في كتابة القصة .
القصة باختصار هي تحويل الخاص إلى عام . أن تنقل بطلك حتى ولو كان ليس شخصاً فليكن جماداً أو زمنا أو مكاناً إلى بؤرة يتعرف عليه القارئ من خلالها بكل ألوانه وأطيافه ويحس بالتضامن معه والاستمتاع به ويقضي معه وقتا طيباً ممتلئاً بمتعة الفن وبساطته . كيف يمكن أن يتم ذلك . أنني لازلت أعيش فتنة خاصة ألمت بي وأنا أقرأ كتاب المبدع الكبير يحيى حقي ذا العنوان الأخاذ ( أنشودة للبساطة ) لذا سأحيلكم إلى مقطع كامل منه في كيفية بناء سياق قصصي من أحداث أو عبر أشياء معينة . يقول :
( أنت تريد أن تحدثنا عن إنسان بالذات فينبغي عليك أن تفرزه عن العموم والشيوع حتى لا يختلط بغيره ) ويكمل في بلاغة البساطة التي أسس لها عبر النوعية منذ ( قنديل أم هاشم ) روايته العظيمة التي طرح فيها قضية شعب يتأرجح بين الرغبة في النهوض والأنصياع للشعوذة كنموذج لصراع العلم مع قوى التخلف التي تزعم أنها تمثل الأيمان ووالله ما هي من الإيمان في شيء لو تعلمون . أقول يكمل قائلا : ( وهذا المطلب يقتضي منك قدرتين عسيرتين . الأولى قدرة قاموسك على الاتساع بحيث يشمل جميع الأنواع والفصائل فتعرف اسم كل طائر وكل زهرة ) ثم يتابع ( ما أكثر ما أسمع في هذه القصص ورفع بصره فرأى طائراً يحلق فوق رأسه !!
هنا ينبغي أن تقول : فرأى غراباً أو هدهداً أو صقراً أو حدأة .. الخ، أو أسمع : فقطف زهرة وأخذ ينتسم عطرها، هنا ينبغي أن تقول : فقطف وردة أو قرنفلة أو ياسمينة .. الخ، أو تقول : ودخل حجرة قديمة الأثاث فوجد منضدة .. هنا ينبغي أن تقول : منضدة من خشب أبيض أغبر طلاؤها أو انفرجت قوائمها ) .
أن ما يقصد يحيى حقي هو بالضبط ما نقصده حين نقول : أكتب نفسك ! فأنت حين تعين مصدر قلق البطل وتحيله إلى اضطراب وجداني معروف في علم النفس بالأسم أوقع بكثير بل هو أصدق من أن تجعله تهويمات لا يدري القارئ كيف يقبض عليها أو حين تحدد اسم بطلك مع أن ليس في القصة سواه فإنك لا تقدم فناً جديراً بالمتعة !
فما هي جدوى تحديد مكان جغرافي إذا كنت تتحدث عن حالة فصام أصابت الراوي وهو يشاهد التلفزيون ( راجع قصتي الكوب من مجموعة ظلال رجال هاربين مثلاً ) وهكذا نجد أن البساطة لا تعني إغفال اسم الوردة التي يشمها البطل فالأصل أنه يعرف مثلاً أنها قرنفلة ! وعندما يحدد أنها قرنفلة يحس القارئ أن الكاتب يعطيه معلومات صحيحة رغم إدراكه أنها خيالية ولكن متى كان الخيال بعيداً عن الواقع ؟ !
إن الواقع كله هو أحياناً محض خيال ! ألا يحدث وأنت تشاهد رجلين يتخاصمان حول قطعة نقد رخيصة ويتبادلان الاتهامات ويرشقان بعضهما بصنوف الكلمات الكبيرة كل منهما مدعيا أنها له أنك تعيش في حلم ! بعكس ما يحدث حين يكون الحلم الذي تراه في مناماتك موضوعا لقصة . أنه يحمل كل صفات الواقع وينفعل ويتأثر به وينبئ عنه إليه . لذا فالحلم يشكل موضوعاً رئيسياً لغالبية القصص والكتاب مثل ( غالب هلسا ) في روايته ( البكاء على الأطلال ) خصوصاً فالقصة تستمد عالمها من العالم الموازي . وحتى لو كانت تصور الواقع بدقة فنية فإن لها عالمها الذي يشكل معادلا موضوعيا للعالم البديهي .
وأعترف ككاتب أن كتابة القصة من أصعب أنواع الكتابة . ولكن متى قررت أن تكتب قصتك تلك التي لن يحكيها إلا أنت تصير سهلة . لا يجب أن يصور القاص مناظر طبيعية في كتابته أو أن يسرد عن أشخاص خبرهم بالفعل مهما بدت قصتهم جيدة . في البداية عليه أن يكتب ذاته . لا أعني أن يحصر إبداعه داخل مواضيع ذاتية وإنما أعني تلك المرآة التي بداخله والتي ينعكس عليها وجود العالم أجمع !
إن حياتنا في الأساس مجموعة من القصص ولكن لطولها وكوننا نحن شخوصها لا نحس بها مثل إحساس الآخرين بها .
أنا لم أعد إلى مراجع أثناء كتابة هذه الألمامة والكتابان اللذان ذكرتهما كانا بالقرب مني بالمصادفة فأنا لا أرتب كتبي . لما المراجع ؟ ! القضية ابسط من ذلك بكثير !
هل سيسألني أحدكم : كيف اكتب قصة ؟! مرة سؤلت هذا السؤال . كان الشاب الذي يسألني متحمساً جداً لأنه سألني أيضاً لمن يجب عليه أن يقرأ من الكتّاب ؟! كان جوابي أنه لا يجب أن يسأل هذه الأسئلة . إذا كنت ستكتب قصة يوما ما فلن يتم هذا بنصائحي أو نصائح غيري . إقرأ كثيراً في كل شيء . كل شيء . حتى الإعلانات في الصحف أقرأها . الحوادث . صفحة الوفيات . الكرة . السياسة بالذات . الاقتصاد . الفن . كلما زادت حصيلتك اللغوية كلما اقتربت من حافة الكتابة . خذ مثلاً المناضل الأمريكي ( مالكولم إكس ) كان يحس أن لديه رسالة لشعبه عن ضرورة القضاء على الميز العنصري وحين تكونت لديه أفكار أخرى لكنه ظل يعاني : كيف يوصل أفكاره . فما كان منه طيلة سجنه إلا أن صار ينقل كل يوم صفحة من القاموس ( الديكشنري ) ويحفظها قراءة وكتابة عن ظهر قلب فلما خرج من سجن بهذه الثروة اللغوية قال خطابا أذهل الشعب الأمريكي بغض النظر عن موقفنا من الرجل ودعوته .
كلما قرأت لا تفكر بأنك ستكتب مثل هذا الذي تقرأ . فهذا مأزق صعب . أعرف كثيرين يعانون منه . إن الهوة تزداد عمقا يوما بعد يوم في هذه الحالة . الإبداع لا يكف عن التطور . أنت تسجن نفسك داخل نماذج ربما لو نسيتها لكتبت أفضل منها . هذا هو الشيء الذي يمزق الفنان الحقيقي . أن يكون في حالة تماهي كاملة مع نص لكاتب ما لا يستطيع الخروج منه . ومهما بدا هذا النص عظيما . فإن علينا أن لا نقدسه . بهذا فقط ننتج نصوصاً أعظم منه .
وأعترف بأن هذا الشعور ينتابني أحياناً إزاء نصوص أو كتاب معينين . فعملية الإبداع معقدة . إنك تكتب وفي ذهنك نصوص معينة . تظل طوال الوقت تناسيها لتكتب نفسك . وبما أن القاص مطالب دوما بالقراءة فهو مطالب أيضاً بتمثل ما قرأه . بما يشبه عملية ( الأيض ) وهي مصطلح طبي يعني التمثيل الغذائي . أعود إلى فن القصة القصيرة ( جدا ) . فقد جربت هذا النوع من الكتابة في مجموعتي ( رائحة المدن ) الصادرة عام 1998 م . والتي لم تحظ بقراءة جادة حتى الآن . بسبب الألتباس الذي اشرت إليه . ولكن الذي أسعدني أن طالباً في جامعة الرياض هاتفني وأخبرني أن الدكتور الذي يحاضر لهم في القصة قد قرر أن تكون ( رائحة المدن ) مع مجموعة أخرى لكاتب نسيت اسمه الآن كتاب الفصل الدراسي . وكان يطلب منهم مثلا تكملة قصة معينة . فيكتب كل منهم ما يخطر بباله ساعتها وقال لي إن بعض الطلبة يميل إلى وضع نهايات كوميدية حين يعجز عن الولوج في النص . كما ذكر لي تفسيره الخاص لقصة ( شاي ) في نفس المجموعة . وقد أعجبني تفسيره رغم بعده عن قصد القصة . فأنا أقصد من النهايات المفتوحة والقصة القصيرة جدا إلى إشراك القارئ معي في كتابة النص . لأنني أعتقد أن القارئ شريك رئيسي للكاتب في إبداعه . وكتابة بدون قراء هي محض هراء . فالقارئ النخبوي يتعامل مع النص بعضلاته العقلية . بينما يتعامل القارئ المبدع مع الكتابة بأحاسيسه ومشاعره . ولا ننكر أن الأدب هو نشاط نخبوي نوعاً ما . كونه يعني فئة المثقفين والمتخصصين ولكن هذا لا يعني التسليم بأن هذا الحال سيدوم . فمع تطور فهم الكاتب لدوره الاجتماعي تتطور آليات النشاط الثقافي بحيث تصبح القراءة عملا موجها لكل الناس حين تتوفر فيه روح الإنسان وهي طاقة خلاقة . وقتها يستطيع الكاتب أن يرتفع بذائقة القارئ غير النخبوي . لأن العملية الإبداعية هي أصلاً حوار بين الناص والمتلقي . لذ1 لا أستسيغ الكتابة التي تتوغل في الغموض ولا تعدو كونها عبارات انشائية لا أربط بينها .
وأشير إلى أن الحلم يشكل مادة رئيسية للعمل القصصي . وهذا واضح فيما أكتبه دائماً . فالحلم طاقة للخلق . لأنك تتوحد فيه بنفسك . لا يعيش أحد آخر معك تفاصيله . وأحداثه الغرابية أحيانا تجعلك تتذكرها زمنا لشدة إتقان الحلم وتفاصيله التي تشبه العمل السينمائي . لهذا أركز على عالم الحلم باعتباره مكملا للواقع ومرتبطا به ونابعا منه . فالحلم هو مزيج خبرات الماضي مع أحداث الحاضر . فهو يعبر عن رؤيتك النقية من كل شيء مسبق ويعيد ترتيب أفكارك .
وعلى المستوى اللغوي تشكل القصة بلاغة خاصة . فهي تتعامل مع أحداث ومواقف تفرض لغتها . حتى فيما يخص الحوار نلاحظ أنه في السنوات التي مضت اختفت المشكلة التي ظل كثيرون يرددونها وهي : هل يكتب الحوار باللهجة المحكية أم بالفصحى ؟ ويعلل دعاة اللهجة المحكية دعوتهم بأن القصة أشخاصاً عاديين أو عاميين فكيف يتحدثون باللغة الفصحى وهي لغة لا يمكن اكتسابها إلا بالتعليم وهي لغة الكاتب لا لغة بطل أو أشخاص القصة .
وبهذا الصدد يفضل الذين يكتبون الحوار بالفصحى ذلك لكون اللهجة المحكية قد تقف عائقاً أمام قارئ من قطر غير قطر الكاتب . أقول اختفت هذه المشكلة لأن الفصحي تستوعب الأفكار والمواقف والزمن .
ويهمني أن أشير في ختام هذه المجموعة من الأفكار والملاحظات إلى مسألة غاية في الأهمية وخاصة الآن أي في الوقت الراهن وهي:
ضرورة توفر عنصر المتعة في القصة .
وكذلك : البساطة .
فالقارئ حينما يتناول كتابا شعرياً يكون قد عرف مسبقاً أنه سيتعامل مع لغة مختلفة وموسيقى ورموز . بينما ينتظر من القاص أن يروي له حكاية . وأن تكون هذه الحكاية من الذي يمكن أن يتكرر كل يوم . وتبقى مهارة القاص وموهبته هما اللتين يحددان كيف يحول هذه الحكاية إلى نص يمنح المتلقي المتعة والثقافة ويجعله يقبل على القراء مدفوعا بهذا الأحساس الغامر .
والبساطة ليست مرادفا للمجانية أو السهولة ولكنها مصطلح يراد به أن يقترب الكاتب من حياة الناس وينفعل بها بشكل حقيقي بعكس ما ساد فترة طويلة من الزمن من قصص وروايات تدور أحداثها في أمكنة لا يعرفها الجمهور .
فالقصة التي ينفعل بها القارئ هي تلك التي تكون نتيجة تراكم تجارب شخصية للكاتب . يحولها إلى نص مكتوب . ويقرأها الناس من هذا المنطلق .
ولا يعني هذا أن الكاتب يروي قصة شخصية أو أنه يتكلم عن نفسه .
لقد تعلمت من خلال القصة كيف أتعامل مع الأحداث اليومية مستمتعا بها مهما كانت درجة كآبتي . إذ أصوغ أحداثاً من عندي على مواقف لست طرفا فيها ..
للفائدة والإطلاع ،،، جرى لطشه ...
تحياتي