تذكار
12-02-2004, 12:54
ما ضابط الحكم على الشخص بأنه من الخوارج ، وما حكم المعاهدات بين الدول العربية والكفار .
(*) فضيلة الشيخ ، كثر هذه الايام إطلاق لقب الخوارج على كل من يقاتل الكفار أو الامريكان ، ويلاحظ توظيف هذا المصطلح سياسيا بما يخدم الاهداف و الاطماع الامريكية ، كما ثار جدل واسع حول قضية المعاهدات ومتى تكون شرعية ومتى لاتكون كذلك ، فنرجو بيان الجواب الشافي ، احسن الله إليكم
جواب الشيخ حامد بن عبد الله العلي :
بتاريخ : 18-05-2003
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
المفارقة العجيبة هنا أن الذين يتهمون هذه الجماعات بأنها من الخوارج ، يتعامون عن أن الزعماء هم أحق بهذا الوصف ، فهؤلاء الزعماء السياسيون ـ أقول هذا من باب التسامــــح في عدم التقيد بالتعريف الفِرَقي ـ هم أحق بوصف الخوارج .
وكيف يُتعجب من هذا الأمر ، والحال أن الخوارج إن كانوا استحقوا هذا الوصف لانهم خرجوا عن السنة ، فالزعماء الذين عطلوا الشريعة خرجوا عن الشريعة كلها بل وحاربوها ، وليس عن السنة فقط .
وإذا كان الخوارج قد أخطأوا في فهم النصوص مع أنهم كانوا معظمين لها ، ولم يكونوا يعارضونها بغيرها بل هم يزعمون جهلا أنهم أحق بتطبيقها، فهؤلاء الزعماء الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وحكموا الجاهلية في بلاد الإسلام ، هم أحق بوصف الخروج قطعا .
وإذا كان الخوارج يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، فليت شعري ، ألم يقتل هؤلاء الزعماء الظلمة الآلاف من المسلمين ، ألم يذبحوا المسلمين دفاعا عن الصهاينة ، ألم يحموا الصهاينة بسحق المجاهدين ، ألم يُقتل الآلاف في أفغانستان بإعانة الصليبيين على قتل المسلمين ، ألم يذبح الآلاف في قلعة جانجي ذبحا ، ألم يهلك خيار أهل الارض من المجاهدين في أفغانستان جوعا وعطشا في الحاويات الامريكية ، اليس في العراق كل يوم دم مهراق ،ألم يشهد الشاهدون ، أن وظيفة جيوش هذه الانظمة ـ التي طالما كانت عونا للكافر على الاسلام ـ الأهم هي سحق شعوبها , وليس قتال الكفار من أعداء الإسلام !!
وإذا كان الخوارج يذرون الكفار ، ويقتلون أهل الإسلام ، فهؤلاء الزعماء ، يوالون الكفار ويقاتلون معهم أهل الإسلام ، فأي الفريق أحق بوصف الخوارج إن كنتم تعلمون .
والعجب العجاب أنه حتى أمريكا التي تفرح كثيرا بإطلاق لقب الخوارج على الرافضين الغاضبين من الأوضاع الدولية بقيادتها ، أوالخارجين عن هيمنتها كما أطلقت مصطلح ( الدول المارقة ) ـ مع أن الذين تفرح بإطلاق اسم الخوارج عليهم اليوم ، لم يكونوا كذلك لما احتاجتهم أمريكا لتحارب الاتحاد السوفيتي ، بل كانت تسميهم (مناضلوا الحرية ) !! آنذاك ــ أقول العجب العجاب أنه حتى أمريكا نفسها هي في الحقيقة خارجة عما يسمى النظام الدولي ، حتى إنهـأ احتلت دولة جاثمة على ثاني اكبر احتياطي للنفط في العالم ، وهي العراق ، احتلتها أمريكا خروجا منها على النظام الدولي جهارا نهارا ، فهي إذاً أكبر خارجة ، وهي أصل كل خروج ومروق في العالم .
ذلك أنها عندما احتاجت أن تحتل العراق ولم يسعفها النظام الدولي ، خرجت عليه ، ضاربة به عرض الحائط ، وتبعها أولياؤها فخرجوا لخروجها ، فأعانوها سرا وجهرا ، فلو جاز لنا أن نعتد بالنظام الدولي ، فليس لاحد الحق أن يطلق على أي طائفة مقاتلة رافضة لقيادة أمريكا للنظام العالمي ، بعدما عبثت أمريكا بالنظام الدولي ، يطلق عليها أنها من الخوارج .
وأيضا فهؤلاء الزعماء خرجوا على حقوق شعوبهم ، وساموهم سوء العذاب ، وحرموهم حتى من العدل الذي هو أساس الحكم ، ولا يقوم العدل إلا بالحكم بالشريعة والشورى ، فكل ذلك عندهم مضروب به عرض الحائط ، فإذاً هؤلاء الحكام هم الخوارج حقا وصدقا ، الخوارج عن الحق والعدل .
هذا ولا ينقضي عجب المرء من تباكي هؤلاء الزعماء على دماء الأبرياء ، عندما تقع عمليات مثل التي وقعت الأسبوع الماضي ، بينما حالهم الذي لم يزل ، أن أيديهم ملطخة بدماء المظلومين ، وسجونهم مليئة بالمعذبين ، وسجلات دولهم مسودة بانتهاكات حقوق الإنسان ، ومازالت أمريكا ـ مع أنها أعظم منتهك لحقوق الإنسان ـ عندما تريد أن تزلزل عروشهم ، تهددهم بفضح سجلاتهم فيما فعلوه في الأبرياء من شعوبهم ، فيتضعضعون لها ، وترتعد فرائصهم ويخافون من انفضاح أمرهم ، وانكشاف جرائمهم في حق شعوبهم ، فيتنادون حينئذ لمنح الشعوب حقوقها كأنها منّة لهم على شعوبهم ، وليست حقا لها عليهم .
وإنه لمما يثير الأسى ، أن يتزاحم المتزاحمون أمام (كاميرات) الفضائيات هذه الأيام ، في حماسة بالغة ، ليطلقوا لقب الخوارج على من يشير إليهم الساسة بذلك ـ إذا خاف الساسة على أنظمتهم ، وليس على شعوبهم المسكينة الرازحة تحت ظلمهم ـ بينما كان أولئك العاشقون للكاميرات ، ولازالوا ، لا ينطقون ببنت شفة إزاء خروج أمريكا ومن والاها من الزعماء ، خروجهم جميعا عن الشرع والحق والعدل ، كانوا صامتين عن إنكار هذا الظلم المبين ، بدعوى أن من المصلحة الصمت عن إنكار الكفر والظلم والطغيان، فمابال المصلحة تخلفت هنا فسلطتم ألسنتكم على هذا الظلم الخاطف فحسب !!
ولعمري أين كان حماس هؤلاء عندما كان صولجان الظلم مسلطا على شعوب الأمة ، والبطش بهم ناموس الزعماء الأوحد ، وإهراق دماء الأبرياء دينهم ، وأكل أموال الشعوب بالباطل ديدنهم ، وإعانة الكفرة على غزو بلاد الإسلام نهجهم ، وتسليم أهل الإسلام للكفار ليحكموا فيهم بأحكام الطاغوت مذهبهم ، ترى أين كانت شجاعة وعاظنــــــــا !! ، ولماذا ظهرت فجأة اليوم؟!
وإنه لمما يحزن المرء ، أن يرى هذه الغفلة المستحكمة في بعض من ينتسب إلى القول على الله و شريعته العليّة ، فمن ذلك أن فاضلا من حملة العلم الشرعي ، قال لي : أرأيت هذه المقبرة الجماعية التي تحوي الآلاف فهي جريمة لصدام لم يعرف التاريخ لها مثيلا ، قلت له : أما إنــه لمجرم ، ولكن : فمتى فعلها ـ لو سلمنا بما تقول ـ قال في انتفاضة الجنوب عام 91 ميلادي .
قلت ومن كان يسيطر على الجنوب آنذاك إثر انتهاء الحرب .
قال : أمريكا .
قلت : ومن سمح له باستعمال الطيران ذي الأجنحة المتحركة بقرار مفاجئ إن كنت تذكر .
قال : بلى أذكر أمريكا سمحت له بذلك ، بعد أن انكفأت فجأة عن استمرار مسيرها إلى بغداد لقلب نظام الحكم .
، قلت : فإذن فهي سلطته على هؤلاء الضحايا ، وكانت مجازره فيهم ، تحت إشرافها ودعمها ، وأيضا فلا بد أنها صورت كل شيء بالأقمار الصناعية ، وسكتت عن كل ماجرى طول هذه المدة ، ثم جاءت اليوم لتقول لكم إنها جرائم صدام وحده .
فأطرق هنيهة ، فقال ويحك والله لقد نبهتني على أمر كنت عنه من الغافلين .
قلت له وأزيدك : عندما كان صدام يستعمل أسلحة الدمار الشامل في حربه مع إيران ، وضد شعبه ، من كان يدعمه ، وبأموال من : قال دول الخليج ، قلت كم أعطوه ، قال لا ادري ، قلت : مالا يقل عن ثلاثين مليارا ، ليحكم قبضته على شعبه ، ويدمره ، ويسفك دماءه ـ من أن بعض ذلك كان بحق ـ هذا الشعب الذي يتباكون عليه الآن .
فهل نسينا أن الزعماء الذين يتباكون اليوم على الشعب العراقي كانوا شركاء صدام في جرائمه ، وأمريكا نفسها من وراءهم تحركهم ، ولهذا السبب سرقت كل الوثائق التي تثبت ذلك في عمليات النهب التي سمحت بها من اجل أن تضيع سرقة كل الوثائق التي تدينها، وسط الفوضى العارمة .
قلت : وأزيدك .. تُرى.. لماذا لاتهتم وسائل الإعلام إلا لِماما ، لقتل الصهاينة في أرض فلسطين أكثر من ثمانية آلاف في الانتفاضة الأخيرة فقط ، ولهدم مئات المنازل ، واعتقال عشرات الآلاف من الشباب ، يعيشون أسوء الأحوال ، ويتعرضون لابشع أنواع التعذيب .
لماذا لا أحد يذكر السجل المروّع لروسيا في انتهاك حقوق الإنسان في الشيشان مثلا ، والسجل المروّع لما يحصل للمسلمين في الهند ، لماذا تُهرق كلّ هذه الدماء بأبشع صورة ، ويمر ذلك كلُّه لا أقول مرور الكرام ، بل هو مرور أمام اللئام ، يمر ذلك كله كأن هذه الدماء لاقيمة لها ، بينما إذا هلك أمريكي ، يجب أن يتحدث الجميع بحرقة وخوف على الأمن الدولي ، ودماء البشر الأبرياء ، والخطر على العالم من الخوارج!!
فقال لي : والله إن هذا الإعلام لساحر ، سحرنا فلا نرى مجرما إلا ما يريد أعداؤنا أن نراه مجرما ، وأما جرائمهم فيتكتمون عليها حتى كأنها لم تقع قط.
أما بالنسبة للجواب على سؤال السائل عن الخوارج ، فأقول : ينبغي أن نفرق بين ثلاثة أمور :
الخوارج ، والبغاة ، والأخطاء التي يقع فيه المجاهدون في القتال .
وعند الحديث على الخوارج ، يجب أن نفرق بين الخارجين على الحاكم الشرعي ، والخارجين النظام الكافر ، والخروج على النظام الدولي الذي هو طاغوت أصلا ، بل هو أصل الطواغيت ، وكبيرها ، وهو مع ذلك قانون مزيف ، حتى الدول الكبرى وضعته لتعبث به ، كما كان أهل الجاهلية يعبثون بالأشهر الحرم ، كما قال تعالى ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ) ، وكذلك الدول القوية مثل أمريكا ، يحلون القانون الدولي عاما ، ويحرمونه عاما ، ولا يقيمون له وزنا ، بينما يطالبون الدول الإسلامية فقط باحترامه ..عجبا !!
وكذلك البغاة ، يجب التفريق بين البغي على الإمام الواجب الطاعة ،والبغي على النظام الدولي الذي تريد أمريكا أن تتزعمه لتمرر مخططات الصهاينة ، وتطفئ نور الإسلام .
والواقع الذي لاخفاء فيه ، أن الصراع العالمي اليوم بين من يطلقون عليهم القاعدة ، وبين أمريكا ، هو صراع عالمي ، تدور رحاه حول النظام العالمي نفسه ، ولهذا تسمي أمريكا هذه الحرب ( الحرب الدولية على الإرهاب ) فالطرفان في حالة حرب عالمية ، محورها النظام العالمي ، وأمريكا تريد أن تستثمر تضخيم هذه الحرب ، وتستفيد من استمرارها لتكون غطاء لتمرير مخططاتها ، وتسهيل تقبل المنطقة وانصياع الشعوب لها .
ولكن يبدو أن الأمور جرت على غير ما كانت تخطط له أمريكا فاتسع الخرق على الراقع ، لاسيما والأوضاع في أفغانستان بدأت تميل تدريجا لصالح كفة طالبان ، وضد الاحتلال الأمريكي لها .
وسيأتي تفصيل وبيان للفرق بين الخوارج والبغاة والخطأ في القتال الذي يكون أصله مشروعا .
وأما سؤالك عن المعاهدات الدولية وحكمها في الشريعة ، فلابد لمن يريد التكلم في باب المعاهدات الدولية في هذا الزمان أن يستصحب أربعة أمور مهمة :
الأول :
ـــــــــــــــ
أن الأنظمة نظامان ، نظام الإسلام القائم على الاحتكام إلى الله ورسوله ، ونظام الجاهلية وهو كل ما سوى الأول ، وكل تحاكم إلى غير الله هو جاهلية ، كما قال تعالى ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) .
وكما قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد : ( قال عمر بن الخطاب إنما تنقض عري الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه ، فانه إذا لم يعرف الجاهلية ، وحكمها ، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول ، فانه من الجاهلية ، فإنها منسوبة إلى الجهل ، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين ، ولم تستبن له ، أوشك أن يظن في بعض سبيلهم ، أنها من سبيل المؤمنين ، كما وقع فى هذه الأمة ، من أمور كثيرة في باب الاعتقاد ، والعلم ، والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل ، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ) .
والنظام الدولي الحالي نظام جاهلي ، وهو مع كونه جاهليا ، فقد وضع محكما ليؤدي إلى جعل السبيل للكافرين على المؤمنين ، لايشك في ذلك موحد تيقن توحيد الأنبياء والمرسلين.
وحينئذ فالاحتكام إليه واعتباره أصلا تبنى عليه المعاهدات ، احتكام إلى الجاهلية ، ولا نعني هنا حكم التعاهد مع أهل الجاهلية ، بل نعني جعل أصل التعاهد معهم مبنيا على نظام جاهلي ، وهو القانون الدولي المعتبر في النظام الدولي .
الأمر الثاني :
ـــــــــــــــــــــ
أن لا يجوز لعلماء الشريعة أن يفتوا بشرعية معاهدة عاهد بها حاكم مسلم ـ يتحاكم إلى الشريعة ويجعلها أصلا لكل أحكامه ـ عاهد بها هذا الحاكم أهل الكفر، إلا بعد أن أربع خطوات :
1ـ أن يشاهدوا المعاهدة كاملة بجميع شروطها وبنودها التي ستكون عند الطرفين الدولة المسلمة ، والكفار ، وإلا كانت شهادتهم على شرعية المعاهدة شهادة زور قطعا ، وكل من شهد بما يجهله فهو شاهد زور .
2ـ أن يتيقنوا أنها لاتتضمن بنودا سرية ، ولا يحل للحاكم أن يقول لهم ثمة بنود سرية لايمكن إطلاعكم عليها، لايحل هذا بحال ، لاحتمال أن تتضمن شروطا لا يقرها الشرع .
3 ـ أن لا يجدوا فيها مخالفة لشريعة الله تعالى في صغير ولا كبير ، ومن ذلك أن تتضمن هدنة مؤبدة أو ما يقتضي ذلك ، فإن وجدت كذلك ، طلبوا تغييرها وعرضها مرة أخرى بعد التبديل لكل ما فيها مما يخالف الشريعة العلية.
4ـ أن يشترطوا عليه أنه إذا وجد في الواقع ما يخالف ما في هذه المعاهدة ، انه يحق لهم مساءلته ، ويُحفظ حقهم في مراقبة استمرار صحة هذه المعاهدة شرعا وفق الشروط الشرعية التي وضعوها ، كما يحفظ حقهم في إظهار النكير فيما لو حصل في واقع الحال خلاف ما عوهد عليه الكفار ، لإبراء ذمتهم أمام الله ثم المسلمين .
ويجب عليهم أن يظهروا له ، أنهم لن يفتوا بشرعية هذه المعاهدات ، إلا وفق هذه الخطوات ، وعليه إن أبى الانصياع لهذه الشروط ، أن يمضي في معاهداته ـ بسخط الله ـ عريّة عن حكم الشريعة ، بهذا تبرأ ذمة العلماء ، أن يقولوا على الله مالا يعلمون .
والعجب أن الكفار أنفسهم يطالبون ـ في الظاهر ـ اليوم أنظمتنا الحاكمة أن تسمح للشعوب بالمشاركة في الحكم ، وأن تراقب أداء الدولة ، وأن الدول الكافرة نفسها ، تعطي لشعوبها الحق في أن تراقب التزام حكامهم بمعاهداتهم ، وتعرضها بلا خفاء على مجالس (البرلمان) لديهم ، ويناقشون ما فيها من صغير وكبير ، ويتأكدون من موافقتها لقوانينهم ، وإذا حادت الدولة في التطبيق ردوها إلى الصواب، وقسروها عليه !!، بينما نحن لايتجرأ العلماء أن يطلبوا النظر إلى المعاهدات التي تعقدها الدولة مع الكفار.
فكأن واقع حالنا ، أن الزعيم هنا في بلادنا يقول : إنني قد أبرمت معاهدة مع الكفار ، فأفتوا بجوازها ولزوم احترامها على الرعيّة .
فيقول البعض : فهي إذن يا مولانا معاهدة شرعية ، واجبة الاتباع على كل الرعية ، ولا حاجة لنا أن نراها ، ولا حاجة لنا أن نسأل عن موافقة ما فيها من شروط للشريعة ، و لاحاجة أيضا أن نتأكد من عدم الحياد عن الشريعة في تطبيقها في الواقع ، بل هي معاهدة شرعية لان هذا ما يريده مولانا فله ما يريد !!! .
فهذه والله المصيبة العظمى ، والباقعة الكبرى ، أعني أن يصل الحال بعلماء الشريعة أن تهون عليهم أنفسهم ، وتهون عليهم شريعة ربهم إلى هذه الدرجة ، حتى تصبح كم يقال ( توقيع على بياض ) ، فإلى الله المشتكى مما آلت إليه حال هذه الشريعة العلية ، وعلماءها .
الثالث من الأمور التي يجب أن تستصحب قبل الكلام على المعاهدات الدولية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــ
أن الحاكم إذا لم يكن حاله أنه يجعل الشريعة الإسلامية أصلا يرجع إليه ، ويتحاكم إليه تحاكما مطلقا فيما يعاهد عليه الكفار ، وإنما يأتي بعدما يبرم المعاهدات مع الكفار على أهواءهم التي يراعون فيها قوانينهم ، ويحققون أطماعهم ، ويريد بعد ذلك من علماء الشريعة ، أن يضعوا توقيع رب السموات والأرض رب العالمين ، على أحكام الجاهلية ، وأهواء الكفار ، فإنه لا يوافقه على هذه الجريمة ، إلا من هو من أعظم المعينين على الظلم والفساد في الأرض ، الساعين إلى تمكين الكفار من استعلاءهم بجاهليتهم ، ومن فعل ذلك فهو ممن يشتري بآيات الله ثمنا قليلا ، فليس له عند الله من خلاق .
الرابع :
ــــــــــــ
أن السياسة العالمية اليوم ، قائمة ـ كما هو معلوم في علوم السياسة المعاصرة ـ على أن العلاقات الدولية أساسها مبدأ واحد هو الصديق والعدو ، غير أن تفسيرها لديهم ليس كما يظن الظان من ظاهر هاذين اللفظين .
بل هو كما جاء في كتاب مدخل إلى العلوم السياسية : ( الأصل لدى كل مجتمع سياسي أن إطاره الجغرافي يمثل بالنسبة لاصحابة ( دار السلام ) وأن ما وراءه ( دار حرب ) ومن ثم فإن الأصل في الأجنبي أنه عدو مالم تقتض مصلحة المجتمع الوطني مهادنته ، وانطلاقا من هذا تعتبر العلاقات الدولية علاقات قوى قوامها العداء والارتياب والتشكك .)) .
قلت : وقد تستغرب من أن تقول كتب السياسة المعاصرة هذا القول ، الذي يشبه إلى حد كبير قول الفقهاء بتقسيم الدور إلى دار الإسلام ودار الحرب ، وأن الأصل في الكفار أنهم أهل حرب ، ولكن الأمـر كذلك كما يذكر في كتب السياسة الدولية المعاصرة ، كما ذكرت ، وهو كذلك في واقع الحال ، من وراء ستار الشعارات الزائفة ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ثم جاء في كتاب مدخل إلى العلوم السياسية ( وهكذا فإن ارتباط مفهوم (العدو) ، بالسياسة حقيقة ثابتة ، فلا سياسة دولية من غير ( عدو ) ـ إن العداء ـ في العلاقات بين الدول هو الأصل ، وما السلام إلا مجرد مهادنة يقتضيها العداء ذاته .
وهنا يتعيّن التنبيه إلى أن للعداء في السياسة معيارا ، ليس هو معيار ( العداء ) في الأخلاق أو في الاقتصاد ، ذلك أن لعالم السياسة معاييره الخاصة به ، فليس من الضروري أن يكون ( العدو السياسي ) شريرا أو قبيحا على وفق المعايير الأخلاقية أو الجمالية ، أو أن يكون منافسا على مقتضى المعايير الاقتصادية .
وإنما العدو في عالم العلاقات الدولية هو ( الغير ) ، وهو ( الأجنبي ) ، إنه كل من ليس منا ، ومن ثم نخاف على وجودنا الذاتي منه ، وهو خوف يستدعي صراعنا الدائم معه ، إنه عداء دائم بدوام حرصنا على استمرار كياننا الذاتي ، ومن هنا ترتبط ذاتية المجتمع السياسي بقدرته الفعلية على تقرير علاقاته الخارجية عداء ومهادنة ، فالمجتمع الذي تفرض عليه العداوة والمداهنة من خارجه ليس مجتمعا مستقلا ) .
ثم قال ( وهكذا فإن العلاقات الدولية هي ـ بالضرورة على طول تاريخها ـ علاقات بين الأعداء ، اللهم إلا ما يقتضيه العداء ذاته من مهادنة ليست البتة من طبيعة هذه العلاقات ، وما فكرة المجتمع البشري العالمي المتخلص من أسباب التصادم ، ومن ثَمّ الذي ينعم بالسلام العالمي ، إلا من نسج الخيال البحت ، إن السلام ـ كالمحبة ـ قيمة أخلاقية جمالية لامكان لها في الواقع الدولي ) مدخل إلى العلوم السياسية 317ـ 318، المؤلفان أ.د. محمد طه بدوي ، وأ. د. ليلى أمين مرسي ، الناشر منشأة المعارف بالإسكندرية .
ولعمري إن هذا كله حق وصواب ، ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين بإعداد القوة ، لبقاء التحفز للعدو ، ولهذا أيضا حذّر من عداوة الكفار للمسلمين ، وأخبـــر أنها مستمرة ، كما قال تعالى : ( إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ) ، وأطلق على عداوتهم في مواضع كثيرة في القرآن أنها كيد ، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنهم يسلكون سبلا خفية للمكر بهذا الدين ، وهو كما نرى هذه الأيام ، مزاعمهم عن السلام العالمي ، بينما هم يمكرون لهذا الدين . ولهذا امر الله تعالى بجهاد الطب ، وكان الذين أنكروه من المتفقهين المعاصرين جهلاء بواقع الامر في السياسة العالمية .
ولهذا أيضا صرح فقهاء الشريعة الإسلامية في باب الهدنة ، انه لا يصح للحاكم أن يهادن الكفار هدنة أبديّة ، وهذا حكم متفق عليه بين المذاهب ، لان الهدنة الأبدية تفضي إلى تعطيل الجهاد ، وأيضا فإنه حينئذ جهل بواقع السياسة الدولية ، لا يجوز أن يتصف به الحاكم المسلم .
والمقصود من هذا كله ، أنه إذا كان واقع السياسة الدولية ما ذكر، من أنه عداء مستمر في حقيقته وإن أظهر خلاف ذلك ، ومعلوم أن الدول الغربية المستعلية بجاهليتها في هذا العصر ، تريد تحقيق هدف الهيمنة على بلاد الإسلام ، وأنها تستغل المعاهدات ، ووجودها الفعلي بسبب هذه المعاهدات ، في بلاد الإسلام ، لتكون قريبة من أماكن أطماعها ، لتنفيذ مخططاتها الخبيثة .
إذا كان ذلك كذلك ، فيجب أن يعلم أن المعاهدات التي توقعها الدولة مع الكفار ، لن تكون شرعية بحال ، إن كانت الدولة الكافرة ، ماكرة بهذا الدين ،معادية لاهله ، مستغلة وجودها على أرض الدولة التي تعاهدها ، لخدمة مراكزها الاستخباراتيه ، جاعلة سفارتها ، ومؤسساتها التابعة لها ، وقواعدها في خدمة أنشطة التجسس التي تغذي استعلاءها بالقوة ، الذي هو استعلاء للكفار في الأرض ، وتمكين لهم من ظهور كفرهم واحكامهم الطاغوتية ، ومن يفتي بأن شريعة رب العالمين ، الآمرة بجهاد الكفار والمشركين ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، أن هذه الشريعة تقر هذا الكفر و الإفك المبين ، فذلك والله الذي لا إله إلا هو ، إعانة على هدم دين الإسلام من أصله .
إذا علم هذا ، فليعلم السائل أن الواقع السياسي للعالم الإسلامي اليوم ، إنما هــو بقية آثار من تداعيات سبقت في القرن الماضي، عندما كانت البلاد الإسلامية تحت الاحتلال الصليبي السابق ، وقد فرض قبل رحيله أوضاعا تخدم مستقبل مصالحه في المنطقة كلها ، ومن ذلك تنحية الشريعة الإسلامية عن أن تكون مهيمنة بأحكامها على الدول ، خوفا من أن تكون المعاهدات بين تلك الدول والعدو الصليبي ، لاتخدم أطماعه فيما لو كانت المعاهدات مبنية على أحكام الشريعة الإسلامية وشروطها الصارمة لاسيما في اشتراط النظر لصالح الاسلام والمسلمين باعتبارهم أمة واحدة في الارض كلها.
ومن هنا فقد وقعت هذه الاشكالات التي نراها اليوم ، وفيها هذا التناقض الهائل بين واقع تصرف الكفار في بلاد الإسلام ، مع ادعاء الدول التي توقع مع الكفار هذه المعاهدات : من أن تصرف الكفار ، هو وفق معاهدات يجب احترامها ، وبين ما هو في كتب الفقه الإسلامي من شروط شرعية تعدها الشريعة أساسا لصحة المعاهدات الدولية ، فإن خلت منها هذه المعاهدات كانت باطلة غير ملزمة .
وحينئذ فإنه من الظلم المبين أن تُُضفى على هذا الوضع المعوج ، القائم في اصله على غير الأحكام الإلهية الشرعية المستقاة من الوحي ، الذي جاء فيه ( وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين ) ، أن تُُضفى عليه الصبغة الشرعية ، من قبل من لاعلم له بواقع الحال، وإنما طلب منه أن يضع توقيع الشريعة على ما يجهله ، فبادر إلى ذلك راغبا أو راهبا ، فجنى على شريعة رب العالمين ، وسيحكم فيه رب العالمين ، ملك يوم الدين ، يوم يجمع العالمين .
فهذه مقدمة رأيت أنه من المناسب ذكرها .
(*) فضيلة الشيخ ، كثر هذه الايام إطلاق لقب الخوارج على كل من يقاتل الكفار أو الامريكان ، ويلاحظ توظيف هذا المصطلح سياسيا بما يخدم الاهداف و الاطماع الامريكية ، كما ثار جدل واسع حول قضية المعاهدات ومتى تكون شرعية ومتى لاتكون كذلك ، فنرجو بيان الجواب الشافي ، احسن الله إليكم
جواب الشيخ حامد بن عبد الله العلي :
بتاريخ : 18-05-2003
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
المفارقة العجيبة هنا أن الذين يتهمون هذه الجماعات بأنها من الخوارج ، يتعامون عن أن الزعماء هم أحق بهذا الوصف ، فهؤلاء الزعماء السياسيون ـ أقول هذا من باب التسامــــح في عدم التقيد بالتعريف الفِرَقي ـ هم أحق بوصف الخوارج .
وكيف يُتعجب من هذا الأمر ، والحال أن الخوارج إن كانوا استحقوا هذا الوصف لانهم خرجوا عن السنة ، فالزعماء الذين عطلوا الشريعة خرجوا عن الشريعة كلها بل وحاربوها ، وليس عن السنة فقط .
وإذا كان الخوارج قد أخطأوا في فهم النصوص مع أنهم كانوا معظمين لها ، ولم يكونوا يعارضونها بغيرها بل هم يزعمون جهلا أنهم أحق بتطبيقها، فهؤلاء الزعماء الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وحكموا الجاهلية في بلاد الإسلام ، هم أحق بوصف الخروج قطعا .
وإذا كان الخوارج يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، فليت شعري ، ألم يقتل هؤلاء الزعماء الظلمة الآلاف من المسلمين ، ألم يذبحوا المسلمين دفاعا عن الصهاينة ، ألم يحموا الصهاينة بسحق المجاهدين ، ألم يُقتل الآلاف في أفغانستان بإعانة الصليبيين على قتل المسلمين ، ألم يذبح الآلاف في قلعة جانجي ذبحا ، ألم يهلك خيار أهل الارض من المجاهدين في أفغانستان جوعا وعطشا في الحاويات الامريكية ، اليس في العراق كل يوم دم مهراق ،ألم يشهد الشاهدون ، أن وظيفة جيوش هذه الانظمة ـ التي طالما كانت عونا للكافر على الاسلام ـ الأهم هي سحق شعوبها , وليس قتال الكفار من أعداء الإسلام !!
وإذا كان الخوارج يذرون الكفار ، ويقتلون أهل الإسلام ، فهؤلاء الزعماء ، يوالون الكفار ويقاتلون معهم أهل الإسلام ، فأي الفريق أحق بوصف الخوارج إن كنتم تعلمون .
والعجب العجاب أنه حتى أمريكا التي تفرح كثيرا بإطلاق لقب الخوارج على الرافضين الغاضبين من الأوضاع الدولية بقيادتها ، أوالخارجين عن هيمنتها كما أطلقت مصطلح ( الدول المارقة ) ـ مع أن الذين تفرح بإطلاق اسم الخوارج عليهم اليوم ، لم يكونوا كذلك لما احتاجتهم أمريكا لتحارب الاتحاد السوفيتي ، بل كانت تسميهم (مناضلوا الحرية ) !! آنذاك ــ أقول العجب العجاب أنه حتى أمريكا نفسها هي في الحقيقة خارجة عما يسمى النظام الدولي ، حتى إنهـأ احتلت دولة جاثمة على ثاني اكبر احتياطي للنفط في العالم ، وهي العراق ، احتلتها أمريكا خروجا منها على النظام الدولي جهارا نهارا ، فهي إذاً أكبر خارجة ، وهي أصل كل خروج ومروق في العالم .
ذلك أنها عندما احتاجت أن تحتل العراق ولم يسعفها النظام الدولي ، خرجت عليه ، ضاربة به عرض الحائط ، وتبعها أولياؤها فخرجوا لخروجها ، فأعانوها سرا وجهرا ، فلو جاز لنا أن نعتد بالنظام الدولي ، فليس لاحد الحق أن يطلق على أي طائفة مقاتلة رافضة لقيادة أمريكا للنظام العالمي ، بعدما عبثت أمريكا بالنظام الدولي ، يطلق عليها أنها من الخوارج .
وأيضا فهؤلاء الزعماء خرجوا على حقوق شعوبهم ، وساموهم سوء العذاب ، وحرموهم حتى من العدل الذي هو أساس الحكم ، ولا يقوم العدل إلا بالحكم بالشريعة والشورى ، فكل ذلك عندهم مضروب به عرض الحائط ، فإذاً هؤلاء الحكام هم الخوارج حقا وصدقا ، الخوارج عن الحق والعدل .
هذا ولا ينقضي عجب المرء من تباكي هؤلاء الزعماء على دماء الأبرياء ، عندما تقع عمليات مثل التي وقعت الأسبوع الماضي ، بينما حالهم الذي لم يزل ، أن أيديهم ملطخة بدماء المظلومين ، وسجونهم مليئة بالمعذبين ، وسجلات دولهم مسودة بانتهاكات حقوق الإنسان ، ومازالت أمريكا ـ مع أنها أعظم منتهك لحقوق الإنسان ـ عندما تريد أن تزلزل عروشهم ، تهددهم بفضح سجلاتهم فيما فعلوه في الأبرياء من شعوبهم ، فيتضعضعون لها ، وترتعد فرائصهم ويخافون من انفضاح أمرهم ، وانكشاف جرائمهم في حق شعوبهم ، فيتنادون حينئذ لمنح الشعوب حقوقها كأنها منّة لهم على شعوبهم ، وليست حقا لها عليهم .
وإنه لمما يثير الأسى ، أن يتزاحم المتزاحمون أمام (كاميرات) الفضائيات هذه الأيام ، في حماسة بالغة ، ليطلقوا لقب الخوارج على من يشير إليهم الساسة بذلك ـ إذا خاف الساسة على أنظمتهم ، وليس على شعوبهم المسكينة الرازحة تحت ظلمهم ـ بينما كان أولئك العاشقون للكاميرات ، ولازالوا ، لا ينطقون ببنت شفة إزاء خروج أمريكا ومن والاها من الزعماء ، خروجهم جميعا عن الشرع والحق والعدل ، كانوا صامتين عن إنكار هذا الظلم المبين ، بدعوى أن من المصلحة الصمت عن إنكار الكفر والظلم والطغيان، فمابال المصلحة تخلفت هنا فسلطتم ألسنتكم على هذا الظلم الخاطف فحسب !!
ولعمري أين كان حماس هؤلاء عندما كان صولجان الظلم مسلطا على شعوب الأمة ، والبطش بهم ناموس الزعماء الأوحد ، وإهراق دماء الأبرياء دينهم ، وأكل أموال الشعوب بالباطل ديدنهم ، وإعانة الكفرة على غزو بلاد الإسلام نهجهم ، وتسليم أهل الإسلام للكفار ليحكموا فيهم بأحكام الطاغوت مذهبهم ، ترى أين كانت شجاعة وعاظنــــــــا !! ، ولماذا ظهرت فجأة اليوم؟!
وإنه لمما يحزن المرء ، أن يرى هذه الغفلة المستحكمة في بعض من ينتسب إلى القول على الله و شريعته العليّة ، فمن ذلك أن فاضلا من حملة العلم الشرعي ، قال لي : أرأيت هذه المقبرة الجماعية التي تحوي الآلاف فهي جريمة لصدام لم يعرف التاريخ لها مثيلا ، قلت له : أما إنــه لمجرم ، ولكن : فمتى فعلها ـ لو سلمنا بما تقول ـ قال في انتفاضة الجنوب عام 91 ميلادي .
قلت ومن كان يسيطر على الجنوب آنذاك إثر انتهاء الحرب .
قال : أمريكا .
قلت : ومن سمح له باستعمال الطيران ذي الأجنحة المتحركة بقرار مفاجئ إن كنت تذكر .
قال : بلى أذكر أمريكا سمحت له بذلك ، بعد أن انكفأت فجأة عن استمرار مسيرها إلى بغداد لقلب نظام الحكم .
، قلت : فإذن فهي سلطته على هؤلاء الضحايا ، وكانت مجازره فيهم ، تحت إشرافها ودعمها ، وأيضا فلا بد أنها صورت كل شيء بالأقمار الصناعية ، وسكتت عن كل ماجرى طول هذه المدة ، ثم جاءت اليوم لتقول لكم إنها جرائم صدام وحده .
فأطرق هنيهة ، فقال ويحك والله لقد نبهتني على أمر كنت عنه من الغافلين .
قلت له وأزيدك : عندما كان صدام يستعمل أسلحة الدمار الشامل في حربه مع إيران ، وضد شعبه ، من كان يدعمه ، وبأموال من : قال دول الخليج ، قلت كم أعطوه ، قال لا ادري ، قلت : مالا يقل عن ثلاثين مليارا ، ليحكم قبضته على شعبه ، ويدمره ، ويسفك دماءه ـ من أن بعض ذلك كان بحق ـ هذا الشعب الذي يتباكون عليه الآن .
فهل نسينا أن الزعماء الذين يتباكون اليوم على الشعب العراقي كانوا شركاء صدام في جرائمه ، وأمريكا نفسها من وراءهم تحركهم ، ولهذا السبب سرقت كل الوثائق التي تثبت ذلك في عمليات النهب التي سمحت بها من اجل أن تضيع سرقة كل الوثائق التي تدينها، وسط الفوضى العارمة .
قلت : وأزيدك .. تُرى.. لماذا لاتهتم وسائل الإعلام إلا لِماما ، لقتل الصهاينة في أرض فلسطين أكثر من ثمانية آلاف في الانتفاضة الأخيرة فقط ، ولهدم مئات المنازل ، واعتقال عشرات الآلاف من الشباب ، يعيشون أسوء الأحوال ، ويتعرضون لابشع أنواع التعذيب .
لماذا لا أحد يذكر السجل المروّع لروسيا في انتهاك حقوق الإنسان في الشيشان مثلا ، والسجل المروّع لما يحصل للمسلمين في الهند ، لماذا تُهرق كلّ هذه الدماء بأبشع صورة ، ويمر ذلك كلُّه لا أقول مرور الكرام ، بل هو مرور أمام اللئام ، يمر ذلك كله كأن هذه الدماء لاقيمة لها ، بينما إذا هلك أمريكي ، يجب أن يتحدث الجميع بحرقة وخوف على الأمن الدولي ، ودماء البشر الأبرياء ، والخطر على العالم من الخوارج!!
فقال لي : والله إن هذا الإعلام لساحر ، سحرنا فلا نرى مجرما إلا ما يريد أعداؤنا أن نراه مجرما ، وأما جرائمهم فيتكتمون عليها حتى كأنها لم تقع قط.
أما بالنسبة للجواب على سؤال السائل عن الخوارج ، فأقول : ينبغي أن نفرق بين ثلاثة أمور :
الخوارج ، والبغاة ، والأخطاء التي يقع فيه المجاهدون في القتال .
وعند الحديث على الخوارج ، يجب أن نفرق بين الخارجين على الحاكم الشرعي ، والخارجين النظام الكافر ، والخروج على النظام الدولي الذي هو طاغوت أصلا ، بل هو أصل الطواغيت ، وكبيرها ، وهو مع ذلك قانون مزيف ، حتى الدول الكبرى وضعته لتعبث به ، كما كان أهل الجاهلية يعبثون بالأشهر الحرم ، كما قال تعالى ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ) ، وكذلك الدول القوية مثل أمريكا ، يحلون القانون الدولي عاما ، ويحرمونه عاما ، ولا يقيمون له وزنا ، بينما يطالبون الدول الإسلامية فقط باحترامه ..عجبا !!
وكذلك البغاة ، يجب التفريق بين البغي على الإمام الواجب الطاعة ،والبغي على النظام الدولي الذي تريد أمريكا أن تتزعمه لتمرر مخططات الصهاينة ، وتطفئ نور الإسلام .
والواقع الذي لاخفاء فيه ، أن الصراع العالمي اليوم بين من يطلقون عليهم القاعدة ، وبين أمريكا ، هو صراع عالمي ، تدور رحاه حول النظام العالمي نفسه ، ولهذا تسمي أمريكا هذه الحرب ( الحرب الدولية على الإرهاب ) فالطرفان في حالة حرب عالمية ، محورها النظام العالمي ، وأمريكا تريد أن تستثمر تضخيم هذه الحرب ، وتستفيد من استمرارها لتكون غطاء لتمرير مخططاتها ، وتسهيل تقبل المنطقة وانصياع الشعوب لها .
ولكن يبدو أن الأمور جرت على غير ما كانت تخطط له أمريكا فاتسع الخرق على الراقع ، لاسيما والأوضاع في أفغانستان بدأت تميل تدريجا لصالح كفة طالبان ، وضد الاحتلال الأمريكي لها .
وسيأتي تفصيل وبيان للفرق بين الخوارج والبغاة والخطأ في القتال الذي يكون أصله مشروعا .
وأما سؤالك عن المعاهدات الدولية وحكمها في الشريعة ، فلابد لمن يريد التكلم في باب المعاهدات الدولية في هذا الزمان أن يستصحب أربعة أمور مهمة :
الأول :
ـــــــــــــــ
أن الأنظمة نظامان ، نظام الإسلام القائم على الاحتكام إلى الله ورسوله ، ونظام الجاهلية وهو كل ما سوى الأول ، وكل تحاكم إلى غير الله هو جاهلية ، كما قال تعالى ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) .
وكما قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد : ( قال عمر بن الخطاب إنما تنقض عري الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه ، فانه إذا لم يعرف الجاهلية ، وحكمها ، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول ، فانه من الجاهلية ، فإنها منسوبة إلى الجهل ، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين ، ولم تستبن له ، أوشك أن يظن في بعض سبيلهم ، أنها من سبيل المؤمنين ، كما وقع فى هذه الأمة ، من أمور كثيرة في باب الاعتقاد ، والعلم ، والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل ، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ) .
والنظام الدولي الحالي نظام جاهلي ، وهو مع كونه جاهليا ، فقد وضع محكما ليؤدي إلى جعل السبيل للكافرين على المؤمنين ، لايشك في ذلك موحد تيقن توحيد الأنبياء والمرسلين.
وحينئذ فالاحتكام إليه واعتباره أصلا تبنى عليه المعاهدات ، احتكام إلى الجاهلية ، ولا نعني هنا حكم التعاهد مع أهل الجاهلية ، بل نعني جعل أصل التعاهد معهم مبنيا على نظام جاهلي ، وهو القانون الدولي المعتبر في النظام الدولي .
الأمر الثاني :
ـــــــــــــــــــــ
أن لا يجوز لعلماء الشريعة أن يفتوا بشرعية معاهدة عاهد بها حاكم مسلم ـ يتحاكم إلى الشريعة ويجعلها أصلا لكل أحكامه ـ عاهد بها هذا الحاكم أهل الكفر، إلا بعد أن أربع خطوات :
1ـ أن يشاهدوا المعاهدة كاملة بجميع شروطها وبنودها التي ستكون عند الطرفين الدولة المسلمة ، والكفار ، وإلا كانت شهادتهم على شرعية المعاهدة شهادة زور قطعا ، وكل من شهد بما يجهله فهو شاهد زور .
2ـ أن يتيقنوا أنها لاتتضمن بنودا سرية ، ولا يحل للحاكم أن يقول لهم ثمة بنود سرية لايمكن إطلاعكم عليها، لايحل هذا بحال ، لاحتمال أن تتضمن شروطا لا يقرها الشرع .
3 ـ أن لا يجدوا فيها مخالفة لشريعة الله تعالى في صغير ولا كبير ، ومن ذلك أن تتضمن هدنة مؤبدة أو ما يقتضي ذلك ، فإن وجدت كذلك ، طلبوا تغييرها وعرضها مرة أخرى بعد التبديل لكل ما فيها مما يخالف الشريعة العلية.
4ـ أن يشترطوا عليه أنه إذا وجد في الواقع ما يخالف ما في هذه المعاهدة ، انه يحق لهم مساءلته ، ويُحفظ حقهم في مراقبة استمرار صحة هذه المعاهدة شرعا وفق الشروط الشرعية التي وضعوها ، كما يحفظ حقهم في إظهار النكير فيما لو حصل في واقع الحال خلاف ما عوهد عليه الكفار ، لإبراء ذمتهم أمام الله ثم المسلمين .
ويجب عليهم أن يظهروا له ، أنهم لن يفتوا بشرعية هذه المعاهدات ، إلا وفق هذه الخطوات ، وعليه إن أبى الانصياع لهذه الشروط ، أن يمضي في معاهداته ـ بسخط الله ـ عريّة عن حكم الشريعة ، بهذا تبرأ ذمة العلماء ، أن يقولوا على الله مالا يعلمون .
والعجب أن الكفار أنفسهم يطالبون ـ في الظاهر ـ اليوم أنظمتنا الحاكمة أن تسمح للشعوب بالمشاركة في الحكم ، وأن تراقب أداء الدولة ، وأن الدول الكافرة نفسها ، تعطي لشعوبها الحق في أن تراقب التزام حكامهم بمعاهداتهم ، وتعرضها بلا خفاء على مجالس (البرلمان) لديهم ، ويناقشون ما فيها من صغير وكبير ، ويتأكدون من موافقتها لقوانينهم ، وإذا حادت الدولة في التطبيق ردوها إلى الصواب، وقسروها عليه !!، بينما نحن لايتجرأ العلماء أن يطلبوا النظر إلى المعاهدات التي تعقدها الدولة مع الكفار.
فكأن واقع حالنا ، أن الزعيم هنا في بلادنا يقول : إنني قد أبرمت معاهدة مع الكفار ، فأفتوا بجوازها ولزوم احترامها على الرعيّة .
فيقول البعض : فهي إذن يا مولانا معاهدة شرعية ، واجبة الاتباع على كل الرعية ، ولا حاجة لنا أن نراها ، ولا حاجة لنا أن نسأل عن موافقة ما فيها من شروط للشريعة ، و لاحاجة أيضا أن نتأكد من عدم الحياد عن الشريعة في تطبيقها في الواقع ، بل هي معاهدة شرعية لان هذا ما يريده مولانا فله ما يريد !!! .
فهذه والله المصيبة العظمى ، والباقعة الكبرى ، أعني أن يصل الحال بعلماء الشريعة أن تهون عليهم أنفسهم ، وتهون عليهم شريعة ربهم إلى هذه الدرجة ، حتى تصبح كم يقال ( توقيع على بياض ) ، فإلى الله المشتكى مما آلت إليه حال هذه الشريعة العلية ، وعلماءها .
الثالث من الأمور التي يجب أن تستصحب قبل الكلام على المعاهدات الدولية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــ
أن الحاكم إذا لم يكن حاله أنه يجعل الشريعة الإسلامية أصلا يرجع إليه ، ويتحاكم إليه تحاكما مطلقا فيما يعاهد عليه الكفار ، وإنما يأتي بعدما يبرم المعاهدات مع الكفار على أهواءهم التي يراعون فيها قوانينهم ، ويحققون أطماعهم ، ويريد بعد ذلك من علماء الشريعة ، أن يضعوا توقيع رب السموات والأرض رب العالمين ، على أحكام الجاهلية ، وأهواء الكفار ، فإنه لا يوافقه على هذه الجريمة ، إلا من هو من أعظم المعينين على الظلم والفساد في الأرض ، الساعين إلى تمكين الكفار من استعلاءهم بجاهليتهم ، ومن فعل ذلك فهو ممن يشتري بآيات الله ثمنا قليلا ، فليس له عند الله من خلاق .
الرابع :
ــــــــــــ
أن السياسة العالمية اليوم ، قائمة ـ كما هو معلوم في علوم السياسة المعاصرة ـ على أن العلاقات الدولية أساسها مبدأ واحد هو الصديق والعدو ، غير أن تفسيرها لديهم ليس كما يظن الظان من ظاهر هاذين اللفظين .
بل هو كما جاء في كتاب مدخل إلى العلوم السياسية : ( الأصل لدى كل مجتمع سياسي أن إطاره الجغرافي يمثل بالنسبة لاصحابة ( دار السلام ) وأن ما وراءه ( دار حرب ) ومن ثم فإن الأصل في الأجنبي أنه عدو مالم تقتض مصلحة المجتمع الوطني مهادنته ، وانطلاقا من هذا تعتبر العلاقات الدولية علاقات قوى قوامها العداء والارتياب والتشكك .)) .
قلت : وقد تستغرب من أن تقول كتب السياسة المعاصرة هذا القول ، الذي يشبه إلى حد كبير قول الفقهاء بتقسيم الدور إلى دار الإسلام ودار الحرب ، وأن الأصل في الكفار أنهم أهل حرب ، ولكن الأمـر كذلك كما يذكر في كتب السياسة الدولية المعاصرة ، كما ذكرت ، وهو كذلك في واقع الحال ، من وراء ستار الشعارات الزائفة ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ثم جاء في كتاب مدخل إلى العلوم السياسية ( وهكذا فإن ارتباط مفهوم (العدو) ، بالسياسة حقيقة ثابتة ، فلا سياسة دولية من غير ( عدو ) ـ إن العداء ـ في العلاقات بين الدول هو الأصل ، وما السلام إلا مجرد مهادنة يقتضيها العداء ذاته .
وهنا يتعيّن التنبيه إلى أن للعداء في السياسة معيارا ، ليس هو معيار ( العداء ) في الأخلاق أو في الاقتصاد ، ذلك أن لعالم السياسة معاييره الخاصة به ، فليس من الضروري أن يكون ( العدو السياسي ) شريرا أو قبيحا على وفق المعايير الأخلاقية أو الجمالية ، أو أن يكون منافسا على مقتضى المعايير الاقتصادية .
وإنما العدو في عالم العلاقات الدولية هو ( الغير ) ، وهو ( الأجنبي ) ، إنه كل من ليس منا ، ومن ثم نخاف على وجودنا الذاتي منه ، وهو خوف يستدعي صراعنا الدائم معه ، إنه عداء دائم بدوام حرصنا على استمرار كياننا الذاتي ، ومن هنا ترتبط ذاتية المجتمع السياسي بقدرته الفعلية على تقرير علاقاته الخارجية عداء ومهادنة ، فالمجتمع الذي تفرض عليه العداوة والمداهنة من خارجه ليس مجتمعا مستقلا ) .
ثم قال ( وهكذا فإن العلاقات الدولية هي ـ بالضرورة على طول تاريخها ـ علاقات بين الأعداء ، اللهم إلا ما يقتضيه العداء ذاته من مهادنة ليست البتة من طبيعة هذه العلاقات ، وما فكرة المجتمع البشري العالمي المتخلص من أسباب التصادم ، ومن ثَمّ الذي ينعم بالسلام العالمي ، إلا من نسج الخيال البحت ، إن السلام ـ كالمحبة ـ قيمة أخلاقية جمالية لامكان لها في الواقع الدولي ) مدخل إلى العلوم السياسية 317ـ 318، المؤلفان أ.د. محمد طه بدوي ، وأ. د. ليلى أمين مرسي ، الناشر منشأة المعارف بالإسكندرية .
ولعمري إن هذا كله حق وصواب ، ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين بإعداد القوة ، لبقاء التحفز للعدو ، ولهذا أيضا حذّر من عداوة الكفار للمسلمين ، وأخبـــر أنها مستمرة ، كما قال تعالى : ( إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ) ، وأطلق على عداوتهم في مواضع كثيرة في القرآن أنها كيد ، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنهم يسلكون سبلا خفية للمكر بهذا الدين ، وهو كما نرى هذه الأيام ، مزاعمهم عن السلام العالمي ، بينما هم يمكرون لهذا الدين . ولهذا امر الله تعالى بجهاد الطب ، وكان الذين أنكروه من المتفقهين المعاصرين جهلاء بواقع الامر في السياسة العالمية .
ولهذا أيضا صرح فقهاء الشريعة الإسلامية في باب الهدنة ، انه لا يصح للحاكم أن يهادن الكفار هدنة أبديّة ، وهذا حكم متفق عليه بين المذاهب ، لان الهدنة الأبدية تفضي إلى تعطيل الجهاد ، وأيضا فإنه حينئذ جهل بواقع السياسة الدولية ، لا يجوز أن يتصف به الحاكم المسلم .
والمقصود من هذا كله ، أنه إذا كان واقع السياسة الدولية ما ذكر، من أنه عداء مستمر في حقيقته وإن أظهر خلاف ذلك ، ومعلوم أن الدول الغربية المستعلية بجاهليتها في هذا العصر ، تريد تحقيق هدف الهيمنة على بلاد الإسلام ، وأنها تستغل المعاهدات ، ووجودها الفعلي بسبب هذه المعاهدات ، في بلاد الإسلام ، لتكون قريبة من أماكن أطماعها ، لتنفيذ مخططاتها الخبيثة .
إذا كان ذلك كذلك ، فيجب أن يعلم أن المعاهدات التي توقعها الدولة مع الكفار ، لن تكون شرعية بحال ، إن كانت الدولة الكافرة ، ماكرة بهذا الدين ،معادية لاهله ، مستغلة وجودها على أرض الدولة التي تعاهدها ، لخدمة مراكزها الاستخباراتيه ، جاعلة سفارتها ، ومؤسساتها التابعة لها ، وقواعدها في خدمة أنشطة التجسس التي تغذي استعلاءها بالقوة ، الذي هو استعلاء للكفار في الأرض ، وتمكين لهم من ظهور كفرهم واحكامهم الطاغوتية ، ومن يفتي بأن شريعة رب العالمين ، الآمرة بجهاد الكفار والمشركين ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، أن هذه الشريعة تقر هذا الكفر و الإفك المبين ، فذلك والله الذي لا إله إلا هو ، إعانة على هدم دين الإسلام من أصله .
إذا علم هذا ، فليعلم السائل أن الواقع السياسي للعالم الإسلامي اليوم ، إنما هــو بقية آثار من تداعيات سبقت في القرن الماضي، عندما كانت البلاد الإسلامية تحت الاحتلال الصليبي السابق ، وقد فرض قبل رحيله أوضاعا تخدم مستقبل مصالحه في المنطقة كلها ، ومن ذلك تنحية الشريعة الإسلامية عن أن تكون مهيمنة بأحكامها على الدول ، خوفا من أن تكون المعاهدات بين تلك الدول والعدو الصليبي ، لاتخدم أطماعه فيما لو كانت المعاهدات مبنية على أحكام الشريعة الإسلامية وشروطها الصارمة لاسيما في اشتراط النظر لصالح الاسلام والمسلمين باعتبارهم أمة واحدة في الارض كلها.
ومن هنا فقد وقعت هذه الاشكالات التي نراها اليوم ، وفيها هذا التناقض الهائل بين واقع تصرف الكفار في بلاد الإسلام ، مع ادعاء الدول التي توقع مع الكفار هذه المعاهدات : من أن تصرف الكفار ، هو وفق معاهدات يجب احترامها ، وبين ما هو في كتب الفقه الإسلامي من شروط شرعية تعدها الشريعة أساسا لصحة المعاهدات الدولية ، فإن خلت منها هذه المعاهدات كانت باطلة غير ملزمة .
وحينئذ فإنه من الظلم المبين أن تُُضفى على هذا الوضع المعوج ، القائم في اصله على غير الأحكام الإلهية الشرعية المستقاة من الوحي ، الذي جاء فيه ( وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين ) ، أن تُُضفى عليه الصبغة الشرعية ، من قبل من لاعلم له بواقع الحال، وإنما طلب منه أن يضع توقيع الشريعة على ما يجهله ، فبادر إلى ذلك راغبا أو راهبا ، فجنى على شريعة رب العالمين ، وسيحكم فيه رب العالمين ، ملك يوم الدين ، يوم يجمع العالمين .
فهذه مقدمة رأيت أنه من المناسب ذكرها .