تذكار
23-10-2003, 17:46
أخي الفاضل: الدكتور سعد الفقيه: وفقني الله وإياه إلى سبيل الرشد، وجنبنا مضلات الأهواء والفتن :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
سمعت وقرأت –كغيري- عن نبأ دعوتكم إلى مظاهرة سلمية بمدينة الرياض تطالبون فيها بـ"الإصلاح" وحقوق الإنسان. وقد استجاب لكم قلة من الناس، وهي بادرة جديدة في عاصمة بلاد التوحيد.
وكنت حينها أقوم بإعداد بحث مختصر تحت عنوان "كيف احتل الإنجليز مصر؟" أبين فيه الخطوات الشيطانية الماكرة التي قام بها الإنجليز ومن شابههم في القرن الماضي للإيقاع بهذه البلاد المسلمة؛ إلى أن تمكنوا من ذلك، فوقعت البلاد المصرية في قبضتهم سبعين عاماً باحتلال بغيض لا زلنا نعاني من آثاره إلى اليوم، حيث لم يرحل الإنجليز إلا عام 1956م، بعد أن سلموا البلاد إلى من يطمئنون له من العلمانيين الذين واصلوا مسيرة أسيادهم في محاولة القضاء على الإسلام، ومحاربة أهله، وكان من أهم أعمالهم التي طمأنت الراحلين الأجانب: ضرب الشباب المسلم ،وإلغاء المحاكم الشرعية بالكامل عام 1955م! (انظر: الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية، للدكتور عمر الأشقر، ص72).
وقد أحببت –أخي سعد- أن أقتطف لك شيئاً من البحث له علاقة بالمظاهرة الأخيرة التي دعوت لها، وبطريقتك في الإصلاح؛ لعلك تتبصر أمرك، ويستبين لك بعض "المكر الكُبَّار" الذي يتقنه أعداء الإسلام، وعلى رأسهم "إنجلترا". فأقول:
- كانت الدولة المصرية كغيرها من الدول الإسلامية تتبع الخلافة في تركيا. وكانت تحكم بالشريعة الإسلامية ، وترتكز في أمورها على الإسلام بوجود الأزهر ، وهيئة كبار العلماء ، مع قصور وانحراف ، قلما أن يسلم منه أحد .
- غزا نابليون مصر بحملته الشهيرة لتحقيق أهداف كثيرة، ولكنه لم يفلح في البقاء فيها سوى 3 سنوات نظرًا لاتحاد أهل الإسلام ضده، ووقوفهم صفًا واحدًا تجاه حملته –حكامًا ومحكومين-.
- خرج نابليون يجر أذيال الخيبة متحسرًا على فشل حملته بسبب عدم دراسته الأوضاع جيدًا في البلاد المصرية.
- بعد خروج الفرنسيين تولى الحكم في مصر "محمد علي باشا" وسط ملابسات عديدة جعلت العلماء ومن ورائهم الشعب يثقون فيه.
- حاول الإنجليز في عهده أن يجربوا حظهم بغزو مصر، لكنهم أيضًا لم يفلحوا للأسباب السابقة. عندها قرروا أن يعاودوا الكرة من جديد ولكن بعد أن يدرسوا الحالة المصرية جيداً، ويعرفوا مصدر قوتها، وهو اتحاد أهلها من المسلمين ضدهم، فيقوضوه من خلال نشر فكرين خطيرين بين شبابها: الفكر "الثوري" "التهييجي" والفكر "العصراني" "المتميع"
- قام الإنجليز بنشر تلك الأفكار "الثورية" بواسطة جمال الدين الأفغاني الرجل المريب الذي سهلوا له مهمة القدوم إلى مصر والاستقرار بها مدة ثمان سنوات، تمكن فيها من تكوين طليعة من الشباب المصري المغفل تردد أفكاره وتنادي بها. متجرئين بذلك على ولاة أمرهم من الولاة والعلماء بهدف "الإصلاح" وإنكار " الظلم " و " الفساد المالي " الذي ارتبط بالديون الكثيرة التي أثقلت كاهل البلاد .
فعلى سبيل المثال: كان الأفغاني يهاجم الخديوي إسماعيل علانية ويقول للمتجمهرين حوله: (أنت أيها الفلاح تشق الأرض لتستنبت ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك ؟! لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟!)(1) وغيرها من الكلمات الثورية التهييجية.
-كان أحمد عرابي أحد العسكريين الذين تأثروا بأفكار الأفغاني "الثورية" فتصدى علانية لإنكار أخطاء وانحرافات الحكم والدعوة إلى "الإصلاح" عبر توزيع "المنشورات" وبث الخطب والكلمات الحماسية. والقيام –كما يقول الدكتور عمر عبدالعزيز–(2) ( بمظاهرة سلمية تأييدًا لمطالب الأمة )! ( وكانت هذه المطالب فاتحة الثورة) كما يقول الدكتور عبدالرحمن الرافعي(3).
- كان الإنجليز يشايعهم الفرنسيون يرقبون الأحداث بغبطة وسرور! وكانوا يوعزون من خلف ستار إلى عرابي أن امض في طريق "الإصلاح"، ولا تخش أحدًا! ومن ذلك ما ذكر محمد عبده في مذكراته عن الثورة العرابية –وهو أحد أقطابها- من أن قنصل فرنسا ( أرسل إلى أحمد عرابي وإخوانه يقول لهم: إنه يسره ما يراه من صلابتهم وعزيمتهم، واشتدادهم في المطالبة بالعدل، فعليهم أن يثبتوا في مطالبهم ولا يُضعفهم ما يُهَددون به) (4)! و( أرسل إلى عرابي كتابًا يمدحه فيه على ثباته، ويشجعه على عدم المبالاة بالحكومة ). (5)
أما إنجلترا فكانت تفعل الأمر نفسه بل أشد، من خلال جاسوسها المدعو: "المستر بلنت" الذي كان يجوس بلاد مصر يؤلب الناس على الحكم، ويراسل عرابي ويستحثه على مواصلة الضغط على الحكومة لعلها تستجيب لمطالب "الإصلاح"!
يقول الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- عن "بلنت" هذا: (كان لا يفتر عن التنقل بين مضارب الأعراب في مصر.. يدعو المصريين إلى الثورة، ويتكلم بعد وقوعها باسم عرابي، ويقدم له صورًا مضللة عن صفته الرسمية، وقدرته السياسية، وقوة الجيوش الإنجليزية..) (6)
ويقول الأستاذ مصطفى غزال –عنه-: ( كان من أشد الناس تفانياً في مصالح الإنجليز، رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا، وبعدائه للحكومات البريطانية، بل كان أحيانًا يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية، ويقف بجانبهم، كما وقف بجانب عرابي، ودافع عنه بعد أسره، كان هذا نوعًا من الدهاء والحنكة الإنجليزية).(7)
(بلنت كان على صلة بزعماء الثورة العرابية التي انتهت باحتلال مصر من قبل قومه ) (بلنت شجع عرابي على الثورة ) ( بلنت أودى بصاحبه عرابي وثورته وبلاده في الهاوية ).(8)
إذن: فقد كان الإنجليز بدهائهم المعهود يقفون خلف أحمد عرابي، ويستغفلونه ومن معه، ويستحثونهم على المضي قدمًا في حركتهم الثورية، وأن لا يقيموا وزنًا لولي أمرهم أو لعواقب ذلك على بلادهم. وفي الوقت نفسه كانوا يغرسون الأفكار "العصرية" في أذهان بعض الشباب المصري من خلال دعوة الأفغاني ومن خلال النصارى العرب النازحين من بلاد الشام.
فبالأفكار "الثورية" "التهييجية" يفتات الناس على ولاة أمرهم، وتختلف كلمتهم، ويتفرق شملهم ووحدتهم، وتذهب ريحهم ؛ كما قال سبحانه (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).. فيحدث بعدها "استباحة الأرض" من قبل عدوهم الذي سوف يستغل مثل هذا التفرق والتمزق في التسلط على ديار الإسلام دون مقاومة. وقد حدث هذا للأسف.
وبالأفكار "العصرية" تذوب الفوارق بين المسلم والكافر، ويضعف الولاء والبراء، وتوهن العقيدة، وتذهب العزة ، وينسى الناس الجهاد ، ويظهر المنكر.. فيحدث بعدها "استباحة العقول". وقد حدث هذا للأسف.
- استغل الإنجليز الفرصة ولم يضيعوها بعد أن مهدوا لها بذينك الفكرين الخبيثين "الفكر الثوري" و"الفكر العصري التغريبـي" ليحتلوا بلاد مصر، ويعيثوا فيها فسادًا صوره لنا بعض المؤرخين.
يقول الدكتور علي الحديدي عن عبد الله النديم أحد رموز ثورة عرابي وخطيبها المفوه بعد عودته من المنفى: ( وكان مما فوجئ به عقب عودته موجة من الانحلال والفساد الخلقي في البلاد، فإفراط وجهرة في شرب الخمر لم يكن معهودًا من قبل، واستهتار الشاربين بنقد النقاد، وانتشار الخمارات انتشارًا كبيرًا في البلاد والقرى يبتز الأروام عن طريقها أموال الأهالي. وانحلال الأسرة بسبب الشراب، وتقليد النساء المصريات للأجنبيات في شرب الخمر، وانتشار الحشيش والمعاجين والمخدرات، والاحتفاء بمجالسها، ثم إساءة فهم معنى الحرية، واستعمالها وسيلة للإنهماك في الملذات والشهوات، ثم السقوط في تقليد المصري للأوربي تقليدًا أعمى..) (9)
ويقول الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- عن حال البلاد المصرية بعد الاحتلال الإنجليزي: (.. وافتتحت الخمارات في كل مكان، حتى تغلغلت إلى الريف وإلى أحياء العمال، وافتتحت دور البغاء المرخصة من الحكومة في كل العواصم. وتجرأ الناس على ارتكاب الموبقات، والجهر باسم الحرية الشخصية التي لم يفهموا منها إلا أن يحل الناس أنفسهم من كل قيد، ولا يُبالون دينًا ولا عرفًا ولا مصلحة) .(10)
أما أحمد عرابي فقد وقع في الأسر بعد أن أدى للإنجليز خدمة عظيمة، وكان سببًا في تسلطهم على بلاده، ولهذا فقد تدخلوا في أمر محاكمته ليعارضوا قتله!(11) ويكتفوا بنفيه عدة سنوات إلى جزيرة "سيلان" ؛ ليعود بعد تلك السنين إلى بلاده ملومًا محسورًا، يتلقى كلمات الازدراء والإهانة من أبناء بلده الذين "تعاطفوا" معه في يومٍ ما، إلا أنهم انقلبوا عليه بعد أن تكشفت لهم نهاية "ثورته" و"تهييجه"، فأصبح الصغار يسيرون خلفه في الطرقات يشتمونه ويقرعونه بوصف "الخائن"!
يقول مصطفى كامل أحد الزعماء الوطنيين في مصر عن عرابي بعد عودته من منفاه: (ما عار الاحتلال وعار الجهالة والتأخر وعار الفقر بشيء يذكر إذا قورن بالعار الذي يحمله عرابي، ويُقرأ على وجهه أينما سار وحيثما حل، وأي عار أكبر وأشهر من عار رجل تهور جبانًا، واندفع جاهلاً، وساق أمته إلى مهواة الموت، والاستعباد الثقيل…)(12)
أخي الدكتور سعد: هذه حال أحمد عرابي قديمًا، تعاطف الإنجليز معه، واستدرجوه من حيث لا يشعر، ليحقق لهم ما يريدون، فهم كما قال الشاعر:
وما من حبه يحنو عليه *** ولكن بغض قومٍ آخرينا !
قام عرابي لينكر " الظلم " الواقع عليه وعلى بعض الجنود، وكان الحل يسيرًا لو لزم الطريق الشرعي في الإنكار، ولكن القوم لحاجة في نفوسهم، استغلوه وأججوا نار الفتنة حتى كبرت وتوقدت واستعصى حلها؛ لتنتهي بالاحتلال الأجنبي.
فهو كما قيل: أراد أن يبني قصرًا فهدم مصرًا
أخي الدكتور سعد: قام عرابي ينادي "بالإصلاح" ولكنه غفل عن أن الله قد أخبرنا في كتابه بأن الإصلاح نوعان: "إصلاح شرعي" مرجعيته التزام أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن خالفت النفس أو الهوى، قال الله عن أهله (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
و"إصلاح" من نوع آخر هو في ميزان الشرع "إفساد" وإن توهم أهله أنهم مصلحون ، ولهذا قال الله عنهم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وأربأ بك أن تكون منهم.
أخي الدكتور سعد: ليتك تعتبر بحال الرجل "عرابي" ومآله، فلا تكون مفتاح شر على بلادك وأهلك، يتخذك الأعداء وسيلة لتفريق كلمتهم وتمزيق وحدتهم ؛ ليتسنى لهم بعد ذلك السيطرة عليهم أو على ثرواتهم، ثم يقلبون لك ظهر المجن ،كما فعلوا بغيرك .
أخي الدكتور سعد: -في ظني- أنه لم يعرف المسلمون عدوًا أدهى ولا أنكى من الإنجليز ، فهم أصحاب سياسة عتيدة مكرورة لا يحيدون عنها يمارسونها معنا بين حين وآخر، ولا زالت تؤتي ثمارها ! حيث لم يستفد المسلمون من الماضي.
هذه السياسة لخصها لنا الدكتور محمد حسين بقوله: (وحيلة الاستعمار التي لا تَبْلىَ ولا تتبدل هي التي تتمثل في قول أحد ساسة الإنجليز المشهورين: "فرِّقْ تَسُدْ" التي طبقت في الهند بنجاح، وهي التي أسميها هنا (توازن القوى)، وأعني بها حرص المستعمر على أن يقع بعض الناس في بعض، وعلى أن لا تَطْغَى إحدى هذه الجماعات المتباغية على الأخرى، حتى لا تبتلعها وتستأثر بالسلطان. فالجهد الذي يبذله الإنجليز هو تدبير الفتن وإشاعة العداوة، ثم مراقبةُ المتقاتلين من بعيد)(13).
أخي الدكتور سعد: قد تقول: أنا لم أجد وسيلة "للإصلاح" غير ما أقوم به بعد أن سدت علي الأبواب، فما حيلة المضطر إلا ركوبها. فأضمن بذلك أن يُقضى على ما أراه من " الظلم " إذا وجد من يواجهه " علانية " .
فأقول : أولاً: ينبغي أن تتأمل دوافعك ومطالبك هل هي حقًا تمثل الإصلاح الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم أم أنها مخالفة لذلك ، بما يداخلها من حظوظ نفس أو هوى أو غير ذلك؟
ثانياً: إن كانت غضبتك ومفارقتك لجماعة المسلمين لأجل ما قد تراه من "جور" أو "أثرة" ، فقد بيَّن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلك الشرعي عند حدوث مثل هذا –وهو ليس بغريب في تاريخ المسلمين- يقول صلى الله عليه وسلم: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة تكون عليك" أخرجه مسلم
قال النووي: "الأثرة: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم. أي اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا، ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم"
وسأل سلمة الجفعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ! أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمّلوا وعليكم ما حُمّلتم" أخرجه مسلم. أي أنهم يأثمون إذا لم يقوموا بما عليهم من حقوق للرعية . ( وقد خاب من حمل ظلما ) .
وقال صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان في حديث طويل عن أئمة آخر الزمان الذين لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته صلى الله عليه وسلم"تسمع وتطيع للأمير، وإن ضُرب ظهرك وأُخذ مالك، فاسمع وأطع" أخرجه مسلم. فبرغم أن هؤلاء الولاة مخالفون للسنة ولهدي النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بطاعتهم وعدم منازعتهم .
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تـنـزعوا يدًا من طاعة" أخرجه مسلم.
أخي الدكتور سعد: هذه أحاديث نبوية صحيحة صريحة –وغيرها كثير- تبين لك المسلك الشرعي في التعامل مع ولاة الأمور. فليست هي –كما يفتري المفترون- من اختراع أهل السنة الذين يتهمهم خصومهم من أهل البدع؛ كالمعتزلة والخوارج ومن سار في طريقهم، بأنهم أهل خنوع تجاه الحكام! فهؤلاء المبتدعة - وأربأ بك أن تتابعهم –ما فهموا أن أهل السنة إنما مدار أمرهم وعباداتهم قائم على اتباع النصوص الشرعية وإن خالفت في الظاهر ما يعتقدونه من مصالح خادعة. وهم يعدون هذا قربة يتقربون بها إلى الله عز وجل؛ لأنه من تعظيم أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. (من يطع الرسول فقد أطاع الله). ولم يفقه أهل البدع ومن شايعهم المصالح العظيمة التي تعود على الأمة حين تتبع نصيحة نبيها صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر العظيم؛ ومن أهم ذلك اتفاق كلمتها، والتمام شملها، وخذلان عدوها المتربص بها. يقول الحافظ ابن حجر: (الحكمة في الأمر بطاعتهم: المحافظة على اتفاق الكلمة، لما في الافتراق من الفساد).(14)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن خالف هذه النصوص النبوية: (أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شرٌ منه، وتزيل العدوان بما هو أعدى منه، فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم).(15)
وأقوال العلماء الناصحين كثيرة في التحذير من هذا الأمر العظيم الذي لا يجلب على هذه الأمة إلا كل شر وفساد.
كما أن أهل البدع الشانئين لأهل السنة فاتهم أن البلاد التي عمل أهلها بأوامره صلى الله عليه وسلم في التعامل مع حكامهم ائتلفت كلمتها ، وانتشر الخير فيها ، وقرب حكامها منه ؛ لما يرون من صدق الناصحين ، وسلوكهم المسلك الرفيق . أما البلاد التي انتهج بعض أهلها مسلك أهل البدع في التشنيع على حكامهم ، أو منازعتهم ، فإنها لم تزدد إلا شرًا وبعدًا عن الخير ، مع تفرق كلمة أهلها وتنافر قلوبهم ، كما هو مشاهد . فأي الفريقين أحق بالأمن ؟!
أخي الدكتور سعد: إن قلتَ: فإن لزمت النصيحة الشرعية ولم يُسمع لي؟ فأقول: قد برئت عهدتك، وأديت ما عليك. كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن يريد مناصحة السلطان: "فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له"(16)
وتذكر قول الله تعالى : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون . إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار .. الآية ) .
أخي الدكتور سعد: أذكرك بقوله صلى الله عليه وسلم فيمن فارق جماعة المسلمين: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية" متفق عليه .هذا الحديث العظيم وأشباهه كثير حريٌ بالمسلم الناصح لنفسه أن يـنـزله على حاله ، ويخشى ما جاء فيه من عقوبة شنيعة .
أخي الدكتور سعد: لقد بحثت عن المستفيد من أعمالك فما وجدت سوى خمسة أصناف :
الصنف الأول: الكفار وأعداء الإسلام ممن يريدون خلخلة وحدة هذه البلاد لينفذوا من خلال ذلك إلى إخضاع أهلها لما يملونه عليهم.
الصنف الثاني: أهل البدع الذين كبتوا في بلاد التوحيد زمناً طويلاً، فأرادوا أن تكون رئة لهم يتنفسون من خلالك.
الصنف الثالث: العلمانيون المنافقون الذين يبشون ويهشون لكل تغيير قد تمر به البلاد؛ ليصلوا من خلاله إلى تنفيذ مخططاتهم بالتعاون مع إخوانهم من اليهود والنصارى.
الصنف الرابع: بعض الشباب ممن ظاهرهم الصلاح ، سهل على العدو "استغفالهم" و "استدراجهم" ليكونوا أداة له، يصل من خلالهم إلى مبتغاه. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا .
الصنف الخامس: غوغاء الناس من أصحاب المطالب الدنيوية، ممن قال الله عن أمثالهم (إن أعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا إذا هم يسخطون).وهؤلاء سرعان ما يلوذون عنك إذا ما نالوا حظهم ، أو مستهم نار الفتنة .
أخي الدكتور سعد: هذه البلاد: بلاد التوحيد :مثل البناء الشاهق الجميل الذي أصابته بعض الصدوع ، فهل يليق بعاقل أن يسعى في هدمه "ليصلح" ما اعتراه ؟! أم أن العقل والحكمة يقتضيان أن يبقى هذا البناء عاليًا شاهقًا كالأرض الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها مع إصلاح ما خالطها من "قصور" أو "انحراف" بالطريقة الشرعية المناسبة؟!
أسأل الله أن تجد كلماتي هذه قبولاً حسنًا عندك ، وأن ينشرح لها صدرك . وأن يؤلف بينك وبين أهل بلدك ، ويجعلك تسخر جهودك لدعوة الكفار إلى دين الله .
أما ولاة الأمور في هذه البلاد : فأسأله تعالى أن يوفقهم إلى ما يحب ويرضى ، وإلى الرفق برعاياهم ، ، وأن يجعلهم يقفون سدًا منيعًا أمام هجمات الأعداء وضغوطهم وابتزازهم ، فلا يتنازلون عن دينهم الذي ارتضاه لهم ، وأبشرهم إن فعلوا ذلك أن الله ناصرهم ومخز عدوهم ؛ لأنه تعالى يقول ( إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ) ، فلا زاد لنا في مواجهة العدو الجاثم حولنا إلا بالصبر على ديننا ، وتحقيق التقوى بالتزام الأوامر والبعد عن المخالفات .
كما أسأله تعالى أن يأخذ بنواصيهم إلى " الإصلاح " الشرعي الذي أخبر تعالى بنجاة أهله من العقوبات ، وأن يباعدهم عن " إصلاح " أهل النفاق والفساد وإن زينوه وسموه بغير اسمه ، وهو في الحقيقة لا يقود البلاد إلا للفتن والمحن ، وزيادة الطين بلة، ويعرضها للعقوبات ، وفق سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل . ( يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ) .
والله الهادي والموفق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه أجمعين
كتبه
سليمان بن صالح الخراشي
في 19/8/1424هـ
أختكم ............ تذكار
:)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
سمعت وقرأت –كغيري- عن نبأ دعوتكم إلى مظاهرة سلمية بمدينة الرياض تطالبون فيها بـ"الإصلاح" وحقوق الإنسان. وقد استجاب لكم قلة من الناس، وهي بادرة جديدة في عاصمة بلاد التوحيد.
وكنت حينها أقوم بإعداد بحث مختصر تحت عنوان "كيف احتل الإنجليز مصر؟" أبين فيه الخطوات الشيطانية الماكرة التي قام بها الإنجليز ومن شابههم في القرن الماضي للإيقاع بهذه البلاد المسلمة؛ إلى أن تمكنوا من ذلك، فوقعت البلاد المصرية في قبضتهم سبعين عاماً باحتلال بغيض لا زلنا نعاني من آثاره إلى اليوم، حيث لم يرحل الإنجليز إلا عام 1956م، بعد أن سلموا البلاد إلى من يطمئنون له من العلمانيين الذين واصلوا مسيرة أسيادهم في محاولة القضاء على الإسلام، ومحاربة أهله، وكان من أهم أعمالهم التي طمأنت الراحلين الأجانب: ضرب الشباب المسلم ،وإلغاء المحاكم الشرعية بالكامل عام 1955م! (انظر: الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية، للدكتور عمر الأشقر، ص72).
وقد أحببت –أخي سعد- أن أقتطف لك شيئاً من البحث له علاقة بالمظاهرة الأخيرة التي دعوت لها، وبطريقتك في الإصلاح؛ لعلك تتبصر أمرك، ويستبين لك بعض "المكر الكُبَّار" الذي يتقنه أعداء الإسلام، وعلى رأسهم "إنجلترا". فأقول:
- كانت الدولة المصرية كغيرها من الدول الإسلامية تتبع الخلافة في تركيا. وكانت تحكم بالشريعة الإسلامية ، وترتكز في أمورها على الإسلام بوجود الأزهر ، وهيئة كبار العلماء ، مع قصور وانحراف ، قلما أن يسلم منه أحد .
- غزا نابليون مصر بحملته الشهيرة لتحقيق أهداف كثيرة، ولكنه لم يفلح في البقاء فيها سوى 3 سنوات نظرًا لاتحاد أهل الإسلام ضده، ووقوفهم صفًا واحدًا تجاه حملته –حكامًا ومحكومين-.
- خرج نابليون يجر أذيال الخيبة متحسرًا على فشل حملته بسبب عدم دراسته الأوضاع جيدًا في البلاد المصرية.
- بعد خروج الفرنسيين تولى الحكم في مصر "محمد علي باشا" وسط ملابسات عديدة جعلت العلماء ومن ورائهم الشعب يثقون فيه.
- حاول الإنجليز في عهده أن يجربوا حظهم بغزو مصر، لكنهم أيضًا لم يفلحوا للأسباب السابقة. عندها قرروا أن يعاودوا الكرة من جديد ولكن بعد أن يدرسوا الحالة المصرية جيداً، ويعرفوا مصدر قوتها، وهو اتحاد أهلها من المسلمين ضدهم، فيقوضوه من خلال نشر فكرين خطيرين بين شبابها: الفكر "الثوري" "التهييجي" والفكر "العصراني" "المتميع"
- قام الإنجليز بنشر تلك الأفكار "الثورية" بواسطة جمال الدين الأفغاني الرجل المريب الذي سهلوا له مهمة القدوم إلى مصر والاستقرار بها مدة ثمان سنوات، تمكن فيها من تكوين طليعة من الشباب المصري المغفل تردد أفكاره وتنادي بها. متجرئين بذلك على ولاة أمرهم من الولاة والعلماء بهدف "الإصلاح" وإنكار " الظلم " و " الفساد المالي " الذي ارتبط بالديون الكثيرة التي أثقلت كاهل البلاد .
فعلى سبيل المثال: كان الأفغاني يهاجم الخديوي إسماعيل علانية ويقول للمتجمهرين حوله: (أنت أيها الفلاح تشق الأرض لتستنبت ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك ؟! لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟!)(1) وغيرها من الكلمات الثورية التهييجية.
-كان أحمد عرابي أحد العسكريين الذين تأثروا بأفكار الأفغاني "الثورية" فتصدى علانية لإنكار أخطاء وانحرافات الحكم والدعوة إلى "الإصلاح" عبر توزيع "المنشورات" وبث الخطب والكلمات الحماسية. والقيام –كما يقول الدكتور عمر عبدالعزيز–(2) ( بمظاهرة سلمية تأييدًا لمطالب الأمة )! ( وكانت هذه المطالب فاتحة الثورة) كما يقول الدكتور عبدالرحمن الرافعي(3).
- كان الإنجليز يشايعهم الفرنسيون يرقبون الأحداث بغبطة وسرور! وكانوا يوعزون من خلف ستار إلى عرابي أن امض في طريق "الإصلاح"، ولا تخش أحدًا! ومن ذلك ما ذكر محمد عبده في مذكراته عن الثورة العرابية –وهو أحد أقطابها- من أن قنصل فرنسا ( أرسل إلى أحمد عرابي وإخوانه يقول لهم: إنه يسره ما يراه من صلابتهم وعزيمتهم، واشتدادهم في المطالبة بالعدل، فعليهم أن يثبتوا في مطالبهم ولا يُضعفهم ما يُهَددون به) (4)! و( أرسل إلى عرابي كتابًا يمدحه فيه على ثباته، ويشجعه على عدم المبالاة بالحكومة ). (5)
أما إنجلترا فكانت تفعل الأمر نفسه بل أشد، من خلال جاسوسها المدعو: "المستر بلنت" الذي كان يجوس بلاد مصر يؤلب الناس على الحكم، ويراسل عرابي ويستحثه على مواصلة الضغط على الحكومة لعلها تستجيب لمطالب "الإصلاح"!
يقول الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- عن "بلنت" هذا: (كان لا يفتر عن التنقل بين مضارب الأعراب في مصر.. يدعو المصريين إلى الثورة، ويتكلم بعد وقوعها باسم عرابي، ويقدم له صورًا مضللة عن صفته الرسمية، وقدرته السياسية، وقوة الجيوش الإنجليزية..) (6)
ويقول الأستاذ مصطفى غزال –عنه-: ( كان من أشد الناس تفانياً في مصالح الإنجليز، رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا، وبعدائه للحكومات البريطانية، بل كان أحيانًا يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية، ويقف بجانبهم، كما وقف بجانب عرابي، ودافع عنه بعد أسره، كان هذا نوعًا من الدهاء والحنكة الإنجليزية).(7)
(بلنت كان على صلة بزعماء الثورة العرابية التي انتهت باحتلال مصر من قبل قومه ) (بلنت شجع عرابي على الثورة ) ( بلنت أودى بصاحبه عرابي وثورته وبلاده في الهاوية ).(8)
إذن: فقد كان الإنجليز بدهائهم المعهود يقفون خلف أحمد عرابي، ويستغفلونه ومن معه، ويستحثونهم على المضي قدمًا في حركتهم الثورية، وأن لا يقيموا وزنًا لولي أمرهم أو لعواقب ذلك على بلادهم. وفي الوقت نفسه كانوا يغرسون الأفكار "العصرية" في أذهان بعض الشباب المصري من خلال دعوة الأفغاني ومن خلال النصارى العرب النازحين من بلاد الشام.
فبالأفكار "الثورية" "التهييجية" يفتات الناس على ولاة أمرهم، وتختلف كلمتهم، ويتفرق شملهم ووحدتهم، وتذهب ريحهم ؛ كما قال سبحانه (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).. فيحدث بعدها "استباحة الأرض" من قبل عدوهم الذي سوف يستغل مثل هذا التفرق والتمزق في التسلط على ديار الإسلام دون مقاومة. وقد حدث هذا للأسف.
وبالأفكار "العصرية" تذوب الفوارق بين المسلم والكافر، ويضعف الولاء والبراء، وتوهن العقيدة، وتذهب العزة ، وينسى الناس الجهاد ، ويظهر المنكر.. فيحدث بعدها "استباحة العقول". وقد حدث هذا للأسف.
- استغل الإنجليز الفرصة ولم يضيعوها بعد أن مهدوا لها بذينك الفكرين الخبيثين "الفكر الثوري" و"الفكر العصري التغريبـي" ليحتلوا بلاد مصر، ويعيثوا فيها فسادًا صوره لنا بعض المؤرخين.
يقول الدكتور علي الحديدي عن عبد الله النديم أحد رموز ثورة عرابي وخطيبها المفوه بعد عودته من المنفى: ( وكان مما فوجئ به عقب عودته موجة من الانحلال والفساد الخلقي في البلاد، فإفراط وجهرة في شرب الخمر لم يكن معهودًا من قبل، واستهتار الشاربين بنقد النقاد، وانتشار الخمارات انتشارًا كبيرًا في البلاد والقرى يبتز الأروام عن طريقها أموال الأهالي. وانحلال الأسرة بسبب الشراب، وتقليد النساء المصريات للأجنبيات في شرب الخمر، وانتشار الحشيش والمعاجين والمخدرات، والاحتفاء بمجالسها، ثم إساءة فهم معنى الحرية، واستعمالها وسيلة للإنهماك في الملذات والشهوات، ثم السقوط في تقليد المصري للأوربي تقليدًا أعمى..) (9)
ويقول الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- عن حال البلاد المصرية بعد الاحتلال الإنجليزي: (.. وافتتحت الخمارات في كل مكان، حتى تغلغلت إلى الريف وإلى أحياء العمال، وافتتحت دور البغاء المرخصة من الحكومة في كل العواصم. وتجرأ الناس على ارتكاب الموبقات، والجهر باسم الحرية الشخصية التي لم يفهموا منها إلا أن يحل الناس أنفسهم من كل قيد، ولا يُبالون دينًا ولا عرفًا ولا مصلحة) .(10)
أما أحمد عرابي فقد وقع في الأسر بعد أن أدى للإنجليز خدمة عظيمة، وكان سببًا في تسلطهم على بلاده، ولهذا فقد تدخلوا في أمر محاكمته ليعارضوا قتله!(11) ويكتفوا بنفيه عدة سنوات إلى جزيرة "سيلان" ؛ ليعود بعد تلك السنين إلى بلاده ملومًا محسورًا، يتلقى كلمات الازدراء والإهانة من أبناء بلده الذين "تعاطفوا" معه في يومٍ ما، إلا أنهم انقلبوا عليه بعد أن تكشفت لهم نهاية "ثورته" و"تهييجه"، فأصبح الصغار يسيرون خلفه في الطرقات يشتمونه ويقرعونه بوصف "الخائن"!
يقول مصطفى كامل أحد الزعماء الوطنيين في مصر عن عرابي بعد عودته من منفاه: (ما عار الاحتلال وعار الجهالة والتأخر وعار الفقر بشيء يذكر إذا قورن بالعار الذي يحمله عرابي، ويُقرأ على وجهه أينما سار وحيثما حل، وأي عار أكبر وأشهر من عار رجل تهور جبانًا، واندفع جاهلاً، وساق أمته إلى مهواة الموت، والاستعباد الثقيل…)(12)
أخي الدكتور سعد: هذه حال أحمد عرابي قديمًا، تعاطف الإنجليز معه، واستدرجوه من حيث لا يشعر، ليحقق لهم ما يريدون، فهم كما قال الشاعر:
وما من حبه يحنو عليه *** ولكن بغض قومٍ آخرينا !
قام عرابي لينكر " الظلم " الواقع عليه وعلى بعض الجنود، وكان الحل يسيرًا لو لزم الطريق الشرعي في الإنكار، ولكن القوم لحاجة في نفوسهم، استغلوه وأججوا نار الفتنة حتى كبرت وتوقدت واستعصى حلها؛ لتنتهي بالاحتلال الأجنبي.
فهو كما قيل: أراد أن يبني قصرًا فهدم مصرًا
أخي الدكتور سعد: قام عرابي ينادي "بالإصلاح" ولكنه غفل عن أن الله قد أخبرنا في كتابه بأن الإصلاح نوعان: "إصلاح شرعي" مرجعيته التزام أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن خالفت النفس أو الهوى، قال الله عن أهله (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
و"إصلاح" من نوع آخر هو في ميزان الشرع "إفساد" وإن توهم أهله أنهم مصلحون ، ولهذا قال الله عنهم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وأربأ بك أن تكون منهم.
أخي الدكتور سعد: ليتك تعتبر بحال الرجل "عرابي" ومآله، فلا تكون مفتاح شر على بلادك وأهلك، يتخذك الأعداء وسيلة لتفريق كلمتهم وتمزيق وحدتهم ؛ ليتسنى لهم بعد ذلك السيطرة عليهم أو على ثرواتهم، ثم يقلبون لك ظهر المجن ،كما فعلوا بغيرك .
أخي الدكتور سعد: -في ظني- أنه لم يعرف المسلمون عدوًا أدهى ولا أنكى من الإنجليز ، فهم أصحاب سياسة عتيدة مكرورة لا يحيدون عنها يمارسونها معنا بين حين وآخر، ولا زالت تؤتي ثمارها ! حيث لم يستفد المسلمون من الماضي.
هذه السياسة لخصها لنا الدكتور محمد حسين بقوله: (وحيلة الاستعمار التي لا تَبْلىَ ولا تتبدل هي التي تتمثل في قول أحد ساسة الإنجليز المشهورين: "فرِّقْ تَسُدْ" التي طبقت في الهند بنجاح، وهي التي أسميها هنا (توازن القوى)، وأعني بها حرص المستعمر على أن يقع بعض الناس في بعض، وعلى أن لا تَطْغَى إحدى هذه الجماعات المتباغية على الأخرى، حتى لا تبتلعها وتستأثر بالسلطان. فالجهد الذي يبذله الإنجليز هو تدبير الفتن وإشاعة العداوة، ثم مراقبةُ المتقاتلين من بعيد)(13).
أخي الدكتور سعد: قد تقول: أنا لم أجد وسيلة "للإصلاح" غير ما أقوم به بعد أن سدت علي الأبواب، فما حيلة المضطر إلا ركوبها. فأضمن بذلك أن يُقضى على ما أراه من " الظلم " إذا وجد من يواجهه " علانية " .
فأقول : أولاً: ينبغي أن تتأمل دوافعك ومطالبك هل هي حقًا تمثل الإصلاح الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم أم أنها مخالفة لذلك ، بما يداخلها من حظوظ نفس أو هوى أو غير ذلك؟
ثانياً: إن كانت غضبتك ومفارقتك لجماعة المسلمين لأجل ما قد تراه من "جور" أو "أثرة" ، فقد بيَّن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلك الشرعي عند حدوث مثل هذا –وهو ليس بغريب في تاريخ المسلمين- يقول صلى الله عليه وسلم: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة تكون عليك" أخرجه مسلم
قال النووي: "الأثرة: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم. أي اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا، ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم"
وسأل سلمة الجفعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ! أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمّلوا وعليكم ما حُمّلتم" أخرجه مسلم. أي أنهم يأثمون إذا لم يقوموا بما عليهم من حقوق للرعية . ( وقد خاب من حمل ظلما ) .
وقال صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان في حديث طويل عن أئمة آخر الزمان الذين لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته صلى الله عليه وسلم"تسمع وتطيع للأمير، وإن ضُرب ظهرك وأُخذ مالك، فاسمع وأطع" أخرجه مسلم. فبرغم أن هؤلاء الولاة مخالفون للسنة ولهدي النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بطاعتهم وعدم منازعتهم .
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تـنـزعوا يدًا من طاعة" أخرجه مسلم.
أخي الدكتور سعد: هذه أحاديث نبوية صحيحة صريحة –وغيرها كثير- تبين لك المسلك الشرعي في التعامل مع ولاة الأمور. فليست هي –كما يفتري المفترون- من اختراع أهل السنة الذين يتهمهم خصومهم من أهل البدع؛ كالمعتزلة والخوارج ومن سار في طريقهم، بأنهم أهل خنوع تجاه الحكام! فهؤلاء المبتدعة - وأربأ بك أن تتابعهم –ما فهموا أن أهل السنة إنما مدار أمرهم وعباداتهم قائم على اتباع النصوص الشرعية وإن خالفت في الظاهر ما يعتقدونه من مصالح خادعة. وهم يعدون هذا قربة يتقربون بها إلى الله عز وجل؛ لأنه من تعظيم أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. (من يطع الرسول فقد أطاع الله). ولم يفقه أهل البدع ومن شايعهم المصالح العظيمة التي تعود على الأمة حين تتبع نصيحة نبيها صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر العظيم؛ ومن أهم ذلك اتفاق كلمتها، والتمام شملها، وخذلان عدوها المتربص بها. يقول الحافظ ابن حجر: (الحكمة في الأمر بطاعتهم: المحافظة على اتفاق الكلمة، لما في الافتراق من الفساد).(14)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن خالف هذه النصوص النبوية: (أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شرٌ منه، وتزيل العدوان بما هو أعدى منه، فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم).(15)
وأقوال العلماء الناصحين كثيرة في التحذير من هذا الأمر العظيم الذي لا يجلب على هذه الأمة إلا كل شر وفساد.
كما أن أهل البدع الشانئين لأهل السنة فاتهم أن البلاد التي عمل أهلها بأوامره صلى الله عليه وسلم في التعامل مع حكامهم ائتلفت كلمتها ، وانتشر الخير فيها ، وقرب حكامها منه ؛ لما يرون من صدق الناصحين ، وسلوكهم المسلك الرفيق . أما البلاد التي انتهج بعض أهلها مسلك أهل البدع في التشنيع على حكامهم ، أو منازعتهم ، فإنها لم تزدد إلا شرًا وبعدًا عن الخير ، مع تفرق كلمة أهلها وتنافر قلوبهم ، كما هو مشاهد . فأي الفريقين أحق بالأمن ؟!
أخي الدكتور سعد: إن قلتَ: فإن لزمت النصيحة الشرعية ولم يُسمع لي؟ فأقول: قد برئت عهدتك، وأديت ما عليك. كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن يريد مناصحة السلطان: "فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له"(16)
وتذكر قول الله تعالى : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون . إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار .. الآية ) .
أخي الدكتور سعد: أذكرك بقوله صلى الله عليه وسلم فيمن فارق جماعة المسلمين: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية" متفق عليه .هذا الحديث العظيم وأشباهه كثير حريٌ بالمسلم الناصح لنفسه أن يـنـزله على حاله ، ويخشى ما جاء فيه من عقوبة شنيعة .
أخي الدكتور سعد: لقد بحثت عن المستفيد من أعمالك فما وجدت سوى خمسة أصناف :
الصنف الأول: الكفار وأعداء الإسلام ممن يريدون خلخلة وحدة هذه البلاد لينفذوا من خلال ذلك إلى إخضاع أهلها لما يملونه عليهم.
الصنف الثاني: أهل البدع الذين كبتوا في بلاد التوحيد زمناً طويلاً، فأرادوا أن تكون رئة لهم يتنفسون من خلالك.
الصنف الثالث: العلمانيون المنافقون الذين يبشون ويهشون لكل تغيير قد تمر به البلاد؛ ليصلوا من خلاله إلى تنفيذ مخططاتهم بالتعاون مع إخوانهم من اليهود والنصارى.
الصنف الرابع: بعض الشباب ممن ظاهرهم الصلاح ، سهل على العدو "استغفالهم" و "استدراجهم" ليكونوا أداة له، يصل من خلالهم إلى مبتغاه. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا .
الصنف الخامس: غوغاء الناس من أصحاب المطالب الدنيوية، ممن قال الله عن أمثالهم (إن أعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا إذا هم يسخطون).وهؤلاء سرعان ما يلوذون عنك إذا ما نالوا حظهم ، أو مستهم نار الفتنة .
أخي الدكتور سعد: هذه البلاد: بلاد التوحيد :مثل البناء الشاهق الجميل الذي أصابته بعض الصدوع ، فهل يليق بعاقل أن يسعى في هدمه "ليصلح" ما اعتراه ؟! أم أن العقل والحكمة يقتضيان أن يبقى هذا البناء عاليًا شاهقًا كالأرض الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها مع إصلاح ما خالطها من "قصور" أو "انحراف" بالطريقة الشرعية المناسبة؟!
أسأل الله أن تجد كلماتي هذه قبولاً حسنًا عندك ، وأن ينشرح لها صدرك . وأن يؤلف بينك وبين أهل بلدك ، ويجعلك تسخر جهودك لدعوة الكفار إلى دين الله .
أما ولاة الأمور في هذه البلاد : فأسأله تعالى أن يوفقهم إلى ما يحب ويرضى ، وإلى الرفق برعاياهم ، ، وأن يجعلهم يقفون سدًا منيعًا أمام هجمات الأعداء وضغوطهم وابتزازهم ، فلا يتنازلون عن دينهم الذي ارتضاه لهم ، وأبشرهم إن فعلوا ذلك أن الله ناصرهم ومخز عدوهم ؛ لأنه تعالى يقول ( إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ) ، فلا زاد لنا في مواجهة العدو الجاثم حولنا إلا بالصبر على ديننا ، وتحقيق التقوى بالتزام الأوامر والبعد عن المخالفات .
كما أسأله تعالى أن يأخذ بنواصيهم إلى " الإصلاح " الشرعي الذي أخبر تعالى بنجاة أهله من العقوبات ، وأن يباعدهم عن " إصلاح " أهل النفاق والفساد وإن زينوه وسموه بغير اسمه ، وهو في الحقيقة لا يقود البلاد إلا للفتن والمحن ، وزيادة الطين بلة، ويعرضها للعقوبات ، وفق سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل . ( يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ) .
والله الهادي والموفق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه أجمعين
كتبه
سليمان بن صالح الخراشي
في 19/8/1424هـ
أختكم ............ تذكار
:)