نـجـران
19-04-2003, 12:21
يورد الأستاذ محمد الصادق عفيفي في كتابه عن مؤرخ جازان وأديبها محمد بن أحمد العقيلي أن الأخير سئل ذات مرة حول مفهومه للتراث وقيامه عند التحقيق التاريخي بحذف الأشياء التي لا تتناسب مع مجتمع اليوم وجيل العصر الحديث فلم يكن جواب العقيلي سوى :" التراث ينبغي أن يقوم بطريقة الألتزام ، بما يناسب روح الدين والأخلاق الفاضلة وما يتفق مع مبادئ نهضتنا الإسلامية وأن نقدمه للأجيال (مصفى)." انتهى .
(انظر كتاب العقيلي : العالم الموسوعي،ص 106). لعل ما سبق كانت الجملة الأخطر التي بقيت في الذاكرة وأنا أنتهي مساء البارحة من قراءة ذلك الكتاب ولعلها وحدها قادتني للسؤال الأخطر : هل نحن نقرأ التاريخ اليوم بحسب ما كان أم أنه يصل إلينا تحت بصمة المؤرخ ورقابته الذاتية التي تنسف فينا كل دلالات اليقين عن القيمة الجمالية للتراث وعن الدلالات الفعلية الحقيقية للرموز والأحداث.
يقول الفيلسوف الإنجليزي الشهير برنارد رسل إن الجناية على التاريخ تنبع من كتابته الفطرية على يد نخبة تنحاز لمنظومتها التي تتوافق مع الأهواء والميول أو بأقلام فئة مؤدلجة تحذف منه ما تشاء وتضيف إليه ما تشاء ولهذا ظل التاريخ جسما مشوها لا يحظى بثقة حتى الذين يسبرون غوره ويعيشون معه القيمة والبحث . تظل مشكلة كتابة التاريخ أرقا أزليا وبالخصوص للأم التي تحمل كما تراكميا من مادة غنية بالمساحة والمسافة . لعل هذا تحديدا ما يعنيه المؤرخ الأمريكي دان ديفيس حين يورد أن الفروق بين تاريخ الأمة الأمريكية وغيرها من العالم القديم تكمن في نقاء التاريخ الأمريكي من سيل الاراجيف والطروحات الزائدة أو المحذوفة من حواشيه بحكم الفترة القصيرة للنشأة الأمريكية وبحكم أنها فترة جاءت في ذروة التدوين البشري وفي وقت صارت فيه الأحداث تكتب باليوم ، ومن يدري فقد تقرأ أجيالنا المقبلة في زمن سحيق الحاظر بالصوت والصورة دون عبث أو مداخلات . عودا على بدء. كان العقيلي يعترف ربما دون قصد بخطأ منهجي فادح وقع فيه باعترافه الصريح وهو يقفز من فوق الجمل والنصوص وكان يحاول "المصفى " والوصول إليه دون أن يعلم أن كتابته شيئا من تصفية التاريخ . التراث والتريخ لا ينتقصان بتناقص الرواة والأفكار بل بنقص الأيام وإنقاص الحقائق . الشعوب لا تقرأ من تاريخها ما كان جليا مدونا بالعلماء بل ما كان معددا منقولا عبر الإخفاء والتهريب.التاريخ أيضا لم يكن يوما قضية نخبوية في أيدي أهل الاختصاص وتحت احتكارهم . إنه كالخبز المشاع للجميع ، بل هو جزء من الذات التكوينية للبشر ينقل معهم من جيل إلى جيل كالدماء الموروثة من الآباء والأجداد بأمراضها وعللها ، بإيجابياتها وحسناتها وهنا لا يجوز للطبيب أن يتدخل في عمل آلات التحليل ليخفي ما شاء من المصائب والمثالب ..
علي سعد الموسى
جريدة الوطن 884، مارس 2 عام 2003م
Najran
(انظر كتاب العقيلي : العالم الموسوعي،ص 106). لعل ما سبق كانت الجملة الأخطر التي بقيت في الذاكرة وأنا أنتهي مساء البارحة من قراءة ذلك الكتاب ولعلها وحدها قادتني للسؤال الأخطر : هل نحن نقرأ التاريخ اليوم بحسب ما كان أم أنه يصل إلينا تحت بصمة المؤرخ ورقابته الذاتية التي تنسف فينا كل دلالات اليقين عن القيمة الجمالية للتراث وعن الدلالات الفعلية الحقيقية للرموز والأحداث.
يقول الفيلسوف الإنجليزي الشهير برنارد رسل إن الجناية على التاريخ تنبع من كتابته الفطرية على يد نخبة تنحاز لمنظومتها التي تتوافق مع الأهواء والميول أو بأقلام فئة مؤدلجة تحذف منه ما تشاء وتضيف إليه ما تشاء ولهذا ظل التاريخ جسما مشوها لا يحظى بثقة حتى الذين يسبرون غوره ويعيشون معه القيمة والبحث . تظل مشكلة كتابة التاريخ أرقا أزليا وبالخصوص للأم التي تحمل كما تراكميا من مادة غنية بالمساحة والمسافة . لعل هذا تحديدا ما يعنيه المؤرخ الأمريكي دان ديفيس حين يورد أن الفروق بين تاريخ الأمة الأمريكية وغيرها من العالم القديم تكمن في نقاء التاريخ الأمريكي من سيل الاراجيف والطروحات الزائدة أو المحذوفة من حواشيه بحكم الفترة القصيرة للنشأة الأمريكية وبحكم أنها فترة جاءت في ذروة التدوين البشري وفي وقت صارت فيه الأحداث تكتب باليوم ، ومن يدري فقد تقرأ أجيالنا المقبلة في زمن سحيق الحاظر بالصوت والصورة دون عبث أو مداخلات . عودا على بدء. كان العقيلي يعترف ربما دون قصد بخطأ منهجي فادح وقع فيه باعترافه الصريح وهو يقفز من فوق الجمل والنصوص وكان يحاول "المصفى " والوصول إليه دون أن يعلم أن كتابته شيئا من تصفية التاريخ . التراث والتريخ لا ينتقصان بتناقص الرواة والأفكار بل بنقص الأيام وإنقاص الحقائق . الشعوب لا تقرأ من تاريخها ما كان جليا مدونا بالعلماء بل ما كان معددا منقولا عبر الإخفاء والتهريب.التاريخ أيضا لم يكن يوما قضية نخبوية في أيدي أهل الاختصاص وتحت احتكارهم . إنه كالخبز المشاع للجميع ، بل هو جزء من الذات التكوينية للبشر ينقل معهم من جيل إلى جيل كالدماء الموروثة من الآباء والأجداد بأمراضها وعللها ، بإيجابياتها وحسناتها وهنا لا يجوز للطبيب أن يتدخل في عمل آلات التحليل ليخفي ما شاء من المصائب والمثالب ..
علي سعد الموسى
جريدة الوطن 884، مارس 2 عام 2003م
Najran